إعادة النظر في العَلمانية
(١) القيم الداخلية في عصر العِلم
أنا رجلُ دين، لكن الدين وحده لا يمكن أن يحل جميع مشكلاتنا.
منذ وقتٍ ليس ببعيد، حضرتُ حفلًا رسميًّا بمناسبة افتتاح معبدٍ بوذيٍّ جديد في بيهَار، وهي ولايةٌ فقيرة وذات كثافةٍ سكانيةٍ مرتفعة للغاية تقع في شمال الهند. ألقى الوزير الأول لبيِهَار، وهو صديقٌ قديم لي، خطابًا جيدًا أعربَ فيه عن اقتناعه بأنَّ ولاية بيِهَار ستزدهر الآن ببركات بوذا. وعندما جاء دوري للحديث، اقترحتُ — على نحوٍ مازحٍ إلى حدٍّ ما — أنه إذا كان ازدهار بيِهَار يعتمد على بركات بوذا فحسب، فإنه كان لا بد لها أن تزدهر منذ زمنٍ طويل! ذلك أنَّ بِيهَار هي موطن الموقع الأقدس لدى البوذيين: بود جايا، حيث بلغ بوذا الشهير الاستنارة الكاملة. إنَّ التغيير الحقيقي يستلزم ما هو أكثر من بركات بوذا، بالرغم مما قد تتمتع به من قوة، ويستلزم أيضًا ما هو أكثر من الصلاة. فعلاوةً على ذلك، نحتاج إلى العمل، الذي لن يتحقق إلا من خلال الجهود المقتدرة للوزير الأول وآخرين من أمثاله!
ليس القصد من هذا أنَّ البركات والصلاة عديمةُ الجدوى. الحق أنني أرى أنَّ الصلاة لها فائدةٌ نفسيةٌ عظيمة. ولكن علينا أن نتقبَّل أن نتائجها الملموسة تصعُب رؤيتها في كثير من الأحيان. فعندما يتعلَّق الأمر بالحصول على نتائجَ محددةٍ مباشرة، يتضح أنَّ الصلاة لا يمكن أن تضاهي إنجازات العلم الحديث على سبيل المثال. حين مرضتُ منذ بضع سنوات، كانت معرفتي بأن الناس يُصلُّون من أجلي تطمئنني بالتأكيد، لكن يجب أن أعترف أنَّ معرفتي بأن المستشفى الذي كنت أُعالَج فيه يضم أحدث المعدات المخصصة للتعامل مع حالتي مطمئنةٌ بدرجة أكبر!
في ضوء تفوُّقنا المتزايد في العديد من جوانب العالم المادي خلال المائتي عام الماضية أو نحو ذلك، من غير المفاجئ أن نجد الكثير من الأشخاص اليوم يتساءلون عما إذا كنا نحتاج إلى الدين على الإطلاق. فالأشياء التي لم تكن في الماضي سوى محض أحلام؛ مثل القضاء على الأمراض، والسفر عبر الفضاء، وأجهزة الكمبيوتر، أصبحت حقيقةً من خلال العِلم. فلا غرو إذن أن يضع الكثيرون كلَّ آمالهم في العلم لدرجة الاعتقاد بإمكانية تحقيق السعادة بالوسائل التي يستطيع العلم المادي تقديمها.
وبالرغم من أنني أستطيع تفهُّم تقويض العلم للإيمان في بعض جوانب الدين التقليدي، فلستُ أرى سببًا يجعل لتطور العلم التأثيرَ نفسه على مفهوم القيم الداخلية أو الروحانية. حقيقة الأمر أنَّ الحاجة إلى القيم الداخلية أكثرُ إلحاحًا في عصر العلم هذا، مما كانت عليه في أي وقتٍ مضى.
في محاولتي لتقديم حجةٍ قوية تدعم التمسك بالقيم الداخلية والعيش الأخلاقي في عصر العلم، سيكون من المثالي أن أُقدِّم هذه الحُجة بعباراتٍ علميةٍ بحتة. وعلى الرغم من عدم إمكانية القيام بذلك بالاستناد إلى أسس البحث العلمي بصورةٍ خالصة حتى الآن، فأنا متأكد من أنه مع مرور الوقت، سوف تظهر تدريجيًّا حججٌ علمية أكثر موثوقيةً تؤيد فوائد القيم الأخلاقية الداخلية.
لستُ عالمًا بالطبع، ولم يكن العلم الحديث جزءًا من تعليمي الرسمي عندما كنتُ طفلًا. ومع ذلك، فمنذ جئتُ إلى المنفى، نجحتُ في تحصيل الكثير مما فاتني. وعلى مدار أكثر من ثلاثين سنةً حتى الآن، عقدتُ اجتماعاتٍ منتظمةً مع خبراء وباحثين في العديد من المجالات العِلمية؛ منها الفيزياء، وعلم الكَوْنيات، وعلم الأحياء، وعلم النفس، مع التركيز مؤخرًا على علم الأعصاب.
