وظائف البنك المركزي، رأس ماله، إدارته، الأعمال التي يمتنع عن مباشرتها
(١) وظائف البنك المركزي
بعد أن قدَّمنا للقارِئِ نماذج طيِّبة اخترناها من ماضي الدول وحاضرها شرحًا لتطورات أو صفات أو مواقف للبنوك المركزية، يطولُ بنا الحديث إذا أردنا أن نصفَ له كل بنك من البنوك المركزية في الدول المختلفة؛ لذلك حسبنا أن نزجي صورة عامَّة لنظم هذه البنوك وإدارتها حسب آخر ما وَصَلَ إلينا بعد التعديلات التي أدخلتها الدول على بنوكها أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها. فبعض البلاد رأت أن تملك حكوماتها بنكها المركزي في النظام الذي يُطلَقُ عليه التأميم، والبعض الآخر جعله شركة بين الحكومة والأفراد، والبعض اختار شركة بين الحكومة والأفراد والشركات، والبعض فضَّلَ أنَّه يكون مملوكًا للشركات وحدها.
- (١)
إصدار البنكنوت؛ ولهذا كان يُسمَّى البنك المركزي ببنك الإصدار؛ تمييزًا له عن البنوك الأخرى.
- (٢)
العمل على تثبيت النقد وجعله مُطابقًا لحاجة البلاد، وهذا أهمُّ عمل البنك المركزي، حتَّى قال بعض الكُتَّابِ في وصفِ البنك المركزي إنَّه البنك الذي يعملُ على تثبيتِ النقد.
- (٣)
القيام بخدمات معيَّنة للحكومة والبنوك، فتستودعه الحكومة مالها وتقترضُ منه، وهو يعملُ على الوقايَةِ من الأزماتِ وعلاجها إذا وقعت، وهو أيضًا بنك البنوك تحتفظُ فيه بقدرٍ من مالها وتقترضُ منه عند الحاجة.
- (٤)
وضع سياسة للبنوك تمنعها من التنافس الضار وتمكِّنها من تأدية الائتمان على أتمِّ وجهٍ.
- (٥)
القيام تحت رقابة الحكومة بتوجيه الاقتصاد القومي في البلاد.
- (٦)
الاتصال بالبنوك المركزية الأُخرى والتعاون معها.
هذه هي الخطوط الخارجية لمهام البنك المركزي يذكرها الكتاب في عباراتٍ مُختلفةِ الشرح والتعليق.
إصدار البنكنوت
إنَّ وظيفة إصدار البنكنوت لَمِنْ أخطرِ وظائف البنك المركزي؛ ولهذا فقد جَرَى العمل حتَّى أوائل القرن الحالي على تسميته ببنك الإصدار؛ تمييزًا له عن البنوك الأُخرى. والأصلُ أنَّ إصدار العملة معدنية كانت أم ورقية من اختصاص الحكومة؛ لأن النقود تقدِّر الأرزاق وتنقلها بين الناس.
وتُلزِمُ الحكومة البنك المركزي بأن يغطِّي ما يُصدِرُهُ من بنكنوت بالذهب أو بالفضة أو بهما معًا، وبسندات أوراق مالية ثابتة القيمة مُستندة إلى الذهب؛ حتى لا ينطلقُ البنك في الإصدارِ جزافًا، وحتَّى يكونَ النَّاسُ في أمنٍ من التعامل بالبنكنوت.
وعملية إصدار البنكنوت يجب أن تهدفَ إلى ضبطِ كميته وفقًا لمطالب البلاد التي يصدر فيها؛ فالكثرةُ في الإصدارِ تسبِّبُ تضخُّمًا يُنزِل قيمة النقود ويرفع الأجور وأسعار السلع، والقِلَّةُ فيه تسبِّبُ التقلُّصَ الذي يرفع قيمة النقود ويهوي بالأجور وأسعار السلع.
