قلب القارة والجزيرة العالمية: السير هالفورد ج. ماكندر١
لم يعرف العالم على الفور في أية حالة من هاتَيْن تقع الأهمية المثيرة لهذَيْن الحادثَيْن، ومع ذلك فإن وجه الكرة الأرضية يجب أن يتغيَّر بهما تغيرًا مستديمًا.
لم يعد من غير المحتمل تفكُّك النظريات الثورية … في ٢٥ يناير سنة ١٩٠٤م قرأ ماكندر ورقته المشهورة «المحور الجغرافي للتاريخ»، في اجتماع الجمعية الجغرافية الملكية بلندن، وتقع تلك الورقة في ٢٤ صفحة مطبوعة، أي إنها لا تزيد على نشرة عادية، غير أن تحليلها الرائع للعلاقة المتبادلة بين الجغرافيا والسياسة في الماضي والحاضر خلال العالم كله، كان أفكارًا جديدة غزت تفكير القادة السياسيين الحربيين وعلماء الاقتصاد والجغرافيا والمؤرخين في كل مكان.
في نهاية الحرب العالمية الأولى، عدَّل ماكندر نظريته بتفصيل مطوَّل جدًّا عن «المثل العليا الديمقراطية والحقيقية».
ورغم أنه لم يقم بتعديل أساسي على قضيته الأصلية، فهذا الكتاب وموضوعه السابق هما حجر الزاوية في العلم الحديث للسياسة الجغرافية، وهو إدماج الجغرافيا والعلوم السياسية معًا.
تتبع ماكندر نفس الفكرة في «المثل العليا الديمقراطية والحقيقية»، فقال:
«وصلنا أخيرًا إلى القطب الشمالي فوجدناه في وسط بحر عميق، وإلى القطب الجنوبي فوجدناه فوق هضبة عالية. وبهذَيْن الاكتشافَيْن الأخيرَيْن، ختم كتاب الرواد، لم تلقَ هذه المغامرة جزاءها بالعثور على سهلٍ واسعٍ من الأرض الخصبة أو سلسلة جبال هامة، أو نهر من الطراز الأول. وزيادة على ذلك، ما كادت خريطة العالم ترسم قبل تمام ثبوت الملكيات السياسية لجميع أجزاء اليابسة … سار مبعوث الإرساليات والغازي والمزارع ومستغل الناجم، وحديثًا المهندس، سار هؤلاء جميعًا يتبعون من كثب خُطى الرحالة، حتى إن الدنيا في أقصى حدودها قلَّما اكتشفت قبل أن تقرر ملكيتها الحقيقية الكاملة. فقلَّما توجد منطقة في أوروبا أو في أمريكا الشمالية أو في أمريكا الجنوبية، أو في أفريقيا أو أستراليا، لم تثبت ملكيتها إلا نتيجة لحرب بين القوى المتحضِّرة أو نصف المتحضرة.»
وصف ماكندر الآثار المحتملة لتمهيد ترنر، بقوله:
من الآن فصاعدًا، سيكون علينا ثانية، في العصر بعد الكولومبي، أن نتناول النظام السياسي المقفل، وسيكون أحد المجالات العالمية. فكل انفجارٍ في القوى الاجتماعية، بدلًا من أن يذوب في دائرة الفضاء غير المعروف المحيطة به، وفي الفوضى البربرية، فإنه سيرتدُّ بحدةٍ من الجانب البعيد للكرة الأرضية، وستتحطم نتيجة لذلك، تلك العناصر الضعيفة في الكيانَيْن السياسي والاقتصادي للعالم … نحسُّ الآن بكل صدمة وبكل كارثة أو فائض، كما يحس بها من يعيشون في الجزء المقابل لنا من الكرة الأرضية. وقد ترتد إلينا ممَّن يعيشون قبالنا … وهكذا يرتد صدى كل فعلٍ إنساني، ويرجع صداه ثانية … حول العالم.
