تطور البنوك
المعابد في الدول القديمة
لا بدَّ لي حين أتبع الطريقة التاريخية من أن أمرَّ مرورًا عابرًا على سير بعض الأمم والأفراد لأقتطف منها ما يصلح أن أقدمه نموذجًا على عمل معين أو فكرةٍ خاصَّةٍ، ممَّا أراه جديرًا بالذكر في هذا البحث.
ولو رجعنا إلى مصادِرِ التاريخ القديم فيما أمكنَ العثور عليه من الحفريات لوجدنا أنَّ الإيداع والاقتراض كلاهما قديمٌ في ذاته قِدَمِ الطَّيبات من الرزق. كان الإنسان يستكثرُ منها، فإن زادت عن حاجته ادَّخرها إلى وقتٍ يُفيدُ منها فيه، وإن امتنعت عليه راح يلتمسها قرضًا أو صدقة ممن يقدر عليها.
فإذا كان الإنسان في عهده البِدائي فأدوات الصيد والدفاع عن النفس والحبوب هي أثمنُ ما يحرص عليه، وهي لهذا نقوده الأولى التي تبايع بها أيضًا قبل أن يهتدي إلى استعمال الأجرام المعدنية ثم النقود المسكوكة التي بدأَ يضربها الليديُّون — على أرجح الأقوال.
لم يكن كاهن المعبد عند قدماء المصريين مجرد رئيس ديني، وإنَّما كان على درجةٍ كبيرةٍ من الاستعداد الاقتصادي، فكان يدبِّرُ للنَّاس أمور معاشهم ويقدِّم لهم المساعدات في أوقاتِ الضِّيق، ويقوم عليهم بغيرِ قليلٍ من التوجيه الاقتصادي المحلِّي.
وقد أكَّدَ لنا البحث التاريخي صحَّة ما جاءَ في الكتب المُقدَّسة من أنَّ يوسف — عليه السلام — قد جعله مولاه على خزائنِ الأرضِ المصرية يُعالج أزمة امتدَّت إلى سبع سنوات بسببِ انخفاض فيضان النيل. ومن هذه الحقيقة التاريخية نشأت الأسطورة التي يؤمِنُ بها الإسرائيليون من تعاقُبِ الأزمات مرَّة كل سبع سنوات، وقد حاول كثير من الاقتصاديين أن يُقيموا الأدلة على صحَّتها.
الإقراض عند الإغريق
قلنا إنَّ كهنة المعابد كانوا يُقرِضون المُحتاجين. ويستتبع ذلك أن نعرف هل كانت المعابد تأخذ فائدة على ما كانت تقدِّمه من قروضٍ. اختلف المؤرِّخُون في ذلك، والرَّاجِحُ أنَّ معابد الإغريق لم تكُن في أوَّلِ عهدها بالإقراضِ تأخذ فائدة، ولكنها اضطرت إلى أخذِ تعويض عن التأخير في سداد القرض، فنشأت عن ذلك عادة أخذ الفوائد التي صارت فيما بعد معمُولًا بها على اعتبارِ أنَّها أجر أو استغلال لرأس المال الذي يقترض.
ولسنا نعرف على وجهِ التحقيق الوقت الذي بدأ فيه الأفراد يتَّخِذون الإقراض حرفةً لهم. ولكن من القصص الثابتة أنَّ «هريود» الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد قد نصح لمقترض حبوب أن يردَّ لمُقرضه أكثر ممَّا أخذ حتى يُشجِّعَه بتلك الطريقة على تسليفه مرَّة أُخرى إذا احتاج إلى الاقتراض منه.
وقد افتنَّ أصحاب المصارف الإغريقية في الدعاية لأعمالهم، فكتب أحدهم المدعو «كايكوس» على مصرفه أنه يُعامل الأجانب كما يعامل الوطنيين، وأنه مستعد حتَّى في الليل أن يبدل النقود لمن أراد، وكانت لهم دفاتر يقيِّدُون فيها حساباتهم اليومية ويوقِّع عليها العميل بإمضائه أو خاتمه للمضاهاة عليه عند اللزوم.
