الفصل الحادي عشر
الانقلاب السماوي: نيقولاوس كوبرنيكوس١
انقلاب في الأفلاك السماوية
منذ العصور البدائية والإنسان يدهش لمنظر الأجسام السماوية؛
الشمس والقمر والكواكب والنجوم وحركاتها الدائبة. ولم يكن شروق
الشمس وغروبها، وتزايد رقعة القمر وتناقصها، وتعاقب الفصول وتقدم
الكواكب وتأخرها، لم تكن هذه كلها حقائق ملحوظة؛ بل كانت لها أمور
عديدة تؤثر عل البشر وعلى حياتهم اليومية. إذن فليس من الغريب أن
تنشأ حول الظواهر السماوية أعدادٌ ضخمة من الأساطير
والديانات.
وبتقدم الحضارة حاول الفلاسفة تفسير حركة الأجسام السماوية
بمصطلحات معقولة. وأكثر قدامى العلماء والمفكرين تقدمًا فيما يختص
بأمور علم الفلك؛ هم الأغارقة ابتداءً من فيثاغورث Pythagoras في القرن الخامس،
وأريسطو Aristotle في القرن
الرابع قبل الميلاد. وكان كلاوديوس بطليموس Claudius Ptolomy المصري الذي كان يعيش في
الإسكندرية، بتنظيم وتبويب الدراسة الكلاسيكية الخاصة به وبالعصور
السابقة في مجموعة من النظريات السهلة الفهم. فوضع النظام
البطليموسي الذي أطلق عليه «الأعظم Almagest» والذي سيطر على عقول الناس لمدة حوالي
١٥٠٠ سنة، واعتبره العالم الفكرة الحقيقية عن الكون.
بُنيت نظرية بطليموس على فكرة أن الأرض كتلة ثابتة خاملة عديمة
الحركة، تقع في وسط الكون وتدور حولها جميع الأجرام السماوية ومنها
الشمس والنجوم الثابتة. كان الاعتقاد السائد آنذاك هو أن الأرض
مركز مجموعةٍ من الكرات شدَّت إليها الكواكب شدًّا وثيقًا. أما
النجوم فكانت مشدودةً إلى كرةٍ أخرى خارج هذه المجموعة، ويدور
الجميع دورةً واحدة كل أربع وعشرين ساعة. فسرت هذه الأفكار المعقدة
عن الكواكب، بالدوران حول محيط دائرة عظمى، بينما تدور كرات
الكواكب في الاتجاه المضاد لدائرة النجوم، إلا أن هناك قوةً أعظم
تجذبها. واعتبر زحل أبعد الكواكب عنَّا وأقربها إلى فضاء النجوم؛
ولذا يستغرق مدةً أطول لإتمام دورته، ولما كان القمر أقرب الكواكب
إلى المركز، فإنه يتم دورته في أقصر وقت، ويصف روزين Rosen الفكرة البطليموسية في هذه
العبارات:
«يقول المذهب المتوارث إن الكواكب التي تدور نحو الشرق في معظم
الأوقات، تبطئ في دورانها بين وقتٍ وآخر حتى تقف تمامًا، ثم تعكس
اتجاه دورانها مرة أخرى، وتستأنف رحلتها نحو الشرق، وتكرر دورات
التغير بصفة لا نهائية.»
وهكذا كان الكون، حسب نظريته، فضاء مغلقًا يحدُّه غلاف كروي. ولم
يكن هناك شيءٌ بعد ذلك الكون.
ساعد عاملان على القبول العام لنظريات بطليموس، كلاهما من تفكير
الطبيعة البشرية؛ فأولًا: اعتمد هذا النظام على المظاهر الطبيعية،
اعتمد على الأشياء كما يراها أيُّ شخصٍ بنظرة عابرة. وثانيًا:
أشبعت هذه فضول الإنسان، فما أمتع أن يعتقد المرء أن الأرض مركز
الكون، وأن الكواكب والنجوم تدور حولها، فيبدو أن الكون كله مصنوعٌ
من أجل الإنسان.
بقي هذا النظام الجميل سليمًا في أساسه حتى مجيء العصر العظيم؛
عصر اليقظة الذهبية في أوروبا المسمى بالنهضة. وكان تحطيم ذلك
النظام من عمل «نيقولاوس كوبرنيكوس» الكاهن والمصور والشاعر
والطبيب، وهو واحد من «الرجال العالميين»، اشتهرت من أجله
النهضة.
كانت فترة السبعين سنة لحياة كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣) من أعظم
الفترات إثارة ومغامرة في تاريخ أوروبا؛ ففيها اكتشف كولمبوس قارات
جديدة، وفيها أبحر ماجلان حول الأرض، وقام فاسكو دي جاما بأولى
الرحلات البحرية إلى الهند. وأعلن مارتن لوثر Martin Luther إصلاحه
البروتستانتي وخلق ميشيل
أنجلو Michelangelo عالمًا جديدًا من الفن، ووضع باراكلسوس Paracelsus وفيساليوس Vesalius أساس التطبيب الحديث،
وازدهر ليوناردو
دافنشي Leonardo da Vinci «ذلك النابغة العالمي العظيم» كمصور
ونحاتٍ ومهندس ومعماري وعالم طبيعي وأستاذ في علم الأحياء وفيلسوف.
