الثوري الأمريكي: ثوماس بين١
ما كان لأي رجل عاقل أن يتنبأ لثوماس بين بمستقبل زاهر عندما وصل إلى أمريكا وهو في السابعة والثلاثين من عمره. كانت حياته كلها حتى ذلك الوقت سلسلة من الإخفاقات وخيبة الأمل؛ فكل مشروعٍ وضع يده فيه باء بالفشل. إذن، فأي سببٍ يجعلنا نعتقد أنه في خلال بضع سنواتٍ يبرز هذا القادم الحديث إلى الدنيا الجديدة كواحدٍ من أعظم مؤلفي الكتيبات في اللغة الإنجليزية، وواحد من أعظم الباحثين في التاريخ الأمريكي. إنه مثير للقلاقل السياسية، وثوريٌّ عُرف اسمه ورهب ومقت أو قرظ وكرم في جميع المستعمرات البريطانية الأمريكية، وبريطانيا العظمى، وغرب أوروبا! يبدو أن رحلة المحيط قد أحدثَت تحورًا مثيرًا في شخصيته وأخلاقه، فغيرته ما بين عشيةٍ وضحاها من الإدراك المتوسط إلى النبوغ.
لم ترفض العريضة التي قدمها بين نيابةً عن زملائه، لم ترفض فحسب، بل وطُرد من عمله لإهماله واجباته. وأفلس حانوت تجارة التبغ، فبيع أثاث بيته وأمتعته الشخصية لإنقاذه من السجن بسبب ديونه. فانفصل عن زوجته. وإذ أقبل على منتصف العمر، ترك وحيدًا خالي الوفاض.
ظهر «الإدراك العام» في ١٠ يناير سنة ١٧٧٦م «ومؤلفه رجل إنجليزي»، وهو عبارةٌ عن كتيب من ٤٧ صفحة، وثمنه شلنان. فبيع منه ١٢٠٠٠٠ نسخةً في ثلاثة أشهر، وبلغ مجموع المبيعات الكلية حوالي نصف مليون، وهذه تعادل بالنسبة إلى عدد السكان، بيع ٣٠ مليون نسخة في الولايات المتحدة اليوم. والواقع أن كل شخصٍ يستطيع القراءة في المستعمرات الثلاث عشرة، لا بد وأن قرأه. ورغم هذه المبيعات الضخمة رفض بين أن يأخذ بنسًا واحدًا من حصيلة ذلك الكتيب.
ليس في تاريخ الأدب شيءٌ يُعادل «الإدراك العام» في أثره الفوري. كان نداء بوقٍ إلى المستعمرات الأمريكية لكي تحارب من أجل استقلالها — دون قبول الصلح ولا التردُّد. أبان لهم ذلك الكتاب أن الثورة هي الحل الوحيد لنضالهم مع بريطانيا العظمى وجورج الثالث. فقال بين: «بما أنه لا شيء يُجدي غير الصفعات، فإكرامًا لخاطر الله هيا بنا إلى الانفصال النهائي. إننا ندفع ثمنًا غاليًا، وغاليًا جدًّا عن إلغاء القوانين، إذا كان هذا هو كل ما نحارب من أجله … إنه من الحماقة أن ندفع ثمن بنكر هيل من أجل الأرض … ليس هذا موضوع مدينة أو مقاطعة أو محافظة أو مملكة، بل موضوع قارة … ليس هذا مصير يوم ولا سنة ولا جيل؛ بل إن ذريتنا مشتركةٌ في هذه التجربة … الآن وقت البذر لاتحاد وإيمان وشرف قارة … إن حزام القارة المربوط واسع … الاستقلال هو الرباط الوحيد الذي يُحافظ على ارتباطنا معًا.»
ومقدمة «الإدراك العام» فقرة معتدلة ومهدئة:
ربما كانت العواطف التي تتضمنها الصفحات التالية ليست جيدة الصياغة بما يكفي لأن تحظى بالقبول العام؛ فالعادة الطويلة الأمد التي لا تظن بأن هناك شيئًا خطأ، تُعطي مظهرًا سطحيًّا بأنه صواب، ويُثير أولًا صفحة مدوية للدفاع عن العادات. ولكن سرعان ما يخمد الصوت. يخلق الزمن مهتدين أكثر مما يفعل العقل.
