عراف طبقة العصاميين: كارل ماركس١
وُلد ماركس في عصر كثير الشغب. كان الجو مشحونًا بالتمرد والقلق. كانت ذكرى الثورة الفرنسية ما زالت عالقة بالأذهان، وثورة أخرى قريبة. وتميزت السنوات العشر التالية بمرارة عامة واسعة النطاق، وبالتذمر والنقد ضد الحكومة القائمة. وفي سنة ١٨٤٨م نمَت هذه الحالة إلى قوةٍ متفجرة، ونشبت الثورات خلال أوروبا. وحتى في إنجلترا، قامَت حركة العمال مطالبين بإشراكهم في السياسة، وهدَّدت الحكومة القائمة وقتذاك. سرى الضغط في كل مكان لتخفيف حدة سوء المعاملة الناتج عن مبدأ العمال الجديد، وإلغاء بقايا الإقطاع. كان الوقت مناسبًا جدًّا لميول كارل ماركس الهدَّامة والمناهضة للكنيسة.
«يعتبر الشيوعيون أنه من الأمور السطحية أن يُخفوا آراءهم ونواياهم. إنهم يقررون في صراحةٍ أن أهدافهم لا يمكن تحقيقها إلا باستخدام العنف في قلب النظام الاجتماعي المعاصر كله. فلترتجف الطبقات الحاكمة أمام الثورة الشيوعية. لن يخسر العمال غير قيودهم. وأمامهم العالم كله ليربحوه. إذن، فاتحدوا يا عمال العالم!»
أينما ذهب ماركس، كان بالغ النشاط ومثيرًا عدائيًّا، ينظم حركات العمال، ويرأس تحرير الصحف الشيوعية، ويثير التمرد.
كانت إنجلترا في عصر ماركس المعرضَ الأول لأعمال النظام الرأسمالي. وعلى ذلك أُخِذت الأمثلة الموضحة لنظرياته الاقتصادية، كلها تقريبًا، من تلك المملكة. كانت الأمثلة المروِّعة كثيرة؛ لأن تنظيم الرأسمالية في منتصف العصر الفيكتوري كان في أسوأ حالٍ بها فكانت الأحوال الاجتماعية بين عمال المصانع سيئةً بما يعجز عنه الوصف. وإذ بنى ماركس أبحاثَه على التقارير الرسمية لمفتشي الحكومة. فقدم الحقائق دقيقةً في كتاب «رأس المال». قامَت السيدات بجر القوارب في الترع بالحبال المربوطة في أكتافهن، طوال الطريق. ورُبطت السيدات إلى العربات كما تربط دواب الحمل، لنقل الفحم إلى خارج المناجم البريطانية. أما الأطفال فكانوا يعملون في مصانع النسيج عندما يبلغون التاسعة أو العاشرة من العمر، ولمدة خمس عشرة ساعة في اليوم. ولما جاءت أدوار العمل ليلًا، كانت الأسرة التي ينام فيها الأطفال دافئة دائمًا لا تبرد إطلاقًا؛ إذ كانت تستعمل بالدور. وقد أنشب السل وغيره من أمراض الأماكن المزدحمة أظفاره فيهم وقتلهم في نسب عالية.
لم تكن الاحتجاجات على هذه الأحوال الفظيعة قاصرةً على ماركس بحال ما، فإن الكتَّاب الرقيقي القلوب المختصين بالأمور الإنسانية أمثال تشارلز ديكنز وجون رسكين وثوماس كارليل، كتبوا كثيرًا في حماس شديد، يطلبون الإصلاح. وأثير البرلمان أخيرًا إلى إصدار تشريع إصلاحي.
زها ماركس كثيرًا بشرحه العلمي للمسائل الاقتصادية والاجتماعية. وكما قال إنجلز: «كما أن داروين اكتشف قانون التطور في الطبيعة العضوية، كذلك اكتشف ماركس قانون التطور في التاريخ الإنساني.» ذكر ماركس أن الظواهر الاقتصادية «يمكن ملاحظتها وتسجيلها بالدقة الملائمة للعلوم الطبيعية.» ويشير كثيرًا إلى مؤلفات علماء الأحياء والكيمياء والفيزياء (الطبيعة)، ومن الجلي أنه كان يأمل في أن يصير «داروين علم الاجتماع» أو ربما «نيوتن الاقتصاد»، وبالتحليل العلمي للمجتمع، اعتقد ماركس أنه اكتشف كيف يمكن تحويل العالم الرأسمالي إلى عالم اجتماعي.
