الفصل السادس
مغامرة من أجل المساكين: هاريت بيتشر ستو١
كابينة العم توم
اتفق نقَّاد «كابينة العم توم»، من مادحين وقادحين، في نقطة
واحدة؛ فقد اعترفوا جميعًا، بغير استثناء، بالأثر الهائل لذلك
الكتاب على عصره، وبنفوذه القوي في التحريض على الحرب الأهلية. وقد
وصف أحد المعلقين المعاصرين القادحين، هذا المؤلف بأنه: «تشويه
وحشيٌّ أوحى به التعصب لإلغاء الرق، وأنه موضوع لإثارة الشقاق بين
الأقسام.» وأبدى أحد مشاهير المحاضرين والكتَّاب، في أوائل القرن
الحالي، ملاحظته بقوله: «أحدث كتاب كابينة العم توم ضررًا للعالم
يفوق ما فعله أي كتاب آخر.»
وعلى نقيض هذين، عبَّر عددٌ كبير من المعجبين، عن عاطفتهم بخطابٍ
جاء من لونجفلو يصف كتاب كابينة العم توم بأنه: «أحد الانتصارات
العظمى التي سجلها تاريخ الأدب علاوة على أثره الأخلاقي.» وقرظ
آخرون ذلك الكتاب على أنه «انتصار للحقيقة» و«خالد» وأن المؤلف
«سيدة نابغة بدون جدال.»
ما من كتاب آخر كان أكثر موضوعية ولا أحسن توقيتًا وظيفيًّا …
زادت حدة النضال من أجل مسألة الرقيق. وزاد في حدتها التصديق على
قانون العبيد الهاربين — ظل المطالبون بإلغاء الرقيق عشرين سنة
يصعدون من إثارة الرأي العام ضد الرق، وانقسم الكونجرس من الوسط
قسمين، بتزايد المعارضين للرق من رجال الدين — من الشمال والجنوب —
وهم يصيحون من منابرهم بالآيات المقدسة المحرمة استخدام العبيد
وامتلاكهم. وبلغ الجو الثائر ذروته ينتظر شرارة فحسب لحدوث انفجار
يهز العالم كله، وقد زودهم كتاب كابينة العم توم بهذه
الشرارة.
لم يكن الوقت مناسبًا فقط، بل ظلَّت الوراثة والبيئة تشكِّلان
الشخص الملائم بالضبط لإثارة المغامرة ضد استرقاق البشر.
وإذ كانت هاريت بيتشر ستو ابنة رجل من أشهر الناس قداسة في القرن
التاسع عشر، وهو لايمان
بيتشر Layman Beecher وشقيقة واعظ أكثر عاطفة من أبيه وهو
هنري
وارد بيتشر Henry Ward
Beecher وزوجة واعظ، وشقيقة ووالدة وعاظ
آخرين، قضت حياتها كلها في جو ديني بحت. وزيادة على ذلك، كان
تعليمها الديني كلفينيًّا متعصبًا، متمسكة بروح جوناثان إدواردز Jonathan Edwards
وصموئيل
هوبكنز Samuel Hopkins وغيرهما من متصوفي نيو إنجلاند، كما أحاط
بها باستمرار منذ نعومة أظفارها تعاليم لاهوتية «كالنار والكبريت»
… قلما كانت هاريت تستطيع إلا أن تكون واعظة — إن لم يكن من منبر،
فعلى الأقل بالقلم. تجلَّى الأساس الديني في جميع مؤلفاتها
المتنوعة ومنها كابينة العم توم، يحفزها إلى الحماس الإنجيلي
وفصاحة التعبير بالآيات المقدسة.
ولدَت هاريت بيتشر ستو في ليتشفيلد Litchfield بولاية كنكتيكت Connecticut في سنة ١٨١١م ونالت قسطًا من التعليم في
هايرتفورد Hartford أفضل مما
جرت العادة أن تناله النساء في عصرنا. وكان حوالي ثلثي تعليمها
دينيًّا في طبيعته. وكانت مولعة بالقراءة. وزيادة على علم اللاهوت،
كان المؤلفان المفضلان لديها هما بايرون Byron وسكوت Scott اللذين كان لهما تأثير كبير في أسلوب
كتابتها.
انتقل لايمان بيتشر، الكثير التنقُّل، مع أسرته من ليتشفيلد إلى
أبروشية في بوسطون Boston، وكانت
هاريت عندئذٍ في الرابعة عشرة من عمرها، وبعد ذلك ببضع سنين انتقل
ثانيةً إلى سنسناتي Cincinatti
حيث استُدعي رئيسًا للمجمع اللاهوتي في لين Lane حيث بقيت هاريت إلى سنة ١٩٥٠م تقوم بالتعليم
في مدرسة هناك، وتزوجت عضوًا من كلية ذلك المجمع، هو كالفين ستو Calvin Stowe، فأنجبت ستةً من
أطفالها السبعة. وبين آنٍ وآخر، كانت ترسم وتكتب القصص للنشر في
المجلات هناك.