تُركِّز التقاليد التأملية في جميع الأديان تركيزًا كبيرًا على استكشاف العالم الداخلي للتجربة والوعي؛ لذلك كان أحد أهدافي في تلك المناقشات هو استكشاف الفهم العلمي لجوانب مثل الفكر، والعاطفة، والتجربة الذاتية.
أشعر بالتشجيع الشديد من حقيقة أنَّ العلم، ولا سيما علم الأعصاب، ينتبه الآن بشكلٍ متزايد إلى هذه الأمور التي طالما تجاهلناها. كما أنني سعيد بالتطورات الأخيرة في المنهجية العلمية لهذه المجالات؛ إذ يتوسع حاليًّا المبدأ العلمي التقليدي للتحقق الموضوعي عن طريق طرفٍ ثالث ليشمل مجال التجربة الذاتية. ومن أمثلة ذلك عملُ صديقي الراحل فرانسيسكو فاريلا في علم الظواهر العصبية.
لطالما كان لديَّ أيضًا اهتمامٌ طويل الأمد بماهية الأساس العلمي الذي قد يُكتشَف لفهم آثار الممارسة التأملية والتنمية القصدية لصفاتٍ مثل التعاطف، والحنان الناشئ عن الحب، والاهتمام، والهدوء الذهني. وكنت أشعر على الدوام أنه إذا استطاع العلم توضيحَ إمكانية مثل هذه الممارسات وفائدتها، فربما يمكن تعزيزها من خلال التعليم العام.
من حسن الحظ أنَّ لدينا الآن مجموعةً من الأدلة البارزة إلى حدٍّ مقبول والمستمَدة من علم الأحياء التطوري، وعلم الأعصاب، ومجالاتٍ أخرى تشير إلى أنَّ الإيثار والاهتمام بالآخرين لا يصبَّان في مصالحنا الخاصة فحسب، بل إنهما يُعدَّان أيضًا من الأمور الفطرية في طبيعتنا البيولوجية، وينطبق ذلك حتى من منظورٍ علمي شديد الصرامة. إنَّ مثل هذه الأدلة عندما تجتمع مع انعكاسها على تجاربنا الشخصية وتقترن بالفطرة السليمة البسيطة، فإنها يمكنها — في رأيي — أن تقدِّم مبرراتٍ قويةً توضح فوائد تنمية قيمٍ إنسانيةٍ أساسية لا تستند إلى المبادئ الدينية أو إلى الإيمان على الإطلاق. وهذا أُرحِّب به.
(٢) مَدْخَل إلى العَلمانية
هذا إذن هو الأساس لما أُسمِّيه «الأخلاق العلمانية». وأنا أعي أنَّ استخدامي لكلمة «علماني» يثير لدى بعض الأشخاص، ولا سيما بعض الإخوة والأخوات من المسيحيين والمسلمين، بعضَ الهواجس. فالبعض يرون أنَّ الكلمة نفسها تشير إلى الرفض القاطع للدين، أو حتى العداء معه. قد يبدو لهم أنني باستخدامي هذه الكلمة، أدعو إلى إقصاء الدين من النظم الأخلاقية، أو حتى من جميع مجالات الحياة العامة. ليس هذا ما أقصده على الإطلاق. وإنما ينبع فهمي لكلمة «علماني» من الطريقة التي تُستخدَم بها عادة في الهند.
إنَّ الهند الحديثة لديها دستورٌ علماني وتفخر بكونها دولةً علمانية. وفي الاستخدام الهندي، نجد أنَّ مصطلح «علماني» بعيدٌ كل البعد عن الإشارة إلى العداء مع الدين أو مع المؤمنين، بل إنه يعكس في حقيقة الأمر احترامًا عميقًا لجميع الأديان، والتسامح معها جميعًا. ويشير المصطلح أيضًا إلى توجُّهٍ احتوائي وحيادي يشمل غير المؤمنين.
