تشريح سياسة القوي
تعتمد شهرة ماكيافيلي السيئة، اعتمادًا كليًّا تقريبًا، على كتاب واحد هو «الأمير» الذي كتبه في سنة ١٥١٣م، ولكنه لم ينشر إلا في سنة ١٥٣٢م بعد وفاة مؤلفه بخمسة أعوام. ما من كتابٍ يمكن أن ينفصل عن العصر الذي كتب فيه، هذه حقيقة لا يمكن توضيحها توضيحًا مناسبًا بأكثر مما يوضحها كتاب «الأمير». ومع ذلك، فهو ككل كتاب عظيم، يضم دروسًا لجميع العصور.
من الصعب اكتشاف أية عاطفة في طبيعة ماكيافيلي فيما يختصُّ بالشئون العامة، ولكنه كان يحسُّ بتأثُّرٍ عميقٍ تجاه أمرٍ واحد. كان وطنيًّا أصيلًا مع شوقٍ حماسيٍّ لأن يرى إيطاليا دولة قوية متحدة. وربما كان ملاحظًا باردًا وموسوسًا، ورجلًا ماجنًا صافي العقل، حتى ناقش الوحدة الإيطالية، ثم أوحى إليه بالحماس والفصاحة والحرارة والحيوية. وقد كانت حال إيطاليا في أوائل القرن السادس عشر في بؤس شديد يثير أشجان أي شخص وطني إلى درجة البكاء.
وفي تلك الأثناء كانت المعارك الخاصة والضغائن الشعبية والسرقات والقتل متفشية في البلاد وحاربت جمهورية جمهورية أخرى، كل منهما تغار من الأخرى، وعجزت الجمهوريات تمامًا عن تكوين جبهة عامة في مواجهة الأعداء الأجانب. ولما كانت الكنيسة في أسوأ فترة في تاريخها، وتخشى قيام منافس لقوتها الدنيوية، فإنها فضلت التفرق على الاتحاد لإيطاليا.
ربما أدرك ماكيافيلي الخطر الذي يهدِّد إيطاليا، أدركه بوضوح أكثر مما أدركه أي رجل آخر في عصره. كان يفكر في مقر تقاعده الإجباري، وفي الشرور التي نزلت بوطنه الحبيب، فاقتنع بأن الأمل الوحيد في الخلاص يكمن في وجود قائدٍ عظيم — قائد بالغ القوة والجرأة يفرض سيطرته على الدويلات الإيطالية ويدمجها في أمة واحدة قادرة على الدفاع عن نفسها وطرد الأجانب الممقوتين من البلاد. أين يمكن العثور على مثل هذا القائد؟ كان «الأمير» هو فكرة ماكيافيلي عن نوع القائد المطلوب، وصورة تفصيلية للطريق الذي يجب عليه أن يتبعه لتحقيق النجاح.
وإذا مارس سيزار ازدواج الشخصية والقسوة وعدم الثقة، نال النجاح الباهر، ولكنه كان نجاحًا مؤقتًا. كان ماكيافيلي وطنيًّا غيورًا يميل إلى النظام الجمهوري، ولكنه لما اختبر حال إيطاليا الثائرة والمؤسفة اقتنع بأن رجلًا مثل سيزار بورجيا هو القائد المثالي لإنهاء حالة الفوضى تلك.
وهكذا أوحَت إليه نظرته إلى أمةٍ موحدة، بالحماس الوطني. وإذ كان عالمًا باحتياجات الساعة الحرجة وواعيًا للفرصة الذهبية الماثلة أمام الحاكم الجديد، وجه كل نشاطه وحماسه إلى تأليف «الأمير» فكتبه في الشهور الستة الأخيرة من عام ١٥١٣م، وبعد ذلك بوقتٍ ما، قدَّمه إلى بلاط لورنزو مع إهداء المؤلف: «لما رأيت أنه ليس في المقدور تقديمُ هديةٍ أفضل من إسداء فرصة الفهم في أقصر وقت، فإنني أقدِّم كل ما تعلمته في تلك السنين العديدة وسط الكثير من المتاعب والأخطار.»
الهدف الأساسي من «الأمير» هو أن صالح الدولة يحقق كل شيء. وهناك عدة مستويات مختلفة من الأخلاق في الحياة العامة والحياة الخاصة، إذن فمن اللائق بالسياسي، تبعًا لهذا المذهب، أن يقوم من أجل صالح الشعب بأعمال العنف والخداع التي تستحق اللوم وتوصف بالإجرام في المعاملات الخاصة؛ ولذلك فصل ماكيافيلي الأخلاق عن السياسة.