وقد اضطرَّت الحكومات تحت ضغطِ الحروب والأزمات إلى تغيير نظم الغطاء ونسبته، فتارة تُعفي البنك من اتخاذ الذهب غطاءً، وتارة تنقص من النسبة المفروضة فتجعلها الثلث مثلًا بدلًا من النصف، وتارة تجعل الغطاء من السندات الحكومية لما تدره من فائدة تقاسم البنك فيها.
ولا تُوجد قاعدة عامَّة للغطاء. والغطاء الأمثل في نظرنا هو الذي يستندُ بعضه إلى نسبةٍ قليلةٍ من الذهب وأغلبه إلى سندات الحكومات ذوات السمعة المالية والأثر الأكبر في تجارة الدول.
تنظيم الائتمان
لعلَّ وظيفة البنك المركزي في تنظيمِ الائتمان هي أدقُّ وظائفه وأخطرها شأنًا في حياة الأمم. ولقد ذهب كثير من الكتَّاب إلى اعتبارها المهمَّة الأولى التي تتفرَّعُ عنها مهماته الأخرى. قد تأثَّرَ بهذا الرأي واضع نظام بنك كندا المركزي فقال: إنَّ مهمته تنظيم الائتمان والعملة ومنع تقلُّبات الأسعار ورفع مُستوى الإنتاج والتجارة.
وممَّا لا جدالَ فيه اليوم أنَّ الائتمان يخلُقُ مالًا لمن لا مالَ عنده، وأنه كان من أسباب تأخر الدول وخرابها في الأزمنة القديمة جهل الحكومات بأهمية الائتمان. أمَّا الآن فقد غدا الائتمان له القسط الأوفى من عناية الباحثين والحكومات بعد أن كثرت دواعي المال ومعضلاته. وأصبح الاقتصاد الائتماني مُفضَّلًا على الاقتصاد النقدي الذي كان يرى جمع النقود وتكديسها المطلب الأول عند الأفراد والحكومات.
إنَّ ثبات الأسعار وثبات سعر الصرف منوطان بالائتمان، وكلاهما منفعل به. فإن قيل إنَّ ثبات الأسعار في الدَّاخل هو المقدَّم، وإنَّ ثبات سعر الصرف رهينٌ بإرادة الدول الأُخرى، فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ تقدُّم الأمم واستقرار الحياة هادئة فيها أمران يتصِلان اتصالًا وثيقًا بالرفاهية عند الشعوب كافة.
- أولًا: رفع أو خفض أسعار الفائدة، فيزيد أو ينقص الائتمان فيساعد أو يعوق سير الأعمال الحرة.
- ثانيًا: بيع وشراء السندات والحوالات في السوق المفتوحة، فيخرج المال أو يسحبه ليزيد أو ينقص من الائتمان ليضبطه عند الحدِّ الواجب.
- ثالثًا: التدخُّل بطريقٍ مباشر أو غير مباشر في أعمال البنوك؛ حتَّى لا تفسد جو المال، أو تسبب مُضاربات، أو تساعد على أعمال خائبة.
- رابعًا: استعمال النفوذ الأدبي في تهيئة حالات نفسية عند البنوك والشركات والأفراد لتغيير اتجاهات ضارَّة، أو لتوجيهٍ مُفيد، خصوصًا إذا كان في مجلس إدارته مديرو بعض البنوك والشركات؛ فإنهم يتأثَّرون برأيه ويحملون نصحه إلى شركائهم والمتصلين بهم، فيسهل تنظيم الائتمان وتنسيقه بين مُختلف البيئات الاقتصادية.
بنك البنوك
اكتسب البنك المركزي بمقتضى ما جرى عليه العمل صفتين؛ الأولى: اعتباره بنك البنوك، والثانية: اعتباره بنك الحكومة. فلزمته الصفتان بالسنن قبل أن ينصَّ عليها التشريع. بل إنَّ بعض البلاد لا نجدُ فيها تشريعًا يفرض على البنك المركزي أيَّ التزامٍ قِبَل البنوك والحكومة؛ فقد حدث في إنجلترا أنَّ البنوك الإنجليزية وجدت من مصلحتها وقد أصبح بنك إنجلترا موضعَ ثقة الحكومة أن تستودعه قسمًا من أموالها. وكذلك استودعته البنوك الإرلندية والاسكتلندية بعض أموالها؛ فمكَّنه ذلك ابتداءً من سنة ١٨٥٤ من أن يقوم بعمليات المقاصَّة بين كثيرٍ من البنوك.
