الفصل التاسع

الموت والبعث في نظريَّة الخلود

«لا فائدة من نزال الزمن، لقد أرادت مصر من قبلُ محاربة الزمن بالشباب، فلم يكن في مصر تمثالٌ واحدٌ يمثل الهرم والشيخوخة كما قال لي يومًا قائد جندٍ عاد من مصر، كل صورةٍ فيها هي للشباب من آلهةٍ ورجالٍ وحيوانٍ، كلُّ شيءٍ شاب، ولكن الزمن قتل مصر وهي شابةٌ، وما تزال ولن تزال، ولن يزال الزمن يُنزِل بها الموتَ كلما شاء، وكلما كُتب عليها أن تموت.»

ربما كانت هذه الكلمات وحدها، التي جاءت على لسان مرنوش قُرب خاتمة «أهل الكهف» هي التي أكدت لأجيالٍ مختلفةٍ من النقاد أن المقصود بهذه التراجيديا الرائدة هو «مصر» دون غيرها، مهما حاول الفنان أن يوهمنا بأن مجموعة الشخصيات والأحداث والمواقف، تدور كلها في مدينة «طرسوس». على أن هذه الكلمات التي جاءت على لسان مرنوش ليست إلا تأكيدًا لحقيقةٍ تخللت المسرحية كلها منذ بداية الفصل الأول إلى نهاية الفصل الأخير، لا من حيث الزمان الذي وقع عليه اختيار الفنان مجسدًا في العصر المسيحي، ولا من حيث المكان الذي وقع عليه اختيار الفنان أيضًا بالقرب من مصر، وإنما من حيث الجوهر التراجيدي الذي شُغل به المؤلف منذ بواكير حياته الفنيَّة، وأقصد به فكرة الموت والبعث، أو نظرية الخلود عند توفيق الحكيم، هذه الفكرة التي ظلَّت محورًا رئيسيًّا من المحاور الفكريَّة التي رافقت هذا الفنان في وقتٍ مبكرٍ نسبيًّا إلى يومنا هذا، أي إن ما يؤيد ما أقوله من أن نظرية الخلود كانت محورًا فكريًّا أساسيًّا عند الحكيم، هو انشغاله بقضية الموت والبعث على طول تاريخه الفني من «أهل الكهف» إلى «يا طالع الشجرة»، مرورًا ﺑ «إيزيس». وما يؤيد هذا الفرض مرةً أخرى أن الحكيم عالج هذه القضية في البناء الدرامي، كما عالجها في البناء الروائي حين كتب «عودة الروح»، وليس من الغريب أن تتجاور المسافة الزمنية بين «عودة الروح» و«أهل الكهف» — مثلًا — وهما يعالجان قضيةً فكريةً واحدةً.

ولقد كنت أتوقع من نقَّاد الأجيال المختلفة الذين اكتشفوا «مصر» في «أهل الكهف» أن يكونوا على درجةٍ عاليةٍ من التماسك المنهجي الذي يتيح لهم فرصة الكشف عن صلات القربى بين «عودة الروح» و«أهل الكهف»، ولكني فوجئت بأن أولئك الذين استقبلوا «عودة الروح» بترحابٍ شديدٍ، قابلوا «أهل الكهف» بفتورٍ أشدَّ، إن لم يكن بالتعريض والتجريح، فقد وصفها المفكر التقدمي العظيم سلامة موسى بأنها مسرحيةٌ تُعادي التقدم؛ ذلك أن مؤلفها لم يدع أهل الكهف يشاركون أبناء أمتهم المنتصرة في الاستمتاع بآيات المجتمع الجديد الذي ما كان ليتم بناؤه لولا نضالهم الثوري وكفاحهم المجيد.١ كما قال محمود أمين العالم بأن «أهل الكهف» هي الصدى المركَّز للمرحلة السوداء التي عاشتها مصر في قبضة اليد الحديدية وحكم إسماعيل صدقي، وباختيار المؤلف لمأساة الزمن فقد اختار اليأس والإحساس بالعدم.٢

ومن العبث أن يُردَّ على هذا التقييم بأنه مقصورٌ على الجانب السياسي أو الاجتماعي دون الجانب الفني، فلا شك أن الطبيعة الفكرية لهذه المسرحية تتيح الفرصة للناقد لمخلتف التأويلات السياسية والاجتماعية، خاصةً إذا كان هذا الناقد ممن يدينون للرؤيا الفكرية في النقد الأدبي بولاءٍ كبيرٍ. ليس من ضير إذن أن يركِّز ناقدٌ ما على العنصر السياسي أو الدلالة الاجتماعية في العمل الأدبي، بشرط أن يتم ذلك من خلال البناء الداخلي لهذا العمل، ولن يحُول التوغل داخل هذا البناء من المقارنة بينه وبين بقية الأبنية لنفس الفنان، أو ما يحتم المقارنة بينه وبين أبنية الكُتَّاب الآخرين. إن تحليل هذا العمل من ناحيةٍ، والمقارنة الموضوعية بينه وبين الأعمال الأخرى من ناحيةٍ ثانيةٍ، يتيح لنا الحد الأقصى من الرؤية الذاتية والرؤية الموضوعية للعمل الفني، كما يتيح لنا فرصة الحصول على القيمة المطلقة والقيمة النسبيَّة لهذا العمل، ونحصل من ثَم على ما يعادل حقيقته الداخلية والخارجية معًا.

هذا المنهج — الموجز هنا إيجازًا شديدًا — هو الضوء الذي استرشد به في رؤية «أهل الكهف» على نحوٍ مختلفٍ عن رؤية الكاتبين الرائدين سلامة موسى ومحمود العالم، فهذا المنهج يدفعني إلى التساؤل: هل من الممكن أن يبلغ الاضطراب في رؤيا الفنان المدى الذي يجعله ينتج في مرحلةٍ زمنيةٍ واحدةٍ عملين يتناقضان لا في التفاصيل ولا في الخطوط العامة، وإنما في وجهة النظر الشاملة التي تبناها المؤلف — فكريًّا — لا في تلك المرحلة الباكرة فحسبُ، بل على طول تاريخه الفني؟ وفي صياغةٍ أخرى للسؤال نقول: هل يمكن لتوفيق الحكيم في «عودة الروح» أن يختلف مع توفيق الحكيم في «أهل الكهف» لدرجة التناقض الحاد بين التقدم والرجعيَّة في فترةٍ قصيرةٍ نسبيًّا؟ وماذا يكون الأمر فيما لو أن الخط الفكري السائد على تلك الفترة هو الذي امتد خيطًا طويلًا بين جميع مراحل هذا الكاتب؟ هل ندعوه في هذه الحال — أي فيما لو كان هذا الفرض صحيحًا — فنانًا تقدميًّا على طول الخط، أم هو فنانٌ رجعيٌّ على طول الخطِّ أيضًا؟

هنا، بالضبط، ندخل في تفاصيل المنهج الذي أوجزتُه منذ قليلٍ إيجازًا شديدًا، فما معنى أن يكون الفن تقدميًّا؟ وما معناه حين يكون رجعيًّا؟ لن نبتعد حين نُجيب عن أدب توفيق الحكيم، فثمة إجماعٌ تقريبيٌّ على عظمة رواية «عودة الروح» فكرًا وفنًّا، هي عملٌ «تقدميٌّ» في رأي الكثيرين، وفي رأيي الشخصي أيضًا، ولكن تقدمية «عودة الروح» كما أوضحتُ في غير هذا المكان ليست نابعةً من كونها الصدى المركَّز لثورة ١٩١٩م كما يذهب البعض، أو الإرهاص الفني كما يذهب آخرون، إنها لا تخضع في بنائها الفني — ويجبُ ألا نتجاهلَ هذه النقطة مطلقًا — لذلك التحديد الفوتوغرافي الصارم. إنها رواية «ثورة» وهذا يكفي، الثورة هي العمود الفقري للرواية؛ لأن الأحداث والشخصيات والمواقف تنسج على مهلٍ، وبشكلٍ عامٍّ للغاية، قضية الثورة في مصر، والثورة هي المضمون الفني للرواية، لأن الفنان يحيطها بالأسطورة الأوزوريسية المصرية القديمة، حيث يصبح الموت والبعث عماد نظرية الخلود في «عودة الروح»، فمصر الخالدة لا تموت عند الحكيم، وإذا ماتت فإنها تُبعث، وتلك هي الثورة في مضمونها الفني الشامل. ولكن ثورة «عودة الروح» لا تتوقف عند أعتاب الهيكل العظمي والمضمون الفني، وإنما هي تنبع أيضًا من تاريخنا الأدبي، من مكانها في التراث، من دورها في صُنع تقاليدنا الأدبيَّة، وفي هذه النقطة رأيت أن «عودة الروح» تمثل مرحلةً رائدةً في الرواية المصرية تخلَّصت فيها من شوائبَ عديدةٍ كانت تحجب عن تاريخنا الروائي بدايته الفنية الحقيقية، ذلك أن هذا التاريخ منذ «زينب» إلى ما قبل «عودة الروح» لم يكن سوى إرهاصاتٍ روائيةٍ متناثرةٍ، وجاءت «عودة الروح» لتقول إن الأساس في أرض فنِّنا الروائي قد تم بناؤه، وأصبح مهيأ لإقامة الهرم الشامخ الذي ما يزال نجيب محفوظ وزملاؤه والأجيال التالية تحاول إنشاءه، ومن هنا تصبح «عودة الروح» عملًا فنيًّا تقدميًّا؛ لأن ثورته كانت من الشمول بحيث استوعبت عناصر الفكر والفنِّ جميعًا.

ماذا في «أهل الكهف» إذن؟

إن الفنان الذي كتب «عودة الروح» هو بعينه الذي كتب «أهل الكهف» في نفس الوقت تقريبًا، والرباط الأوزوريسي الذي استوحاه الحكيم في رواية «عودة الروح» ليؤكد على فكرة الموت والبعث قد استبدله بالآية القرآنية الكريمة: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا. فإذا ربطنا بين هذه الكلمات المقدسة التي جاءت في قصة «أهل الكهف» وبين الكلمات التي فاه بها مرنوش في خاتمة هذه المسرحية، نستطيع الاستدلال على أن الهيكل العظمي للدراما يربط تاريخ البشرية — في مستواه الروحي والفكري — كلًّا واحدًا متسلسلًا من الوثنية (التي مات عليها مرنوش كما اتهمه بذلك مشيلينيا)، إلى المسيحية المنتصرة بعد مذبحة الطاغية دقلديانوس، ثم إلى الإسلام الذي استلهمه الحكيم في قصة أهل الكهف. إن هذا الكل الواحد المتربط يؤدي إلى فكرة «الاستمرار» التي يؤمن بها الفنان. غير أن ثمة فرقًا جوهريًّا بين «عودة الروح» و«أهل الكهف»، هو الفرق بين العمل الروائي والعمل المسرحي، فإذا كانت «عودة الروح» رواية تقدمية لأنها تسجِّل ميلادَ الرواية المصرية، أو أنها — على أقل تقديرٍ — تضع الأساس القوي المتين لبناء الرواية في بلادنا، فإن «أهل الكهف» عملٌ ثوريٌّ لأنه يستمد قيمته التقديرية، أولًا، من مكانةٍ في تاريخ المسرح المصري، وتراثنا الدرامي، وتقاليدنا الأدبية؛ ذلك أن «أهل الكهف» أولُ تراجيديا مصريةٍ حقيقيةٍ، إذا لم نقل إنها أولُ مسرحيةٍ مصريةٍ خالصةٍ، حرصًا على أهمية البدايات والإرهاصات الأولى؛ ولهذا السبب — أن تكون أهل الكهف عملًا دراميًّا — فإن التكوين الفني لفكرة الثورة من خلال الموت أو البعث أو نظرية الخلود، يتخذ لنفسه مسارًا آخر، فالثورة في هذا العمل الدرامي ليست «موضوعًا» أو مجموعة وقائع قريبة من الواقع، كما هو الحال في «عودة الروح». إن «أهل الكهف» كمسرحيةٍ تراجيديةٍ يلجأ الفنان في صياغتها إلى منهجٍ تعبيريٍّ أكثر تعقيدًا من المنهج التعبيري في «عودة الروح»، فالأحداث الواقعية في عملٍ روائيٍّ — مهما بلغت درجة رمزيتها — لا تتحول إلى بناءٍ كاملٍ من الرموز كما هو شأن العمل المسرحي، خاصةً إذا كان العمل المسرحي لا يخضع لمقومات المسرح الواقعي التقليدي، بل هو مزيجٌ معقدٌ من الواقع والرمز والأسطورة، فإذا كانت الرواية (خاصةً الرواية الواقعية، كتلك التي نلمح سماتها الغالبة على بناء عودة الروح) تكشف بوضوحٍ عن ثوريتها، فإن الدراما الرمزية الأسطورية، كتلك التي نشاهد خيوطها السائدة على «أهل الكهف»، لا تكشف لنا عن أسرارها الفنية والفكرية بسهولةٍ ويسرٍ، ومن ثَم لا نستطيع أن نتعرف على ثوريتها وتقدميتها إلا بعناءٍ ومعاناةٍ.

وتبدأ مسرحيةُ الحكيم في كهفٍ بالرقيم حيث الظلام لا نتبين فيه غير الأطياف، أطياف الشخصيات الرئيسية في المأساة، نحن مع وزيرَين من وزراء الطاغية دقيانوس (فهكذا اختصر الحكيم اسم دقلديانوس) الذي أقام مذبحةً هائلةً للمسيحيين في عصره. والوزيران إذن من المؤمنين بالمسيحية الهاربين من وجه الطاغية، وقد اختار لهما الحكيم اسمين هما: مرنوش ومشيلينيا. أما الشخصية الثالثة فهي الراعي يمليخا وكلبه قطمير. وإذا تجاوزنا الحيل الفنيَّة التي يُضطر إليها الفنان ليتم التعارف بين شخصيات المسرحية، فإننا نلتقي بالبداية الحقيقية للمسرحية حين يصبح يمليخا بعد محاولته الخروج من الكهف مع زميليه الآخرين اللذين لم يحاولا ذلك:

يمليخا : أنتما في الظلام تنتظران الفجر، والشمس في كبد السماء!
مرنوش : أين هذا؟
يمليخا : خارج الكهف، ولقد عثرت بالباب، فإذا هو دوننا ولا نعرف، ولكن … شيءٌ عجيبٌ … إن الحرارة والضوء لا يدخلان إلينا منه، كأنما الشمس تميل عنه في ذهابها وإيابها.٣

أقول إن هذه هي البداية الحقيقية للمسرحية، ومن الممكن أن نضيف أنها البداية الفنيَّة للمأساة، فقد كان الكهف هو «العالم الوحيد» عند شخصيات المسرحية حتى خرج أحدهم تحت ضغط الحاجة، فكانت اليقظة أنهم اكتشفوا هذه الحقيقة الجديدة على لسان يمليخا، وهي أن الشمس في الخارج تملأ السماء، ولكنها تميل عن الكهف فلا ترسل ضياءها وحرارتها إلى داخله، لقد كان يمليخا أول مَن خرج من الكهف، وإذا جاز لنا أن نستبق الأحداث نقول إنه كان أيضًا أول مَن عاد إلى الكهف، وفي ريادته للخروج وفي ريادته للعودة معنى المغامرة الكبرى التي قام بها للبحث عن الحقيقة، معنى الصدق الكامل مع النفس، ومع الآخرين، في ضرورة الكشف عن وجه الحقيقة، وضرورة الاقتناع بها إذا تم الحصول عليها. يمليخا إذن هو همزة الوصل أيضًا بين المرحلة السابقة على الكشف والمرحلة التالية له، وهذا هو الفرق الأول بين هذه الشخصية، وشخصية أخرى كمشيلينيا حين يعلق متظاهرًا — أو متوهمًا — بالاقتناع والمعرفة: «مهما يكن من أمرٍ فلا ريب أن الأيام الثلاثة قد انقضت.» هكذا ينتهي الفصل الأول وأهل الكهف خارجون من كهفهم يظنون أنهم قضوا به بضعَ ليالٍ هربًا من وجه الطغيان الروماني ضد المسيحية. سوف نكتشف قبيل نهاية هذا الفصل ومع بداية الفصل الثاني أن هذا الظن مجرد «وهمٍ» فنيٍّ نسجه الحكيم بإحكامٍ عظيمٍ، حتى نفيق على هذه «الصدمة» الفنية أيضًا حين نكتشف أن ثلاثة قرونٍ مضت على مذبحة دقيانوس الشهيرة، وأن المسيحية قد انتصرت في هذا المكان من العالم، وأن الملك الجالس على العرش هو ملكٌ مسيحيٌّ، هذا إذن هو المجتمع الجديد الذي حلم به عصر الشهداء، العصر الذي ينتمي إليه أهل الكهف، هذا هو الحاضر وما هم سوى الماضي، من هنا تعتقد الأميرة بريسكا ابنة الملك الراهن أن جدتها القديسة التي سُميت باسمها كانت تفضل بأن تكون امرأة، لو أنها استطاعت. ومن هنا، كذلك، ينطلق توفيق الحكيم إلى الآفاق الرحيبة التي تستشرفها حدود المأساة في «أهل الكهف»، فالقرون الثلاثة التي تفصل بين الماضي والحاضر تتخذ لنفسها دلالةً جوهريةً عندما يقص غالياس على الملك ما تقوله التقاويم الرسمية في اليابان من أن فتًى صيادًا خرج من إقليم يوشا للصيد في قاربه ولم يعد، ولكنه ما لبث بعد أربعة قرونٍ أن ظهر مرةً أخرى، غير أنه ذهب ثانيةً ولا يعلم أحدٌ إلى أين ذهب، ويصل غالياس إلى أنه «لعل لكلِّ جنسٍ من أجناس البشرية قصةً كهذه»، فيعلِّق الملك:

الملك : إذن لا ريب عند الناس في أنَّ مَن ذهب سوف يعود؟
غالياس : نعم يا مولاي، ومَن مات سوف يُبعث، تلك قصة البشرية الخالدة، وإذا كانت القصة ضمير الشعب كما يقولون، وإذا كانت البشرية قاطبةً على اختلاف أجناسها وأجيالها قد اتحدت وتلاقت في قصةٍ واحدةٍ، أفيمكن يا مولاي لضمير البشرية قاطبةً أن يُخطئ؟

هكذا يجسد الحكيم رؤياه الفكرية العامة في نسيجٍ موحدٍ مع رؤيته الفنيَّة الخاصة، أي إن فكرة الموت والبعث، أو نظرية الخلود، هي وجهة النظر الفكرية الشاملة عند الحكيم، ولكنها تتخذ لنفسها مسارًا فنيًّا خاصًّا حين يضم هذا الإطار الفكري العام، تلك المجموعة من الأحداث والشخصيات والمواقف في «أهل الكهف».

