فجر الطب العلمي: وليام هارفي١
لم يجرُؤ على مناقشة السابقات والمعتقدات الموروثة عن القدماء سوى أعظم العلماء جرأةً. كانوا يعتبرون ما كتبه جالين من أصلٍ مقدس — لا يمكن أن يتطرَّق إليه الجدل أو الشك. وتبعًا لجالين أيضًا، كان الكبد مركز الجهاز الدموي. فقال إن الطعام المهضوم يُحمل إلى الكبد حيث يتحول إلى دم مع إضافة «روح طبيعي». وإن الدم يسير في الجسم إلى الأمام وإلى الخلف عن طريق كلٍّ من الأوردة والشرايين كما يفعل المد والجزر في البحر. يختلف الدم الشرياني الآتي من أحد جوانب القلب مع الدم الوريدي من الجانب الآخر خلال مسام دقيقة.
وعلى مر القرون، أُضيفَت إلى تلك الحقائق الطبيعية كثيرٌ من الخرافات عن الدم. كان للدم صفةٌ مقدسة أكثر من أي جزءٍ آخر في الجسم كما يتضح من استخدامِه في الذبائح الدينية، وسكب الدم على مذابح الآلهة.
وهكذا كان لهؤلاء ولنفوس جريئة أخرى أن تتهوَّر وتلقي شكًّا على العقيدة القديمة التي عرقلت التقدم الطبي خلال العصور الوسطى. ومن ناحية أخرى لم يستطع أحد الوصول إلى الحقيقة الكاملة؛ فأسهم كل واحد بقدر كبير نحو كشف اللثام عن الدورة الدموية ووظائف القلب، ولكنه توقف في كل حالة بجواب جزئيٍّ أو غير كامل. أما اكتشاف وصياغة مجموعة منتظمة ومبوبة من النظريات، فقدمه العقل اللامع الحاد للطبيب الإنجليزي وليم هارفي.
لكي يدرس هارفي الطب، كان من الطبيعي أن يذهب إلى إيطاليا. وسمِّيت جامعة بادوا الشهيرة: «الأم مربية النهضة.» وظلت لعدة أجيال المركز الطبي لأوروبا. فبعد أن تخرج هارفي الشاب في كامبريدج قضى أربع سنوات معظمها تحت قيادة المدرس الشهير الكفء فابريكيوس مكتشف صمامات الأوردة. فتعلَّم كيف يشرح ويجري التجارب على شتى أنواع الحيوان، وربما كان الفضل لنظريات فابريكيوس في متعته بالدورة الدموية التي لازمته طوال حياته.
رغم هذا، أولع هارفي طول حياته بالأبحاث الطبية والتجارب أكثر من ولعه بممارسة الطب. فبدأ في سنة ١٦١٦م يلقي المحاضرات عن الدورة الدموية أمام كلية الأطباء، ولا تزال النسخة الخطية لمحاضرته موجودة، مكتوبة بخليط من اللاتينية والإنجليزية بخط يكاد تتعذر قراءته. وقد شرح بعض تجاربه في مذكراته وأوضح أنه في ذلك التاريخ اقتنع تمامًا بصحة نظرياته الشهيرة عن الدورة الدموية، فكتب يقول: «يتحرَّك الدم في دائرةٍ مستمرةٍ بدفع من ضربات القلب.»
كذلك، ما كان هارفي بالرجل المتهور الذي يندفع بسهولةٍ إلى المطبعة لينشر نظرياته إذ يرى: «ليست جموع كاتبي الخزعبلات الأغبياء بأقل من أسراب الذباب في عز الصيف، وإنهم ليهددون بحماقاتهم وتوافه كتاباتهم وإنتاجهم الخاوي، بأن يخنقونا عندما ندخن.»
ذكر هارفي في الباب الأول بعضَ المشاكل التي واجهته في أبحاثه، فكتب يقول:
وأخيرًا اقتنع هارفي بأنه بالإمكان دراسة حركات القلب بصعوبةٍ أقل في الحيوانات ذوات الدم البارد كالعلاجيم والضفادع والثعابين وصغار السمك وسرطان البحر والجمبري والقواقع والمحاريات، أقل مما في الحيوانات ذوات الدم الدافئ. فرأى في ذوات الدم البارد أن الحركات «أبطأ وأندر». كما كانت هذه الظواهر أسهل ملاحظةً في الحيوانات ذوات الدم الدافئ عند الاحتضار لما يكون عمل القلب آخذًا في البطء.
