حالة الفرد المختصرة: هنري دافيد ثورو١
يرسم اسم دافيد هنري ثورو في المخيلة شخصًا دقيق الملاحظة في الطبيعة، محبًّا للعزلة وحياة الخلاء، ونموذج الحياة البسيطة، وشاعرًا متصوفًا، وأستاذًا لأسلوب النثر الإنجليزي.
هل كان ثورو فوضويًّا فلسفيًّا في معتقداته؟ وبتحليل مقاله «العصيان المدني»، أساسه وماضيه، نحصل على إجابة لهذا السؤال المعقد.
لم يطمح ثورو، بحالٍ ما، إلى جمع ثروة أو القيام بأي عمل سوى ما يمده بأقل ضروريات الحياة. كان شغفه دائمًا الحصول على وقت فراغ للأمور ذات الأهمية الأساسية، كما يراها هو، وهي التجول في حقول كونكورد ودراسة الطبيعة على الطبيعة والتفكير والقراءة والكتابة، وعمل الأشياء التي يرغب في عملها. كان بوسعه الحصول على حاجاته البسيطة دون شغل نفسه في حياة الأعمال الشاقة، التي رأى جيرانه يقومون بها. فبدلًا من آية التوراة القائلة بالعمل ستة أيام والراحة يومًا واحدًا، آثر ثورو أن يعكس النسبة — مكرسًا اليوم السابع فقط للعمل. وبالاختصار كان يسير على عكس تعاليم آدم سميث والحكم التي ذكرها فرانكلين في كتابه «مسكين ريتشارد»، والمثل الأمريكية التقليدية التي تحث على العمل الشاق والثراء السريع.
لم يذكر ثورو قصة احتكاكه بالحكومة لرفضه سداد ضريبة الرأس، لم يذكرها في مقاله «العصيان المدني» إلا بعد مرور عدة سنوات. كتب ذلك المقال أصلًا في ١٨٤٨م كمحاضرة. وخرجت النسخة المطبوعة، من المطبعة، في العام التالي … كانت الحرب المكسيكية لسنة ١٨٤٦-١٨٤٧م قد انتهت منذ مدة قصيرة، وكانت تجارة الرقيق نتيجتها الملهبة. وكان قانون العبيد الهاربين، الذي أثار حنق ثورو بنوعٍ خاص، على وشك أن يصدر. أضِف إلى هذه الأمور معركة ضريبة الرأس، فكانت حافزًا أوحى إليه بكتابة «العصيان المدني».
كانت أية حرب بغيضة لمثل ثورو، فما بالك بالحرب المكسيكية التي مقتها أشد المقت؛ لأن هدفها الوحيد، حسب اعتقاده، هو مد تجارة الرقيق الزنوج، التي كان يمقتها، إلى مناطق جديدة. فتساءل ثورو: لماذا ندعم بالمال حكومة «مذنبة بمثل هذه المظالم والغباء؟» وهنا كان مولد مذهبه عن العصيان المدني. قرَّر ثورو، وهو السياسي بقلبه وقالبه، أن الوقت قد حان لاختبار طبيعة الدولة وحكومتها. ماذا يجب أن تكون عليه علاقةُ الفرد بالحكومة، وعلاقة الحكومة بالفرد؟ ومن اعتبارات هذه المسائل، برزَت فلسفة ثورو، بوفائه الشخصي ومركزه الإنساني في المجتمع.
كتب ثورو يقول: «ليست الحكومة في خير صورها إلا وسيلة. بيد أن معظم الحكومات ليس وسائل أحيانًا. والمعارضات التي أثيرت ضد الجيش القائم، وهي كثيرة وبالغة الأهمية، وتستحق أن تثار ضد الحكومة القائمة.»
أعلن ثورو أن الحكومة الأمريكية كانت حسنة نسبيًّا.