كانت السنوات التي قضَتْها في سنسناتي شكليةً في كثيرٍ من
النواحي. وتقع سنسناتي هذه على نهر أوهيو Ohio في مواجهة مزارع شاسعةٍ يفلحها العبيد في
ولاية كنتكي Kentucky وكانت
مركزًا لحركة ثائرة ضد الرق. وكان الرعاع المعارضون لإلغاء الرقيق
يجوبون شوارعها يحطمون المطابع المضادة للرق، ويسيئون معاملة
الزنوج الأحرار. فألقيت الخطب العنيفة لإبطال الرق. كما كانت
سنسناتي ملجأ للعبيد الهاربين، وهم في طريقهم إلى الشمال بالسكة
الحديدية تحت الأرضية إلى الحرية في كندا. وكان المجمع نفسه
مُربيًا للعاطفة المناوئة للرق، ولم يحمِه من هجوم الرعاع إلا
موقعه في شارع وعرٍ موحل يبعد عن المدينة بمسافة ميلَيْن. وقد أوى
بيت لايمان بيتشر الهاربين في عدة مناسبات. وصل إلى أذني هاريت،
مباشرة، من أفواه العبيد الهاربين قصص عن عائلات تفككت، عن قسوة
ملاحقي عمل العبيد، وفظائع مبنى المزاد، وأهوال مطاردة
الهاربين.
رأت مسز ستو بعيني رأسها، مرةً واحدة، العمل في أنظمة الاحتفاظ
بالعبيد. ففي زيارةٍ قصيرةٍ مع بعض الأصدقاء لمدينة مايزفيل Maysville بولاية كنتكي، سنة
١٨٣٣م، شاهدَت عددًا من المزارع بها عددٌ كبير من البيوت الريفية
وعنابر العبيد. هنا وجدَت نموذج المزرعة التي تخيلتها لكتاب
«كابينة العم توم» وهي مزرعة شلبي Shelby، كما حصلت على أفكار عملية لنظام عمل
العبيد. وزادت ذخيرتها من عند أخيها شارلز الذي يعمل رجل أعمال
ويسافر إلى نيو
أورليانز New Orleans وريف النهر الأحمر؛ إذ جاءها بقصصٍ بشعة
عن الرق في أقصى الجنوب. كانت هاريت مدينةً لشارلز بنموذج بطل
كابينة العم توم، وهو سيمون
لجري Simon Legree الذي يتميَّز بوحشية ملاحظ العبيد، وقد
التقى به شارلز على ظهر سفينة في نهر المسيسبي Mississippi.
وفي السنوات التي قضتها هاريت ستو في سنسناتي، لم تكن من محبذي
إلغاء الرق المتحمسين، وربما شاركت أباها رأيه في أن الإلغاء يتكون
من «الخل وحامض النتريك وزيت الزاج (حامض الكبريتيك) مع الكبريت
وملح البارود والفحم النباتي، ليتفجر فتتناثر المادة الأكالة.»
والواقع أن مسز ستو كانت متفرجة أكثر منها بطلة عاملة في معركة
الرقيق، حتى عادت إلى نيو إنجلاند إذ عُيِّن كالفين ستو أستاذًا
بكلية بودوين Bowdoin بولاية
مين Maine، فانتقل إليها مع
أسرته في سنة ١٨٥٠م.
كانت نيو إنجلاند كلها ثائرة حنقًا على إقرار قانون العبيد
الهاربين وخصوصًا ضد أحداث ذات صلة بتطبيق ذلك القانون في بوسطون.
فأصحاب العبيد في الجنوب يمكنهم مطاردة العبيد الهاربين داخل
الولايات الحرة مع إلزام موظفي هذه الولايات بمساعدتهم في استعادة
مملوكيهم. وزيادة على ذلك، فإن الزنوج الذين نعموا بالحرية قانونًا
منذ مدة طويلة، جمعوا وأعيدوا إلى أصحابهم السابقين، وغالبًا ما
انفصلوا عن عائلاتهم في هذه العملية.