وقد عرف القانون الإغريقي نظام إيقاف الدفع المعروف الآن «بالموراتوريوم» في أوقاتِ الضِّيق والأزمات. وقد تخصَّصَ بعض المدافعين في القضايا المالية، ورتَّبوا لها إجراءات تؤدِّي إلى سرعة الفصل فيها.
البنك المركزي عند البطالسة
وحين دخل الإغريق سنة ٣٣٢ق.م مصر لم تكن لها نقود مضروبة؛ لأن المصريين كانوا يتعاملون بالحبوب فيما بينهم. وقد كانوا يتعاملون أيضًا بحلقات معدنية إذا استدعى الأمر في أغراضٍ تجارية أغلبها مع غير المصريين، فقد كانت للإغريق جاليَّات استوطنت من قبل مُدُنًا لا تبعدُ عن البحرِ الأبيض، أهمها بلدة «نقراطس» عند فرع النيل الكانوبي، ومكانها الآن بلدة «نقراش» القريبة من «إيتاي البارود».
كانت هذه البلدة بمثابة ميناء دولي حر تقطنه جالية إغريقية بلغ عدد أفرادها ١٠٠٠٠ نسمة يتعاملون فيما بينهم أو مع أهل البلاد الآخرين بالقطعة الدارية الذهبية وبالقطع الإغريقية من الدراخمة ومضاعفاتها. وقد نشطت هذه الجاليات الإغريقية ومن نزح إلى مصر من الإغريق عقب الفتح المقدوني، وتغلغلوا في داخلية البلاد، وكان منها كبار الموظفين ورجال المال على عهد البطالسة.
ولقد وضع البطالسة لموارد الخزانة نظامًا مُزدوجًا في الضرائب، فقسَّموها إلى قسمين؛ أحدها: ضرائب تُؤخذُ عينًا من الحبوب التي تنتجها الأرض المزروعة، والآخر: ضرائب تُؤخَذُ نقدًا من العملات التي ضربوها في مصر باسمهم. أمَّا الضرائب الزراعية؛ فقد كانت تسلم في شون، ثم تنقلها مراكبهم في النيل وتُرَعِهِ إلى المخازن الرئيسية بالإسكندرية. وأمَّا الضرائب النقدية — وهي رسوم ومكوس تُؤخذُ على كلِّ ما لا علاقة له بالزراعة كرسوم العقود وضرائب المهن الحرَّة والاحتكار — فقد عهدوا فيها في أوَّلِ الأمر إلى مُلتزمٍ يرسو عليه العطاء الأكبر في مُزايدة علنيَّة.
ولم يلبث أن اتَّضَح خطأ نظام الالتزام في الضرائب النقدية؛ لأنه نظامٌ وإن صلح في آثينا إلَّا أنه لا يصلحُ في مصر لبُعدِ المسافات وصعوبة الإشراف على عمل هؤلاء الملتزمين الذين ساموا الناس الخسف، ونشروا الرشوة في الجباية، وأساءوا إلى البطليموس نفسه، فعدَلت الحكومة عن نظام الالتزام، وعيَّنت موظفين من قبلها لجباية الضرائب وإيداعها مصرفًا حكوميًّا يقوم على تحصيلها واستغلالها لحساب الخزانة.
وقد ألقت حفائر الفيوم أخيرًا ضوءًا على أعمال هذا النوع من المصارف الحكومية فيما اكتشف بها من وثائق تركها «زينون» — أحد مديري هذه المصارف — وفيما اكتشف بالإسكندرية من نصوص لإرادات ملكية تعرف بقوانين الإيرادات كان البطليموس «فيلادلف» يُرسلها إلى مديري هذه البنوك وموظفيها كمنشورات أو لوائح يجب العمل بها.
وممَّا يؤسَفُ له أشدَّ الأسف أنَّ وثائق «زينون» موزَّعة على عدَّةِ متاحف، فبعضها بمتحف القاهرة، والبعض الآخر في متاحف الولايات المتحدة، وإيطاليا، وكولومبيا. وكان من الواجب أن تُحفظ سجلَّات «زينون» وملف أعماله في متحف القاهرة، وأن تترجم كلها، فلا يترجم بعضها ويبقى البعض الآخر بغير ترجمة. وممَّا يُؤسَفُ له أيضًا أنَّ قوانين الإيرادات قد أضرَّت بها رطوبة الإسكندرية التي تتلف ورق البردي؛ ولذلك اضطر كثير ممن ترجموها أن يملئوا الفراغ الذي أحدثه التلف بفروض ظنيَّة قد تصيبُ وقد تُخطئُ؛ ومن ثمَّ يقومُ الخلاف عند الباحثين فيها.