«الأمير» كتاب مرشد للأمراء (أو كما قال البعض إنه كتاب ضروري للطغاة) ليعلمهم كيف يحصلون على السلطة ويحتفظون بها — سلطة ليست لصالح الحاكم وإنما هي لخير الشعب كي يزودهم بحكومة مستقرةٍ آمنة من الثورة والغزو. فبأية وسائل يمكن الحصول على الاستقرار والأمان؟
وبغض النظر، قليلًا، عن الملكيات الوراثية لافتراض أن للحاكم سداد رأي وذكاء عاديين، فيمكنه الاحتفاظ بالسيطرة على الحكومة، ومن جهة أخرى، فإن مشكلة الملكية الجديدة مشكلة معقدة. فإذا كانت الأراضي المهزومة حديثًا من نفس جنسية ولغة الدولة الغالبة فالحكم سهل نسبيًّا، وخصوصًا إذا اتُّبع مبدآن: «أحدهما استئصال دم سلسلة نسب الأمراء السابقين، والثاني عدم إحداث أي تغيير في القوانين أو في الضرائب».
«أما إذا احتلَّت الأمم دولةً تختلف لغتها وعاداتها وقوانينها عن لغة وعادات وقوانين الأمم المضمومة، فالصعوبات تتضاعف ويقتضي التغلُّب عليها حظًّا وإدارة عظيمين.» ويستطرد ماكيافيلي قائلًا إن من الوسائل الممكنة للسيطرة عليها، أن يذهب الحاكم ويسكن شخصيًّا في المنطقة المحتلة، ويُرسل إليها مراكز استعمار (أقل نفقات من الاحتفاظ بجيوش الاحتلال)، وأن يصادق الجيران الأضعف، ويحاول إضعاف الجيران الأقوى. وعندما أهمل لويس الثاني عشر هذه القواعد الأساسية مُني بالهزيمة والخسائر في غزواته.
وفيما يختص «بكيفية حكم الأقسام الإدارية»، يقدم ماكيافيلي ثلاث طرق يمكن بها السيطرة على دويلةٍ اعتادَت «أن تعيش بحسب قوانينها وفي حرية؛ الأولى تدميرها، والثانية الذهاب إليها والإقامة فيها شخصيًّا، والثالثة قبول أن تعيش تبعًا لقوانينها وإرغامها على دفع الجزية، وأن يعهد بحكومتها إلى فئة قليلة من سكانها يمكنهم المحافظة على صداقة الباقين لك.» وأكثر هذه الاختبارات أمنًا هي الطريقتان الأوليان.
ورغم هذا، فإذا اعتادت مدينة أو محافظة احتلَّت حديثًا أن تعيش تحت حكم أمير استؤصلت ذريته، فمن المستحيل على المواطنين الذين تعوَّدوا أولًا أن يطيعوا، وثانيًا جردوا من حاكمهم القديم، أن يوافقوا على اختيار حاكم من بينهم. وبما أنهم لا يعرفون كيف يعيشون أحرارًا، يبطئون في التسلح، وهكذا فمن السهل على شخص أجنبي أن يطويهم تحت سلطانه ويضمهم إلى صالحه.
وإذا ناقش ماكيافيلي، بعد ذلك «الإمارات الجديدة»، فإنه حذر يقول: «يجب أن يوضع نصب العين أن طباع الجماهير متقلبة، وبينما يكون من السهل إغراؤهم على قبول شيء، فإنه يصعب جعلهم يثبتون على ذلك الإغراء؛ لذلك يجب تنظيم الأمور هكذا. إذا لم يؤمن الناس طوعًا، وجب إجبارهم على الإيمان بالقوة.»
بعد ذلك يشرع المؤلف في تقريظ وتمجيد حياة سيزار بورجيا على أنه القائد القوي الفذ البأس، معتذرًا عن الغدر والاغتيال.
