بقاء الأصلح: تشارلز داروين١
ما من أحدٍ من هؤلاء الأسماء الشهيرة، وفي الواقع من بين جميع الملايين المولودين في القرن التاسع عشر، وربما، باستثناء كارل ماركس، ما من أحدٍ فعل أكثر من داروين في تغيير الاتجاهات الرئيسية للفكر، وخلق نظرة جديدة في المواضيع البشرية. وإن «الداروينية» فكرة ثبتت ورسخت تمامًا في عقول الشعب مثل الماركسية والمالثوسية والماكيافيلية.
لم يبد داروين وهو شابٌّ سوى القليل من الدلائل على أنه سيكون عالمًا ذا شهرة عالمية … انحدر من أسرة تضم عددًا من العلماء المبرزين والرجال المحترفين، ولكن حتى والده نفسه، ساوره شكٌّ بالغ فيما إذا كان ابنه سيصير شيئًا ما؛ ففي مدرسة «قواعد اللغة» ضايقت شارل الصغير دراسة اللغات الميتة والمنهج الكلاسيكي الجاف البالغ الصعوبة. وقد أنَّبه ناظر تلك المدرسة على تضييع وقته في التجارب الكيميائية وجمع الحشرات والمعادن، ولكي ينهج نهج أبيه، أرسل إلى جامعة إدنبره وهو في السادسة عشرة ليدرس الطب. وبعد قضاء سنتين فيها قرَّر أن مهنة الطب ليست له، فنقل إلى كامبريدج ليتدرب على الكهنوت للكنيسة الإنجليزية.
قوَّت هذه الظواهر الغريبة في جزر جالاباجوس بالإضافة إلى بعض الحقائق التي سبق أن لاحظها في أمريكا الجنوبية، قوَّت أفكار التطور التي بدأت تتشكل في ذهن داروين، وهاك روايته هو نفسه:
«دهشت دهشة بالغةً عندما اكتشفت في تكوينات البامبا حيوانات حفرية ضخمة مغطاة بدروع كدرع الأرماديلو الحالي، وثانيًا بالطريقة التي تحل بها الحيوانات الغريبة التشابه، أحدها محل الآخر في الاتجاه جنوبًا على القارة، وثالثًا بالصبغة الأمريكية الجنوبية لمعظم إنتاجات أرخبيل جالاباجوس، وخصوصًا بالكيفية التي تختلف بها اختلافًا طفيفًا في كل جزيرةٍ من مجموعة الجزر هذه. وما من جزيرةٍ منها تبدو عتيقةً جدًّا، بالمعنى الجيولوجي.»
ما عاد داروين يُصدق إطلاقًا تعاليم «التكوين» القائلة بأن كل جنسٍ خُلق كاملًا وانحدر خلال العصور دون تغيُّر.
وفور عودته إلى إنجلترا، شرع يحتفظ بمذكراته عن التطور، ويجمع الحقائق عن مختلف الأجناس، وهذا هو رأيه «أصل الأجناس». فكتب أول تسويدةٍ عن نظريتِه في سنة ١٨٤٢م وتقع في ٣٥ صفحة، ثم وسعها في سنة ١٨٤٤م إلى صورة أكمل تقع في ٢٣٠ صفحة. كان اللغز العظيم، في البداية، هو كيف يفسر ظهور الأنواع واختفاءها؟ لماذا تنشأ الأجناس وتتحور بمرور الزمن وتتفرع إلى عدة أنواع، وتختفي في الغالب من الوجود تمامًا؟
عثر داروين على مفتاح هذا اللغز عندما قرأ، بمحض الصدفة، موضوع مالثوس عن السكان. أبان مالثوس أن معدل الزيادة في عدد السكان قد أخَّرته «عوامل إعاقة إيجابية» كالأمراض والحوادث والحروب والمجاعات، فطرأ على فكر داروين أن هناك عوامل مشابهة تعمل على انخفاض عدد الموجود من الحيوانات والنباتات، فكتب يقول:
«وإذ صرت على أتمِّ استعدادٍ لتقدير قيمة تنازع البقاء الساري في كل مكان، من ملاحظاتي المستمرة مدة طويلة لعادات الحيوانات والنباتات، طرأ على بالي، في الحال، أنه في مثل هذه الظروف، تميل الأجناس الصالحة إلى الاحتفاظ بجنسها، بينما تندثر أو تهلك الأجناس غير الصالحة، وتكون نتيجة هذا تكون أجناس جديدة. إذن، تكونت عندي هنا أخيرًا نظرية يمكنني أن أعمل على هديها.»