وإيداع البنوك ما زاد عن حاجتها في البنك المركزي أمرٌ يفيدُ منه البنك كما تفيد منه البنوك أيضًا؛ فيتمُّ لها عن طريق ذلك تعاون يمكِّنه من رعاية الاقتصاد القومي، ويستطيع في الأزمات وعند كثرة الطلب في الأعمال الموسمية أن يساعدها من مالها المشترك، وأن يوسِّعَ نطاق الأعمال على أساسٍ مرنٍ، فيخصم أو يعيد خصم حوالاتها، ويمدها بالمال الذي يسهِّل عليها به مواجهة الطلبات التي تنهالُ عليها في الأوقات الحرجة.
وفرض نسبة مُعيَّنة على البنوكِ بمُقتضى القانون إجراء حديث العهد. ولعلَّ الولايات المتحدة هي أُولى الدول التي فرضته بنصٍّ قانونيٍّ مُلزِمٍ للبنوك المرخَّصِ لها. وقد نقلته عنها قوانين بلاد كثيرة بعد الحرب العالمية الأُولى. وهو ضروري عند الدول التي ليست لبنوكها سُنن مرعيَّة يقومُ بها العُرفُ مقام القانون. وتختلفُ النسبة التي يفرضها القانون في بلدٍ عنهما في بلدٍ آخر، فبعض البلاد يجعلها ١٠٪ من الودائع التي تحت الطلب و٢٠٪ من الودائع المُؤجَّلة، والبعض الآخر يزيدُ أو ينقص في الحالتين. وأحسنُ نظام في نظري هو نظام أستراليا الذي يجعل تحديد النسب مُتغيِّرًا وخاضعًا لما يتمُّ عليه الاتفاق بين البنك المركزي وبين وزير المالية.
ويقوم البنك المركزي بإعادة خصم الحوالات للبنوك التجارية. وفي النادر جدًّا أن تقومَ بعض البنوكِ بخصم حوالات الأفراد إلَّا في ظروفٍ مُعيَّنةٍ، وبشروطٍ مُعينة سنتكلَّمُ عليها فيما بعد. وقد كان المُتَّبَعُ في بنك إنجلترا إلى قيام الحرب العالمية الأُولى ألَّا يَخصم إلَّا الصكوك التجارية القصيرة الأجل، وكانت مُعظم البنوكِ المركزية تقلِّده في هذا، وسبب ذلك يرجعُ إلى ضرورة عدم الإسراف في الخصم؛ حتى لا ينضب مَعِين البنك المركزي إذا تعرَّض لخصمٍ يستبقي ماله معطَّلًا خارج البنك لوقتٍ طويلٍ، في حين يجب عليه أن يكون ماله جاهزًا تحت تصرُّفه استعدادًا للطوارئ وليكثر من حركته فيؤدِّي به عدَّة طلبات. ولكن ظروف الحرب الأولى والثانية غيَّرت كثيرًا من القيود التي كانت موضوعة على الخصم أو إعادته.
بنك الحكومة ومُستشارها
من مهام البنك المركزي أن يقوم للحكومة بخدمات منها حفظ أموالها، وإقراضها، وإبداء النصح لها في كثيرٍ من الحالات. وهو بهذا بنك الحكومة؛ تحفظ فيه ودائعها الثمينة ونقودها، وتحصل منه على الحوالات اللازمة لأعمالها، ويصرف عنها ما تدفعه في نفقاتها وأجور موظفيها، ويحصِّل لها بعض الأحيان ما تعهدُ إليه بتحصيله من دفعات تسدد لحسابها.