«عندما أتذكر جميع أعمال الدوق، لا أعرف كيف ألومه، ولكن، بدلًا من ذلك، يبدو لي … أنه يجب عليَّ أن أقدمه نموذجًا يحاكيه جميع من يرفعهم الحظ أو تسمو بهم أهداف غيرهم إلى منصب الحكم؛ لأنه، إذا كان ذا روحٍ عالية وطموح بعيد المدى، ما كان لينظم سلوكه بطريقة أخرى … ولذلك يجب على من يعتبر أنه من الضروري له أن يثبت نفسه في دويلته الجديدة، أن يعمل على كسب الأصدقاء، وأن يتغلَّب إما بالقوة وإما بالغش، وأن يجعل نفسه محبوبًا ومرهوبًا من الناس، وأن يجعل الجنود يسيرون وراءه ويحترمونه، ويستأصل شأفة كل من كان ذا قوةٍ أو عقلٍ يمكِّنانه من إلحاق الأذى به، وأن يغير النظام القديم بأنظمةٍ جديدة، وأن يكون قاسيًا وخيِّرًا وسامي العقل وحرًّا، ويحطم العسكرية غير الوفية، ويخلق عسكرية جديدة، ويحافظ على صداقة الملوك والأمراء بطريقةٍ تحتم عليهم مساعدته في حماس، والإساءة مع الحذر، ولا يمكنهم أن يجدوا مثالًا أكثر حيويةً من أعمال هذا الرجل.»
أما من اغتصب دويلة، «فيجب عليه الإسراع بإنزال الأضرار التي يجب عليه إنزالها بضربةٍ واحدة، لئلا يضطر إلى تجديدِها يوميًّا، وإنما يتمكَّن بعدم استمرارها من طمأنة عقول الناس، وبعد ذلك يكسبهم إلى جانبه بالمنافع … يجب منحُ المنافع قليلًا قليلًا حتى يمكن التمتع بها كاملة.»
ليس خوف العقاب إلا إحدى الوسائل التي يستعملها الملك الحكيم في حكم رعاياه.
من الضروري للأمير أن يكونَ على صلة صداقةٍ بشعبه، وإلا لما وجد أي مصدرٍ للمساعدة في وقت الشدة … ولا يذكرن لي أحدٌ المثل القديم: «من يبن على الشعب يبن على الرمال.» لأن هذا المثل ينطبق على المواطن الخاص الذي يعتمد على مصالحه مع الشعب ويعمل حسابه على أن ينصروه إذا هزمه أعداؤه أو الحكام. أما الأمير الجريء القادر على الأمر، والذي يعرف كيف يحافظ على النظام في دويلته، فلن يندم قط على تأسيسه أمنه على محبة الشعب.
وفي تناوله للإمارات الكنسية، أي التي تحت حكم الكنيسة مباشرة، خصها ببعض من أكثر ملاحظاته إيذاءً وتهكمًا.
تنال هذه الإمارات بالأحقية أو بحسن الحظ ويحتفظ بها بدون أي واحدٍ منهما، ويُسيطر عليها بأوامر دينية محترمة، كلها من النوع والأثر اللذَيْن يضمنان سلطة أمرائهما بأية طريقةٍ يعملون أو يعيشون بها. إن هؤلاء الأمراء وحدهم لهم دويلات لا يُدافعون عنها ورعايا لا يحكمونهم.
يتهم ماكيافيلي الكنيسة هنا وفي كل موضعٍ مما كتبه في بداية القرن السادس عشر؛ بأنها لم توحد إيطاليا ضد الأجنبي كان يريد فصل الكنيسة تمامًا عن الحكومة.
ولما كانت الحكومة القوية تحتاج إلى جيشٍ عظيم فقد اعتبر ماكيافيلي الشئون الحربية على أقصى ما يكون من الأهمية، وخصَّص مساحةً واسعة لهذا الموضوع. وقد اعتادَت معظم الدويلات الإيطالية في عصره أن تستخدم الجنود المرتزقة، ومعظمهم من الأجانب، للدفاع عنها. فقرر ماكيافيلي أن مثل هذه القوات «عديمة النفع وخطرة» وأن الجيش القومي المكون من المواطنين أكثر فاعلية ويعتمد عليه أكثر من المرتزقة. ولما كان البقاء القومي يتوقَّف على قوة الجيش، وجب على الأمير الحاكم أن يعتبر الأمور العسكرية المادة الأولى لسياسته وشغله الشاغل.
كرس ماكيافيلي عدة أبواب من مؤلَّفه لسلوك الأمراء — سلوكهم الخاص في مختلف الظروف.