أسهمت طريقة ماركس «العلمية» كثيرًا في تفهم الناس له على نطاقٍ واسع، لأن فكرة التطور في جميع المجالات قد جذبت خيال القرن التاسع عشر، ويربط نظريته عن التنازع التاريخي بنظرية داروين عن النشوء أو التطور، فأضفى الوقار على آرائه، وفي الوقت نفسه جعلها، حسب اعتقاده، غير قابلةٍ للدحض.
في رأي ماركس وأتباعه، أن إسهامه البالغ في دراسة الاقتصاد والتاريخ وغيرهما من العلوم الاجتماعية الأخرى، كان تقدمًا لمبدأ أطلق عليه «المادية الجدلية» وهو مصطلح غامض عسير الفهم، ولو أنه مشروح شرحًا وافيًا في كتاباتٍ سابقة، فإن كتاب «رأس المال» يستخدم هذه النظرية بالتفصيل.
قاد هذا التمهيد ماركس إلى تكوين نظريته عن «المادية التاريخية» أو «التفسير الاقتصادي للتاريخ» قال ماركس وإنجلز في جدالهما: «ما تاريخ كل المجتمع الحاضر سوى تاريخ نضال الطبقات؛ الحر والعبد، والنبلاء والعوام، السيد والمسود، رئيس المؤسسة وعامل المياومة، وبالاختصار، وقف الظالم والمظلوم، كلٌّ منهما في مواجهة الآخر، ونشبَت بينهما حرب مستمرة.»
قال إنجلز وهو يقرظ ماركس:
«لقد اكتشف الحقيقة البسيطة المختبئة تحت «الأعشاب» الفكرية، وهي أن الكائنات البشرية يجب أن تحصل على الطعام والشراب والملبس والمسكن، أولًا وقبل كل شيء، وقبل أن تجد المتعة في السياسة والعلوم والفن والدين، وما إلى ذلك. وهذا يتضمن أن إنتاج اللوازم الضرورية للحياة، وطور التقدم الاقتصادي الحالي لأمة أو لحقبة من الزمان، تكون الأساس الذي بنت عليه الحكومة نظراتها القانونية والأفكار الفنية والدينية لأولئك المختصين.»
وقُصارى القول أن التنازع من أجل الطعام والمأوى نزاع بالغ القوة ويقرر كل شيء آخر من الأمور البشرية.
وتاريخ البشرية، تبعًا لماركس، هو أولًا قصة استغلال طبقة لأخرى. وفي عصور ما قبل التاريخ، كان هناك مجتمعٌ قبائلي أو مجتمع لا طبقي. أما في العصور التاريخية فيقول ماركس: «تكوَّنت الطبقات وصارت جموع السكان البشرية أولًا عبيدًا ثم خدمًا (الحالة الإقطاعية) ثم عبيدًا بالأجر لا يمتلكون شيئًا (العصر الرأسمالي).» وبتطبيق نظرية «المادية الجدلية» اقتنع ماركس أن الخطوة الحتمية بعد ذلك هي تمرد العمال و«دكتاتورية الطبقة العصامية» يتبعه الملكية الشيوعية والعودة إلى نظام المجتمع اللاطبقي.
طور ماركس في كتابه «رأس المال» قضيته ضد النظام الرأسمالي؛ ليبرهن، في تقديره، على أن هلاكه أخيرًا واختفاءه أمران لا مفرَّ منهما. وهنا كون ما يعتبره الشيوعيون عمومًا إسهامه الثاني البالغ الأهمية في العلوم الاجتماعية، وهي نظرية قيمة العمل. كذلك لم تكن هذه أصلًا نظرية من تفكير ماركس. فإذ سار على نهج علماء الاقتصاد الأكبر منه سنًّا، وهما آدم سميث ودافيد ريكاردو، أكد أن العمل مصدر كل القيم. وذكر ماركس فقرة من بنيامين فرانكلين، الذي لاحظ منذ قرن مضى أن «التجارة ليست إلا مبادلة عملٍ بعمل. وتُقاس قيمة كل شيء بالعمل.» وأخذ عن سميث تعريف رأس المال بأنه «كمية معينة من العمل مكتلة ومحفوظة في صورة احتياطي.» كما أن ريكاردو اقترح أن ثمن أية سلعة وقيمتها يجب أن يُقدر بكمية العمل الداخلة فيها.