غير أن هذه الحكومة لم تنفذ أي مشروعٍ من تلقاء نفسها، ولكنها تبدي نشاطًا وسرعة حركة في إزالة ذلك المشروع من أمامها لم تحافظ على حرية الدولة، ولم تسو مسألة الغرب، ولم تنشر التعليم؛ فالأخلاق الكريمة التي فُطر عليها الشعب الأمريكي هي التي أنجزت كل ما تمَّ من مشروعات، وكان بوسعها أن تُنجز أكثر منه لو لم تتدخل الحكومة أحيانًا؛ لأن الحكومة وسيلة ينجح بها الناس في ترك كل واحد وشأنه. وكما قلت من قبل، عندما تكون الحكومة في أقصى كونها وسيلة، فإن المحكومين يُصبحون في أقصى حالات تركهم وشأنهم بواسطة تلك الحكومة.
بعد أن قدم ثورو قضية «ألا تكون هناك حكومة» مباشرة تقريبًا، أدرك أن الإنسان لم يصل بعدُ إلى درجة الكمال حيث يكون من المحتمل عدم وجود حكومة على الإطلاق، فبدأ يعدِّل رأيه، قائلًا:
ولكي أتكلم من الناحية العملية، وكمواطن، بعكس الذين يسمُّون أنفسهم رجال «عدم الحكومة»، فإني لا أطلب في الحال عدم وجود حكومة، بل أطلب في الحال حكومة أفضل. وعلى كل فردٍ أن يوضح نوع الحكومة التي تحظى باحترامه، وستكون هذه خطوة إلى الأمام نحو الحصول عليها.
أكَّد ثورو على حقوق الأقليات في الحكم، والمغالطة التي تطلب حكم الأغلبية، فقال: «تحكم الأغلبية، ليس لكونها عرضة لأن تكون على صواب، ولا لأن هذا يبدو أكثر إنصافًا للأقلية، ولكن لأنها الأقوى طبيعيًّا، ولكن الحكومة التي تحكم فيها الأغلبية، في جميع القضايا، لا يمكن أن يكون حكمها مبنيًّا على العدل، حتى ولو كان على حد مفهوم البشر.» فقد كان يعتقد اعتقادًا راسخًا أن المواطن لن يتخلَّى عن ضميره للمشرع … «يجب أن نكون رجالًا أولًا، ثم رعايا بعد ذلك. ليس من الضروري أن ننمي احترام القانون، كما ننمي احترام الحق.»
ازدرى ثورو السياسيين كطبقة، فقال: «يخدم معظم المشرعين والسياسيين والمحامين والوزراء وموظفي الحكومة، الدولة برءوسهم غالبًا. وبما أنهم قلَّما يبدون أي تمييز أخلاقي فإنهم يميلون إلى خدمة الشيطان كإله دون وعي منهم. ويخدم قلة قليلة، كالأبطال والمتحمسين للوطن والشهداء والمصلحين والرجال بمعنى الكلمة، الدولة بضمائرهم أيضًا؛ ولذا فمن الضروري أن يقاوموا الحكومة في أغلب الأحوال؛ ولهذا تُعاملهم الحكومة عمومًا كأعداء.»
بعد ذلك أخذ ثورو يهاجم الحكومة الأمريكية لعصره، قائلًا: «لا يمكنني الاعتراف لحظة واحدة بأن تلك المؤسسة السياسية هي حكومتي، التي هي حكومة العبيد أيضًا.» من واجب المواطن أن يُقاوم الشر في الحكومة إلى حد عصيان قوانينها علنًا وعمدًا.
إذا تعهدت أمة بأن تكون ملجأً للحرية، وكان سدس عدد سكانها عبيدًا … فأعتقد أن الوقت ملائم للأشراف من شعبها أن يتمردوا ويثوروا … يجب أن يكف هؤلاء الناس عن امتلاك العبيد وعن شن الحرب على المكسيك، حتى ولو كلَّفهم هذا وجودهم كبشر.