يتناول القسم الأول من هذا الكتيب نشأة الحكومة وطبيعتها مع تطبيق معين للدستور الإنجليزي. تظهر فلسفة المؤلف عن الحكومة في مثل هذه العبارات:
ليست الحكومة، حتى وهي في أفضل حالاتها، سوى شرٍّ لا بد منه، وفي أسوأ حالاتها، شر لا يطاق … الحكومة كالثياب، شارة البراءة المفقودة … بُنيت قصور الملوك على أنقاض مقاصير الجنة … كلما كَثُر كمال المدنية قلَّت حاجتها إلى حكومة.
يقول بين: «إن نشأة الحكومة وقيامها قد صارا ضروريَّيْن بسبب عجز الأخلاق الفاضلة عن حكم العالم، وهنا أيضًا شكل ونهاية الحكومة، أي الحرية والاطمئنان.»
يوجد فرقٌ كبير بين المجتمع والحكومة. ينجذب الناس إلى المجتمع وعن طريق التعاون الاجتماعي يمكنهم الحصول على حاجاتٍ معينة. وفي هذه الحالة يملك الإنسان حقوقًا طبيعيةً معينةً مثل الحرية والمساواة. ونموذجيًّا، يجب أن يكون الإنسانُ قادرًا على أن يعيش في سلامٍ وسعادةٍ بدون حكومة، إذا كانت بواعث الضمير واضحةً ومتناسقةً ومطاوعةً بغير مقاومة. وبما أن الجنس البشري ضعيفٌ طبيعيًّا، وغيرُ كاملٍ أخلاقيًّا، يلزم وجود قوةٍ رادعة ما، وهذه توفِّرها الحكومة. ومع ذلك، يتوقَّف أمن وتقدُّم وراحة الشعب على المجتمع أكثر مما يتوقَّف على الحكومة. وتجاوُب المجتمع وعاداته والعلاقات المتبادلة بين الناس أقوى تأثيرًا من أي دساتير سياسية.
ادَّخر بين أقذعَ ألفاظه وأعظمَ احتقاره لدستور الملكية الوراثية. هاجم مبدأ الملكية كلَّه من أساسه، ولا سيما الصورة الإنجليزية من هذا المبدأ.
عرف العالم حكومة الملوك، أول ما عرفوها، من الوثنيين الذين حاكاهم في هذه العادة أبناء إسرائيل. كانت الاختراع الأكثر ازدهارًا، الذي أقامه الشيطان لنشر عبادة الأصنام. قدَّم الوثنيون فروض العبادة لملوكهم الأموات، وتحسَّن العالم المسيحي بفعل نفس ذلك الشيء لملوكهم الأحياء … وأضفنا نحن إلى شر الملكية، شر حق الوراثة. ولما كان الشر الأول تحقيرًا وتقليلًا لأنفسنا، فإن الشر الثاني، كحق، إهانة لنا، وفرض على ذريتنا … ومن أقوى البراهين الطبيعية على سخافة حقوق الوراثة للملوك، أن الطبيعة نفسها تشمئز منها، وإلا فإنها تسخر منا فتعطينا «حمارًا» بدل «أسد».