تسلمت هاريت ستو خطابًا من زوجة أخيها مسز إدوارد بيتشر ترجوها
فيه أن تكتب شيئًا يجعل أمة بأسرها تشعر بفظاعة الرق. وتبعًا
لتقاليد أسرة ستو، قالت هاريت: «بمساعدة الرب سأكتب شيئًا إن
أحياني الله.» وفي تلك الأثناء، كان أخوها إدوارد ثائرًا ضد الرق
في كنيسة بوسطون، بينما يعقد أخوها الآخر هنري وارد مزارات في
كنيسته بمدينة بروكلين Brooklyn
لتخليص العبيد من رقهم ومنحهم الحرية.
كان القسم الأول من كتاب «كابينة العم توم»، الذي كان ما يزال في
طور التأليف، هو غاية الموضوع، ويصف موت توم. وبينما كانت مسز ستو
حاضرة في كنيسة برنسويك Brunswick
أثناء توزيع الذبيحة المقدسة، استرجعت كافة المناظر المتجمعة في
عين ذهنها. وفي مساء ذلك اليوم نفسه ذهبت إلى حجرتها وأقفلت بابها
وطفقت تكتب رؤيتها حتى نفد ما لديها من ورق الكتابة فاستعملت ورق
اللف البني اللون وأكملت فيه قصتها. وعلى ذلك كونت هذه القصة الباب
الذي عنوانه «الشهيد» في كتاب «كابينة العم توم». ولما قرأته
لأولادها وزوجها تأثَّروا جميعًا تأثرًا عميقًا. ويُقال إن كالفين
ستو، صاح يقول: «أي هاتي، هذه ذروة قصة الرق التي وعدت شقيقتي
إيزابيل بكتابتها. ابدئي من البداية حتى تصلي إلى هذه، تحصلي على
كتابك.»
بعد أسابيع قليلة، كتبت هاريت ستو إلى جاماليل بايلي Gamaliel Bailey محرر صحيفة
«العصر الفومي»، وهي جريدة مناصرة لإلغاء الرق تصدر في واشنطون،
وكان بايلي يعرف أسرة بيتشر في سنسناتي حيث كان يصدر جريدة أخرى
مناهضة للرق عنوانها «الخير»، حتى طُرد من هناك في كثيرٍ من العنف.
ذكرت مسز ستو في خطابها أنها تعتزم كتابة قصة اسمها «كابينة العم
توم» عن «الرجل الذي كان شيئًا»، وهذا عنوان غُيِّر فيما بعد إلى:
«الحياة بين المساكين» في صورة حلقات تصل إلى ثلاث أو أربع. فعرض
عليها بايلي ثلاثمائة دولار لحقوق النشر، وبدأت صحيفة «العصر
القومي» تنشر الحلقات في شهر يونية سنة ١٨٥١م.
توقعت مسز ستو أن ينتهي ذلك المؤلف في شهر، ولكنه امتدَّ
باستمرار في مناظر وأحداث وشخصيات ومحادثات كانت مكدسة في ذاكرتها
من تجاربها السابقة أو قراءة ما جاءها بالأكوام، بينما كانت قوى
خيالها وابتكارها تتأجج حماسًا. امتدت الحلقات الأسبوعية لمدة سنة
تقريبًا قبل أن تتمكن المؤلفة المتعبة من الوصول إلى خاتمة كتابها،
بعد ذلك، أصرَّت على أن الله نفسه هو الذي كتبه، «ولم أكن أنا سوى
أداة في يده.»
لم تكن الخطة الأصلية لقصة «كابينة العم توم» معقدة، ولو أنها
تتضمن عدة شخصيات. ففي المنظر الافتتاحي: لكي يسدد المستر شلبي،
وهو صاحب عبيد خير من كنتكي، ديونه، اضطر إلى أن يبيع بعضًا من
خيرة عبيده، ومنهم العم توم، إلى نخَّاس في نيو أورليانز اسمه
هيلي Haley. فاسترقت السمع
فتاة نصف زنجية اسمها إليزا Eliza
فعرفت أن طفلها هاري سيباع أيضًا. وفي ديجور الظلام ليلًا، هربت مع
ابنها وعبرت نهر أوهيو المتجمد طلبًا للحرية في كندا. وكان زوجها
جورج هاريس George Harris
عبدًا في مزرعة قريبة، فهرب هو أيضًا ولحق بها. وأخيرًا، وبعد عدة
مغامرات مع قوات القبض على العبيد الهاربين التي طاردتهم، وبمساعدة
أعضاء جمعية الأصدقاء التي أسسها جورج فوكس، وغيرهم من البيض
المشفقين عليهم، على طول الطريق، وصلوا إلى كندا، ثم بعد ذلك إلى
أفريقيا.