لاحظ هارفي، نتيجة لتجاربه، أن انقباض القلب يدفع الدم خارجًا، وعندما ينقبض تتمدد الشرايين لاستقبال الدم. ولما كان القلب عضلة تؤدي وظيفة نوع من المضخات، يجبر الدم على الاندفاع في دوران مستمر، وعند إجبار الدم على السريان داخل الشرايين، فإنه يسبب النبض، «مثلما ينفخ المرء في قفاز.» وعلى نقيض نظرية المد والجزر القديمة فإن الدورة الدموية تكون في اتجاه واحد. أوضح هارفي أن الدم يمر من الجانب الأيسر للقلب خلال الشرايين إلى النهايات ثم يعود عن طريق الأوردة إلى الجانب الأيمن للقلب. عرفت حركة الدورة بربط أربطة حول الشرايين والأوردة في نقطٍ مختلفة. وبالاختصار، اكتشف أن نفس الدم الذي تحمله الشرايين، تعود به الأوردة مكونة دورة كاملة.
وهكذا نرى وصف هارفي الرائع لهذه العملية إذ يقول:
«تحدث هاتان الحركتان؛ حركة البطينين وحركة الأذينين على التعاقب ولكن بطريقةٍ فيها تناسق وإيقاع بين الحركتين، تحدثان بحيث تكون حركة واحدة هي الظاهرة وخصوصًا في الحيوانات ذوات الدم الدافئ التي تكون فيها الحركتان سريعتين. تحدث الحركتان كما لو كانتا في قطعةٍ من آلة، فعلى الرغم من أن إحدى عجلاتها تدير الأخرى فإن جميع العجلات تبدو تتحرَّك في وقتٍ واحد. أو كأجهزة الأسلحة النارية حيث يلمس الزناد فينزل القداح ويضرب الصلب فيحدث شرارة تقع بين البارود فيشتعل ويحدث اللهب ويدخل أنبوبة القذافة ويسبب الانفجار فيرسل القذيفة التي تُصيب الهدف — وبسبب السرعة التي تحدث بها كل هذه الحركات، تبدو كأنها تقع في لمح البصر.»
عندما فكر هارفي في أن حركة الدم دائريةٌ، يجوز أنه تأثَّر بقدامى الفلاسفة أمثال أريسطو الذي كان يعلم أن الحركة الدائرية كاملة، وهي أمثل الحركات جميعًا. أما العالم الفلكي جوردانو برونو معاصر هارفي، فاستنتج أن الدائرة هي «الشعار والنمط الأساسيان لجميع الحياة والأعمال في الكون.» وجدير بالملاحظة أن هارفي استخدم في مقاله عبارات مثل «حركة كأنها في دائرة» و«يجوز لنا أن نُسمي حركة الدم دائرية.»
لكي يتغلب هارفي على الوساوس، قدَّم مزيدًا من البراهين على الدورة الدموية، ومنها استعمال ما يعرفه علماء الطبيعة بطريقة الكم. برهن على أن القلب يضخُّ في مدة ساعة، في ضرباته البالغة حوالي أربعة آلاف ضربة، كمية تربو كثيرًا على جميع كمية الدم الموجودة في الجسم. فإذا قيس الدم الذي يرسله القلب في يوم واحد، وجد أن كميته تزيد كثيرًا على جميع الطعام المأكول والمهضوم — وبذا برهن على خطأ نظرية جالين القديمة. فكتب هارفي يقول: «بالاختصار، لا يمكن توريد الدم بطريقة أخرى غير عمل دورة والعودة.»
هناك براهين أخرى على الدورة الدموية تأتي من تأثير السموم على الجسم:
«نرى في حالة الأمراض المعدية وفي الجروح المسممة ولدغات الثعابين وعضَّات الكلاب المسعورة والزهري وما أشبه، أن الجسم كله يتسمم بينما تكاد أماكن الإصابة أن تخلو من الأذى أو تشفى … لا شك في أن العدوى التي أصابت أولًا بقعة معينة، نقلها الدم العائد إلى القلب ومنه انتشرت بعد ذلك في جميع أجزاء الجسم … قد يفسر هذا أيضًا السبب في أن العقاقير الطبية المستعملة فوق الجلد، يحدث لها نفس الأثر كما لو كانت قد أخذت عن طريق الفم.»