هناك اختلافٌ كبيرٌ بين الطريقة التي يعيش بها الناس والطريقة التي يجب أن يعيشوا بها. ومن الضروري للأمير الذي يريد المحافظة على مركزه أن يتعلَّم كيف يتَّصف بشيءٍ آخر غير الطيبة، وأن يستعمل طيبته أو لا يستعملها حسب مقتضيات الأحوال … يعترف كل من أعرفه بأنه يجدر بالأمير أن يكون موهوبًا جميع الصفات المعتبرة حميدة، ولكن بما أنه من المستحيل أن يتصف بكل هذه الصفات جميعًا … يجب عليه أن يكون حاذقًا بما فيه الكفاية بحيث يعرف كيف يتحاشى مثالب تلك الرذائل التي يمكن أن تجرِّده من الحكم.
يجب على الأمير ألَّا يهتم بأن يشيع عنه البخل وهو ينفق ما يخصه وما يخص رعاياه أو ما يخصُّ الآخرين … يجب أن تنفق بسخاء مما لا يخصك أو يخص رعاياك … لأن حرية التصرُّف في ملكية الغير (التي يحصل عليها بالغزو) لا تنقص من سمعتك بل تزيدها؛ وأن ما يضرُّك هو أن تنفق مما يخصك. وما من صفة مدمرة مثل حرية الإنفاق. فعندما تمارسها تفقد الوسيلة التي تمارسها بها وتصير فقيرًا محتقرًا، وإلا فلكي تتحاشى الفقر تغدو جشعًا وممقوتًا.
يجب أن يعتبر الأمير القسوة إحدى وسائل الاحتفاظ باتحاد الرعايا وطاعتهم «لأن من يقمع الفتن ببضعة إجراءاتٍ فوريةٍ يكن في النهاية أكثرَ رحمة ممن تبلغ به الطيبة أن يترك الأمور تجري في أعنَّتها، فينتج عن ذلك الاغتصاب وسفك الدماء؛ لأن هذه تُفسد الدولة، كما تفسد القسوة الأفراد.»
يقول ماكيافيلي في فقرة شهيرة:
«من هنا ينشأ هذا السؤال: هل الأفضل أن يحب المرء أكثر مما يخاف، أو يخاف أفضل مما يحب؟ قد تكون الإجابة أننا نرغب في كليهما، ولكن بما أن الحب والخوف قلَّما يجتمعان معًا، فإذا وجب علينا أن نختار بينهما، فمن الأكثر أمنًا أن نُخاف أفضل من أن نُحب؛ إذ نؤكد عمومًا أن الناس ناكرون للجميل ومتقلِّبون وخائنون ويعملون كل ما في طاقتهم لتجنُّب الخطر، وجشعون يتكالبون على الربح، يقفون إلى جانبك طالما كان في وسعك أن تُغدق عليهم المنافع، وعلى استعدادٍ للتضحية بدمائهم إذا كان الخطر بعيدًا كما يضحون بممتلكاتهم وحياتهم وأولادهم من أجلك، حتى إذا ما جاء وقت الجد أداروا لك ظهورهم.»
هذه سخريةٌ بحتة، ولو أن ماكيافيلي يستنتج تقديره للمحبة في مقابلة الخوف، فينصح الأمير بأن «يعمل قصارى جهده لتحاشي الكراهية.»
ما من قسمٍ من كتاب «الأمير» أُدين واحتُقر أكثر من الباب الثامن عشر؛ «كيف يحتفظ الأمراء بالثقة؟». وتنصبُّ مساوئ استخدام المصطلح «ماكيافيلية» على هذا القسم أكثر مما تنصبُّ على بقية الكتاب كله. ويوافق المؤلف على أن المحافظة على الثقة جديرةٌ بالثناء. أما الخداع والنفاق وشهادة الزور فضروريةٌ ومغتفرةٌ من أجل الاحتفاظ بالقوة السياسية.