ومن أعماله أن يمدَّ الحكومة بالنقود الأجنبية اللازمة لها في دفع ديون عليها للخارج. وهو يأتي هذا بمفرده أو بمساعدة بنوك أخرى يركَنُ إليها في هذا العمل.
وإذا احتاجت الحكومة مالًا أقرضها، وإذا أصدرت سندات تولَّى عملية عرضها للاكتتابِ وقام على دفع الكوبونات نيابةً عنها في المواعيد التي تحدِّدها، ويقومُ بتحويل الديون وتدبير استهلاكها، كل ذلك يؤدِّيه للحكومة بغيرِ أجرٍ أو بأجرٍ زهيدٍ جدًّا.
وفوق هذا فإنَّه من واجب البنك أن يمحض الحكومة النصح في كلِّ ما تطلب فيه رأيه من مسائلها الاقتصادية الكُبرى، بل لقد جرى العمل في إنجلترا على مُشاورة بنك إنجلترا في السِّياسة الاقتصادية، وفيما تضعه من خطط لمشروعات تقومُ الحكومة بها وحدها أو مُشتركة مع النقابات أو الهيئات.
وتُعتبر مُراقبة النَّقد من صميم عمل البنك المركزي في الأوقات التي يستلزِمُ الأمرَ فيها إجراء المُراقبة عند الطوارئ أو دواعي الحروب.
الأعمال التي يجب أن يبتعد عنها البنك المركزي
قلنا إنَّ البنك المركزي بنك للبنوك وللحكومة. وهذا يستدعي أن يمتنعَ عن مباشرة أعمال لا تتفِقُ وهاتين الصفتين؛ فلا يجوزُ له أن يتعامَلَ مع الأفراد أو يُنافس في ذلك البنوك التجارية التي قامَ على خدمتها والتفرُّغِ لها، ويجبُ عليه أيضًا أن يمتنع عن الاشتغال بالأعمال غير مأمونة العواقب؛ فلا يزجُّ بنفسه في مُغامرات أو أعمال صناعية تستدعي إبقاء ماله طويلًا في مشروعاتها فضلًا عن تعرُّضِهَا للمُفاجآت والخسارة.
هذا محصل الرأي الحديث في شأنِ البنوك المركزية يستندُ أيضًا إلى ضرورة تخصُّص كل بنك للعمل الذي قام من أجله؛ فالتجارة لها بنوك، والزراعة لها بنوك، والصناعة لها بنوك، ويجب عدم الخلط في أعمالها. وهذا الرأي الحديث مُتَّبَعٌ إلى حدٍّ كبير في نظم البنوك المركزيَّة الحالية. أمَّا البنوك المركزيَّة القديمة، فقد كانت تتعاملُ مع الأفراد وتشتركُ في الصناعة والتجارة بقدر ولو يسير.
هذه القاعدة العامَّة ليست مُطبَّقة في جميع البلاد، ولا هي بالمتَّبعة في كلِّ الظروف، وإنما يدخُلُ عليها في بعض المواقف استثناءٌ تقتضيه المصلحة العامة. فقد كانت فرنسا قبل تأميم بنكها تُجيزُ له التعامل مع الأفراد؛ ففتح لهم الحسابات الجارية، وحَفِظ لهم الودائع، واشترى وباع لهم الأوراق المالية وأعطاهم خطابات الاعتماد.
وقد عَدَلَت الآن أغلب الدول عن ذلك؛ فإيطاليا سنة ١٩٣٦ قَصَرَتْ عَمَل البنك المركزي على المعاهد المالية، كذلك فعلت المكسيك والإكوادور سنة ١٩٣٧، واليونان والهند والأرجنتين كلٌّ منها ضيَّقت عمل بنكها المركزي، وكادت أن تجعله محظورًا مع الأفراد.