يا له من عصرٍ مواتٍ لذهن ألمعيٍّ آخر هو كوبرنيكوس ليقدم للعالم
نظامًا جديدًا للكون.
وُلد نيقولاوس كوبرنيكوس على شاطئ نهر الفستولا Vistula ببلدة تورون Torun في بولندة، وهي بلدة تابعة
لرابطة
التجارة Hanseatic League، وكان عمه لوكاس واتزلرود Lucas Watzelrode، الذي صار فيما
بعد أسقفًا حاكمًا لمقاطعة إرميلاند Ermeland، ذا تأثيرٍ كبير في مستقبل حياته
الأولى، بدا تعليم نيقولاوس طويلًا ومتنوعًا بالمدرسة الإعدادية في
تورون، ثم في سنة ١٤٩١م بجامعة كراكاو Krakow. ذهب إلى هذا المعهد بناءً على شهرته
كأحد المراكز الأوروبية الأولى للرياضيات والفلك. وبعد ذلك بخمس
سنوات، سافر إلى إيطاليا ليكمل دراسته في بولونيا Bologna في جامعة من أقدم وأشهر
الجامعات الأوروبية. فشغلت دراسة القانون الكنسي والفلك وقته. ثم
أمضى سنةً في روما يُلقي المحاضرات في الرياضيات وعلم الفلك، ومكث
حوالي خمس سنواتٍ في بادوا Padua
وفيرارا Ferrara يدرس الطب
وقانون الكنيسة، وبذا أتمَّ منهجه العلمي وتسلم الدكتوراه في
القانون الكنسي من فيرارا سنة ١٥٠٣.
عُين كوبرنيكوس، بوساطة عمه، رئيسًا قانونيًّا في كنيسة
فرونبورج Frauenburg حيث قضى
السبع والثلاثين سنة الباقية من عمره بعد عودته من إيطاليا في سنة
١٥٠٦.
كانت واجبات كوبرنيكوس الكنسية متعددة النواحي فقام بدور طبيٍّ
فعَّال بين زملائه بالكنيسة، وكذلك للشعب، وساعد في الدفاع عن
مدينته في الحرب بين البولنديين والبروسيين والفرسان التيوتونيك Teutonic واشترك في مؤتمر
الصلح الذي تبع ذلك، وقدم مشورته لإصلاح سك النقود والأوراق
النقدية وأشرف على الأجزاء النائية من الدوقية. ولكي يرفه عن نفسه
قام بالتصوير، وترجم الشعر الإغريقي إلى اللغة اللاتينية.
كان علم الفلك وقتئذٍ أحد الأنشطة الكثيرة التي مارسها كوبرنيكوس
المتعدد الميول والمعلومات، ولكنه صار تدريجيًّا متعته الأولى بعد
أن طوَّر آراءه عن الظواهر الفلكية — تلك الآراء التي من الجلي
أنها جاءته منذ زمن مبكرٍ في حياته، وقواها عنده دراسته في كراكاو
وفي إيطاليا — فقام بأبحاثه منفردًا في هدوء دون مساعدة أو استشارة
أحد. اتخذ لنفسه مرصدًا من سور واقٍ مبنيٍّ حول الكنيسة.
كانت الأدوات الفلكية التي استطاع كوبرنيكوس الحصول عليها بدائية
وغير دقيقة، باشر عمله ذاك قبل اختراع التلسكوب بحوالي قرن،
فاستخدم لأغراض القياسات مزولة وجهاز ربعية (عبارة عن قطعةٍ خشبيةٍ
ذات ثلاثة جوانب) صنعه بنفسه لقياس زوايا ارتفاع النجوم والكواكب،
كما اتخذ أسطرلابًا من كرةٍ داخل حلقة عمودية وأخرى أفقية. وعلاوة
على ذلك، كان الجو غير ملائمٍ للأرصاد الفلكية؛ فمجاورته لبحر
البلطيق والأنهار الموجودة هناك أحدثت الضباب والسحب وكانت الأيام
والليالي الكاملة الصحو نادرةً. ورغم هذا، ظل كوبرنيكوس يعمل في كل
فرصةٍ ممكنة، سنة بعد أخرى، في حساباته الفلكية.
كانت النظرية الثورية التي حاول كوبرنيكوس إثبات صحتها أو خطئها؛
مناقضة تمامًا للنظام البطليموسي الذي ظل مدة طويلة يحظى بالاحترام
والتقدير. كانت تلك النظرية، باختصار، هي أن الأرض ليست ثابتة
وإنما تدور حول محورها مرة في كل ٢٤ ساعة، وتدور حول الشمس مرة كل
سنة. كانت تلك الفكرة غريبة على القرن السادس عشر حتى إن كوبرنيكوس
لم يجرؤ على تقديمها إلا بعد اقتناعه تمامًا بأن لديه من المعلومات
ما لا يمكن دحضه؛ ومن ثم مضت ثلاثون سنة قبل إظهار نظرية كوبرنيكوس
إلى العالم.
والواقع أن بعض قدامى الفلكيين الإغريق اقترحوا أن عالمنا قد
يكون عالمًا مركزه الشمس بدلًا من أن تكون الأرض مركز الكون.