وفي النظام المقفل الخاص بعصرنا، وخفة الحركة غير المحدودة المصاحبة له برًّا وجوًّا، نرى القوة البحرية السائدة، قد انقضى عصرها ومضى، تبعًا لرأي ماكندر. ولو كان هذا حقيقيًّا، إذن فقد جاء عصر قوة أرضية. فأين كان المركز الطبيعي للحقبة الجديدة؟ كان بالطبع في كتلة الأرض العظمى من العالم، أي في تلك المساحة الشاسعة التي أطلق عليها ماكندر اسم «المنطقة المحورية لسياسات العالم»، ومن بين خمس خرائط لتوضيح قضيته استحقَّت الأخيرة أن تسمَّى «المراكز الطبيعية للقوى»، وتصور «المنطقة المحورية». صوَّر ماكندر المحور الجغرافي في شمال وداخل المنطقة الأوروبا آسيوية، والممتدة من المنطقة القطبية الشمالية إلى الصحارى الوسطى، وغربًا إلى البرزخ العريض بين بحر البلطيق والبحر الأسود.
وتبعًا للتحليل التاريخي الذي يخصُّ به معظم مقاله، فإن أوروبا وبقية العالم ظلَّت لعدة قرونٍ تحت ضغطٍ مستمر من منطقة المحور.
«نالت أوروبا حضارتها تحت ضغط البربرية الخارجية إذن، فأنا أطلب منكم أن تنظروا لحظةً إلى أوروبا وإلى التاريخ الأوروبي على أنهما تابعان لآسيا وللتاريخ الآسيوي؛ لأن الحضارة الأوروبية، بمعنى حقيقي جدًّا، كانت نتيجة نزاع دنيوي ضد الغزو الآسيوي. وأهم تناقضٍ واضح في الخريطة السياسية لأوروبا الحديثة هو الذي تمثله مساحة روسيا التي تشغل نصف مساحة القارة، ومجموعة من الأراضي الصغيرة تسكنها القوى العربية.»
وبتتبُّع التقلُّص والامتداد في التاريخ الأوروبي أكمل ماكندر حديثه بقوله:
أسقط ماكندر أشعة تاريخه على أزمنتنا، فرأى منطقة المحور تزيد من ثقلها في شئون العالم متمشية مع نموها في القوة الاقتصادية والحربية. ومن وجهة النظر التاريخية، رأى بالأدلة «إلحاحًا معينًا للعلاقة الجغرافية»؛ لأنه …
«أليست منطقة المحور لسياسة العالم هي تلك المساحة الواسعة أوران–آسيا، التي لا تستطيع السفن أن تصل إليها، ولكنها كانت في قديم الزمان مفتوحة أمام البدو راكبي الخيول، وعلى وشك أن تغطيها اليوم شبكة من السكك الحديدية؟ كانت، ولا تزال هنا ظروف تحرك القوة العسكرية والاقتصادية من نوع يصل إلى مدى بعيد، ولكنه نوع محدود. فروسيا تحل محل الإمبراطورية المغولية، وضغطها على فنلندة وعلى اسكنديناوة وعلى بولندة وعلى تركيا وفارس والهند والصين، يحل محل غارات رجال الاستيس الممتدة إلى الخارج. إنها تحتل المركز الاستراتيجي المتوسط في العالم كله، ذلك المركز الذي تحتله ألمانيا في أوروبا. يمكنها أن تضرب في جميع الجوانب، وتضرب من جميع الجوانب أيضًا ما عدا الشمال.»
يحدد ماكندر هلالين خارج منطقة المحور يضم الهلال الكبير الداخلي ألمانيا والنمسا والهند والصين بينما يضم الهلال الخارجي بريطانيا وجنوب أفريقيا وأستراليا والولايات المتحدة وكنده واليابان، والحقيقة أن قوة منطقة المحور لم تكن معادلة لدول الحافة الخارجية للهلالين، وهنا أبدى ماكندر خوفه العظيم بقوله: «قد يحدث هذا إلا إذا تحالفت ألمانيا مع روسيا، وفي هذه الحالة، يُصبح بوسع دولة المحور أن تمتدَّ فوق البلاد الساحلية للأورال–آسيا فتستعمل موارد قارية هائلة لبناء أسطول، وعندئذٍ تكون إمبراطورية العالم ظاهرة.»
اختتم ماكندر خطابه الشهير بالتأكيد بأنه تكلَّم بصفته عالمًا جغرافيًّا، وأشار إلى أن «التوازن الحقيقي للقوة السياسية في أي وقتٍ معين هو بالطبع حاصل ضرب الظروف الجغرافية، اقتصاديًّا واستراتيجيًّا في العدد النسبي للرجولة الكاملة والمعدات وتنظيم الشعوب المتنافسة.» وفي تقديره أن «الكميات الجغرافية في هذا الحساب أكثر قابلية للقياس وأكثر ثباتًا تقريبًا، من الكميات البشرية.» لن تتغير الأهمية الجغرافية لموقع المحور إذا سكنه شعبٌ آخر غير الشعب الروسي.