هناك طريقتان للنضال؛ إحداهما بحسب القوانين، والأخرى باستخدام القوة. الأولى مناسبة للبشر، والثانية للوحوش، ولكن بما أن الطريقة الأولى كثيرًا ما تكون غير فعَّالة، فيقتضي الأمر الالتجاء إلى الثانية. وعلى الأمير أن يفهم جيدًا كيف يستعمل كلتا الطريقتين؛ طريقة البشر وطريقة الوحوش … ولكن بما أنه يجب عليه أيضًا أن يعرف كيف يستخدم طبيعة الوحوش في حكمة، ينبغي له أن يختار من بين الوحوش الأسد والثعلب؛ لأن الأسد لا يستطيع أن يحمي نفسه من الشراك، والثعلب لا يمكنه حماية نفسه من الذئاب … وأن أكثر الأمراء حزمًا، لا يمكنه ولا ينبغي له أن يحافظ على كلامه، عندما يكون في المحافظة عليه ضررٌ له عندما تزول الأسباب التي ألجأته إلى الوعد. ليست هذه مشورة طيبة عندما يكون جميع الناس من الأخيار، ولكن بما أنهم خائنون ولا يثقون بك، وجب عليك، أنت بدورك، ألَّا تثق بهم وما من أميرٍ حار في التفكير في أعذارٍ مقبولة لتغطية عدم التمسُّك بوعده … غير أن الناس يَظَلون ساذجين ومحكومين باحتياجاتهم الحالية، حتى إن من يرغب في خداعهم لا يخفق في العثور على «مغفلين» راغبين … وهكذا من الخير التظاهر بالرحمة والثقة والإنسانية والتقوى والاستقامة، وتكون هكذا أيضًا، ولكن يجب أن يبقى العقل متزنًا حتى إذا اقتضى الأمر صار في مقدورك وتعرف كيف تتحوَّل إلى العكس بسرعة … يرى كل شخص ما تظهر عليه، ويعرف القليلون ما أنت عليه.
نصح ماكيافيلي بأنه من الضروري للأمير أن يتحاشى كراهية شعبه احتقارهم له. والطريقتان الرئيسيتان اللتان تسببان كراهية الناس له هما: نهب أموال الشعب، والتدخُّل في ممتلكات رعاياه ونسائهم … ويحتقر الأمير إذا رُؤِي متقلبًا أو متهورًا أو مخنثًا أو جادًّا أو مترددًا. وزيادة على ذلك، يجب على الحكام أن يشهروا أنفسهم بتوزيع الهدايا بأنفسهم، ويتركوا لرؤساء الأقسام مسئولية توقيع العقاب، وعلى العموم يتركون لهم أيضًا حرية التصرُّف العام في كل ما يُثير الحنق وعدم الرضا … لا تستطيع حتى أمنع الحصون أن تحمي الأمير إذا كرهه الشعب.
أكد ماكيافيلي عند إسداء التعليمات للأمير في «كيفية سلوكه»، على أنه …
يجب على الأمير أن يبدو رئيسًا قديرًا، وأن يكرم كل من تفوَّق في أي فن؛ لذلك ينبغي له أن يشجِّع رعاياه ويمكنهم من مزاولة مهنهم، سواء أكانت تجاريةً أم زراعيةً أم غير ذلك، في اطمئنان، حتى إن ذلك الرجل لا يمنع من تجميل ممتلكاته خوفًا من أن تُؤخذ منه وألَّا يحجم آخر عن افتتاح محلٍّ تجاري خوفًا من الضرائب.
أعجب ماكيافيلي كثيرًا بذكريات روما القديمة وخصوصًا النصيحة المسداة إلى الأمير: «يجب عليه في المواسم المناسبة من السنة، أن يبهج الشعب بالحفلات والعروض.»
كان ماكيافيلي شديد الإيمان بالحظ والمصير، وربما كان ذلك وليد التفكير في اعتقاد أهل عصره في «التنجيم»، فكتب يقول: «أظن الحال هكذا، أن ربة الحظ سيدةُ نصفِ أعمالنا، وتترك لنا، نحن أنفسنا، تدبير النصف الآخر أو أقل من النصف قليلًا.» كانت وجهة نظره معتدلة الخطر؛ إذ كان يعتقد أن بوسع الإنسان أن يسيطر، بعض الشيء، على مصيره، وأنه «من الأفضل أن يكون جسورًا، من أن يكون حذرًا؛ فالحظ امرأة، يجب عليك، لكي تخضعها، أن تضربها وتعاملها بخشونة، وترى أنها تقاسي رؤية نفسها محكومة تمامًا بواسطة من يعاملونها أكثر ممن يعتريهم الجبن عند الاتصال بها. ودائمًا، كامرأة، تؤثر الصغار لأنهم أقل تدقيقًا وأكثر قسوة، ويسيطرون عليها بجرأة أعظم.»