وكذلك رثى ثورو للمواطن الذي يظن أنه قد أدى واجبه كاملًا بمجرد الإدلاء بصوته.
كل تصويتٍ نوع من المقامرة، كالضامة والطاولة، مع إضافة مسحةٍ أخلاقيةٍ بسيطة إليها. إنه لعب بالحق والباطل، بالمسائل الأخلاقية والمراهنة التي تصحبها بطبيعة الحال. ليست أخلاق المصوتين في خطر … وحتى التصويت على الحق لا يعمل شيئًا من أجله. إنه إنما يُعبِّر للناس عن رغبتك في سيادة الحق … ليس هناك سوى قليلٍ من الفضل في أعمال جموع البشر.
ناقش ثورو الطريقة الصحيحة لعمل المواطن حيال القوانين غير العادلة. هل الأفضل: الانتظار حتى تعمل الغالبية على تغيير القوانين، أم رفض طاعتها على الفور؟ كان جواب ثورو القاطع هو: «إذا أرادت الحكومة منك أن تكون عاملها في إنزال الظلم بشخصٍ آخر، فعندئذٍ أقول لك: اكسر القانون … ما يجب عليَّ أن أفعله هو أن أرى أنني لا أعير نفسي، بأية حال، إلى الظلم الذي أمقته وأحاربه.»
أكد ثورو على أنه ينبغي لمن يقاومون تجارة الرقيق أن «يسحبوا دعمهم في الحال، الشخصي والمادي، من حكومة ماساشوزتس، وألَّا ينتظروا حتى يصيروا غالبية عظمى، قبل أن يروا سيادة الحق بواسطتهم. وأعتقد أنه يكفي أن يكون الله في جانبهم دون انتظارٍ لتلك الغالبية. وزيادة على ذلك، فكل رجلٍ أكثر إحقاقًا للحق من جيرانه، هو غالبيةٌ في حد ذاته».
وكشعار للعصيان المدني، الذي هو طريق مفتوح أمام كل مواطن، أشار ثورو بأن يرفض المواطن دفع الضرائب. فإذا عبر ألف شخص أو أقل عن امتعاضهم من الحكومة بتلك الطريقة، فلا بد أن يتبع الإصلاح ذلك، حسب رأي ثورو. وحتى إذا كانت مقاومة السلطات تعني العقاب، «ففي ظل الحكومة التي تسجن أي فرد ظلمًا، يكون المكان الصحيح للإنسان العادل هو السجن أيضًا … إذا خيرت الحكومة بين إيداع جميع العادلين في السجن وبين ترك الحرب وتجارة الرقيق، فإنها لن تتردد في الاختيار.» فإذا دفع المواطن الضرائب لحكومة غير عادلة، فإنه إنما يتجاوز عن المظالم التي تقوم بها تلك الحكومة.
ورغم هذا، رأى ثورو أن طبقة أصحاب الأملاك تُخاطر كثيرًا إذا تمرَّدت؛ لأن «الرجل الغني — دون عمل مقارنات تثير الغضب — يُباع دائمًا للمؤسسة التي جعلته غنيًّا. وبتعبيرٍ مركَّز، كلما زاد المال قلَّت الفضيلة؛ إذ يقف المال دائمًا بين الرجل وأهدافه، ويحقِّقها له.»
وإذ لم يكن ثورو غنيًّا، كان بوسعه أن يقاوم. «يكلفني عصيان الحكومة أقل، بجميع المعاني، مما تكلفني طاعتها. أحس بأنني أساوي أقل في هذه الحالة الأخيرة.»
كذلك كان ثورو واقعيًّا في رؤيته قيمة الاعتراضات الاقتصادية التي منعَت حكومة ماساشوزتس من القيام بعملٍ ضد تجارة الرقيق.