فلو أننا تتبَّعنا مشيلينيا وهو يصيح مزهوًّا ببهو الأعمدة في القصر الملكي الذي كان يعمل به وزيرًا فيما مضى، ويقول ليمليخا إن شيئًا لم يتغير ما دام بهو الأعمدة لم يتغير، وبينما وافقه مرنوش على هذه الرؤية السطحية الساذجة، يختلف معه يمليخا — الرائد إلى معرفة الحقيقة — فيصيح في صوتٍ كالعويل: كلُّ شيءٍ تغيَّر، كلُّ شيءٍ تغيَّر! ويصبح شعاره الجديد: إلى الكهف … هذا العالم ليس عالمنا. لقد كان الأثر الأول من لقاء يمليخا بالعالم الخارجي أنه لم يكن مجرد مكانٍ جديدٍ مختلفٍ عن الكهف، وإنما هو زمنٌ جديدٌ يفصل ما بينه وبين الكهف مسافةٌ طولها ثلاثة قرونٍ، هكذا يفيق على أن عالمه — هو وزملاؤه — قد باد منذ ثلاثمائة عامٍ، وراح يسترد وعيه قائلًا: «هذا الذي نرى دنيا أخرى ليست لنا بها صلةٌ … لا ينبغي لنا أن نمكث بين هؤلاء الناس لحظةً واحدةً.» هذه الرؤية الجلية الواضحة — في جوهرها — هي رؤيا المأساة، إذ لا يلبث مليخا أن ينشج: «إنَّا أشقياء … أشقياء … نحن ثلاثتنا وقطمير معنا، لا أمل لنا الآن في الحياة إلا في الكهف، فلنعد إلى الكهف، هلمَّ يا مرنوش، ليس لبعضنا سميعٌ ولا مجيبٌ إلا البعض، هلمُّوا بنا … رحمة بي! إني أموت إن مكثتُ هنا … لستُ بمجنونٍ … إلى الكهف … الكهف كل ما نملك من مقرٍّ في هذا الوجود! الكهف هو الحلقة التي تصلنا بعالمنا المفقود.»

الكهف هو الماضي، هو الزمن، ولا حياة لأشباح الماضي إلا بين جدران الماضي، تلك هي بلاغة الحكيم القريبة من الشِّعر: أن لا حياة إلا في الموت لأولئك الأموات الأحياء، إن قيامتهم من بين الأموات ليست بعثًا حقيقيًّا؛ ذلك أن بعثهم الحقيقي هو المجتمع الجديد والفكرة الجديدة والروح الجديدة التي انبثقت من دماء الشهداء.

لقد مات المسيحيون لكي تبقى المسيحية، فالماضي العظيم هو المصدر التاريخي للحاضر العظيم وليس إلغاء له؛ لهذا يحترم الحاضر ماضيه المجيد فيقدسه (وتصبح بريسكا قديسةً لا امرأةً، ويصبح أهل الكهف قديسين لا وزراء وراعي غنمٍ). ولكن هذا الحاضر لا يسمح للماضي بابتلاعه، لا يسمح له بأن يحوله هو الآخر إلى ماضٍ، لا يسمح له بإشاعة الجمود والاستقرار، وإنما هو يقدِّس التاريخ جنبًا إلى جنبٍ مع التطور والاستمرار، هكذا صاغ الحكيم معنى الموت والبعث على لسان يمليخا، ولكن يمليخا هو أكثر جوانب الماضي وعيًا بمعنى التاريخ، هو رسول الحقيقة الذي لا يكذب مهما كادت هذه الحقيقة أن تحوله إلى بطلٍ تراجيديٍّ يعاني من انشطار الشخصية بين الاعتراف بالحقيقة وضرورة الاقتناع بها والسلوك بمقتضاها، وبين الحنين إلى هذا العالم الجديد الذي أسهم في صنعه بصورةٍ من الصور.

هذا الحنين الذي يجنِّد له الفنَّان شخصية أخرى، تحاول أن ترى الحقيقة من زاويةٍ أخرى، هكذا يقول مرنوش في ضيقٍ: «نعم ثلاثمائة عام، فلتكن، قلتُ لك ثلاثمائة عامٍ، أو أربعمائة عامٍ! ماذا يضيرني؟ وما يغير هذا من حياتي؟ إننا الآن أحياء، أتنكر أيضًا أننا أحياء بعد تلك الليلة الهائلة؟» وبهذا التساؤل تتبلور لنا أبعاد المأساة التي شاء الحكيم أن يوزعها على عدة شخصياتٍ، فأصبحت كلٌّ منها شخصيةً تراجيديةً حقًّا، دون أن تكون في مجموعها أو في كل شخصيةٍ على حدة أية بطولة تراجيدية. ففي الوقت الذي «يقول» فيه مرنوش هذا الكلام، نرى مشيلينيا «يفعل» ما يتضمنه الكلام من فكرةٍ ينفذها على الفور، فيذهب ويرتدي ثيابًا مزركشةً كتلك التي كان يرتديها أيام كان وزيرًا، ويصبح لسان حاله: «إننا في الحياة قبل كل شيءٍ، إننا نعيش ونشعر»، «هبْ أننا نمنا ما شئت من أعوامٍ، فماذا يغيِّر هذا من حياتنا الآن؟ ألسنا في الحياة … نحمل قلوبًا وآمالًا؟» هذا الحنين إذن هو الجانب الآخر في التكوين الفني لهذه الشخصيات، فإذا كان أحدهم مقتنعًا بضرورة العودة إلى الكهف لاكتشافه الهوة العميقة التي تفصل بينه وبين هذا العالم، فإنه لم يكن يعبر إلا عن الإطار العقلي المجسد في أهل الكهف، أما الحنين فهو المضمون العاطفي الذي يتوسد هذا الإطار من الداخل، هو القلب الذي يمكن النفاذ إليه إذا نفضنا قشرة العقل، وليست أحداث الدراما بعدئذٍ سوى أحداث الصراع والتفاعل بين العقل وفروضه النظرية المستقاة من الواقع المحدد، وبين القلب ومشاعره الهائمة على سطح الحياة المترامية غير المحددة. وهكذا ينتهي الفصل الثاني بعودة يمليخا إلى الكهف، أي باقتناع العقل الكامل بأن الماضي مكانه التاريخ. ثم يبدأ الفصل الثالث بمحاولات القلب للتأكد من أن غريمه على حقٍّ في أن مأساة الزمن كامنة في الموت حقًّا، ولكن الزمن أيضًا يقول بالحياة والتجديد والبعث. بدأ الفصل الثالث ومشيلينيا يحاول أن يستعيد حبَّه الأول للأميرة بريسكا، ومرنوش يحاول أن يستعيد حبَّه لابنه ومنزله، فالفنَّانُ يختار أكثر أدوات التعبير توفيقًا عن الجانب العاطفي في حياة الإنسان؛ الابن والحبيبة. ولا يلبث مرنوش أن يفيق على حقيقةٍ بسيطةٍ، ولكنها مدويةٌ، وهي أن ابنه قد مات منذ أمدٍ بعيدٍ، وأن منزله لم يَعُد له وجودٌ. ولأن منهج الحكيم في البناء التعبيري هو التدرج من العام إلى الخاص إلى الأكثر خصوصيةً، فإنه يلجأ إلى تجزيء الفكرة الفنيَّة المركبة إلى جزئياتٍ أقلَّ تركيبًا، ثم إلى جزئياتٍ بسيطةٍ، إلى الأكثر بساطةً وهكذا. من هنا يتدرج من خروج أهل الكهف جميعًا إلى انقسامهم عقلًا وقلبًا؛ يمليخا في جانبٍ، والوزيران في الجانب الآخر، وها هو ذا يقسِّم الوزيرين اللذين يمثلان شيئًا واحدًا فيما مضى إلى قسمين أو جزئين أو شيئين مختلفين، فما يزال مشيلينيا يتصور الثلاثمائة عام مجموعة من الكلمات والأرقام، وبالتالي فهي لا تعني شيئًا، وأما مرنوش فقد شفت نظرته للحقيقة، وأضحت أكثر عمقًا بعد أن أيقن بصورةٍ نهائيةٍ أن ابنه قد مات ولا شيء يربطه بهذا العالم: «هذه الحياة الجديدة لا مكان لنا فيها … وإن هذه المخلوقات لا تفهمنا ولا نفهمها … هؤلاء الناسُ غرباء عنا، ولا تستطيع هذه الثياب التي نحاكيهم بها أن تجعلنا منهم … إنَّا بعيدون عن هذه المدينة وسكانها بمقدار ثلاثمائة عامٍ … ثلاثمائة عام مضت، وها هو ذا عالمٌ آخر يحيط بنا كأنه بحرٌ زاخرٌ لا نستطيع الحياة فيه كأننا سمكٌ تغيَّر ماؤه فجأة من حلوٍ إلى مالحٍ». وكأن توفيق الحكيم يصوغ من «عودة الروح» و«أهل الكهف» حديثًا واحدًا متكاملًا يقول إنه إذا كانت روح مصر خالدةً، وإن كفاحنا اليوم ليس مبتورًا عن تاريخنا الثوري، فإن طبيعة الاستمرار هذه التي تتميز بها مصر لا تعني مطلقًا أننا مغلولون إلى الوراء، وإنما تعني أننا نمتلك تراثًا عظيمًا نستمد منه الحياة كما تستمد الأوراق عصارتها من الجذور، إلا أن هذه البذرة الميتة أو الساكنة التي تلد الحياة لا يمكن تحويلها عن هذه الوظيفة التاريخية الثابتة إلى أن تكون أحد معوقات الحياة وأداة تعطيل النمو، لهذا ينتصر يمليخا وهو في الكهف، ينتصر العقل بين أحضان التجربة والزمن، بين التراث والتاريخ، حين يدخل عليه مرنوش عائدًا من الخارج، ولسان حاله يردد ما قاله في وداع مشيلينيا: «حياة جديدة؟ ما نفعها؟ إن مجرد الحياة لا قيمة لها، إن الحياة المطلقة المجردة عن كل ماضٍ وعن كل صلةٍ وعن كل سببٍ لهي أقلُّ من العدم، بل ليس هناك قط عدمٌ، ما العدم إلا حياةٌ مطلقةٌ.» وتلك هي النقلة الجديدة التي تضيف إلى نقلة يمليخا معنًى جديدًا، هو أن الهوة التاريخية التي تفصل بين الكهف والمدينة، أو ذلك البتر الزمني بين عصرٍ وآخر، إن هو إلا عداء سافر لفكرة الاستمرار، أي إن ما ظنوه بعثًا لم يكن إلا رجعةً إلى الوراء؛ لأن البعث الحقيقي هو وليد الاستمرار التاريخي، والحياة الجديدة خارج الكهف هي الروح المعاصرة المنبثقة عن الماضي العظيم عبر تاريخٍ طويل من الفداء والاستشهاد، أي إن المجتمع الجديد في الخارج هو الدليل الوحيد على حقيقة الاستمرار التي عبرت عنها «عودة الروح»، أما الكهف، فإذا تحول عن كونه تراثًا مقدسًا وأصبح هو الحاضر بالقول والفعل، فإنه حينئذٍ يتحول إلى معنًى يجسد الحد الأقصى من الرجعية والجمود، على نقيض الرأي الذي قال به الرائد العظيم سلامة موسى، بل إنه يصبح رمزًا مزدوجًا للتوقف من جانب، ولانعدام الجذور أو التراث من جانبٍ آخر، ما دام الأمر يصل إلى هذه الدرجة من الخلط فيمسي التاريخ والمعاصرة شيئًا واحدًا، وكأني بتوفيق الحكيم مرة أخرى في تلك المرحلة من تاريخ مصر (التي لم يكن سوادها إلا ستارًا لانبعاثها الحقيقي) يقول إن روح مصر الخالدة قد استردتها من جديدٍ، وها هي ذي تُبعث من جديدٍ — كما هو الحال في عودة الروح — فإنه لا ينسى أن يقول أيضًا إن خلود هذه الروح لا يعني السكونية والثبات والاستقرار، فاحترامنا لتاريخنا القديم، وبعثه في مرحلة البعث القومي، لا يعني بحالٍ أن لهذا التاريخ سطوة على الحاضر، بل له قداسته فحسب، أي إننا نستمد منه كافة عناصر الدفع الإيجابية إلى الأمام، ولكنا لا نسمح له بأن يكون أداة تعويق لسيرنا. وهكذا أرى «أهل الكهف» إحدى الروائع التقدمية في تاريخنا الأدبي، على غير النحو الذي رآه الناقد محمود العالم. والاختلاف هنا — ولا بد من التأكيد على هذه النقطة — لا يكمن إطلاقًا في أن تقييم العالم هو نتائج نظرة سياسية؛ لأن هذه النظرة نفسها تقول كما رأينا بعكس ذلك، وإنما يكمن الخلاف في مصدرين، هما: النظر إلى فكرة الزمن عند توفيق الحكيم في مستواه الوجودي الشامل الذي يخطط لفكرة المصير وفق فلسفةٍ عدميةٍ، إن مأساة الزمن عند الحكيم هي مأساة اجتماعية في حياة القوى الورائية المتخلفة، ولكنها ليست مأساة على الإطلاق عند أولئك الذين يبنون المجتمع الجديد كما نلاحظ على طول بقية أحداث «أهل الكهف» منذ عودة مرنوش إلى الكهف وهو يقول في صراحةٍ وجلاءٍ ووضوحٍ: «إننا ملك التاريخ … ولقد هربنا من التاريخ لننزل عائدين إلى الزمن … فالتاريخ ينتقم.» ويتكامل الموقف الفني العميق الدلالة حين يقتنع مشيلينيا عبر تجربةٍ طويلةٍ مع الحاضر، هي تجربة فشله في أن يخلق من الأميرة بريسكا المعاصرة بريسكا القديمة، جدتها التي كان يحبها. يقتنع مشيلينيا بأن لا مكان له في هذا العالم، ولكنه يضيف إلى كلمات يمليخا ومرنوش فكرةً جديدةً، هي: «إنَّا لا نصلح للحياة … إنَّا لا نصلح للزمن … ليست لنا عقول … لا نصلح للحياة.» فإذا حاولت بريسكا الجديدة بأن تفتح عينيه قال لها دون أن يبكي: «الإبصار لي موت.» الإضافة هنا أن الزمن يعني المعاصرة، يعني الحياة الجديدة، وليست المعاصرة أو الحياة الجديدة بمأساة. والمصدر الآخر هو تصور الناقد لقيام معادلةٍ حرفيةٍ بين الواقع والعمل الفني، بحيث تصبح «أهل الكهف» ترجمة لمرحلة الهزيمة السوداء في تاريخ مصر الحديث. والحق أن ثمة مسافةً موضوعيةً بين الواقع والعمل الفني، تتيح للفنان والمتلقي على السواء حدًّا معقولًا من الرؤية الصادقة، فربما كانت الهزيمة السوداء مجرد قشرة خارجية تخفي بداخلها جوهرًا مختلفًا. ولقد كانت مصر منذ بداية الثلاثينيات تغلي ببراكين الثورة على الاستعمار والاستبداد، ومن ثَم تمثلت لدى كاتبٍ تقدميٍّ، كتوفيق الحكيم، كمرحلة بعثٍ ونهضةٍ وانطلاقٍ، لا كمرحلة موتٍ وهزيمةٍ، وهذا هو الفرق بين الواقع والفن، فالعمل الفني الناضج هو الذي يضيف إلى عنصر الواقع الموضوعي عنصرًا آخر، هو «وجهة النظر» التي تستشعر بها ذات الفنان الأحداث من حولها. وهكذا كانت رؤية الحكيم لأحداث الهزيمة والطغيان رؤية أبعد نظرًا من الواقع المرئي البسيط الساذج، فقد رأى البعث من خلال الموت، رأى النصر من خلال الهزيمة، عاد أهل الكهف إلى كهفهم، ولم يعد ثمة مجالٌ للرجعية والتخلف، لم يعد ثمة إمكانيةٌ للبعث في معناه السكوني الثابت، ولنتبع هذا الحوار الهام بين مرنوش — وهو يُحتضر — ومشيلينيا:

مرنوش : مشيلينيا … ضع يدي اليسرى في يد يمليخا (مشيلينيا واجم)، مات المسكين … ولم يعرف الحقيقة … ومع ذلك … هل عرفناها نحن؟
مشيلينيا : ماذا تعني يا مرنوش؟
مرنوش : أحلام … نحن أحلام الزمن.
مشيلينيا : الزمن يا مرنوش؟
مرنوش : نعم … الزمن يحلمنا!
مشيلينيا : كي يمحونا بعد ذلك؟!
مرنوش : إلا مَن استحق الذِّكر، فيبقى في ذاكرته.
مشيلينيا : التاريخ؟!
مرنوش : نعم.
مشيلينيا (في قلق) : أهذا هو كل ما نرتجيه بعد الموت؟ أهذا كل تلك الحياة الأخرى؟!
مرنوش : نعم.
مشيلينيا (في قلق) : مرنوش؟ أنت إذن لا تؤمن بالبعث؟!
مرنوش : أحمق! أوَلم نرَ بأعيننا إفلاس البعث؟!
مشيلينيا : استغفر الله، أنت الذي عاش مسيحيًّا تموت الآن كوثني!

هذا النص يضع أيدينا على التماسك المنهجي عند توفيق الحكيم؛ ففي المستوى التعبيري نلاحظ أنه ما يزال يتدرج من العام إلى الخاص إلى الأكثر خصوصيةً، فهو يعود بالشخصيات الثلاث إلى الكهف بعد فشلهم جميعًا مع الحياة الجديدة، وبالرغم من ذلك فإن مواقفهم من الموت تختلف كما سبق إن اختلفت مواقفهم من الحياة، هذا على الرغم أيضًا من أن بدايتهم مع الحياة ونهايتهم مع الموت ترسم ما يشبه وحدة المصير إزاء الحياة والموت. هذا المنهج في التعبير يضفي حيوية دافقة على حركة الشخصيات والأحداث والمواقف.

ومن جهةٍ أخرى — على المستوى الفكري — فإن هذا النص يدين بشكلٍ واضحٍ ذلك البعث الشكلي الساذج، ويؤكد في نفس اللحظة على البعث الديناميكي العميق، مما يدعونا لأن نتوقف قليلًا عند الحدود الفاصلة بين الواقع المصري في بداية الأربعينيات من هذا القرن، ومسرحية ﮐ «أهل الكهف»، فقد رأى توفيق الحكيم خلود الروح المصرية بمعنى أن القيم الإيجابية في تاريخنا المصري تظل في حالة كمون إلى أن تستثيرها الأحداث، وحينئذٍ تعود هذه الروح إلى إيجابيتها وثوريتها وتقدمها، ولكن البعث الحقيقي يظل مقصورًا على هذا الجانب التقدمي الثوري الذي يدفع الحركة الحضارية إلى الأمام، إما أن يتحول الماضي إلى مخدرٍ يلبي احتياجاتٍ مرضيةً في نفسية المصابين بمركب العظمة، أو أن يحمل معه الشوائب السلبية التي لا ينجو منها شعبٌ من الشعوب، فهذا ما يرفضه توفيق الحكيم ولا يدعوه بعثًا؛ لهذا يقول مشيلينيا: «لسنا حلمًا … لا … بل الزمن هو الحلم … أما نحن فحقيقةٌ … هو الظل الزائل ونحن الباقون … بل هو حلمنا … نحن نحلم الزمن، هو وليد خيالنا وقريحتنا ولا وجود له بدوننا، إن تلك القوة المركبة فينا، وهي العقل، منظم جسمنا المادي المحدود … آلة المقاييس والأبعاد المحدودة … هو الذي اخترع مقياس الزمن، ولكن فينا قوة أخرى تستطيع هدم كل ذلك! أوَلم نعش ثلاثمائة عام في ليلةٍ واحدةٍ، فحطمنا بذلك الحدود والمقاييس والأبعاد؟! نعم، ها نحن أولاء استطعنا أن نمحو الزمن … نعم تغلبنا عليه «لحظة»، ولكن … وا أسفاه! بريسكا، ما يحول بيني وبينها إذن؟ الزمن؟ نعم محوناه … ولكن ها هو ذا يمحونا، الزمن ينتقم، إنه يطردنا الآن كأشباحٍ مخيفةٍ ويعلن أنه لا يعرفنا، ويحكم علينا بالنفي بعيدًا عن مملكته … ربي! هذه المبارزة الهائلة بيننا وبين الزمن أتُراها انتهت بالنصر له؟!» هذا التساؤل الذي يطرحه الفنان يتيح لنا الإجابة على العديد من التساؤلات الفرعية: لماذا وُلدت أول تراجيديا مصرية بلا بطلٍ تراجيديٍّ؟ ما هو الرباط الذي يشدنا إلى الماضي؟ هل نستطيع أن نصنف «أهل الكهف» في إحدى الخانات التقليدية للمذاهب الأدبية؟

إن المسرحية تنتهي والكهف يتحول إلى قبرٍ مقدسٍ تأبى بريسكا الأميرة المعاصرة إلا أن تُدفن به حيةً مع حبيب جدتها القديسة بريسكا الشهيدة، وهكذا يضرب الحكيم على وترٍ مزدوجٍ؛ لقد حكم بالإعدام على هذه التي أبت إلا أن تتشبث بالماضي ممثلًا في مشيلينيا، ومن جهةٍ أخرى أراد من خلال القصة الثنائية بين مشيلينيا وبريسكا الحية الميتة أن يقول شيئًا هامًّا، هو أن الرباط الذي شدنا إلى الماضي هو الرباط العاطفي فحسب؛ لهذا فلا مكان للماضي في الحاضر، بل إن الحكيم يذهب في رؤيته التقدمية إلى مدًى أبعد حين يحكم بالإعدام — كما قلتُ — على كل مَن يحاول من أهل الحاضر، عاطفيًّا، أن يتشبث بالماضي، وهذا هو الجانب المأساوي من «أهل الكهف». ولكن الجانب الآخر هو انتصار المجتمع الجديد، بذلك يكون ثمة مزاوجةٌ حيةٌ عميقةٌ بين الموت والبعث في «أهل الكهف» لم تلد لنا بطلًا تراجيديًّا يحمل في أعماقه الموت والبعث معًا، ولكنها أثمرت نماذج رائعة للشخصيات التراجيدية التي تلتئم جراحها في جفاف الموت وصمت القبر المقدس، فيؤمه الحجاج من أهل الحاضر احترامًا، غير أنهم سرعان ما يهرولون إلى بناء العالم الجديد، ولعل تاريخنا الأدبي هو المسئول عن هذه الظاهرة الشاذة، وهي خلو أول تراجيديا مصرية من البطل التراجيدي، فالدراما — كفنٍّ أدبيٍّ — لم تكن امتدادًا طبيعيًّا لتراثنا الأدبي، وإنما كانت إحدى النتائج الحضارية للقائنا الفني بأوروبا، ولما كانت التراجيديا الأوروبية تحتضن تراثًا يمتد إلى الإغريق العظام، فقد جاء أبطالها التراجيديون تقليدًا أدبيًّا أصيلًا، فضلًا عن كونه امتصاصًا لكل ما تحتويه عناصر الحضارة الأوروبية من عوامل الانقسام والتوتر، أما نحن فقد التقينا بحضارة الغرب الفنية بلا تراثٍ حقيقيٍّ يحمي أصالتنا الشخصية، ومن ثَم كان لقاؤنا بالدراما الأوروبية هو لقاء التأثر لا لقاء التفاعل، كان مسرحنا «انعكاسًا» للمسرح الغربي ولم يكن قط في نشأته الأولى فنًّا أصيلًا؛ لهذا كله تبدو ريادة توفيق الحكيم للمسرح المصري وكأنها معجزةٌ فنيةٌ كبرى، فقد اختار مادته الخام من مصر بروحها وفكرها، ولم يفرض على التراجيديا المصرية الأولى المقاييس الكلاسيكية المستقرة للتراجيديا الأوروبية، بل ترك مادته الخام تفرض شكلها الخاص، ومن ثَم جاءت «أهل الكهف» مزيجًا معقدًا من عناصر الدراما الأوروبية (بمجرد اختياره المسرح شكلًا أدبيًّا لفنِّه، وخلو أرضنا الفنية من أية تقاليدَ مسرحيةٍ)،٤ ومن عناصر المأساة المصرية الخالصة. وكان هذا هو مضمون الثورة الفنية المجيدة التي قادتها «أهل الكهف» أول موعد للحياة مع المسرح المصري منذ اغتياله بين جدران المعابد المصرية القديمة وقصور الفراعنة، فبالرغم من خلو «أهل الكهف» من البطل التراجيدي الذي يُفترض وجوده في مسرحيةٍ كلاسيكيةٍ كمسرحية الحكيم، ويُفترض وجوده ثانيةً في مسرحيةٍ نبتت في أرض مصر التي أثمرت أسطورة البطل التراجيدي الأول، الإله المعذب أوزوريس؛ إلا أن «أهل الكهف» هي تعبيرٌ صادقٌ أصيلٌ عن المرحلة الحضارية التي وُلدت فيها، حيث كان مسرحنا — كما سبق أن ذكرت — مجرد انعكاسٍ وصدًى للمسرح الغربي، فجاءت «أهل الكهف» تحمل في تكوينها كافة سمات الأزمة، أزمة الميلاد الدرامي في مصر بلا أبوةٍ أو أمومةٍ شرعيةٍ سوى حاجتنا الأصيلة آنذاك إلى شكلٍ تعبيريٍّ قادرٍ على امتصاص اهتزازات وجداننا وتوترها، حاجتنا إلى الشكل المسرحي، وقد كانت هذه الحاجة بلا ريب تجسيدًا لحلقةٍ مفقودةٍ في تاريخنا الحضاري والفني على السواء (هي الحلقة الدرامية من جهةٍ، كما كان اختيار الفنان لمصر المسيحية وعيًا عميقًا بالتمزق التاريخي والبتر من جهةٍ أخرى). ويدعم أصالة هذه الحاجة إلى الدراما المصرية أننا منذ بداية القرن العشرين نعاني مرحلة النهضة في أدبنا الحديث، بحيث يصبح من المستغرَب ونحن نحاول اللحاق بركب العصر الحديث أن يخلو أدبنا من المسرح. كانت الأرض ممهدةً إذن لاستقبال أول مسرحيةٍ مصريةٍ بكل ما يشوبها من أزمة الميلاد المتعسر، كخلوها من البطولة التراجيدية، مع اعتمادها على القواعد الكلاسيكية للمسرح الأوروبي. إن هذه الشوائب تحمل في ثناياها فضيلةً لا سبيل إلى إنكارها، هي أنها كانت الدليل الحي على صدق الحكيم وإخلاصه في التعبير عن حقيقة تلك المرحلة الفنية في تاريخنا الأدبي، فقد كان المسار الفني لهذا التاريخ هو الذي يحدد طبيعة الظواهر الأدبية في حضارتنا، هكذا نفسر ميلاد البطل التراجيدي المصري في ثلاثية نجيب محفوظ، فقد كان كمال عبد الجواد هو التعبير الأمثل عن جيل المأساة٥ في تاريخنا الحضاري والأدبي، ولكنه وُلد في الإطار الروائي لا بالإطار المسرحي. هذا التناقض بين خلو أول دراما مصرية تراجيدية من البطل التراجيدي، وبين ميلاد هذا البطل في عملٍ روائيٍّ هو أحد الظواهر الأدبية في تاريخنا الفني التي تؤكد أنه بالرغم من علاقتنا بالأدب الأوروبي، فإن لنا تاريخنا الخاص الذي ينتظر ناقدًا مصريًّا عظيمًا يقيم تقاليدنا الأدبية الخاصة حتى نستنير بها في تقييم الظواهر المعاصرة التي نتورط في تفسيرها على ضوء الحلول الجاهزة في النقد الأدبي دون التبصر بجذورها التاريخية. وفي اعتقادي أن مسرحية «الراهب» للويس عوض قد حلت هذا التناقض بين خلو أول تراجيديا مصرية من البطل، وميلاده في عملٍ روائيٍّ؛ إذ إن شخصية «أبا توفر» تحمل في تكوينها كافة مؤهلات البطولة التراجيدية،٦ ومعنى ذلك أن ثورية «أهل الكهف» في المستوى الفني، هي أنها أضافت إلى تقاليدنا الأدبية المصرية مغزًى هامًّا، هو أن ميلاد أول مسرحيةٍ مصريةٍ كان يتضمن مختلف مظاهر السلب والإيجاب في البناء الدرامي. لقد اختار لويس عوض فيما بعد نفس المرحلة التاريخية التي وقع عليها اختيار الحكيم، مصر المسيحية، ولكنه استطاع أن يخلق البطل التراجيدي خلقًا كاملًا مستقلًّا، ومع هذا فقد حدث ذلك بعد ثلاثين عامًا من تاريخ النشأة الأولى للتراجيديا المصرية (ما أحوجنا إذن إلى نقدٍ مصريٍّ أصيلٍ يرصد في صبرٍ وأناةٍ تطور تقاليدنا الأدبية، ويستخلص الميزان الخاص بنا في تقييم أدبنا الحديث).
إن مصر في «أهل الكهف» لست هيكلًا عظميًّا من الأحداث، فقد اختار الفنان مدينة طرطوس لتكون هذا الهيكل، أما مصر فقد اختار لها أن تكون اللحم والدم المحيط بهذا الهيكل، والروح التي تدب في أوصاله فتشعل بين جنباته نيران الحياة؛ لهذا كانت العلاقة بين «أهل الكهف» ومصر الحديثة هي علاقة الأوراق الخضراء بالجذور الغائرة في التربة، وليست علاقة الأصل بالصورة. إن «أهل الكهف» هي مصر الفكرة، وليست مصر الواقع الفوتوغرافي. وهكذا كانت «الراهب» عند لويس عوض بمثابة الدورة الجدلية بين مصر الفكرة ومصر الثورة، كذلك كانت العلاقة بين «عودة الروح» و«أهل الكهف» هي العلاقة الجدلية بين مصر الفكرة ومصر الثورة، وليس من قبيل المصادفة إذن أن تكون ريادة هذين العملين ليست مقصورةً على جانبٍ دون آخر، فهما عملان رائدان فنيًّا — كعملٍ روائيٍّ وعملٍ مسرحيٍّ — كما أنهما عملان رائدان فكريًّا كمضمونٍ فنيٍّ يستلهم وجهة نظر شاملة في مصر والثورة معًا، تلك هي فكرة الموت والبعث أو نظرية الخلود، وهي الفكرة المشتركة بين توفيق الحكيم ولويس عوض كانعكاسٍ فنيٍّ وفلسفيٍّ للفكرة المصرية التي سادت على التفكير الوطني في مصر إبان عصر النهضة، فهو لم يكن قط عصر طغيان وموت، أو عصر انبعاث وحياة فحسب، بل كان عصرًا مزدوجًا يحمل في طياته العصرين معًا، ومن هنا كان تفكير الحكيم في مأساة الزمن تفكيرًا اجتماعيًّا نابعًا من ظروف المجتمع المصري حينذاك، وليس تفكيرًا ميتافيزيقيًّا نابعًا من الفلسفات الغربية المعاصرة، ونحن نستطيع أن نكشف هذا الفرق بين التفكير الفني عند الحكيم، وبين هذا التفكير عند الغرب إذا عقدنا المقارنة بين «أهل الكهف» و«سكان الكهف»، المسرحية التي كتبها «وليم سارويان».٧