إنَّ هذا الفهم لمصطلح «علماني»، الذي ينطوي على الاحترام والتسامح المتبادَل مع جميع الأديان ومع غير المؤمنين بالأديان أيضًا، يأتي من الخلفية التاريخية والثقافية الخاصة بالهند. وعلى المنوال نفسه، أعتقد أن الفهم الغربي للمصطلح ينبع من التاريخ الأوروبي. أنا لست مؤرخًا، ولا خبيرًا في هذا الشأن بالطبع، لكن يبدو لي أنه عندما بدأ العلم يتقدم بسرعة في أوروبا، شهدت القارة حراكًا نحو مزيدٍ من العقلانية. وقد تضمَّنت هذه العقلانية، من بين أشياءَ أخرى، رفضًا لما أصبح يُعَدُّ ضربًا من خرافات الماضي. لقد ظل العديد من المفكرين الراديكاليين منذ ذلك الوقت وحتى عصرنا هذا يرون أنَّ تبنِّي العقلانية يستلزم رفض الإيمان الديني. وتُعَدُّ الثورة الفرنسية، التي عبَّرت عن العديد من الأفكار الجديدة للتنوير الأوروبي، مثالًا جيدًا على ذلك بعنصرها الجوهري القوي المتمثل في مناهضة الدين. وقد كان لهذا الرفض بُعدٌ اجتماعيٌّ مُهمٌّ بالطبع. صار الدين يُرى باعتباره أمرًا محافظًا مرتبطًا بالتقاليد، وشديد الارتباط بالأنظمة القديمة وبكل إخفاقاتها. إن إرث هذا التاريخ، كما يبدو، هو أنَّ العديد من المفكرين والمصلحين الأكثر تأثيرًا في الغرب ظلوا لأكثر من مائتَي عام ينظرون إلى الدين باعتباره عقبة أمام التقدُّم لا سبيلًا إلى تحرُّر الإنسان. الأكثر من ذلك أنَّ الماركسية، وهي إحدى أقوى الأيديولوجيات العلمانية في القرن العشرين، استنكرت الدين باعتباره «أفيون الشعوب»؛ مما أسفر عن عواقبَ مأساوية؛ إذ استخدمت الأنظمة الشيوعية العنف لقمع الدين في عدة أجزاء من العالم.
في رأيي أنَّ هذا التاريخ هو ما جعل العلمانية تُفهَم في الغرب في كثير من الأحيان على أنها معادية للدين. فغالبًا ما يُنظر إلى العلمانية والأديان على أنهما موقفان متعارضان يناقض كلٌّ منهما الآخر، وثمَّة قدرٌ كبير من الريبة والعداء بين أتباع المعسكرَين.
على الرغم من أنني لا أستطيع قبول المقترح القائل بأن الدين يُمثِّل عقبةً أمام التطور البشري، فأنا أشعر حقًّا أنَّ المشاعر المعادية للدين قد تكون مفهومة في سياق التاريخ. فالتاريخ يُعلِّمنا الحقيقة المزعجة التي تخبرنا أن المؤسسات الدينية وأتباع الأديان من جميع الطوائف قد تورَّطوا في استغلال آخرين في مرحلة أو أخرى. ثم إنَّ الدين قد استُخدِم ذريعةً للنزاع والقمع. حتى البوذية بتعاليمها اللاعنفية، لا يمكنها الهروب من هذه التهمة بالكلية.
ولهذا حين تكون المواقف السلبية تجاه الأديان في الغرب أو في أي مكانٍ آخر مدفوعةً بالاهتمام بشأن العدالة، فإنها يجب أن تحظى بالاحترام. الحق أنه يمكن القول إن أولئك الذين يلفتون الأنظارَ إلى رياء المتدينين الذين ينتهكون المبادئ الأخلاقية التي ينادون بها، والذين يقفون ضد الظلم الذي ترتكبه الشخصيات الدينية والمؤسسات، إنما يعملون بذلك على تعزيز التقاليد الدينية نفسها وإفادتها. ومع ذلك، فعند تقييم مثل هذه الانتقادات، من المهم التفريقُ بين الانتقادات الموجَّهة إلى الدين نفسه وتلك الموجَّهة إلى المؤسسات الدينية، وهما شيئان مختلفان تمامًا. إنني أرى أنَّ مفاهيم العدالة الاجتماعية لا تتعارض بأي حال من الأحوال مع المبادئ التي يتبنَّاها الدين نفسه؛ إذ تهدف جميع التقاليد الإيمانية العظيمة في صميمها إلى تعزيز الصفات الإنسانية الأكثر إيجابيةً وتنمية قيمٍ مثل الكرَم، والرأفة، والعفو، والصبر، والنزاهة الفردية.
(٣) العَلمانية في الهند
بالنسبة إليَّ إذن، فإنَّ كلمة «علماني» لا تثير أيَّ مخاوف. وإنما أُكِنُّ الاحترام لمؤسِّسي الدستور العلماني للهند، مثل الدكتور بي آر أمبيدكار، والدكتور راجندرا براساد الذي حظيتُ بشرف معرفته بصفةٍ شخصية. لم تكن نيتهم في تعزيز العلمانية هي التخلُّص من الأديان، بل الاعتراف على نحوٍ رسمي بالتنوع الديني للمجتمع الهندي. لقد كان المهاتما غاندي نفسه، مصدر الإلهام وراء الدستور، رجلًا متدينًا للغاية. وضمَّن في اجتماعاته اليومية للصلاة قراءاتٍ وتراتيل من جميع التقاليد الدينية الرئيسية في البلاد. ويُتَّبع هذا المثال اللافت للنظر في المراسم العامة بالهند إلى يومنا هذا.