إذا تكلمنا من الناحية العملية، فإن المعارضين للإصلاح في ماساشوزتس، ليسوا مائة ألف سياسي في الجنوب، بل مائة ألف تاجر ومزارع هنا، يهتمون بالتجارة والزراعة أكثر من اهتمامهم بالإنسانية. وليسوا مستعدين للوقوف إلى جانب تحريم تجارة الرقيق ومعارضة الحرب مع المكسيك «مهما تكلَّف الأمر».
تمسك ثورو بمبادئه لمدة ستة أعوام، وقرر أنه لم يدفع أية ضريبة رأس. ولم تزحزحه مدة سجنه القصيرة عن اتهاماته للحكومة، بل جعلته لا يهتم بالسجن.
رأيت أن الحكومة نصف ذكية، وأنها جبانة كامرأة تُركت وحيدة مع ملاعقها الفضية، وأنها لا تعرف أصدقاءها من أعدائها، ففقدت كل ما تبقَّى عندي من احترام لها. وهكذا لن تواجه الحكومة قصدًا مشاعر الإنسان الذهنية ولا الأخلاقية، بل تواجه جسمه فقط وليس مشاعره. ليست الحكومة مسلحةً بذكاء سام ولا بأمانة، وإنما هي مسلحةٌ بقوة بدنية فائقة، لم أولد لأجبر، سأتنفس كما يطيب لي.
فرق ثورو بين الضرائب: «لم أتأخَّر أبدًا عن دفع ضريبة الطرق، ولا ضريبة المدارس؛ لأنني أرغب في أن أكون جارًا طيبًا، بقدر ما أنا رعية سيئ.» إنه يدعم تجارة الرقيق والحرب بدفع الضرائب العامة «أريد، ببساطة، أن أرفض التحالف مع الحكومة، وأن أنسحب وأقف بعيدًا عنها بطريقةٍ فعالة.» في هذه الأمور.
لم تكن هناك رغبةٌ من جانب ثورو للوقوف كشهيدٍ أو قديس، بل قال:
«لا أرغب في العراك مع أي رجلٍ أو أية أَمَة، ولا أريد أن أقومَ بالتمييز بين شخصٍ وآخر، أو أضع نفسي في موقفٍ أفضل من جيراني، بل أسعى إلى عذرٍ يجعلني أتمشَّى مع قوانين البلاد. إنني على أتم استعدادٍ للسير تبعًا لها. والحقيقة أنه لديَّ سبب للشك في نفسي فيما يختص بهذا الأمر. وفي كل عام، عندما يأتي وقت جباية الضريبة، أجد نفسي مستعدًّا لاستعراض القوانين وموقف الحكومة العامة وحكومة الولاية وروح الشعب لأكتشف حجة للتمشي مع القوانين.»
وزيادة على ذلك، اعترف ثورو أنه على الرغم من هبوط القوانين عن المستوى المثالي فإن «الدستور، مع كل أخطائه، جيد جدًّا، والقانون والمحاكم محترمة. وحتى حكومة هذه الولاية والحكومة الأمريكية رائعتان في كثيرٍ من النواحي، ونادرتان لدرجة أننا ندين بالشكر من أجلهما.»
ورغم انتقاده قاعدة الغالبية، فهو يؤمن، بعض الشيء، بحكم الشعب. وفي نظره، فالتشريع ينقصه القدرة على أن يعالج بنجاحٍ «الموضوعات المتواضعة نسبيًّا، للضرائب والمالية والتجارة والصناعة والزراعة. وإذا كان كل اتكالنا على عباراتِ المشرعين في الكونجرس، لكي تقودنا، دون أن تصححها التجارب الموسمية أو شكاوى الشعب المؤثرة، فلن تحتفظ أمريكا بمركزها بين الأمم لمدةٍ طويلة.»
ويختم ثورو مقالَه «العصيان المدني» بعبارةٍ من فكرته عن الحكومة الكاملة، وتأكيده الملحِّ على اعتقادِه بكرامة الفرد وقيمته.