والكهف عند سارويان هو مسرح قديم لجأ إليه ثلاثة ممثلين قدامى يعيشون بين جدرانه في معزلٍ عن الناس، يتوهم أحدهم أنه ما يزال ملكًا كما كان دوره في الماضي على خشبة المسرح، ويتوهم الآخر أنه دوق، أما الشخصية الثالثة فهي لسيدة تتوهم هي الأخرى أنها الملكة. ونحن لا نعرف عنهم شيئًا حتى تحتمي بهم إحدى الفتيات في خوفٍ وذعرٍ من شيءٍ لا تدريه، وهم يقبلونها بعد ترددٍ وبعد أن تؤدِّي دورًا تمثيليًّا يؤكد أنها من أهل المسرح، فهم يرفضون أن يكون بينهم «غريب» عن التمثيل وحياة المسرح. وعندما يلاحظ «الملك» سمات الذعر على وجه الفتاة يقول لها في رفقٍ: «لا تخافي مني، فإنني لم أرَ طول اليوم سوى عيون تخافني، وقد أذلتني هذه القسوة مرةً أخرى أعمق من ذي قبل، في الأيام الغابرة كنت أغطي هذا الوجه بالدهون البيضاء والحمراء؛ قناع المهرج، لكن هذا الوجه هو القناع، أما الآخر فهو الحقيقي.» والفتاة لا ترد على الملك، وإنما هي تختزن الإجابة إلى نهاية الفصل الأول حين تقول للدوق في حبٍّ: «منذ الدقيقة الأولى التي رأيتك فيها، حين خرجت من مخبئي متوقعةً أن أرى العالم كله حطامًا، والحياة نفسها تلفظ أنفاسها الأخيرة، فوجدتك أنت بدلًا من ذلك، على خشبة المسرح هذه، منذ تلك اللحظة، منذ مائة سنة مضت.» وهكذا يستخدم سارويان منهجًا تعبيريًّا ممتازًا لا يدور فيه الحوار بصورةٍ تقليديةٍ، فالسؤال الذي توجهه إحدى الشخصيات إلى الأخرى يُجاب عليه بواسطة شخصيةٍ ثالثةٍ، والموقف الدرامي الممثل في هذا «الكهف» المسرحي هو صورة مصغرة للعالم المحيط الذي كانت تختبئ الفتاة في أحد كهوفه، وقد ظنت أن العالم تحطم نهائيًّا، فهي — في واقع الأمر — لم تنتقل من كهفٍ إلى آخر، وإنما انتقلت من إحدى زوايا الكهف إلى زاويةٍ أخرى، وهكذا يصبح العالم كله عند الفنان كهفًا كبيرًا، ولا ينجو الكهف من الحطام في النهاية؛ لأن دوره آتٍ لا ريب في ذلك، وليس صعبًا أن نستشف من ذلك أن سارويان يصور البناء الحضاري في الغرب وقد أصبح آيلًا للسقوط أو أرضًا يبابًا، كما هو الحال عند «إليوت»، ومن مظاهر الخراب في هذا العالم ما يذكره «الملك» من أنه احترف الشحاذة يومًا فلم تعره «السيدة ذات الفراء» نظرةً واحدةً، ولو نظرة كراهية، بينما جاد الكلب الذي تصحبه معها بنظرة عطفٍ، من نقطة الانطلاق الاجتماعية هذه — الإحساس العميق بالدونية والوحدة واليأس — يفكر الإنسان عند الكاتب الغربي في الموت كموقفٍ ميتافيزيقيٍّ من قضية المصير والكون، أي إن البداية اجتماعية تمامًا، ولكنها تنتهي إلى المستويات الميتافيزيقية المختلفة لأن البناء الحضاري (كما يراه الفنان) آيلٌ للسقوط، على النقيض من الكاتب المصري الذي يبدأ من نقطة انطلاق اجتماعية، وينتهي عند حدود المأساة الاجتماعية أيضًا؛ لأن رؤياه في جوهرها هي أن حضارتنا في مرحلة بناءٍ، هكذا يعتقد «الملك» في مسرحية سارويان أنه «ميتٌ» أحيانًا، ثم يتذكر أنه حي فيشعر بالاستغراب، وهكذا يصبح الجميع في حالة ضياع، في حالة بحثٍ «لا مُجدٍ» كما قالت الفتاة: «أحدهم يبحث عن أبيه والآخر عن أمه، والثالث يبحث عن مأوًى، والرابع عن مكانٍ ليختبئ»، أي إن الجميع يهرولون فوق الأنقاض المنهارة إلى كهفٍ سيئول حتمًا للسقوط، ومن هنا يزاوج سارويان بين الوجه والقناع، بين التمثيل والحياة، فإذا أدى الملك دورًا تمثيليًّا مع الملكة وتساءلت الفتاة عن هذا الدور أجاب الدوق بأنهما يحيَيان لا يمثلان، أو إذا تساءل الملك حول مسرحية أحد الكتاب الحديثين، فإن الملكة تجيب بأن شيئًا لم يحدث: «إنها قصة حياتنا.» كذلك يزاوج الفنان بين الواقع والحلم، فترى الفتاة فارس الأحلام، ويرى الملك الكلب العطوف، ويرى الدوق المباراة التي خسرها، حينئذٍ نفيق مع الفنان على هذا الحوار:

الملك : لقد وصلنا إلى زمن …
الدوق : أي نوعٍ من الزمن؟

فهذه الدورة من السؤال والجواب تضع كافة الحلول الممكنة بين قوسين كبيرين:

الملكة : لماذا تجمعنا على شكل حلقةٍ؟
الملك : لأنه يمكن لكلٍّ منا أن يحصل على قليلٍ من الدفء من الآخر.

هذه الرؤيا الاشتراكية لا تجد لها نظيرًا عند الملك الذي يرصد الفنان في شخصيته معالم الحضارة التي يعيشها قائلًا:

الملك : إننا نشعر بالبرد يا مرأة … في ليلةٍ باردةٍ، وفي ميناءٍ باردٍ، وفي مدينةٍ باردةٍ.
الملكة : أنت خائفٌ، أيها الملك … أعتقد من الموت، ولكن بحق الإله أيها الرجل، لا تجعل قليلًا من البرد وقليلًا من الخوف يحيلانك إلى إنسانٍ أحمقَ، إنني أشعر بالبرد، وكذلك هي، وكذلك هو. وفي حدود معرفتي، قد تكون هذه ليلتي الأخيرة أو ليلتك، أو ليلتهما، أو ليلة أي إنسانٍ، ولكن إلى أن يتلاشى عقلي كليةً، فإنني مصممةٌ على البقاء حيةً، كما لو كان هذا صباح اليوم الأول في حياتي، كما لو كنت أنا فتاة صغيرة أبحث عن متع الدنيا. أيها الملك، إني أقول إنه لا يوجد موت! رغم علمي أنني لن أكون عاجلًا بين الأحياء.

الحق أن منهج سارويان في إيجاد التناقضات «الظاهرية» بين الشخصيات هو المسئول عما يبدو من تناقضٍ بين الملك والملكة، ولو أننا تذكرنا أن موقفًا آخر كان الملك فيه «يمثل» دورًا ما، ثم أوقفته الملكة بقولها: «برافو»، لتذكرنا أنه لا فرق جوهريًّا بين موقفها وموقفه، وهو القائل: «شكرًا على إيقافك لي، فربما كنت أستمر إلى الأبد بسبب الوحدة واليأس.» فالملك والملكة يصوغان معًا موقفًا موحدًا نكتشف في ديناميته — بالتفاعل والصراع — موقف الفنان من البناء الرمزي للحضارة الغربية الآيلة للسقوط كما يعتقد، وموقفه من الفكرة الاشتراكية كحلٍّ «اجتماعيٍّ» لهذه المشكلة؛ لهذا تنفرد الملكة بنهاية الفصل الأول في بلورة الموقف الفني الشامل للمسرحية حين تقول بصراحةٍ كاملةٍ: «استمروا إذن، تعلقوا سويًّا واجعلوا من أنفسكم حلقةً من الحيوانات، اركعوا، وصلوا، وابكوا، وتوجعوا، فإنني أفضِّل أن أبقى منفردة ولو تجمدت حتى الموت.» وتوجه حديثها إلى الفتاة بصورةٍ حاسمةٍ: «اسمعي يا فتاة، أنا وأنت لم نخترع فلسفات ولا عقائد، إننا نصاحب الفتيان … حتى يبلغ بنا الملل إلى هنا (تشير إلى أنفها)، وحينئذٍ نقول: أيها الفتيان، نرجوكم أن تستمروا الآن وحدكم، اقتلوا أنفسكم باسم الرب، أو الحق أو العدالة، أو الآيس كريم، أو أي شيءٍ آخر يمكنكم أن تفكروا فيه … اقتلوا أنفسكم ثم اشرحوا هذا لنا، سنكون هنا في انتظاركم، وسننصت مرة أخرى لشرحكم الأحمق الذي يستدر الرثاء … كيف كنتم مخطئين وأنتم على صوابٍ، وكيف تكونون على صوابٍ وأنتم مخطئون.»

هذه الإدانة الساخرة بكل نضالٍ ثوريٍّ من أجل الحقيقة الاجتماعية أو الدينية، تمنحنا التفسير الوحيد لموقف الملكة بعدئذٍ من أحلام الأنبياء ورؤاهم النبيلة؛ إذ هي ترى أن هذه الأحلام عاقت البشرية عن التحدي الحقيقي الذي يوجد في كلٍّ منا: «وإذا كنا عدمًا يحتوينا عدمٌ، ونرغب في أن نكون شيئًا يحتوينا شيءٌ، فدعونا نكتشف كيف يمكننا أن نتم هذا التحول دون خوفٍ، دون أكاذيب، دون ضعةٍ، دون تحقير لأنفسنا وللآخرين»، أي إن الصدق الكامل مع النفس ومع الآخرين يقودنا إلى الانتحار الجماعي، فلا مبرر هناك لوجودنا إلا إذا أردنا أن نعيش كأقنعةٍ للخير والفضيلة ونحن مجموعة من الوحوش الضاربة، ومن هنا لا حياة — حتى ولو كانت اشتراكية «أو جماعة في حلقةٍ تشعر بالدفء على حد تعبير سارويان» — مع الصدق. وليست محاولة التجمع التي يتطلع إليها الملك «تصرف حبٍّ»، وإنما هي «تصرف خوف» من الآخرين ومن أنفسنا على حدٍّ سواءٍ، وهكذا تتجاوز رؤيا سارويان العدمية جحيم سارتر القديم (الآخرون)، إلى جحيمٍ آخر، هو الذات.

فإذا كان الفصل الثاني والأخير، تبدت لنا رؤيا سارويان وهي تزداد تماسكًا — من الناحية المنهجية — فالمحاولة الثانية بعد الاشتراكية هي الاختيار الحر المسئول عند الوجودية، لقد انضم إلى سكان الكهف الأصليين مجموعة من لاعبي السيرك؛ دبٌّ ضخمٌ ورجلٌ وسيدةٌ وطفلٌ وليدٌ، خرج الدوق ليشتري لبنًا للطفل بما لدى الملك من نقود الشحاذة، ولكن النقود لم تكفِ لشراء زجاجةٍ واحدةٍ، فلم يكن ثمة بدٌّ من سرقة بضع زجاجات في صندوقٍ صغيرٍ، وهكذا أقبل صاحب اللبن والصبي الأخرس الذي يعمل عنده، وهنا تقع الفتاة في حيرةٍ بالغةٍ حين يدخل الصبي ليبحث عن الزجاجات، وما إن يجدها ويكتشف الوليد الجائع حتى يعيدها إلى مكانها. لقد أحبته الفتاة، كما سبق لها أن أحبت الدوق، فماذا يكون الأمر: «كيف أختار؟ هل الأمر سهلٌ إلى هذا الحد؟ إني أحبُّه. إنني خجلةٌ لهذا، ولكني أحبُّه فكيف لي أن أختار؟ ماذا عليَّ أن أفعل بشأن هذا الموضوع؟ مَن الذي اختاره ليكون ابن بائع اللبن؟ ومَن الذي اختار الدوق ليخرج ويسرق اللبن؟ ومَن الذي اختار الصبي الصامت ليتبعه إلى هنا؟ مَن الذي اختاره ليدخل ويرى ويفهم؟ أنا لم أفعل!»

هكذا يضع سارويان الإنسان أمام مصيره كشيئين منفصلين، تمامًا كما راهن الملك على فردة حذائه حين خرج للشحاذة وشاهد مجموعةً من العمال تجدُّ في هدم منزلٍ مجاورٍ للمسرح-الكهف، فأراد أن يضحكهم، ولكنهم كانوا بحاجةٍ إلى «البكاء»، فراهن على حذائه أن يبكيهم، وخسر فردة الحذاء، هنا يغمز الفنان كل ما يحيط به باللعنة: «فقدت حذاءك؟ كيف يحدث للرجل أن يفقد حذاءه؟ فقدْ يفقدُ رأسه وربما قلبه أو عقله … ولكن كيف يستطيع أن يفقد حذاءه؟!» ومرة أخرى يغمز الصراع العالمي بين المعسكرين حين يقول والد الطفل: «إنهم يحبون هذا الصراع سواء كان حقيقيًّا أو غير حقيقيٍّ، وهذه المصارعة تجلب النقود في الشوارع والأعياد والكرنفالات، وربما في السيرك في النهاية. إن مشكلتي هي ضآلة جسمي، ولست من الضخامة بحيث أتناسب مع دبٍّ، أما الدوق فهو رجلٌ ضخمٌ يكاد يقارب الدب في ضخامته، وستجلب لنا مصارعتهما سويًّا ثروةً، أما لو صارعته أنا، فسنكون أضحوكةً (بسرعةٍ)، هيا يا جوركي (يقصد الدب) …» ثم تشتبك الأحداث والشخصيات والمواقف، فيصبح الزواج من امرأةٍ ما «حدثًا وقع»، فأصبح قانونًا، وتاريخًا. كما يصبح الكهف كأي قصر مجرد مكان «لا ينتمي» إليه أحد، ويصل رئيس العمال الذين كسبوا فردة حذاء الملك، ويعترف أنه بكى في داخله ولم يضحك إلا تظاهرًا؛ لهذا يعيد فردة الحذاء، ولكن ليعلنهم في نفس الوقت أن دور الهدم الآن قد وصل إلى المسرح أو الكهف، ولا بد من هدمه سواء اليوم أو بعد ثلاثة أيامٍ، عندئذٍ يتحدد يوم الاثنين موعدًا لهدم الكهف، ويدير سارويان هذا الحوار المركز:

الملك : حسن يا مليكتي.
الملكة : أجل يا مليكي.
الملك : يوم الإثنين.
الملكة : أجل، يوم الإثنين، أول أيام الأسبوع.
الملك : وآخر أيام «العالم».
الملكة : اوه، اصمت.
الملك : أتعلمين أن هذا هو اسم المسرح في الواقع، لقد اكتشفت هذا بالأمس فقط على لوحته الأمامية …

ويختتم الكاتب العظيم مسرحيته الرائعة بقول الملك في لحنٍ جنائزيٍّ مؤثرٍ: «وداعًا إذن … وداعًا أيها الرحم، أيها الكهف، أيها المخبأ، أيتها الكنيسة، وداعًا أيها العالم، وداعًا أيها المسرح، وداعًا.»