اتخذ ماركس هذه الأقوال كمقاييس بنى عليها نظريتَه عن «قيمة الفائض». فذكرها أولًا في مقاله «نقد الاقتصاد السياسي» (سنة ١٨٥٩م)، ثم نقحها وذكر الصورة المنقحة في كتابه «رأس المال»، ولما كان العامل لا يملك شيئًا، فليس لديه غير سلعة واحدة ليبيعها — وهي عمله. ولكي يتحاشى الموت جوعًا، يجب عليه أن يبيعها. وتبعًا للنظام الاقتصادي السائد، يشتري صاحب العمل هذه السلعة بأقل ثمنٍ ممكن. إذن، فالقيمة الفعلية للعمل تزيد كثيرًا على الأجر المدفوع؛ فالعامل الذي يدفع له صاحب العمل أربعة شلنات في اليوم، يكسب هذا المبلغ فعلًا في ست ساعات، ولكن يطلب منه أن يعمل عشر ساعات، إذن فصاحب رأس المال يسرق من العامل تلك الساعات الأربع الزائدة. وإذ فسَّر الأمر على هذا النحو، فإن الأرباح وفوائد المبالغ والأوراق المالية، وإيجار المساكن ونحوها، مشتقةٌ كلها من قيمة كد العمل الزائد المسروق من العمال. إذن، يمكن أن نستنتج منطقيًّا أن نظام صاحب رأس المال ليس سوى طريقةٍ شريرةٍ وُضعت لاستغلال طبقة العمال وسرقتهم.
إنهم يشوهون العمل إلى جزء من رجل، وينزلونه إلى مستوى قطعة زائدة بالآلة، ويحطمون كل بقية من الجمال في عمله ويحولونه إلى كد مقيت. ويبعدون عنه القوى العقلية لعملية العمل بنفس نسبة وجود العلم في ذلك العمل كقوةٍ مستقلة. ويشوهون الظروف التي يعمل فيها ويعرضونه أثناء عملية العمل إلى استبدادٍ مقيت جدًّا لوضاعته، ويحولون عمره إلى وقت عمل، ويجرون زوجته وطفله تحت عجلات تمثال رأس المال.
وهكذا يلحُّ ماركس بأن استخدام الآلات لإسراع الإنتاج وزيادته، لا يفشل فقط في تسهيل حظ العامل، ولكن له آثارًا ضارة، مثل خلق البطالة، وزيادة إنتاج السلع على القدر المطلوب، وقتل لذة العامل في عمله، ويستطرد ماركس قائلًا:
«الآلات أمضى سلاح لقمع الإضرابات التي هي التمرد الدوري للطبقة العاملة ضد السلطة المطلقة لرأس المال … كانت الآلة البخارية، منذ البداية، خصمًا مكن الرأسمالي من أن يطأ تحت قدميه المطالب المتزايدة للعمال الذين هددوا نظام المصانع المولود حديثًا، بأزمة. من الممكن كتابة تاريخ بأكمله عن المخترعات التي ظهرت منذ عام ١٨٣٠م لغرضٍ وحيدٍ هو تزويد رأس المال بسلاح ضد تمردات طبقة العمال.»
وبتحريف نظرية مالثوس تحريفًا معينًا، يقول ماركس إن زيادة عدد السكان يتبع دائمًا طريق الرأسمالية. يحتاج هذا النظام إلى «جيش صناعي احتياطي» لعصور امتداد الإنتاج الضخم عند خلق صناعات جديدة أو إحياء صناعات قديمة. وفي طبيعة الأشياء، يجب على قوة العمل الفائض أن تتحمل مددًا طويلة من البطالة بعد ذلك تظهر أعظم لعنة للرأسمالية؛ الكساد والذعر. فبما أن العمال يتقاضون أجورًا لا تكاد تفي بما يسد الرمق، فلا يستطيعون شراء جميع ما تنتجه المصانع، فتكتظ الأسواق بالبضائع، وتقل قوة العمل، ويتبع ذلك كسادٌ عنيف.