وهكذا ولد مذهب داروين الشهير «الانتقاء الطبيعي» أو «تنازع البقاء» أو «بقاء الأصلح» وهذا هو حجر الأساس لكتابة «أصل الأجناس».
ظل داروين مدة عشرين سنة يكتب مذكراته ويضع البراهين على نظرياته. فقرأ كميات ضخمة من النصوص — مجموعات كاملة من المجلات الدورية، وكتب الرحلات وكتب الرياضيات، وزراعة الزهور والفاكهة والخضر وتربية الحيوان والتاريخ الطبيعي العام، فكتب يقول: «عندما أتأمل قائمة الكتب التي قرأتها ولخصتها، وتشمل مجموعات كاملة من الصحف والصفقات أدهشني نشاطي.» فتحدث إلى خبراء تربية الحيوان والنبات، وأرسل مجموعات من الأسئلة إلى كل من يمكن أن تكون لديهم معلومات مفيدة. أعدت هياكل عظيمة لعدة أنواع من الطيور الأليفة، وقورنت أعمار وأوزان عظامها بعظام أجناس الطيور البرية فقام بتربية الحمام الأليف وأجرى تجارب واسعة في التهجين. كما أجرى تجارب على الفواكه والبذور الطافية على مياه البحار، وفحص عدة أمور أخرى تتعلق بانتقال البذور، مستخدمًا في ذلك جميع معلومات علم النبات وعلم الحيوان وعلم الحفريات أو الجثث المتحجرة التي اكتسبها من رحلته على ظهر سفينة البحرية «البيجل». وأضاف إلى كمية المعلومات هذه آراءه الشخصية؛ إذ كان دائم التفكير في نظرياته الثورية.
اعتقد داروين أن التدعيم القوي لمذهبه «الانتقاء الطبيعي» جاء من دراسة «الانتقاء الصناعي». ففي حالة الحيوانات الأليفة والنباتات المنزلية — الخيول والكلاب والقطط والقمح والشعير وزهور الحدائق ونحوها — انتقى الإنسان وربى منها أكثرها نفعًا لاحتياجاته. وهكذا حورت الحيوانات الأليفة والمحاصيل والزهور خلال هذه العملية حتى إنه قلما يمكن التعرف على أنها تنتمي إلى أسلافها البرية بصِلَة. فنشأت أجناس جديدة عن طريق الانتقاء، فينتقي المُربي الحيوانات ذوات الصفات التي يريدها ولا يربي سواها، جيلًا بعد جيل، وأخيرًا ينتج أجناسًا تختلف عما كانت موجودة من قبل. فأنواع الكلاب المتباينة، مثل: الكلب الطويل الجسم، والقصير الأرجل، وكلب حراسة الأغنام، والأبيض الطويل الآذان وكلاب الصيد بجميع أنواعها، منحدرة كلها عن الذئب.
قال داروين: إذا أمكن إحداث التطور بالانتقاء الصناعي، فهلَّا تستطيع الطبيعة أن تفعل ذلك بالانتقاء الطبيعي؟ وفي الطبيعة يحل «تنازع البقاء» محل المربي. لاحظ داروين، بين جميع أنواع الحياة، أن عددًا كبيرًا من الأفراد يجب أن يهلك، لا يستطيع الحياة من بين المولود منها إلا نسبة بسيطة، تمدُّ بعض الأجناس بالغذاء أجناس أخرى. تدور المعركة بغير انقطاع، وتبيد المنافسة العنيفة الحيوانات والنباتات غير الصالحة فتنقرض، وتحدث تغييرات في الأجناس لتلائم الظروف اللازمة لبقائها.
ناقش داروين الأسس الجوهرية لنظريته في الأبواب الأربعة الأولى من كتابه «أصل الأجناس»، وتناولت الأبواب الأربعة التالية الاعتراضات الممكنة على هذه النظرية، وبعدها تأتي عدة أبواب تتناول علم طبقات الأرض والتوزيع الجغرافي للنباتات والحيوانات، والحقائق المناسبة لتصنيفها، وعلم الشكل الخارجي للكائنات وعلم الأجنة. ويلخص الباب الأخير كل ما سبق.