فمثلًا علل أريستارخوس Aristarchus (كوبرنيكوس القديم) في القرن الثالث
قبل الميلاد، شروق الشمس وغروبها، بضرورة دوران الأرض حول محورها.
غير أن هذا الفرض وأشباهه من فروض الفلكيين الآخرين ذوي الآراء
المماثلة، قد نبذها أريسطو وبطليموس من أجل نظرية الكون الذي مركزه
الأرض. وقد عرف كوبرنيكوس هذه النظريات المبكرة من قراءته للأدب
الكلاسيكي، وربما أوحت إليه بإعادة فحص هذه المسألة، واعتقد
كوبرنيكوس أن أريستارخوس، الذي عاش قبله بمدة ١٨٠٠ سنة، قدَّم
تفسيرًا لحركات الأجسام السماوية أبسط كثيرًا مما في النظام
البطليموسي المعقد.
ربما كتب كوبرنيكوس شرحًا عامًّا موجزًا لنظريته الجديدة في عصر
مبكر قد يرجع إلى عام ١٥١٠م، وإذ كان عنوان ذلك المقال هو
«التعليق
الصغير Commentariolus»، فلم ينشر إبَّان حياته، غير أن عددًا من
النسخ الخطية تداوله طلبة علم الفلك ولا تزال لدينا نسختان
خطيَّتان، على الأقل، باقيتين إلى الآن. وأشار كوبرنيكوس في
«التعليق الصغير» إلى أنه بدأ أبحاثه لما بدا له نظريات بطليموس عن
الكون معقدة جدًّا وغير معقولةٍ على الإطلاق، ولم تقدِّم تفسيرًا
مقبولًا للظواهر السماوية، والنتيجة الرئيسية التي توصل إليها
كوبرنيكوس تقول: ليست الأرض مركز المجموعة الشمسية، ولكنها فقط
مركز مدار القمر، وأن جميع الكواكب تدور حول الشمس. وقد كان ذلك
«التعليق الصغير» مرحلة واضحة في تطور آراء ذلك الفلكي
العظيم.
من المعلوم تمامًا، أن أروع مؤلف لكوبرنيكوس، وهو الذي ظل يعمل
فيه جاهدًا مدة ثلاثين سنة، ما كان له أن يصل إلى المطبعة وبالتالي
يُفقد، لولا جهود عالم ألماني شاب؛ ففي صيف عام ١٥٣٩م جاء إلى
فراونبورج لزيارة كوبرنيكوس أستاذ للرياضيات من جامعة وتنبرج،
ويبلغ من العمر خمسًا وعشرين سنة، واسمه جورج يواقيم
رتيكوس George Joachim Rheticus فإذ جذبته شهرة كوبرنيكوس المطردة النمو،
جاء ليتحقق أولًا من القدر الحقيقي لسمعته. كان يتوقع البقاء معه
لبضعة أسابيع فحسب، ولكن كوبرنيكوس رحَّب به ترحيبًا حارًّا جعله
يمكث معه أكثر من سنتين. اقتنع رتيكوس بأن مضيفه نابغة من الطراز
الأول. ظل يدرس مخطوطات كوبرنيكوس لمدة ثلاثة أشهر، وناقشها مع
مؤلفها. ثم كتب رتيكوس تقريرًا عن آراء كوبرنيكوس وأرسله في صورة
خطابٍ إلى أستاذه السابق يوحنا
سكونر Johann Schöner في نورمبرج Nuremberg فطبع ذلك الخطاب في دانزج Danzig سنة ١٥٤٠م باسم «التقرير الأول Narratio Prema». كان ذلك
«التقرير الأول» لكاتبه رتيكوس أولَ حقيقةٍ نُشرت عن نظريات العالم
الفلكي البولندي التي هزت العالم. والواقع أن ذلك الكتيب تناول
بالتفصيل جزءًا فقط من نظرية كوبرنيكوس، وهو الجزء الخاص بحركات
الأرض، وتوقع رتيكوس أن يتبع تقريره الأول بتقارير أخرى، إلا أنه
لم تكن ثمة حاجة إطلاقًا إلى هذه التقارير، وأبدى إعجابه الذي كاد
يبلغ حد التملق بالثناء الحار الذي أضفاه طوال نصوص ذلك المقال على
«سيده الدكتور».
إلى هذا الحد تردد كوبرنيكوس تمامًا في نشر مؤلفه الكامل. كان من
عادته الوصول بأبحاثه إلى درجة الكمال. وشعر بضرورة التأكد وإعادة
التأكد من كل ملاحظة. وتمدُّنا النسخة الخطية الأصلية التي اكتشفت
في براغ Prague في منتصف القرن
التاسع عشر بعد ضياعها مدة ثلاثمائة عام، تمدنا بدليل على ست
مراجعات مفصلة، وبالإضافة إلى هذه الترددات، قد يكون كوبرنيكوس قد
عاقه عدم موافقة الكنيسة القوى، وجعل الإصلاح البروتستانتي والنضوج
للنهضة، الدوائر الدينية تشك في نظرية دوران الأرض، كما تشك في أية
آراء تسبب الابتعاد عن التعاليم الأصلية. ولما كان كوبرنيكوس رجل
كنيسة مؤمنًا، فلم يرضَ القيام بدور الهرطوقي أو بدور
الشهيد.