كان استعمال هارفي للحيوانات في أغراض التجارب أمرًا جديدًا، وكان يعتقد: «من رأيي أنه لو كان علماء التشريح خبراء في تشريح الحيوانات الدنيا كما هم خبراء في جسم الإنسان لزالت الأمور التي حيَّرتهم ولنزعت عنهم الشكوك، ولقضت على كل ما قابلهم من صعاب.» يمكن اعتبار هارفي بحق واحدًا من مؤسسي علم التشريح المقارن. فيذكر مثلًا تجارب على الأغنام والكلاب والغزلان والخنازير والطيور والكتاكيت في البيض والأفاعي والأسماك وثعابين السمك والعلاجم والضفادع والقواقع والجمبري وسرطان البحر والمحاريات والأصداف والإسفنج والديدان والنحل والزنابير واليعاسيب والجنادب والذباب والقمل.
وعلاوة على اكتشافات هارفي الشهيرة هذه، كان أعظم إسهام له في خدمة العلم والأبحاث الطبية هو الطرق المعملية أو التجارب؛ فقد وضع الأساس الذي بُني عليه علم وظائف الأعضاء والطب لمدةٍ تزيد على ثلاثة قرون. كان الأساس، كما قرر هارفي نفسه:
«أن أبحث وأدرس أسرار الطبيعة عن طريق التجارب.» كان للطب تاريخٌ يرجع إلى آلاف السنين قبل مولد هارفي. تعلم الأطباء أن يدركوا ويصفوا بدقة الأمراض الرئيسية التي تُصيب الإنسان، وأن الملاحظة، رغم أهميتها، ليست كافية، وكثيرًا ما تقود إلى استنتاجات كلها خطأ، كان هذا هو أعظم فرقٍ بين هارفي وأسلافه. وتخطَّى هارفي الملاحظة السطحية، مقيدًا قليلًا بالخرافات أو باحترام النظريات القديمة، فوضع فروضًا وفحصها بالتجارب. كان أول من استخدم الطريقة العلمية للتجربة من أجل حل المسائل البيولوجية، وقد حذا حذوه جميعُ خلفه منذ عام ١٦٢٨م.
«من المتنازع فيه ما إذا كان هذان اكتشافَيْن حديثَيْن أو مقتبسَيْن من أسسٍ قديمة. وهل هما حقيقيان أو غير حقيقيين. فرغم أن العقل قد يحبذهما أكثر من الآراء المضادة، فقلما يقبلهما العقل، ولكي يقنعا البشر، يجب عليهما أن يتحدا، ولكن إذا كان هذان الاكتشافان العظيمان حقيقيين فإنهما لم يحدثا تغييرًا في نتائج علم الفلك ولا في ممارسة الطب، وهكذا كانا قليلي النفع للعالم ولو أنهما جلبا الشرف العظيم لمؤلفيهما.»
يبدي هارفي حزنه في البحث الثاني بقوله:
«قلَّما يمر يوم أو ساعة منذ مولد الدورة الدموية، لا أسمع فيهما شيئًا طيبًا أو شريرًا يقال عن اكتشافي هذا. يذمه البعض فيقولون إنه يشبه طفلًا رضيعًا ضعيفًا غير جدير بأن يرى النور، ويظن البعض أن هذا الطفل يستحق الحب والعناية. فيعارضه هؤلاء بعنادٍ شديد، ويحميه أولئك بكثير من التوصية. يقرر أحد الطرفين أنني برهنت تمامًا على الدورة الدموية بالتجارب والملاحظات والفحص العيني ضد كل قوى الجدل. ويظن الطرف الآخر أنني لم أوضحها بما فيه الكفاية، ولم أسلم من جميع المعارضات. كما أن هناك بعضًا آخر يقول إنني أبديت، في غرور، ولعًا بالغًا بتشريح الكائنات الحية، ويسخرون من تقديم الضفادع والثعابين والذباب وغيرها من الحيوانات الدنيا على المسرح … ولكي أرد على الأقوال الشريرة بأقوالٍ شريرة مثلها أقرِّر أنني لست جديرًا بالفلسفة والبحث وراء الحقيقة، وأعتقد كذلك أنه من الخير والأصح لي أنني إذا التقيت بالكثير من أمثال هذه المعارضات والنوايا السيئة، أن أقابلها في ضوء الملاحظات الأكيدة والأمينة والقاطعة.»