فسَّر داروين، في بداية كتاب «أصل الأجناس» تلك التغييرات التي حدثت للحيوانات الأليفة والنباتات المنزلية نتيجة لرقابة الإنسان. ويقارن الأنواع التي نتجت عن «الانتقاء الصناعي» بالتغيرات التي حدثت للحيوانات الأليفة والنباتات المنزلية نتيجة لرقابة الإنسان، ويقارن الأنواع التي نتجت عن «الانتقاء الصناعي» بالتغيرات التي تحدث في الطبيعة أو «الانتقاء الطبيعي» فأينما توجد الحياة يحدث التغير باستمرار، وما من فردين متشابهين تمامًا.
أضاف داروين تنازع البقاء إلى التنوع، فاستعمل بعض الأمثلة الشهيرة ليشرح كيف تزيد قدرة الكائنات الحية على التكاثر، إلى أي حدٍّ طالما لها مقدرة على الحياة، وحتى أبطأ الحيوانات في التكاثر، مثل الأفيال، سرعان ما تملأ الدنيا. فإذا كبر كل فيل إلى طول البلوغ وتكاثر طبيعيًّا، فإنه كما يقول داروين «سيكون هناك بعد مدة من ٧٤٠ إلى ٧٥٠ سنة، سيكون هناك على قيد الحياة حوالي ١٩ مليون فيل منحدرة من زوج الأفيال الأول.» ومن هذا المثال وغيره من الأمثلة، استنتج أنه «بما أن عدد الأفراد التي تولد تزيد كثيرًا على ما يمكن أن يعيش، فلا بد أن يكون هناك تنازعٌ على البقاء، إما بين فرد ما وفرد آخر من نفس جنسه، أو بين أجناس مختلفة، أو بين الكائنات الحية وظروف الحياة الطبيعية.» لا شواذ للقاعدة القائلة بأن كل نبات أو سمك أو طائر أو حيوان، ومنه الإنسان، ينتج بذورًا إلى ما لا نهاية أكثر مما يستطيع أن يتلاءم مع العالم المزدحم أو أكثر مما يولد، ومعدل الزيادة يتبع متوالية هندسية أي متضاعفة.
كذلك قدم رسمًا بيانيًّا للاعتماد المتبادل بين الكائنات الحية كل على الآخر، وجد داروين أن التلقيح النباتي بواسطة النحل ضروري لإخصاب أزهار البانسية وبعض أنواع البرسيم.
«يتوقف عدد النحل في كل منطقة، إلى حدٍّ كبير على عدد جرذان الحقل التي تتلف خلاياها وأقراص العسل التي تصنعها … ويتوقف عدد الجرذان كثيرًا كما يعرف كل إنسان، على عدد القطط … إذن فمن المعقول جدًّا أن وجود أي حيوانٍ مفترس بأعداد كبيرة في أية منطقة يقرر عن طريق اعتماد كائن على آخر، أولًا عدد الجرذان، ثم عدد النحل، وبعد ذلك وجود زهرة معينة في تلك المنطقة.»
يبدأ كتاب «أصل الأجناس» بأن يوضح كيفية عمل مبدأ «الانتقاء الطبيعي» في إيقاف زيادة عدد السكان. يكون بغض أفراد جنس ما أقوى من غيرها أو أسرع جريًا أو أعظم ذكاءً أو أكثر مناعة للأمراض أو أقدر على احتمال قسوة الطقس. يبقى هؤلاء أحياء ويتكاثر بينما يهلك الضعفاء. يعيش الأرنب الأبيض في المناطق القطبية بينما تستأصل الثعالب والذئاب الأرانب البنية اللون والأكبر جسمًا، وعاشت الزراف الطويلة الأعناق لأنها استطاعت في وقت الجفاف الحصول على طعامها من قمم الأشجار، بينما ماتت جوعًا الزراف القصيرة الأعناق. فأكدت هذه الاختلافات مبدأ «بقاء الأصلح». وفي خلال عشرات الألوف من السنين، أدَّى ذلك إلى خلق أجناس جديدة.