هذا النوع من التسامح الديني الذي جسَّده غاندي ليس بالشيء الجديد في الهند. وإنما تمتد جذوره القديمة في الماضي إلى أكثر من ألفَي سنة. يتضح هذا، على سبيل المثال، في أعمدةٍ منقوشة يرجع تاريخها إلى عهد الإمبراطور أشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد. يحوي أحد النقوش موعظةً تحثُّ على «تكريم دين الآخر؛ لأن ذلك يقوِّي كلًّا من دين المرء ودين الآخر.» علاوة على ذلك، يكشف لنا الأدب السنسكريتي عن ثقافةٍ كلاسيكية اتَّسمت بالتسامح الفكري وثراء النقاش. ففي الهند، خضع العديد من المواقف الفلسفية لمناقشاتٍ كبرى منذ العصور القديمة. فحتى بعض المواقف الفكرية التي تقترب كثيرًا من المادية الحديثة والإلحاد؛ لها تاريخٌ مشرف ومحترم في التراث الهندي. وتوجد نصوصٌ فلسفيةٌ كلاسيكية تضمُّ العديد من الإشارات إلى مدرسة «شارفاكا»، التي رفض أتباعها أيَّ فكرة عن وجود الإله أو وجود أي روح أو حياةٍ أخرى. وبالرغم من أنَّ بعض المفكرين الآخرين كثيرًا ما كانوا يعارضون آراء «شارفاكا» بشدةٍ بوصفها أفكارًا عدمية، فإنَّ موقف المادية الراديكالية الذي تبنَّته المدرسة عولِج بجدية كموقفٍ فلسفي، وكان يُشار إلى مؤسسها بشكلٍ عام بلقب «ريشي»؛ أي «حكيم». علاوةً على ذلك، حظي بعض مؤيدي أفكار «شارفاكا» بمستوًى لا بأس به من التقدير والاحترام، منحهم إياه بعض الحكام الهنود الذين كان الكثيرون منهم متسامحين على نحوٍ رائع مع المعتقدات الدينية الأخرى. ويُعدُّ الإمبراطور المسلم «أكبر» الذي أجرى محاورات مع الهندوس والمسيحيين وغيرهم، أحدَ أمثلة هذا التقليد.
منذ بعض الوقت، أجريتُ مناقشةً كاشفة بشأن هذا الموضوع مع نائب رئيس وزراء الهند السابق؛ السيد إل كيه أدفاني. وقد أشار إلى أن ثقافة التسامح والتنوع والنقاش المترسخة في الهند منذ وقتٍ طويل، هي على وجه التحديد ما يفسِّر نجاحها البارز في الحفاظ على ديمقراطيتها العلمانية. وأنا متأكد من أنه على حق. غالبية مواطني الهند الآن من الهندوس، لكن يوجد العديد أيضًا من الديانات الأخرى التي تحظى بتمثيلٍ جيد. فالهند موطن ثاني أكبر تجمُّعٍ سكاني للمسلمين في العالم، وتلك حقيقة لا يُقدِّرها الكثيرون في الغرب، وتوجد أيضًا عدة ملايين من السيخ والمسيحيين، إضافةً إلى مجموعاتٍ لا يُستهان بحجمها من أتباع الديانات الجاينية، والبوذية، والزرادشتية، واليهودية. الحق أنَّ الأقليات العِرقية والدينية في الهند متعددةٌ للغاية بحيث لا يتسع المجال لذكرها جميعًا. علاوةً على ذلك، توجد مئات اللغات المختلفة المستخدمة اليوم في البلد. وفي خضم هذا التنوع البشري الهائل، من المعتاد أن ترى المعابد الهندوسية والمآذن الإسلامية تقف كلٌّ منها بجانب الأخرى في شوارع المدينة. وفي معظم القرى بالفعل، يوجد أكثر من دينٍ مُمثَّل بين سكانها.
التقيتُ مؤخرًا برجلٍ من رومانيا زارَ العديد من القرى الهندية لأغراض مشروعٍ بحثي. وحين أخبرني عن قرية في راجستان ذات أغلبيةٍ مسلمة وليس فيها سوى ثلاث عائلات هندوسية، أبدى دهشته من أنَّ هذه العائلات كانت تعيش هناك دون شعور بالخوف أو التوجس. رأيتُ أن دهشته ناتجة، ولا بد، عن تضليل وسائل الإعلام الغربية في تصويرها للعلاقات بين الطوائف في الهند. لا شك بأنَّ الهند قد شهدت بعض حوادث العنف الطائفي الخطيرة والمؤسفة للغاية، لكن يظل من الخطأ تعميمها على شبه القارة الهندية بأكملها. فبصرف النظر عن هذه الحوادث الفردية، تحافظ الهند في المجمل رغم تنوعها الكبير، على مجتمعٍ مسالم ومتناغم. من الواضح أن العقيدة الهندية القديمة «الأهيمسا»، أو اللاعنف، قد ازدهرت واعتُمِدَت مبدأً للتعايش السلمي بين جميع الأديان. هذا إنجازٌ هائل، وأحد النجاحات التي يمكن لبلدانٍ أخرى في العالم أن تتعلم منه.