وعلى عكس ذلك نجد أستراليا في قانون بنكها المركزي الصَّادر سنة ١٩٤٥ تُلزِمُ بنكها أن يتعامل مع الأفراد. وقد قال وزير ماليتها في مذكرته التي شرح بها ذلك القانون إنه قانون يُعطي البنك أوسع الاختصاصات والأعمال التي تباشرها البنوك التجارية.
ولا يُمكننا أيضًا أن ننسى أنَّ اليابان وألمانيا وإيطاليا ورُوسيا — وغيرها من البلادِ التي أقامت نهضات أو أعدَّت مشروعات تنفَّذ في سنينَ معدودة كمشروعات السنوات الخمس — قد اعتمدت في ذلك على بنوكها المركزية، سواءٌ بالنِّسبَةِ للدَّورِ الذي قامت به تلك الحكومات، أو بالنسبة لمجهودات الأفراد والشركات فيما أعدَّته لهم الحكومات أو كلَّفتهم به من أعمال.
ويدخل على القاعدة العامَّة القاضية بمنعِ البنوك من التعامل مع الأفراد استثناء هام في أوقات الأزمات؛ إذ تكلِّف الحكومات بنوكها المركزية بأعمال تُعالج بها الأزمات. ولا بدَّ لها في هذه الأحيان من تعاملٍ مع الأفراد أو تدخُّلٍ في التجارة والصناعة والزراعة.
(٢) امتلاك الحكومة للبنك المركزي
ولا خلافَ عند أحدٍ على ضرورة اتخاذ بنك مركزي في كلِّ دولة ولو كانت شبه مُتحضِّرة. وقد جاءت جميع المؤتمرات الاقتصادية تحضُّ الدول على اتخاذ البنك المركزي، وإنَّما يقعُ الخلاف — وهو ليس بالخلاف الحديث — حول الوسيلة التي تؤدِّي إلى تلك الغاية المجمع عليها؛ فبعض البلاد ترى أن تَملك الحكومة البنك لتستطيع أن تُديره وأن تسيِّره طبقًا لمشيئتها، فتُوَجِّه به الاقتصاد الوجهة التي تراها لازمة لمصلحة بلادها، والبعض يرى أن تبتعد الحكومة عن ملكية البنك وإدارته؛ لأنه يُخشَى أن تتدخَّل السياسة والحزبية في أعمال البنك فتفسده.
والمسألة في نظري ليست مسألة مذهب يُقصَدُ لذاته، وإنَّما هي مسألة تخضعُ أولًا وقبلَ كلِّ شيءٍ لظروفِ البلد نفسه؛ فإذا كانت ظروفه تجعل امتلاك حكومته للبنك لا يُنتِج ضَررًا قلنا بوجوب ذلك، وإذا كانت ظروف البلد — سياسية أو اقتصادية أو هُما معًا — تقتضي إبعاد الحكومة عن البنك، فلا بدَّ لها من أن تبتعدَ عنه، وإذا كانت ظروف البلد تستلزمُ اشتراك الحكومة والأفراد والشركات في ملكية البنك وإدارته ليتكوَّن من هذا المزيج توازن القوى، واشتراك في المسئوليات، وتعاوُن على النهوض بالاقتصاد القومي، فمن المُحتَّمِ أن تقولَ بهذا النظام المشترك الذي يُطلِق عليه بعض الاقتصاديين النظام شبه الحكومي، ويسمِّيه بعض الكتاب نظام التأميم النَّاقص.
وإذا تركنا رُوسيا ولها نظام تَمْلِك فيه بنكها المركزي بشكلٍ يتَّفِقُ مع الأوضاعِ الشيوعية، فإنَّنَا نجدُ دولًا كثيرة تملك بنكها المركزي، منها إنجلترا، وفرنسا، وفنلندا، والسويد، وكندا، والنمسا، والدانمرقة، ونيوزلندا، وأستراليا، وباراجواي، والأرجنتين، وجواتيمالا، وكوستاريكا، ومعظم هذه البنوك حوَّلته الحكومة إلى ملك للدولة بأن نزعت ملكيَّة مُساهميه كما تَنزِع الحُكومات ملكية الأفراد للمصلحة العامَّة.