ورجوع شرعية الوراثة الإنجليزية للعرش إلى عصر الغزو، أمر مشكوك فيه، في نظر بين، فيقول: «نزل بإنجلترا صعلوك فرنسيٌّ ومعه عصابة مسلحة، فأقام نفسه ملكًا لإنجلترا بغير موافقة السكان الوطنيين، وهذه ببساطةٍ نشأة دنيئة حقيرة — وبالتأكيد لا تنطوي على شيء إلهي.» إذا أمنت الملكية فريقًا من الناس الأخيار والعقلاء، فلا مانع. ولكنها «تفتح بابًا» للأغبياء والأشرار والمفسودين … أولئك الناس الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم وُلدوا ليحكموا بينما وُلد الآخرون ليطيعوا، سرعان ما يتخلَّقون بالوقاحة. وهم بخلاف سائر الجنس البشري قد تسممت عقولهم منذ عصرٍ مبكر، بالعظمة والصلف … وعندما يتولَّوْن الحكومة بالوراثة، فكثيرًا ما يكونون جهلاء وغير صالحين لأي شيء في جميع أنحاء المملكة. والسماح للملوك القصر والشيوخ بالجلوس على العرش يخلق عددًا من الشرور والمساوئ ففي الحالة الأولى يكون الحكم الحقيقي للمملكة في يدي وصي على العرش، وفي الحالة الثانية يصير الحكم عرضة لنزوات ملك عجوز خائر.
وردًّا على القول بأن وراثة العرش تمنع قيام الحروب الأهلية، أشار بين إلى أنه منذ عصر الغزو اجتاحت إنجلترا «ما لا يقل عن ثماني حروب أهلية وتسعة عشر تمردًا.» وقال:
لا يعمل الملك في إنجلترا إلا القليل جدًّا زيادة على إعلان الحروب وتوزيع المناصب، وهذا، ببساطة، معناه أنه يفقر الأمة ويضمُّها معًا من آذانها. فيا له من عمل رائع حقًّا أن يتقاضى رجلٌ عنه ثمانمائة ألف جنيه إسترليني سنويًّا ويُعبد من أجل هذا العمل! إن رجلًا أمينًا واحدًا لأعظم قيمةً للمجتمع وفي نظر الله أيضًا، من جميع أولئك السوقة المتوجين الذين عاشوا في هذه الدنيا.
أدَّى بين فروض الاحترام، في عدة فقرات إلى جورج الثالث. فكتب بعد مذبحة لكسنجتون، يقول: «إني لأنبذ إلى الأبد فرعون إنجلترا القاسي القلب والسيئ الطباع، وأحتقر ذلك الوغد ذا اللقب الزائف «أبو شعبة» الذي يسمع عن مذابحهم دون شعور، وينام ناعم البال ودمهم على روحه.» ثم يستطرد في فقرة لاحقة، فيقول: «يقول البعض: ولكن أين ملك أمريكا؟ فأردُّ عليك، يا صديقي، بقولي: إنه يحكم فوق، ولا يعمل على إبادة الجنس البشري ودماره كما يفعل وحش بريطانيا الملكي.»
وإذ فجَّر بين بعض الآراء الشعبية عن الحكومة الملكية، انتقل إلى «بعض الأفكار عن الحالة الراهنة للشئون الأمريكية». فأكد النقاش الاقتصادي للانفصال عن بريطانيا، وعن ادِّعاء المحافظين بأن أمريكا ازدهرت بسبب صلتها بإنجلترا، فقال:
كان بوسع أمريكا أن تزدهر بذلك القدر، وربما بأكثر منه لو لم تتدخَّل في شئونها أية قوة أوروبية؛ فمواد التجارة التي أغنَتْ أمريكا بها نفسها هي ضروريات الحياة، وستجد دائمًا سوقًا لمنتجاتها طالما كانت عادة أهل أوروبا أن يأكلوا … يجلب قمحنا ثمنًا في أية سوق أوروبية، وسلعنا المستوردة يجب أن ندفع ثمنها؛ ولذا يمكننا أن نشتريَها من أين يحلو لنا.
أما القول بأن بريطانيا قامَت بحماية المستعمرات ضد الإسبانيين والفرنسيين والهنود فلم يقبله بين في احتقار، وعلَّق عليه بقولِه: «كان يمكن أن تحميَ بريطانيا تركيا لنفس الدوافع، أي من أجل التجارة والمستعمرات وعلى أية حال كان الدفاع على حسابنا، كما كان على حسابها.»
