نظام العالم: السير إسحاق نيوتن١
وقال واحد من أشهر كتاب حياة نيوتن: إنه عندما نشر كتاب مبادئ الرياضيات في الربع الأخير من القرن السابع عشر، لم يكن هناك على قيد الحياة من استطاع فهمه، أكثر من ثلاثة أو أربعة رجال. وزاد كاتبٌ آخر هذا العدد إلى عشرة أو اثني عشر. وقد اعترف نيوتن نفسه بأنه «كتاب صعب»، ولكنه لم يبد أية أعذار لكونه صمَّمه على ذلك النحو ولم يجعل به أية تسهيلاتٍ للأميين رياضيًّا.
وُلد نيوتن بعد وفاة كوبرنيكوس بمدة قرن بالضبط، وفي نفس السنة التي مات فيها جاليليو، كوَّن هذان العملاقان في عالم الفلك ومعهما يوحنا كبلر، الأسس التي بنى نيوتن نظرياته عليها.
أما الاكتشاف العظيم الثاني لنيوتن فهو قانون تركيب الضوء، الذي بموجبه أخذ يحلِّل الألوان والنور الأبيض، فبرهن على أن ضوء الشمس الأبيض يتألَّف من جميع ألوان قوس قزح. إذن، فاللون خاصية للضوء، وظهور الضوء الأبيض — كما أوضح بالتجربة بواسطة منشور — ينتج عن اختلاط ألوان الطيف. وبالمعارف التي اكتسبها نيوتن من هذا الاكتشاف، استطاع أن يصنع أول تلسكوب عاكس ذي نتائج باهرة.
أما الفكرة الثالثة فجديرة بالملاحظة العظمى، وهي قانون الجاذبية العام الذي يُقال إنه أثار خيال العلماء أكثر مما أثاره أي اكتشاف نظريٍّ آخر في العصور الحديثة. فتبعًا لقصة موثوق بها، جاءت هذه الفكرة لنيوتن عندما لاحظ سقوط تفاحة، فساقته إلى صياغة هذا القانون. لم يكن هناك جديد على فكرة جذب الأرض للأجسام القريبة من سطحها، ولكن ما أسهم به نيوتن في الذخيرة العلمية هو تخيله العظيم الذي جعل قانون الجاذبية هذا عالميًّا في استخداماته: للأجرام السماوية قوة جذب لا تقل عن قوة جذب الأرض. وبعد ذلك قدَّم البرهان الرياضي لنظريته.
الغريب أن نيوتن لم ينشر شيئًا عن هذه الاكتشافات الثلاثة البالغة الأهمية؛ التفاضل والألوان والجاذبية، وإذا كان ذا طبيعة مولعة بكتمان أسراره والاحتفاظ بمعلوماته في طيات صدره، فإنه كان يمقت ملاحظات الجمهور ومجادلاتهم. وعلى ذلك كان يميل إلى حجز نتائج تجاربه، وكل ما نشره فيما بعد كان تحت ضغط أصدقائه، ثم ندم بعد ذلك على خضوعه لهم واستجابته لتوسلاتهم؛ فقد نجم عن ذلك النشر أن قام زملاؤه العلماء بنقد مؤلفاته والمجادلة فيها، وهذا ما كان يشمئز منه نيوتن بسبب طبيعته الحساسة.
أدرك هالي من فوره أهمية اكتشافات نيوتن، فاستخدم كل ما لديه من قوة الحث لإقناع نيوتن بوجوب نشر اكتشافه والإفادة منه. تأثَّر نيوتن بحماس هالي، وبشغفه هو نفسه الذي أشعل من جديد، فبدأ يكتب أروع مؤلفاته «النظريات الرياضية» الذي وصفه لانجر بأنه «خزان حقيقي لفلسفة الرياضيات، وأعظم المؤلفات الطريفة التي أنتجها العقل البشري.»
والظاهرة البارزة في كتاب «النظريات الرياضية» التي لا تقل أهمية عن غيرها، هي أنه استغرق في تأليفه ثمانية عشر شهرًا، شغل نيوتن إبَّانها لدرجة أنه كثيرًا ما كان ينسى طعامه ولا ينال غير قدر يسير من النوم، لا يستطيع إخراج مثل هذا العمل الذهني الضخم في مدةٍ وجيزة كهذه إلا التركيز المستمر والبالغ الشدة، والحق أن ذلك العمل أنهك نيوتن ذهنيًّا وبدنيًّا.