ويسدل ستار الختام، لنضع أيدينا على هذا اللقاء بين توفيق الحكيم ووليم سارويان، إنه لقاء التناقض لا التشابه أو التقارب، فإذا كان الكهف عند الحكيم هو الماضي فحسب، فالكهف عند سارويان هو الماضي والحاضر والمستقبل، وإذا كان الماضي عند الحكيم هو زمن محدود ومكان محدود، فإن الزمن عند سارويان هو العدم المطلق، والمكان هو الخراب المطلق، فالنسبية هي عماد رؤيا الكاتب المصري، والإطلاق والتعميم هما عماد رؤيا الكاتب الغربي، الحضارة الغربية عند سارويان هي العالم، وما دامت آيلة للسقوط، فالعالم كلُّه سينهار «عليَّ وعلى أعدائي»، ومن ثَم لا مكان لأية حلولٍ إنسانيةٍ أو اشتراكيةٍ أو اختياريةٍ وجوديةٍ. إن تماسكه المنهجي الصارم يؤدي به إلى نهاية الشوط، فرؤياه الفنية ليست يائسةً، ولكنها عدميةٌ كاملةٌ، وهي رؤيةٌ فنيةٌ صادقةٌ مع الجانب المظلم من حضارة الغرب، ولكنها رؤيا وحيدة الجانب لا ترى الجوانب البناءة المشرقة من هذه الحضارة. أما توفيق الحكيم فيستمد أصالة رؤياه من طبيعة المرحلة الحضارية التي نجتازها، فإذا كانت الحضارة الغربية موتًا فقط عند الفنان الغربي، فإن حضارتنا موتٌ وبعثٌ، وتلك هي نواة نظرية الخلود عند الحكيم التي رافقت إنتاجه من «أهل الكهف» إلى «إيزيس» إلى «يا طالع الشجرة»، وهذا هو الفرق الجوهري بينه وبين سارويان، فقد خرج سكان الكهف حقًّا، ولكن إلى الهاوية، أما أهل الكهف فقد عادوا إلى الموت ثانيةً، ولكن ليفسحوا لغيرهم بناء الحضارة وإعداد المستقبل، وهو ليس فرقًا فنيًّا فحسب، بل هو فرقٌ فكريٌّ في الأساس، بل هو فرقٌ حضاريٌّ شاملٌ أتاح للحكيم فرصة الرؤيا التقدمية النافذة.

•••

«قوة الشعب مثل قوة الشمس، لا أثر لها إذا تفرقت أشعتها وتشتتت، ولكنها تعمل عملها إذا تجمعت وتكتلت ونُظِّمت.» لا معنى لهذه الكلمات التي جاءت في تذييل توفيق الحكيم لمسرحيته «إيزيس» — التي صدرت بعد أهل الكهف بما يزيد على العشرين عامًا بعامين (١٩٥٥م) — إلا إذا كانت رؤياه التقدمية من اليقظة وقوة الاستمرار للدرجة التي لم يفقد معها اتجاهه الثوري في المسرح.

ولقد قوبلت «إيزيس» عند صدورها في كتاب، وعند ظهورها على خشبة المسرح عام ١٩٥٦م بعاصفةٍ من التعليقات المتباينة تباينًا شديدًا، فبينما يقرر علي الراعي أن موقف الفنان في هذه المسرحية يمثل شيئًا جديدًا في نظرة الحكيم إلى المجتمع، فهو يجعل الكلمة الأخيرة للشعب،٨ ويقف إلى جانب هذا الرأي محمد مندور ونبيل الألفي وغيرهما،٩ نرى فريقًا آخر مكونًا من توفيق حنَّا وألفريد فرج وغيرهما١٠ يحاولون إثبات العكس، فيؤكدون أن الحكيم لم يثق بالشعب، بل هو يتهمه ببطء الفهم والحركة. والحق أن اختلاف الرأي من النقيض إلى النقيض في حقلٍ نقديٍّ يَدين معظمه بوجهة نظرٍ مشتركةٍ إلى الأدب والحياة، لا بد أن يقف بنا إلى حافة التساؤل: هل كانت «إيزيس» من الخصوبة حقًّا بحيث تتيح للنقاد هذا الخلاف الواسع الخصيب، أم أن موقفًا مسبقًا من أدب الحكيم هو الذي يملي على فريقٍ من نقادنا فكرةً معينةً عن إنتاجه بما يتلاءم أو لا يتلاءم مع جوهر هذا الإنتاج، أم أن مناهجنا النقدية إبان تلك الفترة النضالية من تاريخ شعبنا مع الاستعمار كانت قاصرةً على استخلاص الدلالات السياسية والاجتماعية بشكلٍ متعسفٍ، هو تمزيق اللحم من العظم، وسفح الدماء من الشرايين؟

يُخيَّل إليَّ أن الإجابة الموضوعية على هذه التساؤلات سوف تَرِد إلينا عفوًا كلما تباعدت المسافة بيننا وبين كل ما قيل وأحاط بمسرحية «إيزيس»، وكلما توغلنا في البناء الداخلي لها؛ ذلك أن خصوبة العمل الفني لا تتحقق بشرطٍ خارجيٍّ، هو اختلاف الرأي حول هذا العمل، بقدر ما تتحقق بكشف الأبعاد التي ينطوي عليها. كما أن الموقف المسبق من أعمال الحكيم ليس عيبًا في ذاته، فلا شك أن التاريخ الفني للكاتب يلقي الضوء الكاشف على أعماله الجديدة، ولا شك أيضًا أن الناقد العلمي الدقيق هو الذي يستنير بتاريخ الفنان المنقود من خلال أعماله السابقة، مضافًا إليها «وجهة نظر» عامة إلى الأدب والحياة، فليس «الموقف المسبق» في ذاته بشيءٍ معيبٍ، وإنما «الجمود» على هذا الموقف برفض كل تنميةٍ له أو تطوير يُفقِده وظيفته الأساسية في رؤية العمل الفني من زاويةٍ أكثر عمقًا. أما المناهج النقدية التي تحتفي بالدلالات الاجتماعية والسياسية للعمل الأدبي أكثر من غيرها، فإن القصور لا يصيبها من جرَّاء ذلك الهدف النبيل، فالناقد المنحاز فكريًّا إلى وجهةٍ ما، يستطيع البحث عن طبيعة الرؤية الفكرية للفنان المنقود دون أن يخرج عن وظيفته كناقدٍ، إذا استطاع أن يكشف عن أبعاد هذه الرؤية في إطار العمل الأدبي بمجموعةٍ من العناصر الفنية والفكرية، أي إن القيمة «الفكرية»، أو «الدلالة» الاجتماعية، أو «الهدف» السياسي، من الممكن الحصول على أيٍّ منها — نقديًّا — ضمن الإحاطة ببقية عناصر العمل الفني، وليس بمعزلٍ عنها، فالبناء الاجتماعي والنفسي للعمل يشترك مع بنائه الفكري في تفاعلٍ دائبٍ مستمر، ومن هنا كان التقاط الدلالة الاجتماعية عمليةً شاقةً عسيرةً؛ لأنها تستلزم التعمق البصير بكافة جوانب العمل الأدبي ومنعطفاته وزواياه وأبعاده، بهذا الشرط وحده يمكن الحصول على أية ظاهرةٍ فكريةٍ أو فنيةٍ من العمل الأدبي دون إحالته إلى دميةٍ أو جثةٍ هامدةٍ، سواءٌ بالتصور الساذج الذي يدفعنا إلى التقاط ما يمكن تسميته ﺑ «المعنى القريب» لهذا الموقف السياسي أو تلك الواجهة الاجتماعية التي تصادفنا في إحدى منحنيات العمل الأدبي بغير أن نتتبع، في صبرٍ وأناةٍ وأمانةِ الضميرِ العلميِّ، تشابكَ هذا الموقف أو تلك الواجهة مع غيرها من عناصر العمل الأدبي، فلربما نصل بواسطة هذا التشابك إلى ما يكون قابلًا للاختفاء عن النظرة العَجلَى المسبقة، هذه التي ترى لون عينَي صاحبها أكثر مما تراه في العمل المطروح للنقد، فالناقد الذي لا يعنيه سوى «المعنى القريب» يقوم في واقع الأمر باغتيال العمل الأدبي والتمثيل بجثته؛ لأنه يُضطر — للإمساك بهذا المعنى القريب — أن يمسك بالهيكل العظمي المجرد للعمل الأدبي مهما كلفه ذلك أن يمزق اللحم المكسو به هذا الهيكل، أو أن يسفح الدماء الجارية في شرايينه. وكان الأولى به أن يضع كلًّا من شرائح اللحم والدم والعظم تحت الميكروسكوب، حتى إذا تم له اكتشاف العمل الأدبي «ككلٍّ»، استطاع بعدئذٍ أن يتناول العنصر الذي يستهويه بما يشاء له من التخصص والتفصيل.

على هذا، نحن نبدأ رحلتنا مع «إيزيس» الحكيم، بأن نشير إلى اختياره المادة الأولية للأسطورة المصرية القديمة من المصدر اليوناني المعروف «بلوتارك». ربما كان هذا الاختيار هو أول ما يضع أيدينا على أحد جوانب السلب في عمل الحكيم، لا لأن المصدر اليوناني غير موثوقٍ به، فهو، فيما أعلم، أقدمُ المصادر التي صاغت الأسطورة الفرعونية صياغةً شبه متكاملةٍ، ذلك أن النصوص الأوروبية التالية لبلوتارك، في العصور الحديثة على وجهٍ أخص، قد اعتمدت بمناهجها الأكاديمية على نقل أجزاء الأسطورة المبعثرة بين أوراق البردي وجدران المعابد والأهرامات، ولم تحاول ربطها على الإطلاق، لما بين هذه الأجزاء في كثيرٍ من الأحيان من تناقضاتٍ لا سبيل إلى حلها، أو خلافات لا دليل إلى فهمها. حينئذٍ اكتفى المؤرخون والمصرولوجيون في أوروبا وأمريكا بنقل أجزاء الأسطورة المبعثرة كما هي، مهما احتوت على النقائض المستحيلة التجاوز، وقد تفادوا بذلك أي عملٍ توفيقيٍّ أو حلٍّ وسطيٍّ من شأنه أن يربط بين أجزاء الأسطورة ربطًا شكليًّا على حساب مضمونها وجوهرها، أي على حساب الأسطورة نفسها، بتزييفها سواء بالبتر أو بالإضافة أو التحفظ.

أراد الحكيم إذن أن يستقي مادته الخام من مصدرٍ متكاملٍ أو شبه متكاملٍ، ومعترف به من الأوساط العلمية، فكان المصدر اليوناني هو مصدره الوحيد؛ لهذا يحسن بنا أن نقرأ بلوتارك مباشرة حتى نتعرف على أوجه النقص التي انعكست بلا ريبٍ على «إيزيس» الحكيم، فلقد كتب هذا المؤرخ اليوناني نصَّه عن الأسطورة المصرية في شكل «رسالة» إلى كليا. وهو يبدأ هذا النص في رقم ١٢ بقوله: «هاك القصة أرويها لك موجزةً أشدَّ ما يكون الإيجاز، بعد أن حذفتُ منها كل ما لا يفيد أو ما لا لزوم له.»١١ ويعلق الدكتور حسن صبحي بكري في مقدمة الترجمة العربية تعليقًا هامًّا حين يقول إن بلوتارخوس قد «استغل حوادث أسطورة إيزيس وأوزوريس لتفسير آرائه في الأخلاق والدين والفلسفة»، معنى ذلك أن ثمة شائبتين رئيسيتين — ولندع التفاصيل الآن — في المصدر اليوناني؛ أولهما أنه «ناقصٌ»، والآخر أنه صيغَ وفق مقولات بلوتارك في الأخلاق والدين والفلسفة، أي إن النص الذي بين أيدينا هو الركيزة المؤوَّلة عند بلوتارك تأويلًا يتفق وآراءه ومعتقداته.
هذا أول جوانب السلب في عمل توفيق الحكيم، فقد انعكس بلوتارك بشائبتَيه المذكورتين على مسرحية «إيزيس»؛ إذ هي اعتمدت على أحداث الأسطورة كما رواها بلوتارك، ولم تُعنَ قط بما لدى المراجع الأوروبية الأخرى من ثراءٍ، بالرغم من كل ما يعتريها من تفككٍ وعدم اتساقٍ.١٢ ولكن توفيق الحكيم أراد من جهةٍ أخرى أن يعوض هذا النقص في «الهيكل العظمي» للأسطورة بأن يبث فيه روحًا، وأن يكسوه بما لديه من لحمٍ ودمٍ، فجعل من قضية «الموت والبعث» عمودًا فقريًّا للمسرحية، وهو الأمر الذي لم يتنبه إليه أولئك النقاد الذين أخذوا عليه ابتعاده النسبي عن الأصل المصري القديم للأسطورة، دون أن يبرروا ذلك باعتماده على بلوتارك، ولربما كانت أسطورة «إيزيس وأوزوريس» هي النبع الأول الذي استقى منه الحكيم نظرية الخلود التي أودعها روايته الرائدة «عودة الروح»، جاعلًا من هذه الأسطورة بالذات إطارًا رمزيًّا للروح الخالدة في أرض مصر، ومن هنا أستطيع القول، دون أية محاولةٍ اجتهاديةٍ للتخريج المتعسف، إن محور الموت والبعث في أدب توفيق الحكيم إنما شق طريقه من استلهام الفنان لمضمون هذه الأسطورة وجوهرها العميق، قبل تطبيقها على أحداث مصر المعاصرة، أي إن «إيزيس وأوزوريس» كانت بمثابة الصياغة النظرية لفكرة الخلود عبر الموت والبعث التي حاول الفنان تطبيقها رمزيًّا في «أهل الكهف»، وواقعيًّا في «عودة الروح»، ثم ها هو ذا بعد ربع قرن من الزمان يعيد صياغة الأسطورة نفسها مباشرةً حتى يؤكد ارتباطه بالمعنى النظري السابق على ضوء تطبيقه هذا المعنى على تاريخنا الحديث. وهكذا أفلت الحكيم من ربقة بلوتارك حين اتجه في ثقةٍ واعتدادٍ إلى القيم الروحية السامقة التي تشتمل عليها الوحدة الحضارية الممزقة في التاريخ المصري منذ أيام الفراعنة إلى عصرنا الحاضر، فكما أن الحكيم أراد من «أهل الكهف» أن تكون صياغةً وحدويةً لتاريخنا الحضاري، فجمع فيها بين عصورنا الرئيسية المختلفة دينًا والمتحدة جوهرًا، أقبل في «إيزيس» يكرر نفس المحاولة العظيمة، متخذًا من نظرية الخلود محورًا فكريًّا يدور من حوله ثنائي الموت والبعث في حركةٍ جدليةٍ عميقةٍ، عاكسًا هذا الجوهر الفلسفي على واقعنا الاجتماعي المباشر، من هنا كان لا بد من أن يستغني عن الكثير مما أورده بلوتارك، وأن يضيف من عنده الكثير مما لم يورده المؤرخ اليوناني.

هكذا نستقبل الفصل الأول من «إيزيس» الحكيم، وقد خصص الفنان منظره الأول لتصوير القهر من جانب السلطة ضد جماهير الشعب، ممثلًا السلطة بشيخ البلد، والشعب بمجموعة الفلاحات البائسات، كذلك تصوير هروب المفكرين والكُتَّاب (على شاكلة توت) من المسئولية تحت شعار «التسجيل فقط»، أو الفن للفن. وفي الجانب الآخر يبرز الكاتب المناضل (على شاكلة مسطاط)، والخير الممثَّل في كلٍّ من إيزيس وأوزوريس. فإذا كان المنظر الثاني شاهدنا «خدعة الموت»، كما يدعوها المصرولوجيون في أوروبا حين يذكرون خديعة طيفون أو «ست» لشقيقه أوزوريس، وكيف صنع له صندوقًا مذهبًا في حجمه تمامًا، ثم ألقى به في النهر. أما المنظر الثالث فتسجيلٌ لدور شيخ البلد في تضليل الشعب وتحذيرهم من إيزيس. وما إن نصادف إيزيس في المنظر الرابع عند نهاية الفصل الأول، حتى نرافقها مع الغلام الذي شاهد الصندوق وهو يجري في النهر، ونستمع إليه يحدثها عن صديقه الذي حاول أن يلحق بالصندوق فمات مع التيار المندفع، حينئذٍ يقول الغلام:

الغلام : … ومات من أجل هذا الشيء دون أن يعلم ما فيه.
إيزيس : … لقد مات من أجل شيءٍ عظيمٍ دون أن يعلم.