أما العم توم فكان سيئ الحظ؛ إذ رفض الهروب لئلا يربك سيده،
وفُصل عن زوجته وأولاده. وإبَّان الرحلة في نهر المسيسبي إلى نيو
أورليانز، أنقذ توم حياة الصغيرة إيفا Eva ولكي يعبر أبوها سانت كلير St. Claire عن شكرِه لتوم،
اشتراه من النخاس … كانت السنتان التاليتان مدة سعادة لتوم كخادم
في بيت سانت كلير المنيف في نيو أورليانز مع الطفلة القديسة إيفا
ورفيقها الزنجي الصغير توبسي Topsy. ثم ماتت إيفا، وفي ذكراها، اعتزم سانت
كلير أن يعتق توم وزملاءه العبيد الآخرين، ولكن سانت كلير قُتل
فجأةً وهو يحاول أن يفرق بين اثنين من المتشاجرين، فأمرت زوجته
بإرسال توم إلى سوق الرقيق ليباع بالمزاد العلني، فاشتراه مزارع
متوحش سكير من منطقة النهر الأحمر اسمه سيمون لجري. وعلى الرغم من
سلوك توم المسالم وبذله كل جهد لإرضاء سيده القاسي، فإن لجري سرعان
ما بدأ يمقت توم، وكان يسوطه كثيرًا. وحدث أن اعتزمت اثنتان من
الإماء كاسي Cassy وإملين Emmeline الهرب من المزرعة
والاختباء في مكان ما. فاتهم لجري توم بمساعدتهما واشتبه في أنه
يعرف أين تختبئان. وعندما رفض توم الإفضاء بأية معلومات، ظل لجري
يسوطه حتى فقد وعيه. وبعد ذلك بيومين، جاء جورج شلبي الصغير ابن
صاحب توم السابق ليشتريه ويستعيده ولكن بعد فوات الأوان؛ إذ مات
توم متأثرًا بجراح ضربه الوحشي القاتل. فما كان من جورج إلا أن ضرب
لجري فطرحه أرضًا، ثم عاد إلى كنتيكي فأعتق جميع العبيد باسم العم
توم، واعتزم تكريس بقية حياته لقضية إلغاء الرق.
رغم أن توزيع صحيفة «العصر القومي» لم يكن ضخمًا. فقد حظي كتاب
«كابينة العم توم» بإقبالٍ حماسي في خلال بضعة أشهر. وقبل ظهور
الباب الأخير أخرج وليد أفكار مسز ستو من المطبعة في صورة كتاب.
تعهدت مؤسسة جون ب. جيويت John
P. Jewett في بوسطون بهذا العمل في خوف عظيم
بسبب طوله، من جهة، وكون مؤلفته امرأة من جهة أخرى، وعدم شعبية
موضوعه. ولكي يحتاط جيويت ضد أي خسارة مالية، عرض على مسز ستو ٥٠٪
من الأرباح نظير أن تدفع نصف تكاليف الإنتاج. ولكن، بدلًا من ذلك،
اختارت أسرة ستو أن تحصل على ١٠٪ من ثمن النسخ المبيعة — فأضاع
عليهم هذا القرار ثروة.
لم يكن كلٌّ من الناشر والمؤلفة متفائلًا من نجاح «كابينة العم
توم». فعبرت مسز ستو عن أملها في أن يأتيها ذلك الكتاب بما يكفي
لشراء ثوب جديد من الحرير. كانت الطبعة الأصلية ٥٠٠٠ نسخة من
جزءين، وقد رسم على وجه الغلاف صورة كوخ زنجي.
بيعت ٣٠٠٠ نسخة في اليوم الأول للنشر، وبيع الباقي كله في اليوم
التالي، بينما تدفقت الطلبات. وفي خلال أسبوع بيعت ١٠٠٠٠ نسخة، وفي
نهاية السنة الأولى كانت المبيعات ٣٠٠٠٠٠ نسخة في الولايات المتحدة
وحدها. كانت ثماني آلات طباعة آلية تعمل ليل نهار لسد المطلوب،
وتحاول ثلاثة مصانع للورق توريد الورق اللازم. ورغم هذا، كان
الناشر لا يزال في حاجة إلى ألوف من النسخ لسد الطلبات. ويبدو أن
كل شخص يعرف القراءة والكتابة في الدولة قد قرأ هذا الكتاب.
كانت شهرة «كابينة العم توم» في الخارج تزيد على المبيعات في
الولايات المتحدة نفسها. أرسل موظف صغير لدى بوتنام Putnam نسخة إلى ناشر إنجليزي،
فنال خمسة جنيهات نظير أتعابه. فظهرت عدة طبعات مسروقة؛ إذ لم تكن
هناك حماية دولية لحق التأليف. وسرعان ما كانت هناك ثماني عشرة
مؤسسة إنجليزية تمد السوق بالنسخ المطلوبة بأربعين طبعة مختلفة.