وإذ قوبل «التقرير الأول» بالترحيب، وتوسَّل رتيكوس وغيره
وألحُّوا على كوبرنيكوس كي يسمح بالنشر الكامل، رضخ هذا أخيرًا
وعهد بالنسخة الخطية إلى رتيكوس ليحملها إلى نورمبرج ويشرف على
طباعتها، بيد أنه قبل أن يتم ذلك العمل عُيِّن رتيكوس أستاذًا
بجامعة ليبزيج Leipzig كاهنًا
لوثريًّا في تلك المدينة فعهد بدوره بتلك المسئولية إلى
أندرياس
أوسلاندر Andreas Oslander.
من الجلي أن القلق ساور أوسلاندر من أجل الآراء المتطرفة التي
كتبها كوبرنيكوس. فحذف مقدمة كوبرنيكوس للجزء الأول، بغير
استئذانٍ، واستبدلها بمقدمة من عنده دون أن يذكر اسمه، وإنما ذكر
فقط أن الكتاب يضم مجرد فروض تهم علماء الفلك، وأنه لم يكن من
الضروري أو حقيقيًّا أو محتملًا أن الأرض تدور، أو بمعنى آخر، أنه
لا يلزم أن يؤخذ ذلك الكتاب مأخذ الجد. لا شك في أن أوسلاندر كان
حسن النية في محاولته تحاشي النقد العدائي، وكما ذكر ميتسوا Mizwa: «ربما أن أوسلاندر قد أسدى،
عن غير قصد، خدمة جليلة لكوبرنيكوس، أعظم مما كان يُدرك، للمحافظة
على ذلك المؤلف الهام، وبسبب هذه المقدمة الزائفة والمثبطة للعزائم
والمكتوبة بمهارة كما لو كانت باسم المؤلف إلى قارئ نظريات ذلك
المؤلف، غفلت الكنيسة عن الأهمية الثورية لذلك «الانقلاب»، ولم
تُدرجه في القائمة حتى سنة ١٦١٦م.»
وقبل الانتهاء من الطباعة، أصيب كوبرنيكوس بصدمة شديدة. فيقول
مصدر موثوق به: في إحدى لحظات التاريخ الدرامية، قدم رسول إلى
فراونبرج يحمل من نورمبرج النسخة الأولى من أروع مؤلفات كوبرنيكوس،
ووضعها بين يديه قبل أن يلفظ آخر أنفاسه ببضع ساعاتٍ. كان ذلك في
الرابع والعشرين من مايو سنة ١٥٤٣م، وكان عنوان الكتاب «فيما
يختصُّ بانقلاب الكرات السماوية De Revolutionibus Orbium Coetestium» وكبقية المؤلفات
العلمية في ذلك الوقت، كان مكتوبًا باللغة اللاتينية.
أبدى كوبرنيكوس حكمة وحسن سياسة عندما أهدى ذلك المؤلَّف إلى
البابا بولس الثالث. ويتضح من أسلوب الإهداء أن كوبرنيكوس كان
يتوقَّع بعض الصعاب:
«يحقُّ لي أن أعتقد تمامًا، أيها الأب الكلي القداسة، أن بعض
الناس عندما يسمعون عن نسبتي الحركة للأرض، في كتبي هذه، سيقررون
على الفور وجوب نبذ مثل هذا الرأي. والآن لا تسرني كثيرًا نظرياتي،
أنا نفسي، فلا أهتم بحكم الآخرين عليها، وبناءً على هذا، عندما
بدأت أفكِّر في أولئك الأشخاص المؤمنين بثبات الأرض لأنه مدعمٌ
بآراء عدة قرون. وسيقولون عندما أقرر أن الأرض تتحرك، إنني ترددت
لمدة طويلة، هل أنشر ما كتبته للبرهنة على حركتها، أو أحذو حذو
أتباع فيثاغورث الذين دأبوا على الإفضاء بأسرارهم الفلسفية
لأقاربهم وأصدقائهم شفويًّا. وعندما تأمَّلت في هذا كثيرًا، كدت
أضع هذا العمل الكامل جانبًا بسبب الازدراء الذي يحقُّ لي أن
أتوقعه لكون نظريتي جديدةً وعلى نقيض ما يقبله العقل.
ومع ذلك، حثني أصدقائي على ترك ما اعتزمته، ونصحوني بأنه يجب
عليَّ أن أنشر كتابي القابع في حوزتي مختفيًا، ليس لتسع سنين فحسب،
بل ولأربعة أمثال هذه المدة. وطلب مني عدد غير قليل من الرجال
المبرزين في العلم أن أعمل نفس الشيء الذي نصحني به الآخرون،
وأخبروني بأنه ينبغي لي ألَّا أهتم بقلقي وألا أمنع مؤلَّفي عن
الظهور أكثر من ذلك، وإنما أنشره ليكون في خدمة علماء
الرياضة.