وأستطيع بعد هذا أن أؤكد لحضراتكم أنَّ مصر قد عرفت نظام البنك المركزي بمعنى الكلمة، وأنَّ هذا البنك المركزي كانت له فروع وشون بمختلف البلاد المصرية الهامة، وأنه استعمل في أساليبه ومحرَّرَاته ما لا يختلفُ كثيرًا عمَّا هو مُتَّبعٌ الآن.
ومن التعديلات الهامة التي أدخلها البنك المركزي المصري على نُظُم البنوك الآتية: أنَّه أبطلَ العمل بالأوامر الشفوية، ونصَّ على ضرورة الاعتماد على الكتابة في جميع العمليات المصرفية. فضلًا عن التوسُّعِ في أعمال المصرف من فتحِ حساباتٍ جاريةٍ إلى قبول ودائع وإعطاء سلفيَّات لأغراضٍ مُختلفةٍ، مع تقديم رهون وضمانات شخصية وعينية.
وكانت الأوامر الملكية تُلزِمُ مُديري المصارف بضرورة استغلال الأموال الملكية، وتحتِّمُ عليهم أن يأخذوا رهونًا عند إقراضها للأفراد حتى لا تضيعَ. وكانت هذه المصارف أيضًا تستغل الأموال المودعة فيها وتُعطي عنها فوائد إذا بقيت فيها وقتًا طويلًا. وكان فيها خبراء في المعادنِ والنقودِ ومُراجعو حسابات، وكانوا جميعًا يؤدُّون قَسَمًا قبل مُباشرة أعمالهم على أن يُؤدُّوا بالذمَّةِ والأمانة، وكانوا يُعاقَبُون أشدَّ العقابِ إذا أهملوا في أعمالهم أو بدَّدُوا تلك الأموال المسلَّمَةِ إليهم على اعتبارها أموالًا عامَّة.
ولم يكن البنك المركزي الملكي يقصُرُ نشاطه على المعاملات الداخلية، بل كان يموِّل التجارة في البحر الأبيض المتوسط، ويتعاملُ أيضًا في قروضٍ مع الدول الأخرى. وقد طَلَبَت قرطاجنة من البنك الملكي في عهد «فيلادلف» أن يُقرِضها قرضًا دوليًّا لتستعين به في حربها مع روما، ولكنه رفض حتَّى لا يُغضِبَ روما. ولكن بنوك روما عندما طلب منها بنك «أوليت» أن تقرضه اشترطت شروطًا قاسية منها أن يرهن البنك المصري جميع إيرادات الدولة ضمانًا للقرض.
ونستطيع بعد هذا كُلِّه أن نقولَ: إنَّ ذلك البنك المركزي المصري عندما كان مملوكًا للحاكم يوجِّهُ منه سياسة البلاد الاقتصادية كان صورة من التأميم الفعلي، على اعتبار أنَّ مالية الملك في تلك العصور القديمة كان قوامها الخزانة تدخلها جميع إيرادات الدولة، ثم يصرف منها جميع ما كان ينفقه على الحرب ومشروعات الإصلاح العامَّة في بلاده.
ومن المهم أن نذكُرَ أنَّ ذلك المصرف الحكومي وفروعه قد انفرَدَ بإدارتها والتعامل معها الإغريق. أمَّا المصريون فقد ابتعدوا عنها مُفضِّلِين خَزْنَ غلالهم بمنازلهم وعند الضرورة يتعاملون مع الشون.