(٤) التسامح في عصر العولمة
أحيانًا أصف نفسي بأنني رسولٌ عصري للفكر الهندي القديم. وثمَّة فكرتان من أهم الأفكار التي أشاركها أينما سافرت: مبادئ اللاعنف والتناغم بين الأديان، وكلتاهما مستمَدة من التراث الهندي القديم. على الرغم من أنني تِبتيٌّ بالطبع، فأنا أعتبر نفسي أيضًا ابن الهند على نحوٍ ما. فمنذ الطفولة، تغذَّى عقلي على كلاسيكيات الفكر الهندي. وبدايةً من سن السادسة عندما بدأتُ دراستي كراهب، كانت غالبية النصوص التي أقرؤها وأحفظها هي نصوص لأساتذةٍ بوذيين من الهنود، وكان العديد منهم من جامعة نالاندا القديمة في وسط الهند. ومنذ بداية مرحلة البلوغ، تغذَّى جسدي أيضًا بالطعام الهندي: الأرز و«الدال»؛ أي «العدس».
ولهذا، فأنا سعيدٌ للغاية لمشاركة هذا الفهم الهندي للعلمانية والتشجيع عليه؛ إذ إنني أعتقد أنه سيكون ذا قيمةٍ كبيرة للإنسانية جمعاء. ففي عالم اليوم المترابط والمعَوْلم، أصبح من المألوف للأشخاص من ذوي وجهات النظر والأديان والأعراق العالمية المختلفة أن يعيشوا جنبًا إلى جنب. وكثيرًا ما يدهشني هذا في أسفاري، لا سيَّما في الغرب. بالنسبة إلى جزءٍ كبير من البشرية اليوم، من المحتمل أو من المرجَّح، أن يكون جار المرء، أو زميله، أو صاحب عمله من المتحدثين بلغةٍ أمٍّ مختلفة، ويأكل طعامًا مختلفًا، ويتبع ديانةً مختلفة.
ولهذا السبب، من الأمور الشديدة الإلحاح أن نجد طرقًا للتعاون والتآزر بروح القبول والاحترام المتبادَلَين. ذلك أنه بينما يجد كثير من الناس بهجةً في العيش في بيئةٍ عالمية؛ حيث يمكنهم التعامل مع طيفٍ واسع من الثقافات المختلفة، لا شك بأنَّ آخرين قد يجدون صعوبات في العيش بالقرب من أشخاص لا يشاركونهم لغتهم أو ثقافتهم. فقد يولِّد هذا ارتباكًا وخوفًا واستياءً؛ مما يؤدي في أسوأ الأحوال إلى عداءٍ مفتوح وأيديولوجياتٍ إقصائيةٍ جديدة على أساس العِرق أو الجنسية أو الدين. من المؤسف أننا عندما ننظر حول العالم نرى أن التوترات الاجتماعية منتشرة إلى حدٍّ كبير بالفعل. إضافةً إلى ذلك، يبدو من المحتمل أنَّ مثل هذه الصعوبات قد تزداد مع استمرار الهجرة الاقتصادية.
في عالمٍ كهذا، أرى أن من الضروري لنا أن نجد نهجًا مستدامًا بحق وعالميًّا للأخلاق، والقيم الداخلية، والنزاهة الفردية؛ نهجًا يمكن أن يتجاوز الاختلافات الدينية، والثقافية، والعِرقية ويروق للناس على مستوًى إنسانيٍّ جوهري. هذا البحث عن نهجٍ عالميٍّ مستدام هو ما أسمِّيه مشروع الأخلاق العلمانية.
وبينما أستمر في توضيح هذا النهج، يجب أن أراعي وجود بعض الأشخاص الذين لا يزالون يشككون في جدوى فصل الأخلاق عن الأديان بهذه الطريقة، بالرغم من تأييدهم لتفسيري للعلمانية على النهج الهندي. إن انعدام الثقة في محاولات الفصل بين الأمرَين قويٌّ للغاية بين بعض أتباع الأديان الألوهية لدرجةِ أنني حُذِّرت في بعض المناسبات، من استخدام كلمة «عَلماني» عند الحديث عن الأخلاق أمام الجمهور. من الواضح أنَّ هناك أشخاصًا يؤمنون بإخلاصٍ تام بأنَّ فصل الأخلاق عن الدين خطأٌ كبير في حد ذاته، وأنه بالفعل مصدر للعديد من المشكلات الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع الحديث، مثل تفكُّك الأسر، وازدياد عدد حالات الإجهاض، والانحلال الجنسي، وإدمان الكحول، وإدمان المخدرات، وما إلى ذلك. فهم يرون أنَّ هذه المشكلات تنتج إلى حدٍّ كبير من أشخاص فقدوا أساس تشكيل القيم الداخلية، والذي لا يمكن أن يوفِّره سوى الأديان. إنَّ الأشخاص الذين ترتبط معتقداتهم الدينية ارتباطًا وثيقًا بالممارسة الأخلاقية، يَصعُب عليهم تصوُّر وجود إحداهما دون الأخرى. فبالنسبة إلى مَنْ يعتقدون أنَّ الحقيقة تستلزم وجود إله، وحده الإله هو مَن يمكنه إلزامنا بالأخلاق. فهم يعتقدون أنه من دون إله يؤدي دور الضامن، لا توجد سوى حقيقةٍ نسبية في أفضل الأحوال؛ ومن ثمَّ فما هو صحيح لدى أحد الأشخاص قد لا يكون صحيحًا لدى شخصٍ آخر. وفي هذه الحالة، لا يوجد أساس لتمييز الصواب من الخطأ، أو لتقييم الخير والشر، أو للحد من الأنانية والنزعات الهدَّامة، مع تنمية القيم الداخلية.