أدرك بين أن من أقوى الروابط التي تحافظ على عدم انفصال المستعمرات، فكرة عاطفية بريطانية، إذا كان هذا حقيقيًّا. وهي تجلب العار على سلوكها. فحتى الوحوش لا تأكل صغارها، ولا يعلن المتوحشون الحرب على عائلاتهم … فقد اتخذ الملك وأذنابه العبارة «الدولة الوالدة أو الدولة الأم» يسوعيًّا لغرض بابويٍّ وضيع، لكسب انحيازٍ غير عادل على الضعف الساذج لعقولنا. فإن أوروبا، وليست إنجلترا هي الدولة الأم لأمريكا. قال بين: «إن الدنيا الجديدة كانت ملجأً لمحبِّي الحرية المدنية والدينية المضطهدين من جميع أنحاء أوروبا … لا يصل عدد السكان، الذين من أصلٍ إنجليزي، حتى في هذه المحافظة، إلى ثلث عدد سكانها الكلي، وهذا ما يجعلني أستاء لإطلاق عبارة «الدولة الوالدة أو الدولة الأم» على إنجلترا وحدها؛ إذ يكون هذا أنانيةً وزيفًا وبخلًا وضيقًا في التعبير.»
علَّق بين على تحذير جورج واشنطن «أن نبتعد عن التحالف الدائم مع أي جزءٍ من العالم الأجنبي.» وعلى سياسة توماس جيفرسون: «السلم والتجارة والصداقة الصادقة مع جميع الأمم، ولا نشتبك في تحالفٍ مع أي أمة منها.» علَّق بين على هذَيْن القولَيْن مقترحًا أن هناك مساوئ عديدة للعلاقة المستمرة مع بريطانيا:
… لأن أي خضوع أو اعتماد على بريطانيا العظمى يؤدي إلى الاشتراك المباشر لهذه القارة في الحروب والمعارك الأوروبية، ويضعنا في موقف العداء مع الأمم، التي بغير ذلك تسعى إلى صداقتنا والتي ليس بيننا وبينها أيُّ كدرٍ أو شكوى. ولما كانت أوروبا سوقًا لتجارتنا، وجب علينا ألا نُكَوِّن أية علاقة انحياز مع أي جزء منها. إن صالح أمريكا الحقيقي هو في الابتعاد عن المنازعات الأوروبية، الأمر الذي لن تستطيعه أمريكا وهي الكفة الراجحة في ميزان السياسة البريطانية؛ فأوروبا زاخرةٌ بالكثير من الممالك الراغبة في السلام، وإذا اندلعت نيران حربٍ بين إنجلترا وأية قوةٍ أجنبية، تحطمت تجارة أمريكا بسبب علاقتها ببريطانيا.
استعرض بين مساوئ الحكومة البريطانية المتعددة الصور، فاستنتج:
ليست قوة بريطانيا هي التي تُنصف هذه القارة؛ فسرعان ما ستكون شئونها كثيرة ومعقدة فلا تستطيع قوة بعيدة عنَّا أن تدبرها تدبيرًا مريحًا، وهكذا تجهلنا؛ لأن البريطانيين إذا لم يستطيعوا قهرنا فلن يستطيعوا أن يحكمونا. فإذا كان علينا دائمًا أن نقطع ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف ميل لعرض موضوعٍ أو تقديم شكوى، ثم ننتظر أربعة أو خمسة شهور ليصلنا الرد، الذي عندما يصل يحتاج إلى خمسة أو ستة شهور أخرى لتفسيره. وعلى هذا ينظر إليه بعد بضع سنوات على أنه حماقة و«معيلة» إنها لسخافة أن تستمر جزيرة تحكم قارة. لم تجعل الطبيعة، بحال ما، التابع أكبر من الكوكب المتبوع.