ولحسن الحظ، عاش هارفي ليرى القبول العام لنظرياته بين الأكفاء ليحكموا عليها، وإن تعيينه عميدًا لكلية الطب في سنة ١٦٥٤م، قبل وفاته بثلاث سنوات، لَدليلٌ على سمو منزلته بين زملائه في المهنة.
كذلك العبارة اللاتينية المكتوبة على قبر هارفي تدل بوضوحٍ على رأي معاصريه فيه:
«وليم هارفي، الذي تقوم جميع الأكاديميات احترامًا لاسمه الموقر، كان الأول بعد عدة آلاف من السنين، الذي اكتشف حركة الدم اليومية، وبذا جلب الصحة للعالم والخلود لنفسه، ذلك الشخص الوحيد الذي خلص أصل الحيوان وأجياله من الفلسفة الكاذبة، والذي يَدين له الجنس البشري باكتسابه المعارف، ويدين له الطب بوجوده، الطبيب الأول وصديق صاحبَي الجلالة جيمس وشارل، ملكي الجزر البريطانية، والأستاذ النشيط البالغ النجاح للتشريح والجراحة بجامعة طب لندن — من أجلهما بنى مكتبة شهيرة زودها بنفائس الكتب من ميراثه الخاص، وأخيرًا بعد الجهود المظفرة في الملاحظة والعلاج والاكتشاف، وبعد إقامة عدة تماثيل من أجله، في وطنه وفي الخارج، عندما طاف الدائرة الكاملة لحياته مدرسًا للطب وطبيبًا، مات دون ولدٍ في الثالث من يونية من السنة المباركة ١٦٥٧م، في الثمانين من عمره الزاخر بالأعمال وبالشهرة.»
أضيف القليل ذو الصفة الجوهرية لاكتشاف هارفي للدورة الدموية، ولو أن كمية ضخمة من المعلومات كدست فيما يختص بالقلب وبالأوعية الدموية والرئتين. يعرف الكثير الآن عن تركيب القلب ووظيفته في الصحة والمرض وحركاته المعقدة ووظائف الدم التي لم تكن لتُتخيل في عصر هارفي نفسه.
«من الجليِّ الواضح أن إسهام اكتشاف هارفي في الطب والجراحة، يفوق كل وصف. إنه أساس جميع الأعمال الخاصة بإصلاح الأوعية الدموية التالفة أو المريضة والعلاج الجراحي لضغط الدم العالي والمرض التاجي وعملية «الرضيع الأزرق» المعروفة جيدًا، وهلمَّ جرًّا. وزيادة على ذلك، فإن علم وظائف الأعضاء العام هو المدين له أكثر من غيره؛ لأن حركة الدم الدوار هي أساس معارفنا الحالية لبيئة الجسم الداخلية، الذاتية الاتزان. يلعب هذا السائل، الذي اكتشف هارفي دورته بثاقب بصيرته العظيمة، أهم دور في ديناميكا أجهزة جسم الإنسان.»
ربما لم يلخِّص أحد معنى حياة هارفي في تقدم الطب، تلخيصًا أفضل مما فعل رائد الطب في عصرنا؛ ففي ذكرى هارفي السنوية، ألقى السير وليم أوسلر خطابًا في كلية الأطباء الملكية بلندن، عن حركة القلب، يقول فيه:
«… إنه يتميز بكسر الروح الحديثة للتقاليد القديمة. ما عاد هناك أناس يقنعون بالملاحظة الدقيقة والوصف الشامل، ما عاد هناك أناس يكتفون بالنظريات الحسنة السبك والأحلام الجيدة الصياغة، التي تقوم بوظيفة عذر عام للجهل، ولكن يوجد هنا، للمرة الأولى، مسألة فسيولوجية عظمى نتناولها من الجانب المدعم بالتجارب العملية التي قام بها رجل ذو عقل علمي حديث، استطاع أن يزن البراهين ولا يذهب بعيدًا عنها، ومكنه إدراكه من أن يترك النتائج تبرز طبيعيًّا وبثبات من الملاحظات. فذلك العصر، عصر السامعين، الذي سمع فيه الناس، وسمعوا فقط، قد تلاه عصر العين الذي رأى فيه الناس وقنعوا بمجرد الرؤية فقط، ثم جاء أخيرًا عصر اليد — اليد المفكرة والمصممة، اليد العاملة كأداةٍ للعقل، تقدم الآن ثانية للعالم في كتيب متواضعٍ قوامه اثنتان وسبعون صفحة، نجرؤ على أن نبدأ منها تأريخ بداية الطب التجريبي.»