وزيادة على ذلك، لم ينعم نيوتن براحة البال إبَّان تأليفه لذلك الكتاب، وإنما أزعجته أيما إزعاج تلك المجادلات الدائمة ولا سيما من جانب هوك الذي ألحَّ في أن يكون له شرف اكتشاف نظرية التربيع العكسي للجاذبية في حركة الكواكب. وكان نيوتن عندئذٍ قد أتم ثلثي كتابه، فأغضبه ذلك الادعاء غير العادل لدرجة أنه هدد بحذف الجزء الثالث الأعظم أهمية. وهنا تدخل هالي مستخدمًا نفوذه وظل يلحُّ على نيوتن في أن يكمل كتابه حسبما خطط له أولًا.
لعب إدمند هالي دورًا في تاريخ كتاب النظريات الرياضية يستحق عنه أسمى تقدير، ليس فقط لأنه المسئول عن حث نيوتن على القيام بذلك العمل؛ بل ولأنه حصل على موافقة الجمعية الملكية على نشره ولم يذكر كل ما فعله في الإشراف النهائي لإخراج ذلك الكتاب من المطبعة. وأخيرًا عندما نكثت الجمعية الملكية وعدها بتمويل نشر ذلك الكتاب، قام هالي نفسه بسداد جميع النفقات من جيبه الخاص رغم كونه متوسط الحال ويعول أسرة.
من الصعب عمل أي ملخصٍ لذلك الكتاب بلغةٍ غير فتية، إن لم يكن مستحيلًا، ولكن يمكن عمل بعض التوضيحات. يتناول المؤلف في جملته حركة الأجسام من الناحية الرياضية، وخصوصًا من حيث الديناميكا والجاذبية العامة للمجموعة الشمسية. فيبدأ بشرح حسابات التفاضل الذي اخترعه نيوتن واستخدمه في جميع العمليات الحسابية بذلك الكتاب. وبعد ذلك تعريف معنى الفضاء والزمن وبيان قوانين الحركة كما صاغها نيوتن مع الأشكال الموضحة لاستعمالها. فتقول النظرية الأساسية إن كل ذرة من المادة تجذبها كل ذرة أخرى من المادة بقوةٍ تتناسب تناسبًا عكسيًّا مع مربع المسافة بينها وبين كل ذرة. كذلك بيَّن القانون الذي تخضع له الأجسام المتصادفة بعضها مع بعض. وقد شرح وعبَّر عن كل شيءٍ بصور هندسية كلاسيكية.
يتناول الجزء الأول من كتاب النظريات الرياضية حركة الأجسام في الفضاء الطلق، بينما يتناول الجزء الثاني الحركة في «وسط مقاوم» كالماء. وقد وضع نيوتن في اعتباره مسائل حركة السوائل وطرق حلها، وناقش طرقًا لتقدير سرعة الصوت وحركة الأمواج بالشرح الرياضي. وهنا وضع أساس علم الطبيعيات الرياضية الحديث والأيدروستاتيكا والأيدروديناميكا.
أما في الجزء الثالث، وعنوانه «نظام الكون» فقد بذل نيوتن قصارى ما في ذهنه؛ إذ تناول النتائج الفلكية لقانون الجاذبية، فكتب يقول عن نفسه:
«وضعت في الجزءين السابقين نظريات الفلسفة (العلوم)، تلك النظريات الرياضية وليست الفلسفية … هذه النظريات هي قوانين وشروط حركات معينة أو قدرات أو قوات … شرحتها هنا وهناك … تبعًا لأمور ذات طبيعة عامة … مثل كثافة الأجسام ومقاومتها والفضاء الخالي من جميع الأجسام، وحركة الضوء والصوت. يتبقَّى من نفس تلك النظريات أن أشرح هيكل نظام الكون.»
شرح نيوتن السبب في عدم جعله مُؤلفَه شعبيًّا، فقال:
«الحقيقة أنني ألَّفت الجزء الثالث عن هذا الموضوع بطريقةٍ شعبية كي يقرأه الكثيرون، ولكن حدث بعد ذلك أنني لما رأيت أن أولئك الذين لم يدرسوا تلك النظريات دراسةً كافية لا يمكنهم إدراك قوة النتائج في سهولة، كما أنهم لن يتخلوا عن العقائد والتعصبات التي تعودوها منذ عدة سنوات؛ لذا تحاشيًا للمنازعات التي قد تنجم بسبب ذلك، قررت اختصار مادة هذا الكتاب في صورة مقترحات (بالطريقة الرياضية) لا يقرؤها غير الذين استوعبوا النظريات التي تضمنها الجزءان السابقان استيعابًا جيدًا، كما أنني لا أشير على أحدٍ بدراسة كل نظريةٍ في الجزءين السابقَيْن لأنها تستغرق وقتًا طويلًا حتى من ذوي الدراسات الرياضية الطيبة.»