لا أشك في أن الماهرين والعلماء من الناس سيتفقون معي إذا رغبوا
تمامًا في فَهْم واستيعاب البراهين التي أقدمها في ذلك الكتاب
أمامنا. ومع ذلك، فلكي يعرف العلماء وغير العلماء أنني لا أهاب حكم
أي شخص، رأيت إهداء أعمالي الليلية هذه لقداستكم وليس لأي فرد آخر؛
لأنكم، حتى وأنتم في ركنكم القصي من الأرض، حيث أعيش أنا، معروفون
بأنكم أعظم المولعين بجميع فروع العلوم والرياضيات، وبذا يمكنكم عن
طريق مركزكم وحكمكم دحض لدغات الوشاة، رغم أن المثل يقول إنه لا
علاج ضد لدغة الواشي. وقد يحدث أيضًا أن يدَّعي بعض الثرثارين
الذين يجهلون الرياضيات، بأن لهم الحق في إصدار حكمٍ على مؤلفي،
مستندين إلى فقرةٍ معينة في الكتاب المقدس يُؤَولونها حسب أهوائهم.
فإذا تجاسر أمثال هؤلاء على نقد مشروعي والنيل منه، فلن أكترث لهم،
وأنظر إلى حكمهم على أنه تهور جدير بالاحتقار.»
لخص كوبرنيكوس فكرته عن الكون في هذه العبارات:
«أبعد الأجرام السماوية جميعًا دائرة النجوم الثابتة المحتوية
على جميع الأشياء، ولهذا السبب نفسه لا تتحرك، وهي في الحقيقة إطار
الكون الذي تتعلَّق به حركة ومركز جميع النجوم الأخرى، ورغم أن بعض
الناس يظنونه يتحرك بطريقة ما، فإننا نذكر سببًا آخر لكونه يبدو
كذلك في نظريتنا عن حركة الأرض؛ فمن الأجسام المتحركة، يأتي أولًا
زحل الذي يتم دورته في ثلاثين سنة ثم المريخ الذي يتم دورته في
سنتين، والرابعة في الترتيب وتكمل دورتها في سنة واحدة هي الأرض
ذات الفلك القمري حولها، وتأتي الزهرة في المرتبة الخامسة وتتم
دورتها في تسعة شهور ثم عطارد في المركز السادس يدور في الفضاء في
ثمانين يومًا، وتقع الشمس في وسط الجميع، تلك التي تضع المشعل في
هذا المعبد البالغ الجمال في مكانٍ لا يعادله أي مكان آخر إذ
تستطيع منه أن تضيء على الجميع في وقتٍ واحد … إذن نجد في النظام
العجيب تماثلًا رائعًا في الكون ونسبة محددة للتناسق في حركة هذه
الأفلاك ومداها بطريقةٍ لا يمكن الحصول عليها بأية طريقة
أخرى.»
تتلخص محتويات مؤلف كوبرنيكوس «الانقلاب في الأفلاك السماوية» في
خطة تطور نظرية هذه الأفلاك. فيبدأ بمقدمة الإهداء إلى البابا بولس
الثالث؛ فالمقدمة الزائفة التي كتبها أوسلاندر، وبعدهما ينقسم هذا
المؤلف إلى ستة أجزاء أو أقسام رئيسية، ينقسم كل منها بدوره إلى
أبواب. فيضم الجزء الأول آراء كوبرنيكوس عن الكون والأدلة المدعمة
لنظريته القائلة بأن الشمس هي مركز الكون، وفكرة دوران الأرض حول
الشمس كبقية الكواكب الأخرى، ومناقشة الفصول. ويتكوَّن من عدة
أبواب. وفي نهاية هذا الجزء كتاب علميٌّ عن حساب المثلثات. استخدم
نظريات هذا الفرع من الرياضيات في الأجزاء التالية من
مؤلفه.
ويتناول الجزء الثاني حركات الأجرام السماوية محسوبة رياضيًّا،
ويختتمه بقائمة للنجوم تبين موقع كل منها في السماء وهي قائمة أخذ
معظمها من مؤلف بطليموس مع بعض التصحيحات.
وتضم الأجزاء الأربعة الباقية شرحًا مفصلًا لحركات الأرض والقمر
والكواكب، ويصحب الشرح في كل حالة أشكال هندسية تبين المسار الذي
تتبعه الكرات على أساس حسابات كوبرنيكوس.
يقول أحد الأسباب المقدمة ضد نظرية الأرض المتحركة، وهو ما ذكره
بطليموس، أن الأرض يجب أن تبقى ثابتة وإلا فإن أي جسم سابح في
الفضاء يبتعد عن الأرض وهي تتحرك، وأي جسم يُقذف في الهواء ينزل
مسافة بعيدة جدًّا إلى الغرب، وأقوى هذه الأسباب جميعًا أنه إذا
كانت الأرض تتحرك بهذه السرعة البالغة فإنها سرعان ما تتفتت إلى
أجزاء صغيرة تقذف في الفضاء. وقبل اكتشاف جاليليو Galileo لنظريات الميكانيكا
الخاصة بذلك، وقانون الجاذبية لنيوتن، كان من الصعب دحض هذه الأدلة
البطليموسية. وقد أجاب كوبرنيكوس عليها باقتراحه أن الهواء المحيط
بالأرض يدور معها، وأنه من المعقول أكثر افتراض أن الأرض هي التي
تدور وليس الكون كله؛ لأنه إذا كانت الأرض لا تدور وليس الكون كله.