ولكي تكون سلطات الحكومة عادلةً بالمعنى الحرفي … يجب أن تحصل على موافقة المحكومين وبركتهم. لا يمكن أن يكون لها حقٌّ مطلق على شخصي أو على ممتلكاتي إلا بقدر ما أوافق عليه. والتقدم من ملكية مطلقة إلى ملكية محددة، ومن الملكية المحددة إلى الديمقراطية تقدم نحو احترام حقيقي للفرد … وهل الديمقراطية كما نعرفها هي التحسن الأخير الممكن في الحكومة؟ أليس بالإمكان أن نخطو خطوة نحو الاعتراف بحقوق الإنسان وتنظيمها. لن تكون هناك ولاية حرة بحق، ومستنيرة بحق إلا إذا اعترف مجلس الشيوخ بالفرد كقوة عُليا مستقلة، يستمد منها كل قوته وسلطته، ويعامل ذلك الفرد على هذا الأساس. وإني لأمتع نفسي بأن أتخيل حكومة، في النهاية، يمكنها أن تكون عادلة إزاء جميع الناس، وتعامل الفرد بالاحترام على أنه جار لا يظن من الملائم لراحته أن يعيش القليلون بعيدًا عن الحكومة ولا يتدخلون في شئونها ولا تحتضنهم تلك الحكومة التي أدَّت واجبها نحو الجيران والزملاء؛ فالحكومة التي تنتج مثل هذا النوع من الثمار وتدعه يسقط بمجرد نضجه، ستمهد الطريق لحكومةٍ أكثر كمالًا ومجدًا، وقد تخيلت هذه أيضًا، ولكني لم أرَها في أي مكان.
وبالاختصار، كان خصام ثورو للحكومة في كتابه «العصيان المدني» هو أن الحكومة تعيش للأفراد ولا يعيش الأفراد لأجل الحكومة. يجب ألَّا تخضع الأقلية للأغلبية إذا وجب تصحيح المبادئ الأخلاقية لتفعل هذا. ثم إنه ليس للحكومة الحق في إهانة الحرية الأخلاقية بإجبار المواطن على دعم المظالم. يجب أن يكون ضمير المرء دائمًا هو روحه المرشدة العليا.
يمكن إهمال أثر «العصيان المدني» في عصر ثورو … لم يُشر إليه معاصروه من الكتَّاب في مؤلَّفاتهم. وإذ كانت الحرب الأهلية بعد ذلك بعشر سنوات أو أكثر قليلًا، فيمكن افتراض أن ذلك المقال قد مسَّ وترًا شعبيًّا حساسًا. ومن الجلي أنه دفن تحت التيار المكتسح لأدب أنصار الإلغاء، وظل غامضًا ومنسيًّا إلى القرن التالي.
كان أول لقاء لي مع مؤلَّف ثورو، على ما أظن، في سنة ١٩٠٧م، أو بعد ذلك، لما كنت في معمعان نزاع المقاومة الإيجابية. أرسل لي أحد أصدقائي نسخةً من مقالٍ عن «العصيان المدني»، فترك في نفسي أثرًا عميقًا. فترجمت جزءًا منه لقرَّاء صحيفة «الرأي الهندي في جنوب أفريقيا» التي كنت أحرِّرها وقتذاك، ونقلت بعض فقراتٍ منه للقسم الإنجليزي من تلك الصحيفة. يبدو أن ذلك المقال مقنع وصادق لدرجة أنني شعرت بالحاجة إلى معرفة المزيد عن ثورو. فعثرت على كتابك عن تاريخ حياته، وعلى كتابه «الغابة»، وبعض المقالات القصيرة الأخرى، وقرأتها جميعًا بمتعةٍ بالغة، وفائدة مماثلة.