وفي مكانٍ آخر يقول الغلام:

الغلام : سوف نسير طويلًا.
إيزيس : سأسير الحياة كلها.١٣

وتبدأ إيزيس رحلتها إلى ببلوس عندما يشير إليها بذلك أحد الملاحين العابرين في النهر، فما إن تصل في بداية الفصل الثاني قصر ملك ببلوس حتى تجيب الحراس على سؤالهم حول الرجل الذي تبحث عنه: «حيثما حل يبعث الحياة، بغير الحياة»، وتلتقي إيزيس بأوزوريس الذي علم أهل ببلوس ما أفاض عليهم بالخيرات، إلا أن إيزيس وأوزوريس يطلبان إلى ملك البلاد أن يسمح لهما بالرحيل من أجل «الأرض» التي تناشدهما العودة: «إن السوء لا يأتينا من أرضنا ولا من نيلنا»، ويحتج الملك على هذا الطلب العجيب قائلًا لإيزيس: «أنت تريدين مني أن أنتزع العمود الضخم الذي يقيم سقفه ويدعم أركانه.» ثم يكتشف ملك ببلوس حقيقة إيزيس وأوزوريس، فيبدأ في معاملتهما معاملة الملوك، غير أن أوزوريس سرعان ما يقول للملك: «ما من شيءٍ يعدل عندي في الشرف نداءك لي أيها الصديق المصري.» فيودعهما الملك الفينيقي في طريقهما إلى مصر، وهناك نلتقي بتوت ومسطاط الذي ما يزال يحمل لافتة المفكر المناضل: «أنا لا أحب الجلوس راكدًا بجوار البردي، ولا أقتنع بالنفخ في مزامير القصب، أحب أن أخوض الحياة وأرى الناس.» ونعلم من حوار توت ومسطاط أن المصريين يتحدثون هذه الأيام عن رجلٍ عجيبٍ يدعونه بالرجل الأخضر؛ لأنه يحول صحراءهم إلى خصبٍ، وبعد قليلٍ يتعرف الاثنان على الرجل الأخضر الذي لم يكن سوى أوزوريس متخفيًا مع زوجته إيزيس، وعندئذٍ يتحول توت عن موقفه التسجيلي الخامل إلى موقف الكاتب المناضل، وينتمي إلى قضية الشعب الممثلة في محنة أوزوريس، ويتعهد بذلك أمام مسطاط وإيزيس، أما مسطاط فيؤكد: «إن إخفاق أوزوريس ليحمل معنًى فاجعًا، إنه لطمةٌ كبرى لكل شيءٍ طيبٍ على هذه الأرض، إن إخفاقه هو إخفاقٌ للحق والخير والشرف … إخفاقٌ لي ولك … ولكل مَن يدافع عن المُثل العليا.» ولكن بقية الجماعة التي كان يأمل توت منها خيرًا، قد اشتراهم طيفون، فهم الآن في قصره «يدبجون له أناشيد مجده، ويذيعون عن حكمه المآثر، وينفخون له في المزامير». ويتمتم مسطاط في مرارةٍ لا تقارب اليأس: «نعم، في يده قوًى كثيرةٌ … حتى القوى التي كان يجب أن تكون في صفنا، يا للخيانة!» حينئذٍ تتبلور شخصية توت الجديدة:

«توت: نعم اعتمد عليَّ! … إني اليوم غيري بالأمس … في الماضي كنت أكتفي بالتسجيل، أراقب وأسجِّل، أما الآن فموقفي قد تغيَّر؛ لأن كل شيءٍ، كما قلت أنت، قد اتضح لعيوننا. بالأمس لم تكن أمامنا قضيةٌ واضحةٌ، أما الآن فنحن أمام قضيةٍ هي بالفعل قضيتنا قبل أن تكون قضية أوزوريس، إما أن نترك طيفون ينتصر وتنتصر معه أساليبه، وإما أن ننصر أوزوريس وننصر معه خيره ومبادئه. إما أن نسلِّم للمغتصب كما سلَّم الآخرون، وإما أن نقاوم.»

لقد عثر أتباع طيفون على أوزوريس مرةً أخرى، ومزقوه إربًا إربًا، ووضعوا كل عضوٍ من أعضائه في كيسٍ، وحملوا الأكياس إلى قواربهم ثم مضوا نحو الجنوب، وهنا ينتهي الفصل الثاني، وكنا قد علمنا من بدايته أن إيزيس قد حملت وولدت ابنًا دعته حوريس، وها نحن مع بداية الفصل الثالث بعد خمسة عشر عامًا وقد أصبح الطفل شابًّا فتيًّا، يستعد مع أمه وتوت ومسطاط لذلك اليوم المرموق، حيث ينتزع السلطة والعرش من يدَي عمه الآثم فيستردها كحقٍّ سليبٍ. وهكذا تصبح هذه القضية هي المحور الذي يختلف حوله الثلاثة، فإيزيس ترى أن العرش لن يعود إلا إذا استخدمت نفس أساليب طيفون في الخديعة والمراوغة، ومسطاط يرفض أن تكون الغاية تبريرًا للواسطة، وأما توت فيصغي إليهما، يفكر، إلا أنه يحسم رأيه أخيرًا بالانضمام إلى إيزيس، فيودعهما مسطاط: «إني لم أناصر حوريس لأنه حوريس، بل لأنه يمثل مبادئ، فإذا ضاعت هذه المبادئ فلا معنى عندي لانتصار حوريس، لن أخون القضية الحقيقية من أجل نجاحٍ شخصيٍّ، لا … لن أخون … هذه كلمتي … وليس لي الآن إلا أن أذهب وأقول لكم: وداعًا …» وتبدأ إيزيس عملها فتتفق مع شيخ البلد مقابل ما يريد من فضةٍ وذهبٍ. ثم تبدأ المناورة بتحدي حوريس لطيفون أن يبارزه، ويكاد طيفون أن يقتل ابن أخيه لولا تدخل شيخ البلد — البارع — في اللحظة الأخيرة مقترحًا أن تنعقد محكمة الشعب العليا، ويوافق طيفون، فيُفاجأ أولًا بانضمام توت إلى إيزيس، ويُفاجأ ثانيًا بدخول ملك ببلوس معلنًا للشعب كل ما حدث لأوزوريس، وكان طيفون يخفيه طوال مدة حُكمه، أعلن تفاصيل المأساة التي حاكها طيفون وأنصاره، فما كان من الشعب إلا أن نادى حوريس ملكًا على عرش البلاد، وهتف: «الموت للقاتل»، ولكن إيزيس تحذر ابنها من تلويث يده النقية بدمه الدنس: «حسبنا الشعب وقد عرف أخيرًا الحقيقة»، ويُسدَل ستار الختام.

•••

سوف نلاحظ أولًا أن مسرحية «إيزيس»، كغيرها من مسرحيات الحكيم، تحمل إلى جانب وجهتها الرئيسية، بعض الزوايا الثانوية التي تتحول في مسرحياته الأخرى إلى وجهاتٍ رئيسيةٍ، والعكس بالعكس، أي إن ما نراه محورًا رئيسيًّا في إيزيس، قد نرى ظلالًا له في مسرحيةٍ أو مسرحياتٍ أخرى للحكيم، والعكس صحيحٌ أيضًا، أقول ذلك وأؤكد عليه حتى لا نتورط في تلك الظلال التي تخيم على مسرحية إيزيس من أعمال الحكيم الأخرى، كمشكلة السلطة والحرية وقضية الالتزام في الأدب، والتناقض بين السلام والاستسلام، وبين الغاية والوسيلة، وبين ما دعاه الحكيم برجل العلم ورجل السياسة، إن هذه المشكلات والقضايا جميعها ليست إلا ظلالًا لتفكير الحكيم المتصل حول مستقبل الإنسان وحاضره، وهي ظلال تنعكس تارةً كأرضيةٍ للدراما، وتارةً أخرى تستقيم أعمدتها وتتكاثف عتمتها بحيث إنها تكاد تحجب المدلول الرئيسي الكامن في هذه المسرحية أو تلك، فالحكيم يثير قضية الالتزام في الأدب على النحو الذي نشاهده في الصراع بين توت ومسطاط، ولم يحاول أن يجرد القضية من مضمونها الاجتماعي بأن يحاصر الفكرة بين أسوارها التجريدية، فيقع من ثَم في التعميم والإطلاق — على المستوى الفكري — والمباشرة والتقرير على المستوى الفني، وذلك بأن يصبح الصراع بين الطرفين حوارًا ذهنيًّا يقوم على مهارة الجدل والمحاجاة المنطقية، وإنما بدأ الصراع في قضية الالتزام بمسرحية إيزيس، من الأرض الاجتماعية ومشكلاتها التي تبدت في صورة «أزمة الضمير» بين تكريس الفن للفن (النفخ في المزامير)، أو تكريسه للنضال الاجتماعي (قضية أوزوريس). والحكيم بذلك يزاوج بين المشكلة في عالمها الرمزي، ومصدرها الأصلي — كعملية إسقاطٍ سيكلوجيٍّ — في العالم الواقعي، فقد كانت قضية الالتزام في الأدب من أخطر القضايا التي واجهت الأدب المصري الحديث في إطار المعارك النقدية التي أُثيرت حينذاك،١٤ حيث صدرت «إيزيس» الحكيم تصور موقف كاتبها الذي لم يشترك في المعركة النقدية بصورةٍ مباشرةٍ، والصراع بين توت ومسطاط ينتهي بعملية تحولٍ مزدوجةٍ، فهي من ناحيةٍ تحول توت عن الموقف «التسجيلي» إلى الموقف «النضالي»، ومن ناحيةٍ أخرى، هي تحول مسطاط عن المشاركة في اعتلاء الحق عرش السلطة عن طريق المشاركة في اعتلاء الباطل والخديعة والمراوغة عرش الوسيلة إلى هذه السلطة. إن عمليتَي التحول هاتين تدلاننا على إحدى سمات التوفيق والإجادة في منهج الحكيم التعبيري، وهي الاعتماد على التناقضات الكامنة في الشخصية أو الحدث أو الموقف في إيجاد حركةٍ داخليةٍ في البناء المسرحي؛ لهذا لم يجنح مطلقًا إلى تغيير توت على أثر «جدلٍ عقليٍّ» بينه وبين مسطاط، وإنما على أثر «صراعٍ اجتماعيٍّ» بلغت به قوة الجذب أن شد إليه توت في جانب النضال من أجل الحق والتقدم، فبالإضافة إلى أن هذه هي إحدى الركائز المنهجية في تفكير الحكيم، حيث يجعل من الحركة الاجتماعية منطلقًا لكافة الصراعات والتغيرات الكامنة في أحشاء الواقع والصعيد الفكري على حدٍّ سواءٍ، فإن هذه النقطة أيضًا تُعَد إحدى الركائز الفنية في مسرحية إيزيس، حيث لا يجعل منها معرضًا أو متحفًا ذهنيًّا للصراع بين الخير والشر؛ إذ بينما تقف إيزيس إلى جانب توت ومسطاط وحوريس وأوزوريس موقف الجبهة الواحدة المتحدة، فإننا نلحظ التناقضات الدينامية بين كل شخصيةٍ وأخرى؛ ولهذا السبب بالذات، جاءت المسرحية عملًا حيًّا متحركًا. غير أنني أعود إلى قضية الالتزام التي أثارها الحكيم في هذه المسرحية وأقول إنها لم تكن قط المشكلة الرئيسية في الدراما، وإن كانت قد شاركت في المعركة الدائرة في الحقل الأدبي المصري آنذاك برأي صاحبها الذي يُعتدُّ به، وهو الوعي الكامل بأهمية الانضواء الثوري تحت راية التقدم الاجتماعي في إطار الأدب الرفيع.

كذلك هناك قضية «السلطة» التي لاحت لنا في الأفق منذ دبَّر طيفون المؤامرة لشقيقه أوزوريس، وكيف دارت رحى الأحداث حول محاولة إيزيس استرداد العرش السليب، وتبدو هذه القضية طوال المسرحية وكأنها قضيةٌ رئيسيةٌ، بينما ليست هي في واقع الأمر سوى «الهيكل» العظمي للأسطورة التي كساها الحكيم بمضمونٍ فنيٍّ آخر يسهل الحصول عليه من مراقبة الأحداث الواقعة بين «موت» أوزوريس و«بعثه» مرةً ثانيةً، فهذه الأحداث لم تكن سوى التفاعلات الدائمة بين مرحلتَي الموت والبعث لصياغة نظرية الخلود في ميلاد «حوريس الابن». ولربما كانت هذه «الوقائع» الجاهزة في الأسطورة هي التي أمدت الحكيم بأبسط الصور الفكرية وأرقاها في نفس الوقت لتقييم فكرة الخلود المصري تقييمًا فنيًّا.

إلا أن هذا التقييم خانه التوفيق مرارًا كما قلتُ، حين كان الحكيم يستمد مادته الخام من بلوتارك، فلقد شُغل بلوتارك بالربة والملكة إيزيس، وأغفل تمامًا البطولة التراجيدية الرامزة إليها شخصية أوزوريس إله الخصب المعذب،١٥ فبالرغم من أن خلو «أهل الكهف» — أول تراجيديا مصرية — من البطل التراجيدي المصري لم يكن عملًا مبررًا فنيًّا، فإن «إيزيس» تصرخ وتحتج بأن مأساة أوزوريس تتضمن بطولة تراجيدية «جاهزة» هي بطولة إله الخصب الذي يضمر خطيئته في إخصابه. لا شك أن الحكيم رفض من النص البلوتاركي لاهوت إيزيس وأوزوريس، فجعل منهما بشرًا عاديين، ولكنه كان يستطيع أن يعادل بطولة إله الخصب المعذب معادلةً موضوعيةً تتناسب مع طبيعة المرحلة الحضارية التي يرمز إليها من خلال العمل الدرامي. لقد تسبب غياب أوزوريس كبطلٍ تراجيديٍّ عن مسرحية إيزيس في كافة المسالب التي أخذها بعض النقاد — كلويس عوض١٦ — على توفيق الحكيم، كأن يُقال على سبيل المثال إنه لم يفهم معنى حجاب إيزيس، أو حادثة العقرب الذي لدغ حوريس، أو كيف أنه احتال على وصول جثمان أوزوريس إلى ملك ببلوس، فقال إنه بيعَ كالرقيق من بعض الملاحين، وكيف أنه أغفل حكاية الشجرة التي ضمت الصندوق بين أحضان جذعها الضخم.
إن توفيق الحكيم لم يترجم بلوتارك حرفيًّا، فقد رفض منه الكثير، وأضاف إليه الكثير، بل إن الحصيلة النهائية لمسرحية الحكيم تؤدي بنا إلى نقيض ما أراده المؤرخ اليوناني، حين جعل من المسرحية تجسيمًا دراميًّا للصراع بين الخير والشر، هكذا نفسر لماذا لم ينصرف الحكيم إلى تفاصيل الأسطورة، فاستعاض مثلًا بقول ملك ببلوس لإيزيس: «أنتِ تريدين مني أن أنتزع العمود الضخم الذي يقيم سقفه ويدعم أركانه» عن تصوير حكاية الشجرة التي ضمت صندوق أوزوريس، كما أنه حاول أن يصوغ حوريس في قالبٍ قريبٍ من شخصية هاملت، فلا تصبح القضية مجرد الحصول على العرش — كما هو الحال في مسرحية «أوزوريس» لعلي أحمد باكثير١٧ — وإنما تصبح تجسيدًا واعيًا عميقًا لحيرة الإنسان المعاصر وعذابه بين الرفض والقبول (الذي انعكس بدوره في صورةٍ أخرى بين توت ومسطاط) من أجل المُثل العليا والقيم الإنسانية التي ناضل من أجلها أوزوريس؛ ولهذا السبب أميل إلى القول بأن توفيق الحكيم لم يقصد قط إلى استلهام مأساة أوزوريس كمأساةٍ، بل كمشجبٍ يعلق عليه ثياب أفكاره الراهنة الخاصة بالمجتمع المعاصر له، ومن هنا انصبَّ اهتمامه أساسًا على شخصية «إيزيس» التي كافحت وناضلت من أجل الحق، وإن تم لها النصر بوسائلَ غير مشروعةٍ في عُرف أوزوريس ومسطاط، وإن تم ذلك فنيًّا بطريقةٍ مفتعلةٍ، هي وصول ملك ببلوس فجأة إلى محكمة الشعب المصري «حسب خطةٍ موضوعةٍ من قبلُ»، ليعيد الحق إلى نصابه.
كان غيابُ البطل التراجيدي المصري من هذه المسرحية إعلانًا حاسمًا بغيابه من أعمال الحكيم جميعها؛ لأن الفرصة المهيأة في جسم الأسطورة قد ماتت نهائيًّا باستخلاصه العمود الفقري لمضمونها الكامن في نظرية الخلود كصياغةٍ نظريةٍ للجدل الحي العميق بين الموت والبعث في حياة مصر، وإغفاله التام للعمود الفقري لشكلها الكامن في البطل التراجيدي، وبالرغم من أن علي أحمد باكثير في مسرحيته قد اعتمد على النصوص المصرية القديمة المبعثرة،١٨ وليس على النص اليوناني، فإنه لم يوفَّق أيضًا في تصور البطولة التراجيدية لأوزوريس؛ إذ نراه يتفق مع الحكيم في موقف إيزيس من معركة السلطة: «شرٌّ لا بد منه، ومن ورائه الخير» (ص٩٧). وإذا كان باكثير قد وصف الشعب على لسان إيزيس بالإخلاص والوفاء (ص١٠٦)، فإن الحكيم آثر أن يجعله مضللًا من جانب الخونة، ولقد أضاف باكثير باقترابه من الجو المصري القديم للأسطورة فكرة «أنصار أوزوريس» المتجمعين في شمال الدلتا، وإن كان باكثير لم يعنه كثيرًا التركيز على اتهام طيفون أو «ست» لإيزيس بالزنا مع حوريس، فإن الحكيم جعل من هذا الموقف مشهدًا دراميًّا كاملًا، غير أن أوجه التقارب والخلاف هذه بين باكثير والحكيم لا تفسر لنا التقاءهما في غياب البطولة التراجيدية عن مسرحية كلٍّ منهما في حدود أي تعريف لهذه البطولة من اليونان إلى العصر الحديث، فإنه من الغريب حقًّا أن يتناقض الحكيم مع زميله باكثير في المحور الأساسي لكل من المسرحيتين، ثم يتفقا في اغتيال بطل المأساة، أو في عدم إنباته في أرض المسرحية المصرية، فقد بلغ التناقض بين الكاتبين مداه حين اقتصر الصراع في مسرحية باكثير على الصفات المجردة؛ الخير مع الشر، والحكمة مع القوة، وهو يلتقي بذلك المفهوم الميتافيزيقي للصراع الإنساني مع مضمون رسالة بلوتارك حول إيزيس، بالرغم من أنه لم يستوحِ هذه الرسالة في صياغة مسرحيته. وهكذا ينقذ حوريس عمَّه الخائن من القتل، وهو يلخص فكرة باكثير وبلوتارك الميتافيزيقية قائلًا: «… ويحكم! ليس خلاصكم في قتله وقتل أمثاله، وإنما خلاصكم في نفوسكم وأيديكم … إن قتله لن يفيدكم شيئًا ولن ينقذكم من شر ما هو كائنٌ في ضمير الغيب» (ص١٣٣). وعلى ضوء هذا المفهوم الميتافيزيقي، تصور باكثير دور إيزيس في المسرحية وكأنها المخلِّص القادم إلى ببلوس لشفاء المرضى.