ولكي يبحث الرأسمالي عن مخارج للبضائع الكثيرة المكدَّسة في مخازنه، يتجه إلى المجالات الأجنبية فيحاول إيجاد أسواقٍ في الدول المتخلفة في الخارج ليشحن إليها السلع التي لا يستطيع عماله شراءها. وهذه المحاولة والبحث عن المواد الخام التي تمكن مصانعه من الاستمرار في العمل بغير انقطاع؛ تؤدي إلى الالتحامات الدولية والحروب الاستعمارية.
اعتقد ماركس أن النتيجة النهائية لنضال الرأسمالي وشغبه هي زيادة التركيز والاحتكار؛ لأن «أحد الرأسماليين يقتل الكثيرين دائمًا.» تختفي الطبقة المتوسطة عندما يلتهم كبار الرأسماليين صغارهم. وأخيرًا تبقى حفنة من كبار الرأسماليين تواجه جموع العصاميين. وعندما يأتي ذلك الوقت، يجد العصاميون فرصتهم، وتصف إحدى فقرات كتاب «رأس المال» الأكثر حيوية والجديرة بالتذكر، الخطوات المؤدية إلى حل المشكلة:
«بينما هناك انكماش مستمرٌّ في عدد النبلاء الرأسماليين، فإنه يقابله ازدياد في عدد الفقراء وفي الظلم والاستعباد والانحلال والاستغلال. غير أنه، في الوقت ذاته، تزداد باطرادٍ حدة غضب طبقة العمال، تلك الطبقة التي يزداد عددها، وهي مطيعةٌ ومتحدةٌ ومنظمة بنفس ميكانيكية طريقة الرأسمالي للإنتاج. وإن احتكار الرأسماليين لَيغدو قيدًا يغلُّ طريقة الإنتاج التي ازدهرت به. هذا وتصل مركزية وسائل الإنتاج واشتراكية العمل إلى نقطة تبرهنان عندها على عدم ملاءمتهما لبقاء الرأسمالية. ينفجر هذا، ويدقُّ ناقوس موت ممتلكات الرأسمالي الخاصة؛ إذ إن المالكين السابقين صاروا مملوكين سابقين.»
ينتهي صراع الطبقات بانتصار العصاميين.
لما استولى العصاميون على الحكومة، ثبتوا دكتاتوريتهم. ومع ذلك، فقد تنبَّأ ماركس بأن هذه المرحلة «ليست إلا فترة انتقال إلى إلغاء جميع الطبقات، وخلق مجتمع من الأحرار المتساوين.» لم يحدد الوقت اللازم لاستمرار الدكتاتورية — وهذه نقطة اعتبار ممتعة في نظر الثماني والثلاثين سنة في روسيا السوفيتية التي ظلت في القبضة الحديدية لنظام سلطةٍ لا تبدي أية علامة على إرخاء تلك القبضة. والحقيقة أن ماركس غامضٌ تمامًا في وصف طبيعة مجتمع طبقاته. وبعد أن تقوم الدولة بدورها في التعليم والتنظيم، ستذبل الحكومة، ولن يكون هناك أية قوة أو اتصال وسيسود السلام والرخاء لكل فرد. وسيكون الهدف الرئيسي للمجتمع هو: «التطور الكامل الحر لكل فرد.» وسيكون المبدأ المرشد هو «لكل شخصٍ حسب مقدرته، ولكل فرد حسب حاجاته.»
إن «المجتمع اللاطبقي» لماركس مجتمعٌ غامض غموض سماء الفكتوريين الأرثوذكس، ويوحي بقليلٍ من الثقة وقليل من الحماس، فما إن تطرد الثورة العالمية إلى الخلف، حتى يكون من الصعب أن تجد شيئًا في عظام الماركسية الجافة يُثير حماسَ الناس أو يسوقهم إلى قوة احتمال جديدة، أو محاولات جديدة.