وقدِّر أنه في خلال سنة بيع مليون ونصف مليون نسخة في بريطانيا
العظمى والمستعمرات. ولم تحصل مسز سنو على أي شيء من ثمن كل هذه
المبيعات وفي الوقت نفسه، كان الناشرون الأوروبيون مشغولين بجني
ثمار ذلك المحصول الذهبي؛ فقد تُرجم هذا الكتاب إلى اثنتين وعشرين
لغة على الأقل، ولقي النجاح في فرنسا وألمانيا والسويد وهولندة
والدول الأخرى بمثل النجاح الذي لقيه في الدول المتكلمة
بالإنجليزية.
وزيادة على ذلك، حولت هذه الرواية إلى مسرحية وصارت واحدة من
أشهر المسرحيات التي مثلت في المسارح الأمريكية، وظهر منها عددٌ لا
يحصى من الطبعات قام بها جماعات مسرحية عديدة طافت حول العالم خلال
القرن الماضي. ومرة أخرى، لم تكسب مسز ستو شيئًا ماليًّا؛ إذ إن
قانون حقوق الطبع والنشر والتأليف الذي كان سائدًا في سنة ١٨٥٢م لم
يُعطها إشرافًا على تحويل روايتها إلى مسرحية. وعلى أية حال، لم
تستحسن مسز ستو تحويلها إلى مسرحية، ورفضت أن تطلب تصريحًا بتحويل
كتابها إلى مسرحية.
وبالجملة، فإن ما أحرزه كتاب «كابينة العم توم» من شهرة وربح، لم
يحرزه أي كتاب آخر في تاريخ النشر، فيما عدا التوراة الذي ضرب
الرقم القياسي في المبيعات. صار هذا الكتاب ملكًا للملايين في شتى
صوره: الخيالية والمسرحية والشعرية والموسيقية، كما طاف حول الكرة
الأرضية.
كان تأثير كتاب «كابينة العم توم» على الرأي والعواطف المعاصرة
هائلًا مثل ضخامة مبيعاته. وفيما بعد وصف ابن مسز ستو وحفيدها
إقبال الناس، بقولهما: «كان مثل إشعال حريق ضخم، عمل على تألق
السماء كلها بطوفان العواطف الجارف الذي اكتسح أمامه كل شيء وعبر
المحيط الشاسع نفسه، حتى بدا أن العالم كله قلَّما كان يفكر في شيء
أو يتحدث عن شيء سواه.»
بيد أنه جاءت من الجنوب عاصفة هوجاء من الغضب والإنكار والقدح،
انصبَّت على مؤلفة «كابينة العم توم». وسرعان ما وضع اسمها بين
قوسين مع أمير الشرور. وامتلأت أعمدة في الصحف من النقد المفصل
بقصد إظهار أخطاء ومغالطات تصوير مسز ستو للرق. ومن التعليقات
النموذجية، تقرير صحيفة «الرسول الأدبي الجنوبي» القائل بأن ذلك
الكتاب «بغاء إجرامي لوظائف الخيال السامية.» وأن مسز ستو، إذ
اقترفت إثمًا بتأليفه، «قد وضعت نفسها خارج نطاق العلاج الطيب على
يدي النقد الجنوبي.» وتسلمت مسز ستو شخصيًّا، ألوفًا من الخطابات
الغاضبة وخطابات السباب … وفي البداية، انتشر توزيع كتاب «كابينة
العم توم» في الجنوب بحرية، غير أنه بعد رد الفعل العنيف المرير،
صار مجرد حوزة نسخة من هذا الكتاب خطرًا أي خطر.
ومن قبيل التهكم، كانت مسز ستو تأمل وتؤمن بأن روايتها «كابينة
العم توم» قد تكون وسيلة لحل نزاع الرق الذي طال أمده. وبعد أن قرأ
أحد الأصدقاء الجنوبيين هذا الكتاب، كتب إليها يقول: «سيكون كتابك
مصلحًا عظيمًا يوحِّد بين الشمال والجنوب.» حاولت مسز ستو في كتاب
«كابينة العم توم» أن تقدم في عدل طرفي النزاع في جدال الرق —
التصوري والديني من ناحية، والقاسي المتشائم من جهة أخرى. صُوِّر
اثنان من أصحاب العبيد في ذلك الكتاب، هما المستر شلبي وأوجستين
سانت كلير، وهما أخوان من الجنوب عظيما الفضل. وربما كانت إيفا
الصغيرة، ابنة سانت كلير أكثر الأطفال ملائكية في الأدب كله. أما
الوغد الأعظم سيمون لجري فهو رجل ملحد من ولاية فيرمونت Vermont. كما تحدث كثير من
كوميدية الكتاب عن شخصيتين أخريين من نيو إنجلاند هما مس أوفيليا Miss Ophelia وماركس Marks. وقد أبانت مسز ستو بوضوح أن
أهالي الشمال ينقصهم الوعي الكافي بصفة قاطعة عن الزنوج، ومع ذلك،
فقد يعطفون عليهم في شيء من الغموض.