أما توفيق الحكيم، فبالرغم من أنه على النقيض من باكثير، في اعتماده شبه الكامل على النص اليوناني لبلوتارك — في صياغة الأحداث — إلا أنه كان على النقيض من باكثير وبلوتارك معًا في صياغة الفكر والمجتمع، فهو لم يصف الشعب بالوفاء حقًّا، بل آثر وصفه بالتضليل، إلا أن الصراع الطويل المر خلال المسرحية كان صراعًا اجتماعيًّا في جوهره: الشعب ضد أعداء الشعب، وما بقي فكله وسائل تخضع لأصول التكتيك المؤقت، على ضوء الاستراتيجية البعيدة المدى، ومن هنا يرتبط معنى الموت والبعث في «إيزيس» بنظرية الخلود عند توفيق الحكيم، التي استخدمها فيما مضى ومصر تعاني ويلات المخاض والولادة حين كتب «عودة الروح» و«أهل الكهف»، وعاد مرةً أخرى يجسد بها آلام مصر الثورة التي كابدها الشعب المصري منذ بداية الخمسينيات، وهو يناضل الغزو الخارجي ممثَّلًا في الاستعمار، ويكافح الاستبداد الداخلي ممثلًا في الرجعية، هذا الفنان العميق الإيمان بخلود مصر وأرضها وروحها وشعبها، يعود فيؤكد لنا في أزمة الأزمات ألا نخاف الموت؛ لأنه ليس إلا جسرًا إلى البعث والحياة الدائمة التجدد.

ومعنى ذلك أن محور الموت والبعث، أو نظرية الخلود، في أدب توفيق الحكيم هو المحور السائد على مراحل أزمة الروح المصرية مع الواقع الخارجي حينًا، وواقعها الداخلي أحيانًا، ومعنى ذلك أيضًا أن هذا المحور ليس إلا واحدًا من الخيوط العديدة التي تتشابك فيما بينها لتكون وجهة النظر الشاملة لهذا الفنان التقدمي والمفكر الثوري، أما السبب في بقاء هذا الخيط الأول — الموت والبعث — محورًا فنيًّا وفكريًّا حتى أحدث مراحل تطور توفيق الحكيم، فإن هذا ما تجيب عنه المسرحية التي شغلت بال النقاد والقرَّاء والمشاهدين أمدًا طويلًا؛ «يا طالع الشجرة».

•••

«إن الجمال القديم قد استوى على عرشه، وما علينا إلا أن نعبده، أما الإنتاج على غراره فلغوٌ وتكرارٌ لن يضيف جديدًا، ولا ينفع إلا الطلاب في تمريناتهم، وحذاق المقلدين المرتزقين من حرفة محاكاة الأقدمين. وآلاف منهم يظهرون في كل جيلٍ وفي كل فنٍّ، ويعيشون على براعتهم وإجادتهم في النقل الأمين للجمال الخالد، ولكن الابتكار يجب أن يستمر، وهو لن يُسمَّى ابتكارًا إلا إذا شق طريقًا آخر غير مألوفٍ ولا معروفٍ، حتى وإن كان غير مستساغٍ، ولا بد من الخيار بين أمرين؛ إما أن نجلس بجوار الجمال الخالد نردده ونكرره، وإما أن ننهض لنرتاد قيمًا جديدةً لا تستسيغها أذواقنا القديمة. وفي رأيي أنه لا داعي إلى الاختيار هنا، يكفي أن نقبل الأمرين معًا؛ نعيش مع الجمال الخالد التقليدي ونستمتع به، وننهض مع ذلك أحيانًا لنرتاد الجديد، ونفتح صدورنا صابرين على متاعب غرابته.»

باستثناء هذه الأسطر التي جاءت قبيل نهاية مقدمة «يا طالع الشجرة»، تكاد تصبح بقية المقدمات كلماتٍ مضللةً؛ ذلك أن مجرد الحديث عن المسرح الجديد في أوروبا المعاصرة في صدر الحديث عن «يا طالع الشجرة»، من شأنه أن يورط القارئ في لبسٍ شديدٍ إذا ما انتهى من قراءة هذه المسرحية، فهي تتضمن بلا شكٍّ إضافاتٍ عديدةً إلى التكنيك المسرحي المصري، غير أن هذه الإضافات لا تلقى بها دمعةً واحدةً بين أحضان بيكيت ويونسكو وروبير بنجيه. إن هذه الإضافات، التي لا تعدو أن تكون إلغاء لفواصل الزمان والمكان، لا علاقة لها بإضافات مسرح العبث أو اللامعقول، إضافات الحكيم ترتبط عضويًّا بهذا الذي يريد أن يقوله من خلال عمله الأدبي، وما يريد أن يقوله في «يا طالع الشجرة» ليس جديدًا على الإطلاق، إنه تطورٌ طبيعيٌّ لمحور الموت والبعث في نظرية الخلود التي شغلته بها الروح المصرية منذ بواكير إنتاجه، وبالتالي، فإن الإضافات التكنيكية التي نلمس آثارها على «يا طالع الشجرة» ليست إلا انعكاسًا لهذا التطور الفكري وتفاعلًا معه، ومن هنا كانت تلك الإضافات صدًى مركزًا لفكرة الموت والبعث في مرحلةٍ جديدةٍ لا علاقة لها بالبعث ولا باللامعقول، وهي مرحلةٌ سبقَ لتوفيق الحكيم أن أشار إليها في مسرحية «إيزيس»، حين جعل من أوزوريس في ببلوس رسولًا للحضارة المصرية بوجهيها المادي والمعنوي، على النقيض من باكثير ومفهومه الميتافيزيقي الذي أملى عليه أن يجعل من إيزيس (متجاهلًا أوزوريس بالرغم من اختياره له عمادًا للمسرحية) مجردَ ساحرةٍ تشفي المرضى. إن هذه الإشارة من الحكيم إلى أن مصر «أصل الحضارة» بمثابة الرمز الشامل إلى خلود الروح المصرية خارج الزمان والمكان، فهي ليست قاصرةً على أرض مصر القديمة أو الحديثة، وإنما هي تتجاوز عقارب الساعة وأسوار علم الجغرافيا إلى آفاقٍ بعيدةٍ لا تُحَد. لقد أراد الحكيم بوعيٍ كاملٍ في «يا طالع الشجرة» ألا يستخدم إطارًا زمنيًّا خاصًّا كما صنع بعصر الشهداء في «أهل الكهف»، أو إطارًا مكانيًّا خاصًّا كما صنع بمصر الفرعونية في «إيزيس». لقد أراد أن ينبثق من أعمق أبعاد الروح المصرية التي يعبِّر عنها الفولكلور بكلماتٍ تبدو كما لو كانت بلا معنًى، ثم ينطلق إلى أرحب الآماد الإنسانية التي يعبر عنها العقل البشري بكلماتٍ تبدو هي الأخرى كما لو كانت بلا معنًى، وعندئذٍ يتبدى الهيكل العام في «يا طالع الشجرة» وكأنه الجسر الممتد من المنبع إلى المصب، أو من الأرض والجذور الغائرة في تلافيف تربتها إلى السماء والفروع العابرة في أجواز الفضاء، فبالرغم من المصدر المحلي العميق ﻟ «يا طالع الشجرة»، فإن هذا المصدر يقوم بدور «رسول الحضارة» إلى العالم الإنساني أجمع، ليؤكد الحكيم مرةً أخرى فكرته القائلة بأن مصر أصلُ الحضارة؛ في المستوى الفكري يقودنا هذا الرأي إلى نظرية الخلود، وفي المستوى الفني يقودنا إلى تداخل الأزمنة والأمكنة وغياب الفواصل بينها.

من هنا نكاد نتفق مع لويس عوض في قوله إن ثمة خطابًا واضحًا صريحًا قد يتعرج أحيانًا ويمر بمحطاتٍ فرعيةٍ، ولكنه على كل حالٍ خطٌّ واضحٌ وصريحٌ يقوم على استخراج أساسٍ فكريٍّ من الفن الشعبي. ولكنا نعود فنختلف معه في تلخيصه لمحور «يا طالع الشجرة» بأنه الصراع الحائر في نفس الإنسان بين الفكر والمادة، وبين الله والطبيعة، وبين الإخصاب بالعقل والإخصاب بالجسد، بل وفيها شيءٌ كثيرٌ من تلك الصراعات الأبدية بين عقل الإنسان وروحه، ثم ينتقل إلى القول بأن الحكيم يريد أن يقول إن الإنسان متهمٌ في جريمةٍ لم يرتكبها بعدُ، وهو قتل فكره لمادته، وقتل روحه لجسده. والمسرحية إذن هي قصة الإنسان؛ مأساته بين العقل والروح، وبين العلم والدين.١٩

نختلف مع لويس عوض في هذا «التفسير»، لا لأنه غير صحيحٍ، بل لأن عملية التفسير النظري لمثل هذه المسرحية لا تصل بنا إلى تقييمٍ متكاملٍ لجوهرها، فهي لا ترتكز على دعامةٍ فنيةٍ من الأساطير القديمة كما هو الحال في «أهل الكهف» و«إيزيس»، ومع هذا فإن بناءها لا يختلف عن البناء الأسطوري في شيءٍ، إنها ليست مسرحية رمزية أو تعبيرية أو تجريدية أو عينية، إلى بقية مسميات تلك القائمة المعروفة في أصول النقد المسرحي الأوروبي، وهي قد تتمسك بأطراف الرمز من هنا أو هناك، وقد تحاكي أعمال التعبيريين من إحدى الزوايا، ويمكن أن يُقال إنها تناقش قضيةً مجردةً، أو إنها قريبةٌ من مسرح العبث في أشياء وأشياء. إلا أنه يتبقى بعد ذلك كله أمرٌ هامٌّ، هو أن بناءها ككل لا يخضع لأية تسميةٍ من هذه التسميات ككل، بل هي تتخذ لنفسها مسارًا خاصًّا، هو المسار الأسطوري، وكأنما أراد الحكيم أن يستبدل الأسطورة القديمة كدعامةٍ فنيةٍ يقيم على أساسها البناء الفكري، بأسطورةٍ حديثةٍ تتجاوز دور الوسيلة أو الأداة الفنية إلى أن تكون هي بعينها البناء والأساس، لا مجرد دعامة أو مشجب يعلِّق عليه الفنانُ أفكارَه.

وإذا عدنا إلى ما سبق أن أشرت إليه منذ قليلٍ، وهو أن الحكيم في «يا طالع الشجرة» انطلق من أغوار الروح المصرية الخالصة إلى أرحب الآماد الإنسانية، وأن بناء المسرحية هو الجسر الممتد من المنبع إلى المصب، لاستطعنا أن نستكمل هذا التصور الآن على ضوء ما وصلنا إليه من أن الحكيم في «يا طالع الشجرة» استهدف خلق أسطورةٍ حديثةٍ، وقد أرادها على ذلك النمط من أساطير الموت والبعث التي عرفها الهنود في «الطفل كرشنا»، والبابليون في «تموز»، والمصريون القدماء في «أوزوريس»، والإغريق في «ديونيزوس»، كما عرفتها المسيحية في ثالوثها المقدس، وجميعها تؤكد على حقيقةٍ جوهريةٍ واحدةٍ، هي أن الفداء طريقٌ محتمٌ في وجه الإنسان من أجل الخلود. هكذا تظل «العنقاء» تجمع أطيب النباتات طول العام لتبني عشَّها، ولا تلبث أن تحترق هي والعش معًا بين أحضان أشعة الشمس الذهبية، وما إن تتحول إلى رمادٍ حتى تعود دورتها من جديدٍ مع الربيع، فينبثق عن الرماد طائرٌ جديدٌ يجمع أطيب النباتات طول العام، ثم يحترق بلهيب الشمس، وهكذا. لم يشأ الحكيم أن يستلهم الرمز الفينيقي أو البابلي أو اليوناني، بل إن استخدامه السابق للرمز المصري القديم في مسرحية «إيزيس» كان مقصورًا على «استخدام الرمز» كمشجبٍ علَّق عليه بعض أفكاره بشأن القضايا المعاصرة، أما في «يا طالع الشجرة»، فقد استطاع أن يخلق أسطورةً حديثةً تُضم في خطها العام إلى أساطير الفداء والبعث والخلود، وتتمثل على وجهٍ خاصٍّ ما تقول به المسيحية حول الصعود الإلهي، ولكنها من زاويةٍ رئيسيةٍ تستلهم أحداث العالم المعاصر إطارًا للمضمون المحلي الدائم التجدد والخصوبة؛ ولهذا السبب بدأت المسرحية من الفولكلور المصري: «يا طالع الشجرة … هات لي معاك بقرة … تحلب وتسقيني … بالمعلقة الصيني.» وانتهت بخاتمة الصعود المسيحي، وبين البداية والنهاية كان الإنسان في كل مكانٍ، والعقل البشري أينما وُجد، في صراعٍ لا يكل ولا يهدأ من أجل أن تتبلور لنا في آخر المطاف هذه القضية المحددة، فكرة الجذور والاستمرار معًا.