على الرغم من أنني أحترم وجهة النظر هذه تمامًا، فهي ليست وجهة نظري. فأنا لا أوافق على أن الأخلاق تتطلب تأصيلًا من المفاهيم الدينية أو الإيمان. وإنما أعتقد اعتقادًا راسخًا أن الأخلاق يمكن أن تظهر أيضًا ببساطة كرد فعلٍ طبيعي وعقلاني لإنسانيتنا في حدِّ ذاتها وحالتنا البشرية المشتركة.
(٥) الدين والأخلاق
بالرغم من أن هذا الكتاب ليس عن الدين في المقام الأول، ففي سبيل التفاهم والاحترام المتبادلَين بين المؤمنين بالدين وغير المؤمنين به، أعتقد أنَّ الأمر يستحق قضاء بعض الوقت للنظر في العلاقة بين الدين والأخلاق.
منذ آلاف السنين والدين يكمن في قلب الحضارة الإنسانية. فليس من العجيب إذن أن يكون الاهتمام بالآخرين والقيم الداخلية الأساسية التي تنبثق من هذا الاهتمام، كالطيبة والأمانة والصبر والعفو، قد صيغت إلى حدٍّ كبير بمصطلحاتٍ دينية. ففي جميع التقاليد الدينية الرئيسية حول العالم؛ الألوهية وغير الألوهية، يُحتفَى بهذه القيم إضافةً إلى قيمٍ أخرى مثل، الانضباط الذاتي والرضا والكرم، بصفتها هي الدليل لعيش حياة ذات معنًى تستحق التعب. ولا غرو في هذا على الإطلاق. فلما كان اهتمام الدين هو الروح البشرية، فمن الطبيعي تمامًا أن تكون ممارسة هذه القيم الداخلية، التي تجلب مثل هذه المكافآت فيما يتعلق بالسلامة الروحانية لنا ولمَن حولنا، جزءًا لا يتجزأ من أي ممارسةٍ دينية.
بصفةٍ عامة، يمكن تقسيم نُظم العقيدة التي تُؤسِّس عليها أديانُ العالم القيمَ الداخلية وتدعمها، في فئتَين.
فمن ناحية، لدينا الأديان الألوهية، التي تشمل الهندوسية والسيخية والزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلام. وفي هذه الأديان، ترتكز الأخلاق في الأساس على فهمٍ محدَّد للإله بوصفه خالقًا وبوصفه الأساسَ المطلق لكل الوجود. من وجهة نظرٍ ألوهية، فإن الكون بأكمله جزءٌ من خلق وخطة إلهيَّين؛ ومن ثمَّ فإن نسيج ذلك الكون نفسه مُقدَّس. وبما أنَّ الإله محبةٌ لا نهائية أو عطفٌ لا نهائي، فإن محبة الآخرين جزءٌ من محبة الإله والعمل من أجله. ثم إنَّه في العديد من الأديان الألوهية يسود الاعتقاد بأننا سنواجه بعد الموت حُكمًا إلهيًّا؛ مما يوفر حافزًا قويًّا آخر لمراعاة ضبط النفس في تصرفاتنا واتخاذ الحذر الواجب خلال حياتنا هنا على الأرض. عندما تُؤخَذ طاعة الإله على محمل الجِد، يكون لها تأثيرٌ قوي في الحد من التمركز حول الذات؛ ومن ثمَّ فإن من شأنها أن تضع الأساس لنظرةٍ أخلاقيةٍ محكمَة للغاية وإيثارية أيضًا.