الأوامر مستحيلة عندما تنحصر في عددٍ قليلٍ من الممتعضين، وهي متعبةٌ عند وجوب تنفيذها ضد الكثيرين من ذوي النفوس السامية، الذين لم يقترفوا إثمًا، والذين يرفضون دفع الضريبة دفاعًا عن مبدأ. وعندما يلجأ الأفراد العزَّل إلى هذه الطريقة للتعبير عن احتجاجهم، فقد لا يسترعون كثيرًا من الانتباه. بيد أن الأمثلة الظاهرة تنتهج طرقًا غريبة لمضاعفة أنفسها. إنها تتحمَّل الإعلان، وبدلًا من أن تعاني الكراهية، تحظى بالتهاني … حقق أناس، أمثال ثورو، إلغاء تجارة الرقيق بمُثُلهم الشخصية.
بهذه العبارات كان غاندي يردِّد ألفاظ ثورو عن قوة الأقلية الصغيرة ذات العزيمة الثابتة. وبذا، كما علَّق شريدهاراني: «لم يصنع ثورو سلاح العصيان المدني الذي هو قاعدة هامة في مقال غاندي «قوة الروح»، لم يصنع ثورو هذا فحسب، بل وأبرز قوة عدم التعاون التي كبرها غاندي بعد ذلك كوسيلةٍ لتحطيم حكومة فاسدة.»
وتبعًا لما قاله شريدهاراني، كان تفسير غاندي للعصيان المدني هو أن:
بوسع أولئك الراغبين في طاعة القانون وحدهم … أن يكون لهم الحق في ممارسة العصيان المدني ضد القوانين غير العادلة. ويختلف هذا الأمر تمام الاختلاف عن مسلك طريدي القانون؛ لأنهم يمارسونه علنًا وبعد سابق إنذار مناسب … لم يكن من اللائق، إذن، تنمية عادة كسر القانون أو خلق جو من الفوضى. وإنما يلجئون إليه فقط عندما تخفق جميع الوسائل الأخرى كالشكاوى والمفاوضات والتحكيم، في دفع الظلم.
عاد غاندي إلى الهند في أوائل سنة ١٩١٥م، وبقي هناك حتى قُتل في سنة ١٩٤٨م، اغتاله مجرم هندوكي، وهو يقود القوات التي جلبت الحرية للهند وباكستان. وحدث شغبٌ ومذابح وأحكام بالسجن لمدد طويلة وكبت للحريات المدنية وقوانين ظالمة للنضال بها. وكثيرًا ما استخدم العصيان المدني إبان هذه السنين، وشحذه غاندي حتى جعله سلاحًا ذا أثر عجيب. كانت الخطوات الأولى اضطرابات ومظاهرات ومفاوضات، وإن أمكن تحكيمها. وإذا لم تأتِ هذه بنتائج، كانوا يلجئون إلى الطرق الاقتصادية كالإضراب والمقاطعة التجارية والاعتصام. ومن الطرق الأخرى عدم دفع الضرائب.
وفي أغسطس سنة ١٩٤٧م منحت بريطانيا الهند الهندوكية وباكستان الإسلامية حق تقرير المصير.
قال غاندي: «فحتى أكثر الحكومات استبدادًا لا يمكن أن تقوم إلا بموافقة المحكومين، تلك الموافقة التي كثيرًا ما يحصل عليها المستبد باستخدام القوة. وعلى الفور تكف الرعية عن الخوف من القوة المستبدة. لقد ذهب ريح ذلك المستبد، وتعوضت القلوب من رعبها منه، الجرأة عليه.»
نبذ ثورو الحكومة التسلطية والحكومة المطلقة في أية صورة من صورهما. كانت مذاهبه، على طول الخط، ضد الشيوعية والاشتراكية، أو أي مذهب آخر يجعل الحكومة فوق حقوق الفرد. ويجب التنويه عن أن اتجاه الحكومة في منتصف القرن العشرين يدلُّ على أن أفكار ثورو تُقاتل في حرب خاسرة. ومع ذلك، ففي العالم عمومًا، نجد مسألة علاقة المواطن بحكومته — أي طبيعة ومدى طاعته لها — لم تكن عاجلةً أكثر من هذا.