بيد أن هذه الاعترافات لم تكن كافية لإرضاء استياء الجنوب؛ فقد
توالت الهجمات العنيفة من كل جانب واتهمت مسز ستو بتشويه الحقائق.
مثال ذلك: أشير إلى أن قوانين الجنوب صارمة وملزمة إزاء قتل العبيد
مثلما هي صارمة إزاء قتل البيض، وتحرم اللوائح عادة فصل الأطفال،
الذين تقل أعمارهم عن عشر سنوات، عن أمهاتهم. هذا، والعبيد
كممتلكات بالغو القيمة فلا يجب إساءة معاملتهم إساءة خطيرة.
أما في الشمال، فاستقبل كتاب «كابينة العم توم» استقبالًا
مختلطًا؛ فحتى البعض، الذين يمقتون الرق، يتهمون هذا الكتاب لخوفهم
من أن يثير حربًا أهلية. كما ذمَّه أهل الشمال المستثمرون أموالًا
في أعمال قطن الجنوب خشية أن يعرِّض استثماراتهم للخطر. وعبرت
صحيفة التجارة النيويوركية عن وجهة نظرهم هذه في نشرة معادية
تتساءل عن مدى صدق مسز ستو. ومع ذلك، فعمومًا، تقبل القراء
الشماليون «كابينة العم توم» على أنه اتهام حق لنظام الرقيق. ولما
لم يعمل شيء غير ذلك، تحرك الضمير القومي والغرائز الإنسانية
فأثارت هذه القصة وأصابت نغمات عباراتها الدينية القوية هدفها من
أن الرق يتناول أرواحًا بشرية.
ومن الآثار المباشرة لكابينة العم توم، استحالة التصديق على
قانون العبيد الهاربين؛ فكان عدم التعاون مع القانون إجماعيًّا
خارج الجنوب. والأشد من ذلك، أن ذلك الكتاب ألهب مجموعة ضخمة من
العاطفة ضد الرق، وربما جعل من المحتم نشوب حرب أهلية وبالتأكيد،
كان هذا الكتاب السبب الأكبر في ذلك الالتحام المنتهي بكارثة، كما
أدرك أبراهام
لنكولن Abraham Lincoln وهو يصافح مسز ستو عندما زارت البيت
الأبيض في سنة ١٨٦٢م، وقال عنها إنها «السيدة الصغيرة التي كتبت
ذلك الكتاب المسبب لهذه الحرب الكبيرة.» وأبدى تشارلز سمنر Charles Sumner ملاحظته بأنه
«إذا لم يؤلف كتاب «كابينة العم توم»، فما كان لأبراهام لنكولن أن
يُنتخب رئيسًا للولايات المتحدة.»
أما القيمة الأدبية لكابينة العم توم، فلم تلقَ إلا اهتمامًا
سطحيًّا في بادئ الأمر، رغم أن النقاد جميعًا ناقشوها فيما بعد.
ولاحظ المؤرخ جيمس فورد
رودز James Ford Rhodes أن «الأسلوب عادي، واللغة، في أغلب الأحوال،
مبتذلة وغير أنيقة، وتنقلب أحيانًا إلى اللغة العامية، والدعابة
متكلفة.» وناقش أحد النقاد الجنوبيين وهو ستارك ينج Stark Young استخدام مسز ستو
للهجة الزنوج، فيقول: «رأت كثيرًا من السود، ولكنها لم تجعلهم
يتكلمون. أذنها مستحيلة، ليس لديها إحساس بوقع لغتهم أو حيويتها.»