من ناحيةٍ أخرى، لدينا الأديان غير الألوهية، كالبوذية واليانية وفرع من مدرسة السامخيا الهندية القديمة، التي لا تنطوي على الإيمان بخالقٍ إلهي. بدلًا من ذلك، فإنها تنطوي على المبدأ الأساسي للسببية، لكنَّ الكون يُرى وفقًا لها بلا بداية. ومن دون كيانٍ خالقٍ يؤسِّس للقيم الداخلية والحياة الأخلاقية، تؤسِّس الأديانُ غير الألوهية الأخلاقَ على فكرة «الكارما» بدلًا من الإله. إنَّ الكلمة السنسكريتية «كارما»، تعني ببساطة «الفعل». ومن ثمَّ؛ فعندما نتحدث عن الكارما الخاصة بنا، فإننا نشير إلى جميع أفعالنا المقصودة المتمثلة في أفعال الجسد والكلام، والعقل، وعندما نتحدث عن «ثمار» الكارما لدينا، فنحن نتحدث عن عواقب هذه الأفعال. ترتكز عقيدة الكارما على اعتبار السببية قانونًا للطبيعة. فكل ما نقصده من الأفعال أو الكلمات أو الأفكار، له تيار من العواقب قد لا ينتهي. وعند الجمع بين هذا الفهم وفكرة البعث والحيوات المتتالية، فإنه يصبح أساسًا قويًّا للأخلاق وتنمية القيم الداخلية. فعلى سبيل المثال، نجد أنَّ أحد التعاليم البوذية الأساسية يتضمن النظر إلى جميع الكائنات على أنها كانت أُمًّا للإنسان في مرحلةٍ ما في حيواته السابقة التي لا حصر لها، وذلك كجزءٍ من تأسيس رابطٍ عميق من التعاطف مع جميع الكائنات.
يتضح من هذا إذن أنَّ جميع الأديان تؤسِّس، بدرجة أو بأخرى، غرسَ القيم الداخلية والوعي الأخلاقي على نوعٍ ما من الفهم الميتافيزيقي (أي لا يمكن إثباته تجريبيًّا) للعالم وللحياة ما بعد الموت. ومثلما أنَّ عقيدة الدينونة الإلهية تؤسِّس للتعاليم الأخلاقية في العديد من الديانات الألوهية، فإنَّ عقيدة الكارما والحيوات المستقبلية تؤسِّس لها في الأديان غير الألوهية.
في سياق الأديان، يكون لهذا الفهم، سواء أكان ألوهيًّا أم غير ألوهي، أهميةٌ كبيرة؛ إذ إنه لا يوفِّر الأسس لاتخاذ القرار بشأن عيش حياةٍ أخلاقية فحسب، بل يضع أسس الخلاص أو التحرر ذاته أيضًا. ولهذا، فبالنسبة إلى ممارسي الشعائر الدينية، لا يمكن الفصل بين السعي لحياةٍ أخلاقية والتطلعات الروحية النهائية.
لستُ ممَّن يعتقدون أنَّ البشر سيكونون على استعداد للاستغناء عن الدين بالكلية قريبًا. وعلى العكس من ذلك، أرى أنَّ الإيمان قوة لتحقيق الخير ويمكن أن يقدِّم فائدةً عظيمة. فمن خلال تقديم فهمٍ للحياة البشرية يتجاوز وجودنا المادي المؤقت، يمنح الدين أملًا وقوة لأولئك الذين يواجهون الشدائد. إن قيمة تقاليد الإيمان العظيمة في العالم هي موضوع ناقشتُه بإسهابٍ في كتابٍ سابق بعنوان «نحو قرابةٍ حقيقية للأديان». بالرغم من ذلك، فمع جميع فوائد الدين في التقريب بين الناس، ومنح التوجيه والسلوى، وتقديم رؤية للحياة الطيبة التي يمكن للأشخاص السعي جاهدين لمحاكاتها، لا أعتقد أنَّ الدين عاملٌ ضروري في الحياة الروحانية.
لكن ما تأثير هذا فيما يتعلق بترسيخ الأخلاق وتنمية القيم الداخلية؟ اليوم في عصر العلم الذي يرى الكثيرون فيه أنَّ الدين لا معنى له، ما الأساس الذي يتبقى لنا لمثل هذه القيم؟ كيف يمكننا إيجاد طريقة لتحفيز أنفسنا أخلاقيًّا دون الاستناد إلى معتقداتٍ تقليدية؟
إنني أعتقد أنَّ البشر يمكنهم العيش من دون دين، لكنهم لا يستطيعون العيش من دون قيمٍ داخلية. ولذا فإن حجتي لاستقلال الأخلاق عن الدين هي حجةٌ شديدة البساطة. فللروحانية، كما أراها، بُعدان. البُعد الأول هو أن السلام الروحي الأساسي، الذي أعني به القوة الداخلية والتوازن الداخلي على مستوى العقل والوجدان، لا يعتمد على الدين، بل يأتي من طبيعتنا البشرية الفطرية بصفتنا كائناتٍ تتسم بنزعةٍ طبيعية للتعاطف والطيبة والاهتمام بالآخرين. البُعد الثاني هو ما يمكن اعتباره روحانيةً قائمة على أساسٍ ديني، وهو بُعدٌ آلي نكتسبه من نشأتنا وثقافتنا ويرتبط بمعتقدات وممارساتٍ معينة. والفرق بين البُعدَين يشبه الفرق بين الماء والشاي. فالأخلاق والقيم الداخلية من دون سياقٍ ديني كالماء؛ شيء «نحتاج» إليه كلَّ يوم للحفاظ على صحتنا والبقاء على قيد الحياة. والأخلاق والقيم الداخلية القائمة على سياقٍ ديني هي أشبه بالشاي. فالشاي الذي نشربه يتكوَّن في أغلبه من الماء، لكنه يحتوي أيضًا على بعض المكوِّنات الأخرى: أوراق الشاي أو التوابل أو ربما بعض السكر أو الملح، في التبت على الأقل، وهذا يزيد من قيمته الغذائية ويجعله أكثر إشباعًا، وشيئًا نريده كل يوم. لكن بغض النظر عن طريقة تحضير الشاي، فإن المكوِّن الأساسي دائمًا هو الماء. وبينما يمكننا العيش من دون شاي، فلا يمكننا العيش من دون ماء. وعلى هذا النحو، فإننا نُولَد بلا دين، لكننا لا نولد بدون الحاجة إلى التعاطف.