ألقى بين مرافعةً مثيرةً للعواطف من أجل المتشككين وضعاف القلوب، الذين ما زالوا يعتقدون أن الاتفاق أو الصلح ممكن، فقال:
أيمكنكم أن تُعيدوا إلينا الزمن الذي مضى؟ أيمكنكم أن تمنحوا البغاء براءته السابقة؟ كذلك لا يمكنكم الصلح بين بريطانيا وأمريكا. لقد انقطع الآن آخر حبلٍ للرجاء. يُلقي شعب إنجلترا الخطب ضدنا، وهناك أضرار لن تغفرها الطبيعة، وإذا غفرتها فلن تكون طبيعة بعد ذلك. وكما أن العاشق لن يغفر لمن يهتك عرض معشوقته، كذلك لن تغفر هذه القارة لبريطانيا مذابحها.
بينما يرزح العالم كله تحت عبء الظلم، يجب أن تفتح أمريكا أبوابها على مصاريعها للحرية وتُعد ملجأ للبشرية المضطهدة.
كرَّس بين الباب الأخير من كُتيِّبه لموضوع عملي جدًّا، وهو «المقدرة الحامية لأمريكا»؛ ليحصل على ثقة الأمريكيين ويقنعهم بأن لديهم القوة البشرية والتمرين الصناعي والموارد الطبيعية، ليس فقط لشن الحرب بنجاحٍ على بريطانيا، بل، إذا اقتضت الضرورة، على العالم المُعادي. تحتوي المستعمرات الآن على عددٍ ضخمٍ من الرجال المسلمين والمدربين، ويمكنها تكوين أسطول بحري يعادل أسطول بريطانيا في وقت قصير لأن القطران والأخشاب والحديد والحبال متوافرةٌ لدينا بكميات كبيرة وإن «بناء السفن لمفخرة أمريكا التي لا تزال تتفوق فيها على العالم أجمع.» وعلى أية حال، إن أمريكا في حاجة إلى أسطول للدفاع والحماية؛ لأن البحرية الإنجليزية قليلة الجدوى وهي على بعد ثلاثة أو أربعة آلاف ميل، وعديمة النفع إطلاقًا وقت نزول الخطر.
وعلى ضوء المجادلات الدينية التي اشتبك فيها بعد ذلك، من الممتع أن نبين آراء بين الدينية في هذه المرحلة من حياته.
أما فيما يختص بالدين، فأقرر أنه واجب لا غنى عنه لجميع الحكومات أن تحمي جميع أساتذة الدين الغيورين، ولست أعرف عملًا آخر يجب أن تقوم به الحكومة (وهذا طعن واضح ضد الكنيسة، يبغي من ورائه فصل الكنيسة عن الحكومة) … أما عن نفسي فإنني أُومِن تمامًا وبعقيدة أنها مشيئة الإله القادر على كل شيء، أن تكون بيننا خلافاتٌ في الآراء الدينية، فهذا يسمح بمجالٍ أوسع لطيبتنا المسيحية. وإذا اتفقت طريقة تفكيرنا جميعًا، احتاجت تكويناتنا الدينية إلى مادة للنقاش، وإلى هذا المبدأ الحر، أتطلع إلى جميع القيم التي بيننا، لنكون كأطفال أسرة واحدة لا يختلفون إلا فيما يطلقون عليه الاسم الأول أو الاسم المسيحي.
لخص بين أسباب تمسكه برأيه في «أنه ما من شيء يسوي أمورنا بسرعة وبسهولة مثل الإعلان الصريح لاستقلالنا» … ختم كتيبه «الإدراك العام» بذكر أربعة عوامل: (١) طالما أن أمريكا تعتبر من رعايا بريطانيا، فما من دولة أخرى يمكنها التدخل في الخلاف بينهما. (٢) لا يمكن انتظار مساعدة من فرنسا أو إسبانيا لإصلاح الصدع بين بريطانيا وأمريكا وتقوية العلاقة بينهما لأن مثل هذه الخطوة ستكون ضد مصالحهما. (٣) طالما يعترف الأمريكيون بأنهم رعايا بريطانيا، فإنهم سيعتبرون في نظر الأمم الأجنبية عصاة متمردين، وهكذا لا يكسبون إلا القليل من عطفهم. (٤) إذا أعدَّ الأمريكيون تقريرًا يوضِّحون فيه شكواهم ضد بريطانيا وعزمهم على قطع كل علاقة بها، وإرسال نسخ من هذا التقرير إلى جميع الدول، معبِّرين عن نواياهم السلمية مع تلك الدول، ورغبتهم في إقامة علاقات تجارية، صارت النتائج في صالحنا جدًّا.