وقد اختلفت الطَّريقة التي اتبعتها الدول في كيفية تقدير التعويض الذي دفع لحَمَلَة الأسهم عند نزع ملكيتهم؛ فبعض الدول اتخذت سعر السهم في البورصة أساسًا للتقديرِ، والبعض الآخر قد أخذ بمتوسط سعر السهم في فترةٍ مُعيَّنة.
وأمَّا عن الطريقة التي اتُّبِعَتْ في دفع التعويض للمُساهمين؛ فبعض الدول تدفع ذلك التعويض نقدًا، والبعض الآخر تدفعه بسندات على الحكومة، وبعض الدول تخيِّر صاحب الأسهم المنزوعة ملكيتها بين قبض التعويض نقدًا وبين أخذ سندات بقيمته على الحكومة. فكندا دفعت التعويض نقدًا بسعر البورصة، وإنجلترا دفعته بسندات على الحكومة بفائدة أُخذت من متوسط فترة مُعينة، ونيوزلندا خيَّرت المُساهمين قبض قيمة أسهمهم المنزوعة نقدًا وبين أخذ سندات بها على الحكومة.
وبينما نجدُ الولايات المتحدَّة بها اثنا عشر بنكًا مركزيًّا تكتتب في كلِّ بنكٍ منها البنوك التجارية، إذا بنا نجدُ دولًا أُخرى تُبعِد البنوك والشركات عن الاكتتاب في بنكها المركزي؛ حتَّى لا تسيطر على إدارته وتجعلها مسيَّرة لمصلحة البنوك والشركات. ومن هذه الدول فنزويلا، وتشكوسلوفاكيا، والصين، وسويسرا، هذه الدول تجعلُ البنك المركزي مِلكًا للحكومة والأفراد، ويحرَّم على البنوك والشركات أن تكون مالكة لأسهمه. وهُناك دول يقتضي نظام بنكها المركزي اشتراك الحكومة مالكة لأسهمه، وهناك دول يقتضي نظام بنكها المركزي اشتراك الحكومة والبنوك والأفراد؛ ليكونَ الجميع مُتعاونين على العمل مشتركين في التبعات. ونذكر على سبيلِ المثال المكسيك، وشيلي، وبيرو، وكولومبيا.
وإذا كان امتلاك الحكومة للبنك المركزي يُستَفَاد منه جعل البنك قسمًا من الخزانة العامَّة وخضوعه في إدارته وسياسته للحكومة؛ فإنَّ ذلك الخضوع يختلفُ في دولةٍ عنه في دولةٍ أُخرى. فالنظام الإنجليزي قد مرَّ بسلامٍ من القديم إلى الحديث حتى انتهى بأن يعين الملك أعضاء مجلس الإدارة، بينما النظام الفرنسي يجعل بعض أعضاء مجلس الإدارة مُعيَّنين بمُقتضى وظائفهم الرسمية، والبعض بمقتضى رياستهم لهيئات تمثِّل أهم نواحي الاقتصاد القومي في فرنسا. ومردُّ ذلك فيما أعتقدُ إلى أنَّ النظام النيابي مستقرٌّ وسياسة الإمبراطورية البريطانية محلُّ احترامِ جميع الأحزاب، بينما في فرنسا النظام النيابي متبدِّل والأحزاب تتصارع، والأهواء لا تُحمَدُ عقباها إذا امتدَّت إلى البنك فغيَّرت سياسته بين آنٍ وآخر.