ورغم هذا، فالماركسية لها قوة الدين لملايين الشيوعيين المناصرين للشيوعية. أما المادية الجدلية فيمكن أن تكون عقيدة تفوق كل العقائد الأخرى. ويقول ماركس إن الديانات القديمة مثل المسيحية، تعلم إيمانًا إيجابيًّا بنصيب الإنسان المقسوم له في الحياة، كما تمجِّد الإذعان والوداعة والهوان. إذن فهي تعمل ﮐ «أفيون الناس» تعمي العصاميين وتقودهم إلى حتفهم، وتضع عقبات ضخمة في طريق الثورة.
«إذا أمكن اعتبار حقائق نزاع الطبقات بنجاح، فإن جميع الهيكل النظري لماركس يتهدَّم ويسقط أرضًا.»
علَّق ماركس آمالًا قوية على إضعاف الروابط القومية بين العصاميين بقصد أن يعد لهم إحساسًا بالتضامن الدولي بين العمال في كل مكان. وقد ثبت فشل الحصول على هذا الهدف المرغوب في حربين عالميتين، وبواسطة الحماس القومي المتمثل في منظر العالم الحالي — ليس أكثر وضوحًا مما هو في روسيا والصين وغيرهما من البلاد الشيوعية. وتبعًا لحكم ماركس، تحدث ثورة العصاميين أولًا في الأمم الأكثر تحولًا إلى صناعية، مثل إنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة بينما روسيا أقل نضجًا للتمرد — وهذا تكهن آخر لم تتمخض عنه الأحداث التالية.
«تفشل طريقة المادية التاريخية لماركس في أن تكون السبب في الاختلافات الواضحة بين الناس الموجودين في نفس مستوى النمو الاقتصادي. أهمل ماركس في حساب بعض العوامل الحيوية مثل: الجنس والدين والجنسية. لم يحسب الأهمية العظمى للشخصية البشرية. ومن المشكوك فيه ما إذا كان يمكن تفسير حادث تاريخيٍّ واحد تفسيرًا صحيحًا بمصطلحات هذه النظرية.»
ومع ذلك، فبينما ندرس المغالطات في أفكار ماركس، نجد من الصعب التغلب على تأثيره في عصرنا. وقد كان تأثيره على العالم الرأسمالي مفيدًا في نواحٍ معينة هامة. فبتأكيد عيوب النظام الصناعي، وبخداع خطر ثورة العمال، حدثت إصلاحات أساسية. وبالاختصار أجبر تكرار الشيوعيين والاشتراكيين المستمر لعيوب الرأسمالية، على تصحيح كثيرٍ من تلك الشرور. وبذا قلَّل كثيرًا، إن لم يمنع تمامًا، إمكان تمرُّد العصاميين الذي تنبَّأ به ماركس.
أما غزو الماركسية لروسيا والصين وغيرهما من المناطق الواسعة الأخرى، جارفة في طريقها حوالي تسعمائة مليون شخص، فكان هو المشكلة الأكثر إلحاحًا في العالم الحديث. ومن قبيل التهكُّم: كان ماركس يُضمر احتقارًا بالغًا للروس عمومًا، وللثوريين خصوصًا. فإن استنتاجاته فيما يختصُّ بالحكم القيصري في عصره، لتليق بروسيا الشيوعية: «سياسة روسيا لا تتغير. قد تتغير طرقها وتكتيكها ومناوراتها، ولكن النجم القطبي لسياستها (سيادة العالم) نجم ثابت.»
ومن المشكوك فيه وجود شخص في التاريخ أوحى بآراء أكثر تناقضًا عنيفًا من كارل ماركس. فمن الناحية العلمية، ليس به عرض وسط بين الرأي الذي يجعله «يهوديًّا أوحى إليه الشيطان فخطط لسقوط الحضارة.» وبين صورته المضادة تمامًا «كقديس محبوب أنكر ذاته وكرَّس نفسه لطبقة العالم غير الموروثة في القرن التاسع عشر.» وبدأ ناقد لاذع حديثه بقوله: «باسم التقدم الإنساني، أقرِّر أن ماركس قد سبب موتًا وبؤسًا وتدهورًا ويأسًا أكثر مما سببه أي شخصٍ آخر عاش على ظهر البسيطة.»