لأنه إذا كانت الأرض لا تدور فإن السماء هي التي تدور لإحداث الليل
والنهار، ودعم الدفاع عن قوله هذا بتأمل فلسفيٍّ: ليست الطبيعة مما
يحطم نفسه بنفسه، ولم يخلق الله الكون لمجرد أن يحطم هذا الكون
نفسه بنفسه.
يعتقد كوبرنيكوس أن الشمس لا تتحرك وأنها إيجابية وثابتة وسط
الكواكب الدوارة، وهذا الاعتقاد يشبه فكرة بطليموس عن الأرض. اعتقد
كوبرنيكوس أن الوظيفة الوحيدة للشمس هي إمداد الكون بالضوء
والحرارة، وأن الكون محدود جدًّا. وتقول تعاليم بطليموس أنه لا
يوجد فضاء خارج نطاق النجوم، ومن المحتمل أن الفضاء اللانهائي لم
يكن معروفًا لدى كوبرنيكوس، كما لم يكن معروفًا لبطليموس قبله بمدة
١٤٠٠ سنة، وكذلك لم يستخلص من نظام بطليموس عن الفلك المحيط بأفلاك
الأجسام السماوية. كان هناك مركز لكل فلك من الأفلاك المختلفة، وأن
الشمس لم تكن بالضبط في مركز أفلاك الكواكب، وقد صحح علماء الفلك
اللاحقون هذه الظواهر في نظام كوبرنيكوس.
كان قبول نظام كوبرنيكوس بطيئًا لدى كلٍّ من العلماء وعامة
الشعب. كانت هناك آراء معاصرة، مع بعض الاستثناءات تُعارض بعنفٍ
ذلك النظام. فتبعًا لإحدى القصص، هاجم طلبة الجامعة المكان الذي
كان كتاب كوبرنيكوس يُطبع فيه، وحاولوا تحطيم المطبعة وتمزيق
النسخة الخطية الأصلية، إلا أن عمَّال المطبعة وضعوا حاجزًا بينهم
وبين المهاجمين حتى أتموا العمل، وقامت فرقة من الممثلين الجائلين
بإخراج مسرحة هزلية للسخرية من كوبرنيكوس، مصورين ذلك الفلكي يبيع
نفسه للشيطان.
أما ردُّ الفعل لدى المنظمات الكنسية فكان أكثر جدية وأشد قوة؛
فهذه النظريات الجديدة تناقض المعتقدات الفلسفية والدينية القائمة
في العصور الوسطى، فلو كانت نظريات كوبرنيكوس صحيحةً لما شغل
الإنسان مكانًا مركزيًّا في العالم، ولانتقل هو من المكان الواقف
عليه، ولانتقل بيته إلى واحد من الكواكب العديدة.
ولكن، بما أن مؤلف كوبرنيكوس كان مليئًا بأشياء أخرى، وبسبب
مقدمة أوسلاندر المضللة لم تتخذ الكنيسة الكاثوليكية إجراءً
فوريًّا ضده، غير أن قادة الإصلاح كانوا أقل إعاقة، فقام
مارتن لوثر Martin Luther
بنقد كوبرنيكوس بعنف في كثير من المناسبات، وكان يشير إليه بقوله:
«الفلكي الجديد الذي يريد البرهنة على أن الأرض هي التي تدور وليست
السماء والشمس والقمر، كما لو أن شخصًا ما يجلس في عربة متحركة أو
في سفينة سائرة، ويظن نفسه ثابتًا والأرض والأشجار هي التي تتحرك
مارة به، ولكن هذه هي الحال في هذه الأيام فكل شخصٍ يريد أن يكون
بارعًا يجب عليه ابتكار شيء من عندياته يعتبره خير شيء لأنه هو
الذي ابتكره! يريد ذلك الأحمق أن يقلب علوم الفلك كلها رأسًا على
عقب. ولكن، كما يقرر الكتاب المقدس، أن الشمس نفسها وليست الأرض هي
التي أمَرَها يوشع بأن تقف.» وكذلك سخر ميلانكثون Melanchthon تلميذ لوثر المخلص،
من كوبرنيكوس بقوله: «إنه أوقف الشمس وجعل الأرض تتحرك.»
وأكد جون كلفين John Calvin،
مستشهدًا بالمزمور ٩٣: «كذلك ثبتت المسكونة لا تتزعزع.» وسأل
باحتقار: «من ذا الذي يجرؤ على وضع سلطة كوبرنيكوس فوق سلطان الروح
القدس؟»
لم تتخذ الكنيسة الكاثوليكية إجراءات حاسمة ضد مؤلف كوبرنيكوس
حتى سنة ١٦١٥م، وكان كل ما عملته هو الانتقام من أنصار نظريات
كوبرنيكوس أمثال: جاليليو وبرونو Bruno وكان التصرف في مذهب كوبرنيكوس على النحو
التالي:
«الاقتراح الأول القائل بأن الشمس هي المركز وأنها لا تدور حول
الأرض، حماقة وسخافة وزيف في علم اللاهوت، وهرطقة لأنه يناقض على
طول الخط ما جاء في الكتاب المقدس. وأما الاقتراح الثاني القائل إن
الأرض تدور حول الشمس وليست في المركز، فسخيف وزائف فلسفيًّا، ومن
الناحية اللاهوتية يعارض، على الأقل، العقيدة الحقيقية.»