يختم كتاب «الأمير» بنصيحة لتحرير إيطاليا، إنها نداء رنَّان للوطنية. حان الوقت لأمير جديد بطل إيطالي ما، أن يتقدم لإيطاليا في «حالة انحطاطها الراهن» الأكثر عبودية من العبرية، والأكثر معاناة للظلم من الفارسية، والأكثر تفككًا من الأثينية، بغير قائد وبغير نظام، مهزومة ومنهوبة وممزقة، وطئت وتركت للدمار في شتى صوره … نراها كيف تتضرَّع إلى الله أن يرسل شخصًا ينقذها من هذه القسوة البربرية والظلم. كما نراها مستعدةً ومتلهفة إلى أن تتبع أي علم إذا كان هناك من يرفعه.
ويختم ماكيافيلي مرافعته البليغة بهذه الكلمات:
فرصة إيطاليا الأخيرة هي أنه يجب ألَّا يفوتها أن تتطلع إلى مخلصها. بأي محبة يستقبل (الأمير الجديد) في جميع المحافظات التي قاست من تدفق سيل الأجانب، وبأي تعطشٍ إلى الانتقام، وبأي وفاء ثابت وإخلاص، وبأية دموع تقصر ألفاظي عن التعبير عنها، وأية أبواب سوف تقفل وراءه؟ وأي ناس سيرفضون طاعته؟ وأي إيطالي لا يخضع له ويدين له بالولاء؟ يتعمق هذا الظلم البربري في كل خيشوم.
مضى أكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن قبل أن يتحقق حلم ماكيافيلي لتوحيد إيطاليا ورؤيتها متخلصة من الفساد والسيطرة الأجنبيين.
ومن ناحية أخرى، أوضح المحللون المدققون للأحداث التاريخية أن الطغاة، أمثال هتلر وموسوليني، لقوا عمومًا نهاية مؤسفة لأنهم أهملوا أو أساءوا تفسير بعض المبادئ الأساسية التي صاغها ماكيافيلي.
اتفق دارسو مذهب ماكيافيلي على أنه لا يمكن فَهْم آرائه فهمًا تامًّا إلا بقراءة كلٍّ من كتابَيْه «المحادثات» و«الأمير»؛ فكتاب «المحادثات» الذي استغرق في تأليفه أكثر من خمس سنين، ونشر لأول مرةٍ في نفس السنة التي نشر فيها «الأمير»، مؤلف أضخم كثيرًا من «الأمير». والفرق بينهما، كما اقترح البعض، هو أن «المحادثات» يتناول «ما يجب أن يكون»، بينما يتناول «الأمير»، «ما هو». يختص «الأمير» كلية بالإمارات، أي بالدول أو الدويلات التي يحكمها ملك واحد، بينما يختص «المحادثات» بالمبادئ التي يجب أن تتبعها الجمهوريات.
يخرج المرء من القراءة المقارنة لهذين الكتابين بهذه النتيجة المذهلة، وهي أن ماكيافيلي كان جمهوريًّا مقتنعًا بمبدأ الجمهورية. لم يحب الاستبداد، ويعتبر أن الحكومة المختلطة المكونة من الحكومتين الشعبية والملكية هي أفضل الحكومات. وما من حاكمٍ نَعِم بالأمان بغير محبة شعبه. وأشد الحكومات رسوخًا هي التي يحكمها أمراء تقيدهم حدود دستورية. فحكم الشعب سديد في نظر ماكيافيلي، كما يلاحظ في مهاجمته للمثل القديم: «من يَبنِ على الشعب يَبنِ على الرمال.» وكانت حكومته المثالية هي الحكومة الرومانية القديمة، وكان يشير إليها دائمًا في كتابه «المحادثات».
إذن، فلماذا، وقد فضل ماكيافيلي الحكومة الجمهورية على كل ما عداها للشعب الحر، لماذا أنتج كتاب «الأمير»؟ ألَّف ماكيافيلي هذا الكتاب لعصرٍ بعينه، ولمجموعةٍ معينة من الظروف. ولا شك في أنه أدرك أنه يستحيل إقامة جمهورية ناجحة في إيطاليا في القرن السادس عشر. وضع كتاب «الأمير» خِصِّيصى لغرض الحصول على مساعدة الناس الأقوياء لتخليص الشعب الإيطالي من تعسفهم، وتخليص الدولة من الفساد السياسي. فإذا واجهت إيطاليا أزمةً حادة لم تلجأ إلى الأسلحة من أجل خلاصها.
من الحقائق التي قلَّما تقبل الجدل، أنه ما من رجل قبل كارل ماركس كان ذا تأثير ثوري على الفكر السياسي مثل ماكيافيلي. إن له حقًّا شرعيًّا في لقب «مؤسس علم السياسة».