ويشير فان ويك
بروكس Van Wyck Brooks إلى «عيوب الكتاب الواضحة من حيث التركيب
والعاطفية.» ورغم هذا، يصفه بأنه «وثيقة إنسانية عظمى.» وتعتقد
معلقة حديثة أخرى، هي كاثارين أنثوني Katharine Anthony أن «كابينة العم توم قصة وصورة
للأخلاق الأمريكية … وتستحق التقدير السامي بغير ما ريب. ومن الجلي
أن مسز ستو مولعةٌ بالجنوب. فبينما هي تمقته لأنه في جانب الرق،
نراها تصور جوه بحرارة وعطف. كانت طليعة الكُتَّاب الأمريكيين في
تناول مسألة الزنوج بجدية، وتتخيل قصة بطلها رجل أسود. ورغم أنها
كتبت لغرض أخلاقيٍّ، فقد نسيت المؤلفة الغرض الأصلي أحيانًا في
متعة انسياقها في سرد قصتها.» أما من حيث الوجهة التاريخية فبالطبع
لهذه الرواية أهمية عظمى كوثيقة اجتماعية أكثر منها عملًا فنيًّا
أدبيًّا أو كلاسيكيًّا. وبالتأكيد هي أكثر من مجرد قصة، كما وصفها
قلم «كاو» فيقول إنها: «مفعمة بالقتل والشهوة والحب المحرم
والانتحار والتعذيب البالغ القسوة والنجاسة والسكر وشجار
الحانات.»
أكسب كتاب «كابينة العم توم» مسز ستو، في الحال، شهرة عالمية.
ففي السنة التالية لنشر هذه الرواية قامت مسز ستو بثلاث رحلات إلى
الخارج، زارت فيها إنجلترا واسكتلندا، حيث التقى ورحَّب بها مئات
من النبلاء وأفراد العائلة المالكة وعِلية القوم ومن بينهم الملكة
فيكتوريا والأمير ألبرت وديكنز Dickens وجورج
إليوت George Elliot وكنجزلي Kingsley ورسكين Ruskin وماكولي Macauly وجلادستون Gladstone وفي رحلتها المظفرة هذه، استقبلها،
بحماسٍ بالغ، عامة الشعب الذين رأوا فيها بطلة المساكين وفي
إدنبره Edinburgh قدَّموا لها
هدية بنسًا قوميًّا بلغت حصيلته ألف جنيه ذهبي لمساعدتها في محاربة
الرق … لم يسبق قط أن مؤلفًا أمريكيًّا خلق مثل هذه الإثارة
البالغة، ولا استُقبل بمثل ذلك الاستقبال الحار في الجزر
البريطانية.
وقد حاولت مرارًا البرهنة على أن صورة الرق المرسومة في كتابها
ليس فيها أية مبالغة، ولا هي «وليدة الأكاذيب» كما اتهمها البعض
بأنها كدست تلك الأكاذيب لتجعل منها مفتاحًا لكابينة العم توم،
التي قالت إنها «ستضم جميع الحقائق الأصلية والوقائع والوثائق التي
ستبني عليها القصة مع بعض القصص الممتعة والمؤثرة الملائمة لقصة
العم توم.» وينقسم هذا المؤلَّف إلى أربعة أقسام تبدأ بوصف
الشخصيات لتثبت أنهم أشخاص حقيقيون من الحياة الواقعية. ويشمل
القسم الثاني قوانين العبيد مبينًا أن اللوائح القائمة لا تحمي
العبيد، ثم يأتي سرد حياة العبيد كأفراد، وإخفاق الرأي العام في
حماية العبيد ومناقشة الأثر غير الأخلاقي للرق على الأعمال الحرة
في الجنوب. وأخيرًا، وُجِّه اتهام للكنائس لموقفها المنقسم وغير
الفعال حيال الرق.
كانت نشرة «المفتاح» ضعيفة، وعيبها الخطير أنها جمعت مادتها بعد
ظهور «كابينة العم توم»، وكان الكثير من تلك المادة مبنيًّا على
الشائعات. وعلى ذلك لم تحرز نجاحًا مع الشعب، ولم تضف إلا القليل
من القوة لاتهام رواية «كابينة العم توم». وكمثال للعدل الإلهي،
قام الناشر الإنجليزي الذي سرق «كابينة العم توم» وطبعها في
إنجلترا، بطبع خمسين ألف نسخة من نشرة «المفتاح» متوقعًا ضربة حظ
أخرى، ولكن هذه الأخيرة كانت سبب إفلاسه.
كتبت مسز ستو بقلمها الكثير التصانيف، مؤلفًا آخر عن الرق، هو
رواية «دريد Dred» وهي «قصة
المستنقع العظيم المشئوم»، التي نُشرت في سنة ١٨٥٦م، وبيع منها
مائة ألف نسخة في أربعة أسابيع، رغم أنها لم تصل إلى شهرة «كابينة
العم توم» كانت فكرة المؤلفة في «دريد» هي الأثر السيئ لنظام الرق
على الرجل الأبيض — كل من المالك، ومستأجر المراعي الأبيض الفقير.