من هنا تبدأ «يا طالع الشجرة»٢٠ بحادثِ اختفاءِ زوجةٍ. وما إن يبدأ المحقق في التحقيق حتى يرى الزوج والزوجة معًا يتبادلان الحديث؛ هو يؤكد أن الثمار لكي تنمو نموًّا عظيمًا لا بد من تسميد الشجرة بالسماد الجيد، وهي تجيب إجابةً تبدو وكأنها كانت بعيدةً عن الموضوع، فتذكر ابنتها التي لم تولد بقولها إنها هي التي أسقطتها: «كانت أول ثمرة … وأنا التي أسقطتها بيدي»، وهي تراها دائمًا — كما يرى زوجها السحلية المرابطة عند شجرته بالحديقة — جميلة يكسو جسمها الصغير الاخضرار الدائم، يستخدم الحكيم في ذلك المقطع الأول من المسرحية إحدى الوسائل الفنية المعروفة بالفلاش باك، في مزيجٍ واحدٍ مع إحدى الوسائل الأدبية المعروفة بالتداعي الذهني. بواسطة الفلاش باك يستوقف المحقق عند إحدى النقاط ليدرك بعينيه درجة التفاهم أو اللاتفاهم الذي يعيش فيه الزوجان قُبيل وقوع حادث الاختفاء، وبواسطة التداعي الذهني ندرك نحن أن اختلاف الموضوع الذي يتحدث عنه الزوج عن الموضوع الذي تتحدث عنه الزوجة لا يعني أنهما مختلفان من حيث الجوهر، فتكاد الكلمات أن تكون واحدةً بشأن السحلية الخضراء أو البنت التي لم تولد! وعندما تتطابق نفس الكلمات على شيئين مختلفين من حيث المظهر، علينا أن ندقق فيما إذا كانا على اختلافٍ حقيقيٍّ، فلربما كانت البنت هي السحلية، والفنان يستخدمهما كوجهين لعملةٍ واحدةٍ، ولربما كانت الزوجة والزوج شخصية واحدة، بنفس المنهج التعبير.، لو أننا تصورنا المسرحية كأسطورةٍ حديثةٍ، لكان في استطاعتنا أن نصل إلى تلك النتيجة، وهي أن الحكيم يخلق ما يمكن تسميته بالشخصية المزدوجة، ولكان في استطاعتنا أن ننجو من عملية «التفسير» التي تتطلب معنًى لكل رمزٍ، ورمزًا لكل جزئيةٍ من جزئيات العمل الفني، سواء كانت شخصيةً أو حدثًا أو موقفًا. لقد كان الامتزاج الذي أحدثه الفنان بين الفلاش باك والتداعي الذهني بمثابة الأداة الفنية الجديدة، فقد أصبحا معًا صورةً كيفيةً جديدةً لإحدى وسائل التعبير الأسطوري، التعبير الذي يعتمد أساسًا على الانطلاقة العفوية غير المبررة ذهنيًّا، كما يعتمد من زاويةٍ أخرى على الماضي في لحظة الحضور، أو ما ندعوه بلغة علم النفس بالتداخل الزمني في المخيلة، كالحلم. وبالرغم من أنها تبدو للوهلة الأولى وكأنها أداةٌ فنيةٌ يستوجبها السياق المجرد، إلا أنها في نفس الوقت أداةٌ فكريةٌ تومئ إلى وحدة التاريخ الزمني؛ الماضي والحاضر والمستقبل (الذي تمثله نبوءات الدرويش في المسرحية) كتعميقٍ لفكرة الجذور والاستمرار.

ثمة علاقةٌ في القسم الأول من المسرحية بين اختفاء الزوجة، واختفاء السحلية في وقتٍ واحدٍ، تقريبًا، ولنتتبع أولًا موقف الزوج من اختفاء الأولى حين يقول إنه لا يشك في أن تحويلَ جسدها كلِّه إلى سمادٍ شيءٌ يسرها؛ لأنه يغذي هذه الشجرة، فتنتج برتقالًا عظيم النمو، «وهي التي تهتم اهتمامًا بالغًا بالنمو العظيم».

ويدور هذا الحوار الهام بين الزوج والمحقق الذي أصرَّ على خلع الشجرة من جذورها، حتى يتأكد من أن الزوج لم يرتكب جريمةَ قتلٍ، ولم يُخفِ جثة زوجته تحت الشجرة:

الزوج : أتريد أن تتلف شجرتي؟! … هل تعرف ماذا تعني هذه الشجرة بالنسبة إليَّ؟
المحقق : أعرف.
الزوج : بل بالنسبة إليَّ حياتي كلها.
المحقق : أعرف … ولكن المسألة تتعلق بجثةٍ وجريمة قتلٍ!
الزوج : هي جثتي … جثتي أنا … والفأس التي تصيب جذع الشجرة ستصيب رقبتي … أتفهم ذلك؟ أتفهم؟!
المحقق (بعنفٍ) : الفأس! … أين الفأس؟!
الزوج (يحاول أن يجلسه) : إنك تقتلني … إنك ستقتلني … إنك ترتكب جريمة قتلٍ!

هذا الحوار الهام حول الشجرة، والشجرة نفسها، يكاد يكون همزة الوصل الفنية بين اختفاء الزوجة واختفاء السحلية. وعندما يسمي المحقق ذلك الحديث الذي تم — في الفلاش باك وبواسطة التداعي الذهني — بين الزوج والزوجة بأنه من قبيل سوء التفاهم على إمكانية وقوع جريمة القتل، يسخر منه الزوج لأنه يقف عند قشور المسميات دون جوهر المعاني؛ لهذا يعود الزوج والمحقق معًا إلى تلك الملاحظة التي يمكن التقاطها بسهولةٍ عند اختفاء الزوجة والسحلية في وقتٍ واحدٍ، فإذا سأل المحقق عن سر اختفاء الزوجة — وهو الأمر الذي يعنيه — سأله الزوج بدوره عن سر اختفاء السحلية، وهو أيضًا، الأمر الذي يعنيه، ويعلنه الزوج في النهاية: «إنك لن تفهمني … إنك تفهم فقط ما تراه مفهومًا لك … ومهمتك أن تلقي أسئلةً محددة المعنى … وتريد أن تتلقى عنها أجوبةً محددة المعنى.»

ونتابع مع المحقق ذلك الحوار الذي يدور بين الدرويش والزوج «مفتش القطار» في القطار، وكيف أن أحداثًا هامةً ستقع في المستقبل القريب سواء أراد الزوج أو لم يُرِد، سواء صدَق المحقق أو لم يَصدُق. وجوهر الأحداث مجتمعةً هو أن شجرة الزوج سوف تطرح البرتقال في الشتاء، والمشمش في الربيع، والتين في الصيف، والرمان في الخريف، هذا إذا سُمِّدت بسمادٍ معينٍ، ولا بد من تسميدها بهذا السماد، والقطار يومئ به الحكيم في صراحةٍ تقريريةٍ إلى الزمن، كما يومئ بشجرة الأعاجيب هذه إلى كشوف العقل الإنساني وإبداعاته من الاختراعات والمبتكرات، فما إن يبدأ المحقق بالحفر حول الشجرة لخلعها حتى تظهر الزوجة بعد اختفاءٍ طال ثلاثة أيامٍ، وتهلع الزوجة على مصير الشجرة، ولكن المحقق يطمئنها بأن «جذورها سليمةٌ»، وتتمتم الزوجة: «أرجو ذلك … إنها حياته.» ويدور الحديث بين المحقق والزوجة حول ما كان بينها وبين زوجها مما شاهد هو طرفًا منه فيما دار بينهما من حوارٍ حول الشجرة والبنت، حينئذٍ تؤكد الزوجة أن زوجها هو الذي حدثها عن البنت، وأنها هي التي حدثته عن الشجرة، ولا يتبقى لدينا بعدئذٍ أي شكٍّ في أن الزوج والزوجة شخصيةٌ فنيةٌ واحدةٌ، ولكن المؤلف نسجها بأدوات النول الأسطوري، فجاءت عملةً ذات وجهين يتكاملان في رنينٍ واحدٍ يثبت فساد العملة أو جودتها، هكذا أيضًا تلتقي الشجرة مع الابنة مع السحلية في ذلك الثوب الأخضر الذي يكسو الثلاثة من ناحيةٍ، وفي ذلك الازدواج الذي أشارت إليه الزوجة حين أكدت أنها لم تتحدث مع زوجها إلا عن الشجرة، وهو لم يتحدث معها إلا عن البنت، على الرغم من أن «المشهد»، أي المظهر الخارجي الذي رأيناه بعيوننا، كان على النقيض من ذلك، وهذا يعني أن البنت والشجرة شيءٌ واحدٌ، أما السحلية فلها شأنٌ آخر؛ إذ إن الزوج ما إن يُعِد العدة لقتل زوجته بعد أن عادت وتحولت إلى «جدار صمتٍ» فلم ترد عليه أين كانت طوال الأيام الثلاثة الماضية، حتى يُفاجأ بظاهرتين؛ الأولى هي اختفاء جثة زوجته من مكانها (وقد كانت الجثة موضوعةً على أهبة الاستعداد لتسميد الشجرة حتى تثمر ثمارها العجيبة)، والظاهرة الأخرى هي ظهور السحلية «الشيخة خضرة» بعد طول اختفاءٍ، ولكن ميتةً وملقاةً في الحفرة! أي إنه في الوقت الذي كان يتعين عليه تحويل زوجته إلى سمادٍ لشجر الأعاجيب، قامت السحلية بهذا الدور، بينما ارتفعت الزوجة عن الأنظار، وكأن روحها هي التي صعدت، أما جثتها التي لا تختلف من حيث الجوهر عن جثة السحلية، فقد تمثلت في الشيخة خضرة التي تطوعت من تلقاء ذاتها بالموت والارتماء في الحفرة، ومعنى ذلك بغير تعسفٍ أن الشجرة والزوجة وابنتها والزوج وسحليته، يقومون جميعًا، ببناء هذه الأسطورة الحديثة، التي أدعوها بأسطورة الجذور والاستمرار، وهي تقوم على محور الموت والبعث الذي تدور من حوله كافة أساطير الفداء والخلود، كما أنها تستفيد من المسيحية فكرة الصعود الإلهي بعد القيامة في اليوم الثالث من بين الأموات، إلا أنها تضيف بعدئذٍ عنصرًا جديدًا من شقين؛ أولهما مأساة الإنسان الحديث في استمرار الفكر في ابتكاراته (الاختراع العجيب)، حتى ولو أدى الأمر إلى هلاك الإنسان واكتشاف جريمته وإدانته، كما كان موقف بهادر «الزوج» عندما خُيِّر بين اكتشاف الجريمة أو نتاج الشجرة العجيب، فقال: اخترت الاختراع العجيب، وهي نفس المأساة التي عالجها نجيب محفوظ روائيًّا في «أولاد حارتنا» حين خيَّر أهل الحارة بين السحر والجبلاوي، فقالوا: السحر، أي العمل وإنتاج العقل البشري. فالابنة التي لم تولد لزوجة بهادر، هي بعينها الشجرة التي لم تثمر بعد ثمارها العجيبة، كما أن الزوجة التي اختفت ثلاثة أيامٍ ثم عادت فاختفت هي بعينها السحلية التي اختفت ثم عادت وماتت، كما أن الزوجة وأحلامها في الابنة التي لم تولَد، هي بعينها الزوج وأحلامه في الابنة التي لم تثمر بعدُ، هذا البناء الأسطوري الذي يتخذ لنفسه مسارًا زمنيًّا محددًا هو ثلاثة أيامٍ، بينما يختلط فيه الماضي بالحاضر والمستقبل، هذا البناء الذي يتخذ لنفسه مسارًا مكانيًّا محددًا، هو البيت والحديقة، بينما يختلط فيه القطار بالبيت، هذا البناء الذي يتخذ لنفسه جناحين من المحقق والدرويش ليطير بهما فوق نقائض الوجود وصراعها بين التحدد واللاتحدد، بين الرؤية الفوتوغرافية والنبوءة؛ هذا البناء لا سبيل إلى تفسيره أو «تحليله» إلى جزئياتٍ أوليةٍ تستلهم معانيها من خارج العمل الأدبي كبناءٍ من القيم والرموز والدلالات، وإنما يتعين على الناقد أن يقوم بعملية استقطاب جميع العلاقات الداخلية في المسرحية حول محورٍ فكريٍّ واحدٍ. فإذا كانت حتمية الفداء الإنساني من أجل خلود العقل البشري هي هذا المحور الذي تدور من حوله جميع أحداث المسرحية، وتتجسد شخصياتها وتتبلور مواقفها، فعلينا حينذاك أن نبحث فيما بين البداية والنهاية، من المنبع إلى المصب، وسوف نكتشف «مصر» الحكيم التي صاغ فولكلورها في إطارٍ من نسبية العبث والمعنى، والفروق بين الشيء في ذاته ولأجل ذاته، وبين الداخل والخارج، مصر التي كانت تطل من كافة مستويات الحوار بين الزوج وزوجته، وبين كلٍّ منهما والمحقق، وبين الدرويش والزوج حول «كل شيء أخضر». فإذا كانت المقولة الشعبية «يا طالع الشجرة» تبدو كما لو كانت بلا معنًى، كما أن المقولة الحديثة «العقل» تبدو كما لو كانت هي الأخرى بلا معنًى، فإن توفيق الحكيم يزاوج بين اللامعنى الشعبي القديم واللامعنى الحديث في مقولةٍ واحدةٍ لها «معنًى»، هي أن مصر ما تزال — بالرغم من كل ما أصاب جذورها — قادرةً على العطاء والاستمرار في العطاء. ولما كانت مصر هي أصل الحضارة أو شجرتها، تحتم عليها أن تفتدي رسالتها نحو العقل البشري بالفداء؛ ذلك أن الموت هو الجسر الوحيد إلى البعث والخلود، وتلك هي محلية «يا طالع الشجرة» وإنسانيتها أيضًا؛ إنها تنبثق من أرض واقعنا — حيث يحاول الحكيم أن يكتشف الحلقة المفقودة بين عمق جذورها واستمرارية عصارتها — ولكنها تستشرف آفاقًا إنسانيةً بعيدةَ المدى.

١  راجع كتاب «الأدب للشعب»، سلامة موسى، ١٩٠٦م، مكتبة الأنجلو، القاهرة.
٢  راجع «في الثقافة المصرية»، محمود العالم وعبد العظيم أنيس، ١٩٥٥م، دار الفكر الجديد، بيروت.
٣  هذا النص وجميع النصوص التالية مأخوذةٌ من «أهل الكهف» عن طبعة دار الهلال، الصادرة في كتاب الهلال، أغسطس ١٩٥٤م. أما الطبعة الأولى فقد صدرت عام ١٩٣٣م.
٤  قد تُثار هنا مشكلة المسرح الفرعوني، ولكن لنؤجلها إلى حين (ويمكن مراجعة رأيي فيها مفصلًا بالفصل الأخير من كتابي «ثورة الفكر في أدبنا الحديث»، نشر الأنجلو، ١٩٦٥م).
٥  راجع كتابي «المنتمي»، الفصل الأول، دار المعارف، الطبعة الثانية.
٦  راجع دراستي النقدية «الأمير الحائر بين الأرض والسماء»، المنشورة في مجلة «أدب» اللبنانية، العدد الثاني، ١٩٦٢م (والمنشورة أيضًا بكتابي «ثورة الفكر في أدبنا الحديث»، ١٩٦٥م).
٧  راجع الترجمة الكاملة لهذه المسرحية في مجلة الشهر، ١٩٦٠م، العددين ٢٦، ٢٧، نوفمبر وديسمبر، لنور الدين مصطفى.
٨  راجع مجلة الإذاعة، مجلد عام ١٩٥٦م.
٩  مندور في جريدة الشعب، ٣ / ٢ / ١٩٥٧م، و١٠ / ٢ / ١٩٥٧م، و١٧ / ٢ / ١٩٥٧م. والألفي في جريدة الجمهورية، ٢٧ / ١ / ١٩٥٧م، و٢٤ / ٢ / ١٩٥٧م، و٣ / ٣ / ١٩٥٧م.
١٠  جريدة الشعب، ١٥ / ٦ / ١٩٥٦م، والجمهورية ٢٨ / ٨ / ١٩٥٦م.
١١  أرجو متابعة نصوص بلوتارك في الترجمة العربية للدكتور حسن صبحي بكري، الألف كتاب، دار القلم، القاهرة.
١٢  S. H. Hooke, Middle Eastern Mythology, 1963.
١٣  هذا النص وجميع النصوص المقتبسة عن «إيزيس» مأخوذة من الطبعة الأولى، ١٩٥٥م، مكتبة الآداب بالجماميز، بالقاهرة.
١٤  عام ١٩٥٤م بين العقاد وطه حسين من جانب، ومحمود العالم وعبد العظيم أنيس ولويس عوض من جانبٍ آخر.
١٥  راجع كتاب «المسرح المصري»، د. لويس عوض، ١٩٥٤م، دار إيزيس بالقاهرة.
١٦  المساء، ١٦ / ١ / ١٩٥٧م، و٣٠ / ١ / ١٩٥٧م.
١٧  يناير ١٩٥٩م، الطبعة الأولى، الشركة العربية للطباعة بالقاهرة.
١٨  راجع النص العربي المُترجم بقلم كمال الدين الحناوي، أساطير فرعونية، الكتاب الماسي، الدار القومية للطباعة والنشر بالقاهرة.
١٩  راجع «مقالات في النقد والأدب»، د. لويس عوض، مكتبة الأنجلو بالقاهرة، ١٩٦٤م.
٢٠  تعتمد الدراسة على الطبعة الأولى، ١٩٦٣م، مكتب الآداب، الجماميز، بالقاهرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