لهذا السبب، وُصف أسلوب كتاب «النظريات الرياضية» بأنه «بالغ الصعوبة ومكتوب بطريقة متناهية التعقيد لا يلجأ إليها إلا كاهنٌ سامٍ.»
هذا، وإن مجرد عمل قائمة بالموضوعات التي تناولها الجزء الثالث لمدهش حقًّا؛ فقد أثبت، بما لا يترك مجالًا للشك، حركات الكواكب وحركات توابعها حولها وأوضح طرق قياس كتل الشمس والكواكب، وناقش وفسَّر مواضيع كثافة الأرض واستقبال الاعتدالين الربيعي والخريفي ونظرية المد والجزر وأفلاك المذنبات وحركة القمر وكل الأمور المتعلقة بهذه المواضيع.
أثبت نيوتن، بواسطة نظريته عن «الاضطرابات»، أن الأرض والشمس تجذبان القمر، وهكذا يضطرب ذلك القمر بجذب الشمس رغم أن جذب الأرض له أقوى من جذب الشمس. وكذلك الكواكب عرضة للاضطرابات، وليست الشمس هي المركز الثابت للكون، على عكس المعتقدات السابقة، بل تجذبها الكواكب كما تجذب هي الكواكب فتتحرك بنفس الطريقة. وفي القرون اللاحقة أدَّت نظرية الاضطرابات إلى اكتشاف كوكبي نبتون وبلوتو.
تأتي بعد ذلك الحقيقة القائلة بأن الأرض ليست كرةً منتظمة التكور؛ بل مسطحة عند القطبين بسبب الدوران، فشرحها نيوتن وحسب مقدار التسطح. استنتج نيوتن بناءً على تسطح الأرض عند القطبين وانبعاجها عند خط الاستواء، أن الجاذبية لا بد أن تكون عند القطبَيْن أقل منها عند خط الاستواء — وهذه الظاهرة تفسِّر «الاستقبال» في الاعتدالين والحركة المخروطية لمحور الأرض على غرار الخذروف. وبدراسة شكل الكوكب أمكن تقدير طول الليل والنهار على ذلك الكوكب.
استخدم نيوتن قانون الجاذبية الكونية في بحثه عن أسباب المد والجزر. فعندما يكون القمر بدرًا يقع على مياه الأرض أقصى جذب، فينتج المد. كذلك تؤثر الشمس على المد والجزر. فعندما تكون الشمس والقمر على خط واحد، يبلغ المد ذروته.
كذلك هناك موضوع يحظى باهتمام الجميع ألقى نيوتن عليه النور، ألا وهو موضوع المذنبات. كانت نظريته أن المذنبات إذ تسير تحت جاذبية الشمس، تتخذ مسارات إهليلجية ذوات مدى بالغ البعد يحتاج قطعه العديد من السنين؛ لذا فإن المذنبات التي اعتبرتها الخرافات نذير شؤمٍ، تبوأت مكانها الصحيح كظواهر سماوية جميلة وعديمة الأذى، وقد استطاع إدمند هالي باستخدام نظريات نيوتن عن المذنبات، أن يتعرَّف على المذنب الشهير المعروف باسم «مذنب هالي». ويتنبأ عن موعد ظهوره بالضبط كل ٧٥ سنة، وما إن يشاهد المذنب حتى يمكن تحديد مساره مستقبلًا بالضبط.
ومن الاكتشافات العظيمة المدهشة التي قام بها نيوتن، طريقة تقدير بعد نجم ثابت، مبنية على كمية الضوء التي يمكن الحصول عليها بانعكاس أشعة الشمس من كوكب.
لم يبد كتاب «النظريات الرياضية» أية محاولة لشرح السبب وإنما شرح فقط الكيفية الكونية. وبعد ذلك رد نيوتن على التهم بأن طريقته كانت طريقة ميكانيكية بحتة، دون ذكر أية أسباب ولا نسبة إلى الخالق الأعظم، فأضاف اعترافه وإيمانه بالخالق في الطبعة الثانية لمؤلَّفه، فكتب يقول:
«لا يمكن إدراكُ هذا النظام البديع للشمس والكواكب والمذنبات إلا بتوجيه وسيادة كائن بالغ الذكاء والقوة … فكما أنه ليست لدى الأعمى أية فكرة عن الألوان، كذلك ليس لدينا أية فكرةٍ عن الكيفية التي يرى بها الله الكلي الحكمة، جميع الأشياء ويفهمها.»
كان نيوتن يعتقد أن وظيفة العلوم هي بناء المعلومات وتنميتها، وكلما كثر كمال معارفنا كثر اقترابنا من فهم السبب رغم أن الإنسان قد لا يكتشف قط قوانين الطبيعة العلمية الصحيحة.