فمثلًا إذا نظَّم اليابانيون الصينيين لهزيمة الإمبراطورية الروسية واحتلال أراضيها، فإنهما تكونان الخطر الأصفر على حرية العالم لمجرد أنهما تضمان جبهة على المحيط إلى موارد القارة العظمى، وهذه ميزة حرم منها الروس ساكنو منطقة المحور.
أحس ماكندر، وهو يكتب عند نهاية الحرب العالمية الأولى «أن الحرب دعمت آراءه السابقة بدلًا من أن تهز كيانها.» ففي «المثل العليا الديمقراطية والحقيقية» استمر في مناقشة «منطقة المحور» التي أشار إليها عندئذٍ على أنها «قلب القارة» الواقعة في وسط «الجزيرة العالمية».
لم تكن أوروبا وآسيا وأفريقيا، كما رآها ماكندر ثلاث قارات، بل قارة واحدة هي «الجزيرة العالمية»، وبما أن البحر كان فيما مضى مسيطرًا على تفكير الإنسان، فإنه لم يعتبر تلك الرقعة الشاسعة جزيرة؛ لأنه كان من المستحيل الإبحار حولها. فأشار ماكندر إلى أنه «يطفو فوق بحر القطب الشمالي طبقة من الثلج عرضها ألفان من الأميال، إحدى حافاتها على الأرض الضحلة في شمال آسيا. إذن، فليست القارة جزيرةً من حيث غرض الإبحار.» وباستثناء هذه الحقيقة، ومساحتها الشاسعة، فإنها لا تختلف عن الجزر الأخرى، وتطغى الجزيرة العالمية على بقية الأرض في كلٍّ من المسافة وعدد السكان. فمن ناحية الأرض، لهذه الجزيرة الثلثان، بينما الثلث الباقي للأمريكتين الشمالية والجنوبية وأستراليا والمناطق الصغرى الأخرى. وزيادة على ذلك فإن سبعة أثمان سكان العالم يقيمون في هذه الجزيرة، بينما يقيم الثمن فقط في بقية الأراضي الأخرى. إذن، فقد لاحظ ماكندر أن الدنيا القديمة هي «الوحدة الجغرافية العظمى في كرتنا الأرضية.»
وبعد أن أوضح ماكندر «نسب وعلاقات» الجزيرة العالمية، استطرد يقول:
قال ماكندر: ليست الأمريكتان وأستراليا صغيرة نسبيًّا من حيث المساحة فحسب؛ بل وإن القوة البشرية والموارد الطبيعية التي فيها أقل بكثير مما في «القارة العظمى» أو «الجزيرة العالمية». ويسأل ماكندر: «ماذا لو أن القارة العظمى أو الجزيرة العالمية كلها، أو الجزء الأكبر منها، صارَت في وقتٍ ما، في المستقبل، قاعدة متحدة من القوة البحرية؟ ألَا تتفوق على القواعد الجزيرية الأخرى من حيث السفن والرجال المديرة لها؟» هذا، ورغم أن ألمانيا هُزمت فلا يزال هناك احتمالٌ أن جزءًا كبيرًا من القارة العظمى سيتحد في يومٍ ما تحت إمرة حكومة واحدة، وتبنى عليها قوة بحرية عظمى لا يمكن قهرها. وحذَّر ماكندر يقول: «لو كسبت ألمانيا الحرب لكونت قوتها البحرية على أساس أوسع من أية قوة في التاريخ، والحقيقة أنها ستكون على أوسع قاعدة ممكنة.»
اختصر ماكندر حججه إلى صيغة شائعة على الألسن، نصها:
«من يحكم شرق أوروبا يسيطر على قلب القارة،
ومن يحكم قلب القارة يسيطر على الجزيرة العالمية،
ومن يحكم الجزيرة العالمية يسيطر على الدنيا.»
وإبَّان الحرب العالمية الثانية في سنة ١٩٤٣م، قبل موت ماكندر بأربع سنين، اختبر نظرية قلب القارة للمرة الثالثة في مقال عنوانه: «العالم المستدير وكسب السلام.» فوجد فكرته «أكثر صحة ونفعًا اليوم مما كانت عليه منذ عشرين أو أربعين سنة مضت.» واستطرد يتنبَّأ بأنه: «إذا هزم الاتحاد السوفيتي ألمانيا في الحرب، فلا بد أن يكون أعظم دولة في الدنيا، وزيادة على هذا، سيكون القوة ذات المركز الاستراتيجي الأقوى في ناحية الدفاع. فقلب القارة أعظم حصن طبيعيٍّ على ظهر البسيطة، ولأول مرةٍ في التاريخ تسيطر عليه حامية كافية، كمًّا ونوعًا.»