واختتم بين قضيته بقوله:
… إذا لم يُعلَن الاستقلال فستظل القارة تشعر بأنها مثل رجل دائم التأجيل لعملٍ كريه من يوم إلى يوم، رغم أنه يعلم أن ذلك العمل لا بد أن يتم، ويكره أن يبدأ فيه، وفي الوقت نفسه يرغب في الانتهاء منه، ويظل مشغول البال باستمرار بضرورة ذلك العمل.
لماذا، بدلًا من أن يُحملق كلٌّ منَّا في الآخر مستريبًا أو متسائلًا، لماذا لا يمد كلٌّ منا إلى جاره يد الصداقة من كل قلبه، ونتحد في رسم خط، كعملٍ من أعمال النسيان ويدفن في حيز النسيان كل نزاع سابق. ولنقضِ على اسم عضو من حزب الأحرار وعضو في حزب المحافظين، ولا يُسمع بيننا سوى «مواطن صالح» و«صديق وفي» و«مؤيد فاضل لحقوق الإنسان وحقوق ولايات أمريكا الحرة والمستقلة».
كانت هذه هي الرسالة الثورية التي بعث بها «الإدراك العام» إلى الشعب الأمريكي، صاعدًا السلم من أسفل إلى أعلى الأرض، ومن الأدلة العملية إلى النداءات المنحازة لشخصٍ مفعم بالعواطف، ووطني عنيف، وثوري مفطور.
من الصعب أن نذكر اسم أي إنشاء بشري كان له ذلك الأثر الفوري وفي الحال، وامتدَّ إلى نطاقٍ واسع، وكان له مثلُ ذلك الدوام … سرق هذا المؤلف، ونظم شعرًا وحوكي، وترجم إلى لغة كل دولة كان للجمهورية الجديدة من يودونها فيه ويودون لها أطيب الأماني … وتبعًا للصحف المعاصرة، حول كتيب «الإدراك العام» إلى الاستقلال أُلُوفًا لم تتحمل من قبل مجرد فكرة الاستقلال. لم ينقص ما فعله هذا الكتيب عمَّا تفعله المعجزات، وحوَّل المحافظين إلى أحرار.
وإذا انتهَت الثورة في عام ١٧٨٣م، عكف بين على اختراعاته الميكانيكية مصممًا أول جسر حديدي معلق وأخذ يُجري التجارب على قوة البخار. فقرَّر استشارة المهندسين في فرنسا وإنجلترا عن بعض المسائل الميكانيكية فذهب إلى أوروبا عام ١٧٨٧م حيث بقي مدة خمسة عشر عامًا.
انتُخب بين في «قاعة الشهرة لعظماء الأمريكيين»، ولكن هذا لم يكن قبل سنة ١٩٤٥م، أي بعد تأسيس تلك القاعة بخمس وأربعين سنة. وفي السنة عينها أعادت مدينة نيوروشيل لذلك البطل الثوري حقوق المواطنين التي فقدها في سنة ١٨٠٦م.
كان ذلك هو الرجل الذي استحق، ربما أكثر من أي شخصٍ آخر، لقب «مؤسس الاستقلال الأمريكي». ذلك الذي كان أول من استخدم العبارة «الولايات المتحدة الأمريكية»، الذي رأى مسبقًا أن «الولايات المتحدة الأمريكية ستكون عظيمةً في التاريخ مثل مملكة بريطانيا العظمى»، والذي أعلن أن «قضية أمريكا هي، بمعنى أكبر، قضية البشرية كلها». وما من إشارةٍ توضِّح خلق بين خيرٌ من ردِّه على عبارة فرانكلين: «أينما توجد الحرية، يوجد وطني.» فقال بين: «حيثما لا توجد الحرية يوجد وطني.»