اعترف نيوتن نفسه بأن «نظامه للعالم» علم ميكانيكا الكون مبنيٌّ على أعمالٍ بدأها كوبرنيكوس وأخذها عنه تيكو براهي وكبلر وجاليليو. وقال نيوتن: «إذا كنت قد رأيت أبعد مما رأى غيري من الرجال، فإنما ذلك لوقوفي على أكتاف العمالقة.»
والواقع أن السبب المحتمل للمعارضات والمناقشات التي ملأت حياة نيوتن، هو الاختمار الذهني السائد في عصره. كان الجو زاخرًا بالنظريات الجديدة التي فحصها عدد كبير من العلماء الأكفاء، ولا يدهشنا أن يكتشف رجلان نفس الاكتشاف في وقت واحد تقريبًا، وكلٌّ منهما مستقلٌّ عن الآخر. يبدو أن هذا حدث بالضبط في اكتشافي نيوتن الرئيسيين اللذين اكتشفهما لبينز وهوك. فاخترع لبنيز حساب التفاضل، وعدل هوك في نظرية الجاذبية الكونية بعد أن ابتكرهما نيوتن بوقتٍ ما. ولكنهما أعلناهما للعالم قبل نيوتن الذي أهمل في نشر مؤلفه.
استقبل معاصرو نيوتن كتابه «النظريات الرياضية»، في إنجلترا واسكتلندا بترحاب أكثر من استقبال الناس له في القارة الأوروبية، ولكنه استقبل ببطء في كل مكان، وكما تنبأ نيوتن، احتاج فهمه إلى مقدرة رياضية عظيمة، ومع ذلك فإن طريقة عرضه الخارقة جعلت الناس، حتى من كانت لديهم فكرة بسيطة عن مؤلفه، يُقبلون عليه. وشيئًا فشيئًا قَبِل العلماء في كل مكانٍ نظريات نيوتن، وفي القرن الثامن عشر سلموا بها في عالم العلوم.
عدلت الاكتشافات العلمية في القرن العشرين في نظريات نيوتن أو أظهرت عدم ملاءمة بعضها، وخصوصًا فيما يتعلق بعلم الفلك. فمثلًا أكدت نظرية أينشتين في النسبية أن الفضاء والزمن ليسا مطلقين كما علم نيوتن. وعلى العموم، فكما ذكر بعض الثقات الحجة في العلوم والتكنولوجيا؛ أن تركيب ناطحة السحاب، وأمن جسر سكة حديدية، وحركة السيارة، وتحليق الطائرة، وملاحة السفينة عبر المحيط، وقياس الزمن وما إلى ذلك من الأدلة في حضارتنا المعاصرة، لا تزال تتوقف أساسًا على قوانين نيوتن. وكما كتب السير جيمس جانز: «ليست نظريات نيوتن مناسبة فقط فيما يختص بالتهذيبات البالغة السمو للعلوم الحديثة، بل وإن الفلكي عندما يريد إعداد تقويمه الملاحي أو مناقشة حركات الكواكب، يستعمل نظريات نيوتن وحدها تقريبًا. والمهندس الذي يريد تشييد جسر أو بناء سفينة أو تصميم سيارة، يعمل تمامًا ما كان يعمله في حالة ما إذا كانت نظريات نيوتن لم يبرهن على عدم مناسبتها. ونفس الشيء صحيح مع المهندس الكهربي سواء أكان يصلح تليفونًا أو يصمم محطة لتوليد الكهرباء. لا تزال العلوم المستعملة في حياتنا اليومية مبنيةً على قوانين نيوتن. ومن المستحيل تقدير ما تدين به هذه العلوم لعقل نيوتن الصافي والثاقب، الذي وضعها على الطريق الصحيح، وإن نظرياته لَراسخةٌ ومقنعة لدرجة أنه ما من أحد فهمها واستطاع أن يشكَّ في صحتها.»
لا بد للثناء والتقريظ اللذين نالهما نيوتن على لسان أينشتين أن يمحو أي قدح من الفلاسفة منافسيه «إذ كانت الطبيعة أمامه كتابًا مفتوحًا استطاع قراءة حروفه دون عناءٍ، لقد ضم في شخص واحد: العالم القائم بالتجارب، وصائغ النظريات والميكانيكي والمتفنن في التعبير.»
قدر نيوتن حياته وهو في آخر أيامه تقديرًا يتسم بالتواضع، فقال: «لست أدري ماذا أبدو أمام العالم، ولكني أبدو أمام نفسي كغلامٍ على شاطئ البحر، يتسلَّى من آنٍ إلى آخر بالعثور على حصاةٍ أكثر ملاسة أو صدفة أجمل من العادية بينما يقع محيط الحقيقة الخضم كله أمامي دون أن يكتشف.»