إدارة البنك ومُحافظه
ويكادُ ينعقدُ الإجماع على ضرورة إعطاء الحكومة حقَّ تعيين المحافظ ومن ينوب عنه حتَّى في البلاد التي لا تُساهم الحكومة في مالِ بنكها المركزي. ويغلب أيضًا في جميع الأنظمة النصُّ على إبعاد الأجانب عن امتلاكٍ لسهم البنك المركزي وعن العضوية في مجلس إدارته. ولكنْ هناك بلادٌ قليلة العدد للأموال الأجنبية فيها شأن يذكر فهي مضطرة بحكم ظروفها أن تُبيحَ للأجانب أن يملكوا قدرًا مُعيَّنًا من أسهم بنكها المركزي — بل قد تُجبِرهم على ذلك في نسبة تفرضها فرضًا على البنوك الأجنبية أو فروعها. وهي أيضًا تُعطِيهم عضوًا في مجلس الإدارة، ومن هذه الدول شيلي، وكولومبيا. وقد أخذت بعض الدول بنظامٍ يُبيحُ ضمَّ خبيرٍ أجنبيٍّ إلى مجلس إدارة بنكها المركزي؛ لتسوِّغ مثل هذا الموقف الشاذ عندما تقضي به الضرورة، ومن هذه الدول تشكوسلوفاكيا، وأستونيا.
الجمعية العمومية والأصوات فيها
أمَّا مقدار الأصوات التي تكون من حقِّ الحكومة في الجمعية العمومية للبنك المركزي، فلا يرجعُ حتمًا إلى نسبةِ ما تملكه الحكومة من رأسِ مال البنك إذا كانت مُساهمة فيه؛ لأنَّ الجمعيات العمومية لا ترسم سياسة البنك المركزي، وكذلك الحال بالنسبة للمُساهمين؛ فقد يُوضع حد لأصوات كبار المُساهمين في الجمعيات العمومية كما هو حادثٌ أيضًا في بعض الشركات، وقد تمنع الحكومة تمامًا من التصويت في الجمعية العمومية رغم كونها مُساهمة بمبلغٍ كبير في رأس المال. ومن ذلك أنَّ حكومة كولومبيا تُساهم بنصفِ رأس مالِ بنكها المركزي، ومع هذا فأسهمها لا تُعطيها حقَّ التصويت بنصِّ المادَّة ٦، ولا ضرر من تقييد حقِّ التصويت — على الحكومة أو المساهمين — لأنه كما قلنا لا ترسم الجمعيات العمومية سياسة البنوك المركزية، وتدخُّل الحكومة فيها لا يعني توجيه سياسة البنك، بل ربما يحرج الحكومة نفسها عند تنافس الطَّامعين في عضوية مجلس الإدارة.
إن عمل الجمعيات العمومية يكادُ يكونُ محصورًا في مُراجعة حساب الأرباح والخسائر، وتعيين المُراقبين، وانتخاب بدل الذين انتهت عضويتهم في مجلس الإدارة أو إعادة انتخابهم. وإذا كان حق الحكومة في تعيين من يمثِّلها في مجلس الإدارة ثابتًا في نظام البنك، فإنَّ حضور الجمعيات العمومية لا يعني إلَّا المُساهمين العاديين الذين يتطلَّعُون إلى معرفة ما خصَّهم من الأرباح. أمَّا الحكومة فهي طبعًا تعرف مقدمًا ميزانية البنك ومقدار ما خصَّها من الربح قبل عقد الجمعية العمومية.
ولا بدَّ لنا من أن نعرف أنَّ امتلاك الحكومة للبنك المركزي إنَّمَا هو وضع اشتراكي، وهو حلقة من سلسلة حلقات تستدعي تأميم المرافق الهامَّة في البلاد، فلا بدَّ معه من تأميم المواصلات، والمناجم، ومعاهد المال الأُخرى التي يتعلَّقُ عملها بمصادر الائتمان الصناعي والتجاري والزراعي منها بوجهٍ خاصٍّ، وغيرها ممَّا يجعلُ التأميم مُستجمعًا عناصره كافَّة، وإلَّا كان ناقصًا لا يؤدِّي الثمرة المطلوبة منه. فإذا بدأنا بتأميمِ البنك المركزي، فلا بدَّ لنا من أن نُتبعه بتأميمِ المرافق الأُخرى.