وفي السنة التالية ١٦١٦م، وضع مؤلف كوبرنيكوس في قائمة الكتب
المحرمة، «حتى يصحح»، وفي الوقت نفسه، أدينت «جميع الكتابات التي
تؤيد حركة الأرض». فظل كوبرنيكوس في القائمة السوداء لمدة تزيد على
القرنين. وأخيرًا أزيلت تلك اللعنة في سنة ١٨٣٥م.
منع المصير الذي لقيه جاليليو وبرونو، غيرهما من اعتناق نظريات
كوبرنيكوس، وقد ذهب جوردانو
برونو Giordano Bruno إلى أبعد من الآخرين إذ إن النظرية القائلة
بأن الفضاء غير محدود، وبأن الشمس وكواكبها ليست سوى واحدة من عدة
مجموعات مشابهة. واقترح، زيادة على ذلك، أنه قد يكون هناك عوالم
مسكونة أخرى تضم مخلوقات عاقلة تمتاز عنَّا، فحوكم برونو على مثل
هذا التجديف أمام محكمة التفتيش الديني وأُدين فأحرق مربوطًا إلى
عمود في فبراير سنة ١٦٠٠م. أما الحكم الذي نزل بالعالم الفلكي
الإيطالي جاليليو فكان أخف من ذلك، فقد مثل أمام محكمة التفتيش
الديني في سنة ١٦٣٢م، فهددته بالتعذيب والقتل وأجبرته على أن يجثوا
على ركبتيه ويدحض جميع معتقداته ونظريات كوبرنيكوس، وحُكم عليه
بالسجن بقية أيام حياته.
حذا الفلاسفة والعلماء حذو اللاهوتيين الكاثوليك والبروتستانت في
ترددهم لقبول النظرية الكوبرنيكية. فمثلًا حاول أحد مؤسسي الطرق
العلمية الحديثة، ويدعى فرنسيس
باكون Francis Bacon دحض فكرة دوران الأرض حول الشمس في فلك
وهكذا ظلت سيطرة أريسطو وبطليموس على الجامعات الأوروبية قائمة لم
تتكسر لمدة طويلة بعد نشر كتاب «الانقلاب في الأفلاك
السماوية».
والواقع أنه، كما ذكر ستبنز Stebbins: «كان قبول نظرية كوبرنيكوس بطيئًا في
جميع الدول؛ ففي أمريكا كانوا يدرسون النظريتين البطليموسية
والكوبرنيكية في وقت واحد، في جامعتي هارفارد Harvard وييل Yale.»
ومع ذلك، شيئًا فشيئًا أخذت نظرية كوبرنيكوس تحظى بقبول محتم،
واستمرَّت الأبحاث على يد العلماء الغيورين أمثال جوردانو برونو
وتيكو براهي Tycho Brahe
ويوحنا كبلر وجاليليو جاليلي Galileo
Galilei وإسحاق نيوتن، إبان عشرات السنين
التالية. فكوَّنوا هرمًا من البراهين التي لا تقبل الدحض أو الجدل.
وحذفوا عيوب النظرية الكوبرنيكية بناءً على الأبحاث الحديثة لهؤلاء
وغيرهم من الباحثين، وساعدهم على ذلك تحسين آلات الرصد إلى درجة
الكمال، وأنه كان بوسع كل باحث أن يبني على أبحاث سابقيه.
أعظم عالم فلكيٍّ جاء بعد كوبرنيكوس مباشرة هو العالم الدانمركي
تيكو براهي. لم يزد تيكو شيئًا على نظرية دوران الأرض حول الشمس،
ولكنه استطاع بواسطة الآلات الجيدة التي زوده بها ملك الدانمرك؛
القيام بأرصاد وقياسات فلكية أفضل بكثير مما قام به كوبرنيكوس.
وعلى أساس هذه المعلومات أمكنه مساعدة العالم الألماني يوحنا كبلر
بعد موت تيكو، على أن يصوغ قوانينه الثلاثة الشهيرة: (أ) إن
الكواكب تسير في أفلاك إهليلجية وليست دوائر، وإن الشمس موجودة في
بؤرة واحدة. (ب) بما أن الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس في
أفلاك إهليلجية، فإنها لا تدور بسرعة منتظمة، ولكن بطريقة أن سرعة
دورانها تزيد عندما تكون أقرب إلى الشمس. (ﺟ) يتناسب بعد الكواكب
عن الشمس مع مُدَد دورانها حول الشمس.
كان جاليليو أولَ راصدٍ أمدَّ علم الفلك بالتلسكوب، وقد أثبت
كثير من اكتشافاته التلسكوبية صحة ما وجده كوبرنيكوس. قدم جاليليو
أساسًا علميًّا عندما قدم المبادئ الأساسية لعلم الديناميكا، أو
علم الحركة. وقدم السير إسحاق نيوتن البراهين القاطعة على صحة
نظرية كوبرنيكوس باكتشافِه قانون الجاذبية وصياغته للقوانين التي
تتحرك بمقتضاها الكواكب. وأميط اللثام عن بعض غوامض الكون الباقية
بواسطة نظرية أينشتين Einstein عن
النسبية التي ظهرت في القرن العشرين.