يروي داروين قصة قانون السن والناب والمخلب وهي تعمل في كل مكان، فيقول:
«نبصر وجه الطبيعة مشرقًا بالبشر، وكثيرًا ما نرى وفرة الطعام، ولا نرى أو ننسى أن الطيور التي تغرِّد حولنا تتغذَّى غالبًا بالحشرات أو البذور، وهكذا تهلك الحياة باستمرار، كما لا ننسى كيف تهلك هذه الطيور المغردة ويهلك بيضها وفراخها بواسطة الطيور الجارحة والوحوش الضارية، ولا نتذكر دائمًا أنه على الرغم من الوفرة العظيمة في الطعام، فإنه لا يكون بمثل هذه الدقة في جميع الفصول المتعاقبة في العام.»
أشار داروين إلى مظهر هامٍّ من مظاهر «الانتقاء الطبيعي»، فقال: «المعتاد أن الذكور الأقوياء الأكثر ملاءمة لأماكنهم في الطبيعة، هم الذين يتركون ذرية أكثر … فالوعل العديم القرون، أو الديك عديم المخالب القوية أضعف فرصة في ترك ذرية عديدة.» و«غالبًا ما يكون النضال بين الطيور في صورة أكثر هدوءًا.» فإن ذكور الأجناس المختلفة تسعى إلى جذب الإناث بالتغريد العذب أو بالريش الجميل أو بالقيام بحيلٍ غريبة.
وكذلك الطقس عامل قوي في الانتقاء الطبيعي؛ لأنه يبدو أن الفصول الشديدة البرودة والجفاف هي أكثر الفصول إعاقة للتكاثر … يبدو فعل الطقس، لأول وهلةٍ، مستقلًّا تمامًا عن تنازع البقاء، ولكن طالما يعمل الطقس على إقلال الطعام فإنه يجلب في ركابه أقسى تنازع بين الأفراد، سواء من نفس الجنس أو بين أفراد الأجناس المختلفة التي تتغذى بنفس نوع الطعام. والمنتظر أن التي تعيش أكثر من غيرها هي الأفراد القوية القادرة على مقاومة الحر أو البرد، والقادرة أكثر من غيرها على الحصول على طعامها.
كتب داروين يقول:
«يتربَّص الانتقاء الطبيعي كل يوم، بل وكل ساعةٍ في العالم، بأقل الاختلافات فينبذ الرديء ويحتفظ بكل ما هو طيب، يعمل في هدوء وفي الحال كلما وأينما سنحت له الفرصة عند تحسين كل كائن عضوي تبعًا لظروف حياته العضوية أو غير العضوية. لم نبصر شيئًا من هذه التغيرات البطيئة وهي تتقدم حتى أوضحت يد الزمن انصرام العصور، وتكون نظرتنا إلى العصور الجيولوجية البالغة القدم غير كاملة، فلا نرى غير اختلاف أشكال الحياة الآن عما كانت عليه في الماضي.»
قرر داروين في آخر أبواب كتابه أنه لا حدود لقوة الانتقاء الطبيعي، واقترح أن الإنسان يمكنه «أن يستنتج من المشابهة أنه من المحتمل أن تكون جميع الكائنات العضوية التي عاشت على هذه الأرض منحدرة من صورة أصليةٍ واحدة دبَّت فيها الحياة أول ما دبت.» واعتقد أن جميع صور الحياة المعقدة بوجودها للقوانين الطبيعية، وجد أن نتائج الانتقاء الطبيعي موحية.
وهكذا نجد من حرب الطبيعة، ومن المجاعات، ومن الموت، نجد أعظم موضوعٍ نستطيع التفكير فيه، وهو إنتاج الحيوانات الراقية، هو ما يلي ذلك مباشرة. توجد عظمة في وجهة النظر هذه عن الحياة، بشتى قواها التي نفثها الخالق في بضعة صور أو في صورةٍ واحدة، وبينما يدور هذا الكوكب تبعًا لقانون الجاذبية الثابت، فمن هذه البداية البسيطة نشأَت صور لا تُحصى في غاية الجمال والعجب، ولا تزال تنشأ.