وقد علَّلَ ذلك بعض المؤرخين بفقرهم ولكونِ الضَّرائب الإضافية كانت تُفرَضُ على المصريين بين وقتٍ وآخر، ومنها ما يُؤخذُ للترفيه عن الحكام وضيافتهم في حفلات وولائم فخمة. من ذلك ما جعل كهنة إيزيس يكتبون على مسلَّة «الفيلا» شكوى لربهم ممَّا حلَّ بهم من ضنكٍ بسبب إطعام الجنود والقادة في تجوالهم بالأقاليم القبلية. ومن ذلك أيضًا أنَّ نبيلًا رُومانيًّا وفدَ على مصر في سياحةٍ ومعه حاشيته يحملُ أمتعتها أربعون حمارًا، وكانوا يجوبون البلاد بدعوةٍ من الحكومة، ويرغم المصريون على الاكتتابات للاحتفاء بهم. ولهذه الأسباب امتنعوا عن إيداع نقودهم في البنوك حتى لا تُؤخذ منهم في تلك الضرائب الإضافية والاكتتابات الجبرية، بينما الإغريق — وهم الأغنياء — لا تمتدُّ إليهم أيدي الجباة وكبار الموظفين من أبناء جنسهم الذين استعمروا البلاد.
البنوك عند الرومان
ولمَّا فتح الرومان مصر بعد هزيمة كليوباترة سنة ٥٣٢م، أدخلوا كثيرًا من التعديلات على نظم البنوك الخصوصية والعمومية التي سبق لهم أن نقلوها عن الإغريق والبطالسة. ومن أهمِّ هذه التعديلات أنهم أباحوا للأفراد اتخاذ البنوك حرفةً لهم، وقد كان البطالسة لا يسمحون بذلك إلَّا بعد تصريحٍ من المتعذر أن تعطيه الحكومة؛ ممَّا جعل أغلب المؤرخين يذهب إلى القول بأنَّ البطالسة قد احتكروا أعمال البنوك وجعلوها ملكًا للدولة.
ولمَّا انتصرت رُوما على قرطاجنة سنة ١٤٦ق.م، اضطُرَّت إلى تنظيمِ ماليتها وشئونها الاقتصادية لتسيرَ بخطواتٍ ثابتةٍ في بناء إمبراطوريتها العظيمة. فجعلت خزائنها تؤدِّي أعمال المصرف الحكومي للدولة، وجعلت لها عشر فروع في المستعمرات أهمها فرع الإسكندرية لمصر ولِمَا جاورها من بلاد أفريقية. وهذه الفروع تجبي ضرائب الصَّادرات والواردات وتحصِّل الجزية وتُرسلها للخزانة في روما. وكانت خزانة روما تقرض المستعمرات وتحاسبها على الفائدة إذا هي تأخَّرت في دفع ما عليها من جزية.
أمَّا البنوك الخصوصية، فكانت تقومُ على أموال مُؤسِّسِيها وأموال الأثرياء من الحكام وأغنياء الرومان. وكانت هذه البنوك تفتح الحسابات الجارية وتقبلُ التحاويل، ولها دفاتر مُنظَّمة، منها ما نُسمِّيهِ الآن بدفتر الصندوق ودفتر اليومية ودفتر الأستاذ. وإلى بنوك الرومان يرجع الفضل في وضع الأصول لطريقة مسك الدفاتر الحالية.
وكان المقرضون يتعاملون في أغلب الأحيان بأكثر من الفائدة القانونية؛ مما اضطرَّ المُشرِّع الروماني إلى استعمال القسوة؛ فنصَّ على مُصادرة قسم كبير من أموال الدَّائن والمدين إذا ثبت عليهم التعامل بالرِّبا. فلَجَأَ بعضهم إلى التحايُلِ على القانون بطريقةِ البيع المعروف «بالغاروقة» أو بطريقة بيع السلم، ولمَّا شدَّدَت الحكومة على المُرابين نَزَحَ كثيرٌ منهم إلى مصر — التي ابتليت منذ القدم بالأجانب المشتغلين لها — فأقرضوا تحت أعين حُكَّامها الرومانيين ورعايتهم بفائدةٍ بلغت ٨٠٪ في كثيرٍ من الحالات.
ولقد كان الرِّبا مُتأصِّلًا في نفوس الرومان. وكانت عقود الاقتراض تُبيحُ للدَّائن أن يسترقَّ مدينه عملًا بالشرط الذي يلزم المدين أن يضع نفسه تحت تصرُّفِ الدَّائن إذا عجزَ عن الوفاء.
ومع هذا لا يفوتنا أن نذكرَ هنا أنَّ القانون الروماني قد وضع القاعدة التي نقلها المشرع الفرنسي ومن أخذ عنه، وهي إمكان اتخاذ دفاتر البنوك حجَّة على المتعاملين وغيرهم، ودليلًا من أدلَّةِ الإثبات في الدعاوى التجارية.