كان الخلطُ بين الجنسين ونتائجه السيئة على كل الأشخاص مسرحيًّا …
ورواية «دريد» هذه غزيرة بتصوير البيض الفقراء، والوعَّاظ
المطالبين بإنعاش الفقراء، وحياة المزارع ولكن ليست بها شخصية
أساسية واحدة، مثل العم توم، لتحظى بعطف القارئ.
أنتجت مسز ستو، منذ ذلك الوقت حتى آخر عمرها وهو خمس وثمانون
سنة، سيلًا لا ينتهي من الروايات والقصص وتواريخ الحياة والمقالات
والمواضيع الدينية. ولمدة ثلاثين عامًا تقريبًا، كان متوسط إنتاجها
كتابًا واحدًا في كل عام، ولكنها تركت موضوع الرق في معظم إنتاجها.
وفي أثناء الحرب الأهلية، كان أهم ما أسهمت به خطابًا إلى نساء
إنجلترا تذكِّرهن باستجابتهن الشاملة والمحبذة لكتاب «كابينة العم
توم»، والحادثة قبل ذلك بثمانية أو تسعة أعوام، وتلومهن على
تعاطفهن مع الجنوب، وأعمالهن بعد نشوب الحرب. ونتيجة لذلك الخطاب،
عُقدت اجتماعات كبيرة في الجزر البريطانية بقصد تغيير الرأي
الإنجليزي الحاكم نحو قضية الاتحاد. وعلى هذا، فربما لعب خطاب مسز
ستو دورًا هامًّا في منع التدخل الإنجليزي، في وقتٍ كان يمكنه فيه
تعريض الجانب الشمالي للخطر.
عند تقرير مركز هاريت بيتشر ستو في التاريخ، قال كيرك مونرو Kirk Monroe: «إنها لا تقف فقط
في مقدمة الصف الأمامي بين نساء العالم، بل وفي تشكيل مصير الشعب
الأمريكي، في فترةٍ حرجة أشد الحرج في تاريخهم، كان نفوذها أقوى من
نفوذ أي فردٍ آخر … وبالطبع لا يمكن لأي فردٍ إنجاز منع الرق وحده،
ولا يمكن أن يقوم به أي شخص واحد.» وأشار مونرو وهو يستعرض العناصر
التي حققت النصر النهائي. قائلًا: «ولكن أعظم هذه العناصر كلها،
وأقواها تأثيرًا هو «كابينة العم توم».»
ربما كان التقدير النهائي لكتاب «كابينة العم توم»، والذي أمكن
ذكره بعد قرن، هو ما قررته مؤلفة أخرى اسمها كونستانس
رورك Constance
Rourke؛ إذ قالت: ولو أنه تهشَّم من فرط الهياج
الذي صاحب حياته المستقبلة، ورغم عيوبه في بعض الأمور الأساسية،
فما زال يحتفظ بصفات ترفعه فوق مركزه المعاصر كرسالة، صفات تفند
التهمة السهلة العادية، وهي المبالغة. والواضح أن هذا الكتاب يفتقر
إلى الواقعية الحقيقية، ولكن ربما كان من الواجب ألَّا نحكم عليه
بالواقعية إطلاقًا. ومن الجلي أنه ينقصه الصلابة ووضوح الرؤية
الخاصَّان بالكتابة العظيمة. ليست عاطفيته حرةً قط، ولكنها صلبة
وجامدة من الناحية العقلية ومريضة وعاطفية بحسب الاختيار، إنها
تجري في سباقٍ لا نهاية له، ويبدو أن الهستيريا قد خلقت هذا
السباق. بيد أن القوة السليمة لتلك العاطفة أنتجَت اتساعات في
امتدادها، واتزانات غير محسوبة، ويذكر امتصاصها المتدفق بالنتيجة
الضخمة للعمل، ومجموعاتها المفككة للأقدار المتشابكة، يذكران على
الأقل بمعنى يميز شعر الملاحم. كما أنها تتصف، قبل كل شيء بالحركة
المؤثرة نحو أهدافٍ مجهولةٍ على مسافاتٍ طويلةٍ تغدو الفكرة التي
لا تقاوم للسرد الأعظم. المذكور هنا بالعواطف العميقة؛ لأن
المغامرة ليست حرةً أبدًا، وإنما تقطع دائمًا عند نهايتها، أو
تُساق إلى الخطر.
وقد أكَّد فان ويك
بروكس Van Wyck Brooks أن «كابينة العم توم» قد نقل من الجو الذي
كتب فيه، ورغم ذلك، بقي صورة شعبية عظمى لعصر ولأمة.