شُبِّه تهافت معاصري داروين على كتاب «أصل الأجناس»، بحريقٍ هائل انطلق كالبرق في جرنٍ، فإذا كانت هذه النظرية الثورية الجديدة صحيحةً، فلا يمكن بعد ذلك قبول قصة التوراة عن الخليقة؛ فأدركت الكنيسة، من فورها، أن مذهب داروين خطر على الدين وأقامت عاصفة من المعارضة، وعلى الرغم من أن داروين كان على جانب كبير من الحذر ولم يطبِّق نظريته على الجنس البشري، فقد ذاع اتهامه بأن ذلك المؤلف يقول إن الناس منحدرون عن القردة.
«لا يحق للمرء أن يخجل من أن جده قرد، وإنما الجد الذي أشعر بالعار منه هو إن كان رجلًا مضطرب الذكاء متقلبه، لا يقنع بالنجاح في مجال عمله، وإنما يقحم نفسه في أمور علمية لا يلم بها إلمامًا حقيقيًّا فيلقي الغموض عليها ببلاغة عديمة الهدف، ويسرح بانتباه سامعيه بعيدًا عن جوهر الموضوع بانحراف بلاغي ونداء بارع إلى التعصب الديني.»
هذا هو أحد الاصطدامات العديدة بين الكنيسة والعلم بسبب المذهب الدارويني والتطور الذي استمر أواره في السنين اللاحقة.
عدلت آراء داروين عن الدين عندما تقدمت به السن. فلما كان شابًّا، آمن بفكرة الخليقة الخاصة دون إبداء أي سؤال عبر في حياته وخطاباته عن اعتقاده بأن الإنسان سيكون في المستقبل البعيد مخلوقًا أكثر كمالًا عمَّا هو الآن.
وأضاف داروين يقول:
«أثر في مصدر آخر للتساؤل عن وجود «الله» يتصل بالعقل وليس بالمشاعر، على أنه أكثر أهمية. جاء هذا من الصعوبة البالغة، أو بالأحرى من استحالة تصور هذا العالم الشاسع العجيب الذي يشمل الإنسان ذا القدرة على النظر إلى الماضي وإلى المستقبل نتيجة الفرصة العمياء أو الحاجة العمياء. وبينما أنا أتأمل هذا، أشعر بأنني مضطرٌّ إلى النظر إلى كائن أول ذي عقل ذكيٍّ إلى درجة أنه يشبه عقل الإنسان. وإنني لأستحق أن أُوصف بالإلحاد. كانت هذه الفكرة قوية في ذهني في حوالي الوقت الذي كتبت فيه «أصل الأجناس» حسبما أستطيع أن أتذكر. ومنذ ذلك الوقت أخذ يضعف تدريجيًّا مع بعض التغيرات. ولكن عندئذٍ ينشأ الشك؛ أمن الممكن أن نثق في عقل الإنسان، الذي كما أعتقد، متطور عن عقل كعقل أدنى حيوان، أمن الممكن أن نثق فيه عندما يستنتج مثل هذه النتائج؟»
عند ذلك رفع داروين يديه وقال:
«لا أدَّعي أنني ألقيت أقل ضوء على مثل هذه المسائل؛ فلغز نشأة جميع الكائنات مستحيل الحل بواسطتنا، وإنني كفرد يجب أن أقنع بأن أبقى من أنصار مذهب عدم كفاية العقل البشري لفهم الوحي.»
تلا كتاب «أصل الأجناس» سيل من الكتب بقلم داروين السيال، تناولت مواضيع أكثر تخصصًا خططت لتكون ملحقًا للتطور بالانتقاء الطبيعي وتكمله وتدعمه، ذلك التطور الذي قدم بطريقة مفهومة في كتاب «أصل الأجناس». فصدر أولًا مجلدان صغيران بعنوان «عن شتى الطرق التي تلقح بها الأوركيدات بواسطة الحشرات»، و«طبائع النباتات المتسلقة». وبعدهما ظهر مؤلفان ضخمان: «تنوع الحيوانات والنباتات بالاستئناس»، و«انحدار الإنسان والانتقاء بالنسبة للجنس». وتناولت الكتب التالية التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوان، والنباتات آكلة الحشرات، وآثار الإخصاب بالتهجين، وقوة الحركة في النباتات، وتكون الفطر النباتي.