العصور الوسطى
ننتقل بعد ذلك إلى ما يُعرف عند المؤرخين بالعصور الوسطى، وهي فترة احتضار الإمبراطورية الرومانية بين سقوط شِقَّيها الغربي والشرقي، وتلك حقبة من الزمن سادت فيها العقائد الدينية عند المسيحين والمسلمين على السَّواء. أمَّا في البلاد الإسلامية فعُلماءُ الشَّرعِ لا يرون التعامُلَ بالربا، وأمَّا في البلاد المسيحية فقد كان رجال الدين يحرِّمُون إقراض النقود بالفائدة وقد سموها الربا، ويحرِّمُون أيضًا إقراض السلع المستهلكة كالحبوب إذا كان ردها أكثر ممَّا أعطيت؛ لذلك انفرَدَ اليهود بعمليَّات الإقراض في مُختلف الدول، وأرهقوا الناس بشروطٍ فادحةٍ جعلتهم موضع الكراهية والمطاردة والاعتداء في كثيرٍ من البلاد.
ولكن الظروف السياسية والاقتصادية — وخصوصًا في بيزنطة التي ورثت تقاليد الإغريق والرومان — جعلت الكنيسة تتسامَحُ تدريجيًّا، فلا تأخذُ محاكمها بالشدَّةِ من يتعامَلُ بالفائدة. وجَاءَ بعض الباباوات يُجيزُ التعامل بالفائدة على أن تكون قليلة وحمى بعض المقرضين بالفعل، بل توسَّطَ لهم في تحصيل ديونهم كي يمنع عبث اليهود وسيطرتهم على مرافق التجارة والمال. فنشطت على أثر ذلك شركات صغيرة مُكوَّنَة في الغالب من أفرادِ عائلةٍ واحدةٍ غنيَّةٍ تقومُ بأعمال البنوك بمالها، وربَّما أمدَّها حاكم أو غني مستترٌ بماله أيضًا. وقد أقرضت الأفراد والحكومة والنبلاء واستظلَّت بظلِّهم تستمدُّ منه الجاه والمعونة وتدفع به الأذى عن نفسها. وكثيرًا ما اقترضت الحكومات والبلديات من هذه البنوك لتشتري الحبوب في أوقاتِ المجاعة أو لتُنفِقَ على الحروب، وكتبت للبنوك صُكوكًا بالدَّين وفوائده ومواعيد دفع أقساطه؛ فكان من ذلك أساس الديون العامة وصلة البنوك بها.
وقد أساءَ الموظفون الهولنديون إدارة ذلك البنك وعبثوا بأمواله، وعُمِل تحقيق في سنة ١٧٦٠ اتضح منه أنَّ الودائع التي كانت مُقدَّرة في الدفاتر بمبلغ ٣٠٠٠٠٠٠٠ جلدر لا يُوجد منها في خزائنه سوى مبلغ ١٠٠٠٠٠٠٠ جلدر، وأنَّ الموظفين قد سرقوا ما لا يقل عن ثلثيْ أموال البنك أو ٦٦٪ منها. واضطرَّت الحكومة أن تعمل على دعمه؛ لأنها مسئولة عن أعمال موظفيها وضامنة للأموال المودعة فيه، ولكن عبث الموظفين لم يلبث أن اتضح مرَّة أُخرى، فحين احتلَّت فرنسا هولاندا سنة ١٧٩٠ وراجعت حساب البنك ظهر أنَّه مُفلسٌ بسبب تلاعب الموظفين واقتراض البلدية منه قروضًا للبذخ؛ فاضطرَّت الحكومة الهولندية إلى أن تصفِّي أعماله وأن تدفع جميع ديونه.
شركات «جون لو»
وانتهى الأمرُ بإفلاسِ البنك وشركاته ووقوع فرنسا في أزمةٍ طاحنةٍ دَامَت خمس سنوات. أمَّا أغنى رجلٍ في العالم فقد أضحى طريدًا يتسوَّلُ في الطُّرُق حتَّى رتبت له إنجلترا معاشًا مكافأة له على إفساد مالية عدوها اللدودِ فرنسا.