وإذ أعجب هوشوفر بأفكار ماكندر، تسلَّطت عليه فكرة أن ألمانيا لا بد أن تُسَيطر على قلب القارة. فانتشرت رسومه عبر القارة من نهر الراين إلى نهر يانجتسي، وتركزت على خطته لحدوث تحالف عملاق بين ألمانيا واليابان والصين وروسيا والهند ضد الإمبراطورية البريطانية … وقد وافقت هيئة الموظفين الألمانية العامة على تعاليمه وأيدتها. وبدأ توقيع الميثاق النازي السوفيتي في سنة ١٩٣٩م محققًا لحلم هوشوفر، غير أن سياسته كلها ذهبت أدراج الرياح عندما اقترف هتلر أعظم خطأ عجل بنهاية الحرب العالمية الثانية، عندما أمر قواده بأن يهاجموا الاتحاد السوفيتي، وبعدما انتهت الحرب بفترةٍ وجيزة، انتحر هوشوفر وزوجته في بيتهما البافاري.
وكما هو طبيعي، اتهم النقَّاد هوشوفر بأنه هو الذي وضع أساس المذهب الحربي النازي، بيد أن ماكندر دحض هذا الاتهام في الخطبة التي ألقاها عام ١٩٤٤م؛ إذ قال:
«علمت بسريان شائعات تقول إنني أوحيت إلى هوشوفر الذي أوحى إلى هيس، فاقترح هذا بدوره على هتلر، عندما كان يملي كتابه «كفاحي»، ببعض أفكار السياسة الجغرافية، يقال إنني مصدرها. إنها ثلاث حلقات في سلسلة، ولكني لا أعرف شيئًا عن الحلقتَيْن الثانية والثالثة. ومع ذلك، فإنني أعرف من دليل قلمه، أن كل ما اقتبسه هوشوفر منِّي أخذه من خطاب المحور الجغرافي للتاريخ الذي ألقيته أمام الجمعية الجغرافية الملكية منذ أربعين سنة خلت، قبل وجود أي مسألةٍ عن حزب نازي بزمن طويل.»
الهواء عالمي مشاع للجميع. إنه طريق واسع فرد يقطع حسب الإرادة فوق الأرض أو البحر على حدٍّ سواء، لا يصد القوة الجوية إلا قوة جوية، وهي لا تعرف قلب القارة البعيدة عنها تمام البعد … والقانون الاستراتيجي الآن قد يكون: «من يركب الطائرات يسيطر على القواعد، ومن يسيطر على القواعد يسيطر على الجو، ومن يسيطر على الجو يسيطر على العالم.»
هناك نقطة هامة، وأخرى عميَ عنها ماكندر؛ إذ فشل في إدراك المركز القوي الذي تحتله الأمريكتان، وفي أثناء كتابته «المثل العليا الديمقراطية والحقيقية»، شاهد منذ فترةٍ وجيزة في الحرب العالمية الأولى استعراضًا لقوة أمريكا وعنفها، ويبدو أنه كان مشغولًا بفكرة قلب القارة والجزيرة العالمية في نظرته إلى الأرض، وعلى ذلك لم ير الدنيا الجديدة إلا منطقة ساحلية و«مجرد تابع للقارة القديمة.»
ورغم مساوئ ماكندر التنبؤية فهناك أدلة قوية تؤيد آراءه … أقام الاتحاد السوفيتي حكمًا جديدًا على قلب القارة، وعن طريق التقدُّم الزراعي والصناعي واستغلال المعادن والسكك الحديدية وإنشاءات المجال الجوي، جعلت المنطقة من أقوى المناطق في العالم اقتصاديًّا وحربيًّا. ومن ناحية أخرى، فعلى الرغم من أنها بدأت عددًا من الخطط الخمسية في العشرين سنة الماضية، فلم تبلغ تلك المنطقة المقدرة الإنتاجية التي للولايات المتحدة، هذا وبرغم أن الاتحاد السوفيتي يحكم قلب القارة فإنه لا يزال بعيدًا عن هدفه من السيطرة على الجزيرة العالمية، فما بالك بالعالم.