وعلى ضوء التعديلات الكثيرة التي قام بها العلماء في القرون
التالية، نشأ هذا السؤال المعقول والمطروح كثيرًا: هل نظرية
كوبرنيكوس صحيحة؟ لسنا ننكر أن كوبرنيكوس ترك نظرية غير كاملة وغير
دقيقةٍ في عدة نقاط؛ فقد أثبت العلماء خطأ فكرته عن دوران الأجرام
السماوية في فلك دائريٍّ تمامًا؛ إذ إنها تدور في أفلاك إهليلجية.
وقد نظر كوبرنيكوس إلى الكون على أنه محدود جدًّا على نقيض النظرية
الحديثة القائلة بوجود عدد غير محدودٍ من المجموعات الشمسية. وكذلك
في التفاصيل الأخرى، تختلف النظريات التي قدَّمها كوبرنيكوس منذ
أكثر من أربعة قرون خلت، تختلف عن معارفنا الحاضرة اليوم، ولكن في
أساسها — وهو أن الشمس مركز مجموعات الكواكب — اكتشف كوبرنيكوس
حقيقة أساسية وقدم أساسًا لعلم الفلك الحديث.
رسخ إلى الأبد مركز كوبرنيكوس في تاريخ العلوم ويخوله نفوذه على
معاصريه وعلى جميع الفكر اللاحق مكانة ممتازة. وكما كتب
جوتيه Goethe:
«لم يُحدث أي اكتشاف أو رأي، من جميع الاكتشافات والآراء، أثرًا
على الروح البشرية أعظم مما أحدثَتْه نظرية كوبرنيكوس. من النادر
أن الناس كانوا سيعرفون أن العالم مستدير وكامل الاستدارة في حد
ذاته إذا طلب من هذا العالم أن يتنازل عن كونه مركز الكون … ربما
لم يُطلب من البشرية شيء أعظم من هذا — لأنه بهذا الاعتراف اختفت
أمورٌ كثيرة في الضباب والدخان! إلى أي شيء صارت جنتنا، عالمنا،
عالم البرابرة والتقوى والشعر، دليل المشاعر، اتهام عقيدة شاعرية
ودينية؟ لا عجب في أن معاصريه لم يرغبوا في أن يتركوا كل هذا يمر،
وقاموا بكل مقاومةٍ ممكنة لمذهب خوَّل لكل المهتدين به حرية الرأي
وعظمة التفكير اللتين لم تعرفا حتى ذلك الوقت، والحقيقة أنه لم
يحلم بهما قط.»
وأخيرًا، فلنتأمل حكم ثلاثة من مشاهير العلماء الأمريكيين
الموجودين على قيد الحياة؛ فقد علق فانيفار بوش Vannevar Bush بقوله: «خلق
نشر مؤلف كوبرنيكوس الرائع … نقطة تحول عظيمة الأهمية لتأثيره على
كل ناحية من نواحي الفكر البشري. قدَّم مثلًا بارزًا لتأثير
الحقيقة العلمية لتحرير ذهن الإنسان وجلاء بصيرته للغزوات
المستقبلة للجهل والتخاذل.» وأكد هارولد ك. أوري Harold C. Urey الفائز
بجائزة نوبل، قائلًا: «يخفق كل بيان عندما يصف مؤلف نيقولاوس
كوبرنيكوس. لقد حطم فكرة عن المجموعة الشمسية ظلت قائمةً مدة ألف
عام وقدم فكرة مخالفةً لها تمامًا، عن نسبة الكواكب إلى الشمس.
وبهذا العمل كان أول من قدَّم الطريقة الحديثة كلها للفكر العلمي،
وعدَّل تفكيرنا عن جميع نواحي الحياة البشرية.»
وأخيرًا، هاك رأي العالم الفلكي المبرز هارلان
تروستاتسون Harlan True Stetson:
«من المحير دائمًا دراسة القائمة الطويلة لمشاهير الرجال
الحقيقيين في تاريخ العالم، الذين أسهموا في تقديم العلوم، ثم
تحديد عددٍ قليلٍ منهم على أنهم المبرزون المتفوقون. ومع ذلك، فلو
طلب منِّي اختيار ثلاثة أسماء منهم، لَقلت في غير ما تردُّد طويل،
كوبرنيكوس ونيوتن وداروين. فيشترك هؤلاء الثلاثة في خصائص تجعلهم
غير منفصلين في مجال انتصار التقدم. وهذه الخصائص هي الخيال
والجرأة والعبقرية وطرافة إظهار التفهم الخارق للأفكار. وبالنظر
إلى جميع الاعتبارات لاختيار أعظم هؤلاء الثلاثة، أعتقد أن أكاليل
الغار يجب أن تكون من نصيب كوبرنيكوس؛ لأنه هو الذي وضع أسس علم
الفلك الحديث التي بدونها ما كان لنيوتن أن يبني قانونه عن
الجاذبية، وهو الذي فتح الأبواب لنوع من التفكير الثوري يتحدى
المبدأ الذي يجب أن يأخذ مكانه قبل أن يثبت مذهب النشوء قدمه في
تفكيرنا.»