تعمد داروين في كتاب «أصل الأجناس» أن يخفف من مناقشة موضوع نشأة الإنسان؛ لأنه اعتقد أن أي تأكيدٍ لمرحلة التطور يسبب نبذ نظريته كلها. ومع ذلك فقد قدَّم كمية ضخمة من الأدلة في «انحدار الإنسان» ليشرح أن الجنس البشري هو أيضًا ناتج عن التطور من صور أدنى.
«عندما يتأمل المرء في الأثر الضخم لمؤلف داروين على جميع فروع الفكر البشري ولا سيما على علوم الأحياء والنفس والاجتماع، يجد نفسه مضطرًّا إلى استنتاج أن … يجب إعطاء داروين أسمى مقعد شرفي كأعظم مفكر استثمر أفكاره في القرن التاسع عشر، ليس في إنجلترا وحدها وإنما في العالم أجمع. وإن الأهمية الاجتماعية لتعاليم داروين قد بدأت في الدخول إلى الأفهام.»
ومن ناحية أخرى، كانت هناك تطبيقاتٌ لنظريات داروين، لا شك في أنه استاء منها، مثال ذلك الفاشية التي استخدمت فكرة الانتقاء الطبيعي، أو بقاء الأصلح لتبرِّر تصفية أجناس بعينها. وبنفس هذه الطريقة دوفع عن الحروب بين الأمم، بأنها وسيلةٌ لإبادة الضعفاء واستمرار بقاء الأقوياء. كذلك حُرِّفت الداروينية بواسطة أنصار الماركسية لتطبيقها على تنازع الطبقات، كما بررت جماعات الأعمال الوحشية، بواسطة الداروينية طرق إبادة المجتمعات الصغيرة لنفس الأسباب.
ولما كان داروين دقيق الملاحظة والتجارب بصورةٍ خارقة؛ فقد بقي مؤلفه راسخًا في معظم أحواله عندما اتسع نطاق المعارف العلمية. ورغم أن نظرياته قد عدَّلتها اكتشافات العلوم الحديثة، فإنه نجح في التنبؤ بصورة مدهشة، بالآراء السائدة الآن في علم الوراثة والحفريات ومجالات عديدة أخرى.
وضع مؤلف داروين … عالم الحياة في نطاق القانون الطبيعي. لم يعد من الضروري أو من الممكن أن نتصور أن كل نوع من الحيوان أو النبات قد خلق خلقًا خاصًّا، ولا أن طرقه الجميلة البارعة في الحصول على غذائه أو الفرار من أعدائه، قد ذكرت فيها قوة خارقة ولا أن هناك غرضًا مقصودًا وراء هذه العملية الثورية. فإذا كانت فكرة الانتقاء الطبيعي صحيحة، فإن الحيوانات والنباتات والإنسان نفسه قد صارت إلى ما هي عليه الآن بأسباب طبيعية، عمياء وتلقائية، كتلك التي تحدث لتشكيل هيئة الجبل، أو التي تجعل الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس في أفلاك إهليلجية. ينتج التنازع الأعمى للبقاء وتنتج عملية الوراثة العمياء تلقائيًّا لانتقاء أكثر الأنواع ملاءمة للبقاء، ولتطور الأجناس نحو التقدم.
مكننا مؤلف داروين من أن نرى مركز الإنسان وحضارتنا الحالية، في نورٍ حقيقيٍّ. ليس الإنسان سلعة فرغ من صنعها، فصار غير قابل للتقدم أكثر من ذلك. إن وراءه تاريخًا طويلًا، ليس تاريخًا نحو التقهقر والهبوط، وإنما هو نحو الصعود. وأمامه إمكان التطور التقدمي أكثر مما هو عليه. وزيادة على ذلك، ففي ضوء التطور، علينا أن نتعلم أن نكون أكثر صبرًا. بالقياس إلى المليون سنة التي عاشها الإنسان على الأرض، والألف مليون سنة لتقدم حياته، وبوسعنا أن نتذرع بالصبر عندما يؤكد لنا علماء الفلك أن أمامنا على الأقل ألف مليون سنة أخرى لنتطور فيها تقدميًّا إلى صور سامية جديدة.