ومن ثمَّ، فإنَّ روحانيتنا الإنسانية الأساسية أكثرُ تأصُّلًا من الدين. فنحن نتمتع بنزعةٍ إنسانيةٍ أساسية تجاه الحب، والطيبة، والمودة، بصرف النظر عما إذا كان لدينا إطارٌ ديني أم لا. عندما نرعى هذا المورد البشري الأبلغ تأصلًا، عندما نشرع في تنمية تلك القيم الداخلية التي نقدِّرها جميعًا في الآخرين، فسنبدأ حينئذٍ في العيش بالطريقة الروحانية. يكمن التحدي إذن في إيجاد طريقة لتأسيس الأخلاق ودعم تنمية القيم الداخلية التي تتماشى مع العصر العلمي، مع عدم إغفال الاحتياجات الأعمق للروح البشرية، والتي تتمثل لكثير من الأشخاص في الإجابات الدينية.
(٦) التأسيس للأخلاق في الطبيعة البشرية
لا يوجد إجماعٌ، عبر جميع الثقافات وجميع الفلسفات، بل وجميع وجهات النظر الفردية في حقيقة الأمر، بشأن التوجُّه الجوهري للطبيعة البشرية. إنما يوجد بدلًا من ذلك الكثير من الآراء. ولتبسيط الأمر قدْر الإمكان سنقول إنَّ هناك مَن يعتقد، في أحد طرفَي الطيف، أننا بطبيعتنا نميل إلى العنف والعدوانية والتنافس في الأساس، بينما يتبنَّى آخرون، في الطرف الآخر من الطيف، وجهة النظر القائلة بأننا نميل في الغالب إلى اللطف والمحبة ودماثة الأخلاق. تقع معظم وجهات النظر بين هذين الطرفَين، حيث يمكن استيعاب جميع صفاتنا وميولنا بدرجاتٍ متفاوتة. وبصفةٍ عامة، إذا اعتبرنا أنَّ الطبيعة البشرية تغلب عليها النزعات التدميرية، فالأرجح أنَّ أخلاقنا ستتأسس على شيءٍ خارج أنفسنا. ذلك أننا سنفهم الأخلاق بوصفها وسيلةً لتقييد تلك النزعات التدميرية بهدف تحقيق الخير الأكبر أيًّا كان. أما إذا نظرنا إلى الطبيعة البشرية باعتبارها تميل في الغالب نحو الطيبة والرغبة في حياةٍ سلمية، فيمكننا إذن اعتبار الأخلاق وسيلةً طبيعية تمامًا وعقلانية لاتِّباع إمكاناتنا الفطرية. بناءً على هذا الفهم، تتكون الأخلاق بدرجةٍ أقل من القواعد التي يلزم اتباعها، وبدرجة أكبر من مبادئ للتنظيم الذاتي الداخلي لتعزيز تلك الجوانب من طبيعتنا، والتي ندرك أنها تعود بالخير علينا وعلى الآخرين. وهذا النهج الثاني يتناغم مع رأيي الخاص.
(٧) ركيزتان للأخلاق العلمانية
أعتقد أن نهجًا شاملًا للأخلاق العلمانية، له القدرة أن يكون مقبولًا على نطاقٍ عالمي، يتطلب الاعتراف بمبدأين أساسيَّين فقط. كلا المبدأين يمكن فهمه بسهولة استنادًا إلى تجربتنا المشتركة كبشر وفطرتنا السليمة، وكلاهما مدعومٌ بنتائج الأبحاث الحديثة، ولا سيما في مجالات مثل علم النفس وعلم الأعصاب، والعلوم السريرية. المبدأ الأول هو الاعتراف ﺑ «إنسانيتنا المشتركة» وطموحنا المشترك لتحقيق السعادة وتجنُّب المعاناة، والثاني هو فهم الاعتماد المتبادَل بصفته سمةً أساسية للواقع البشري، ومن ذلك واقعنا البيولوجي كحيواناتٍ اجتماعية. من هذين المبدأَين، يمكننا تعلُّم تقدير العلاقة التي لا تنفصم بين رفاهيتنا الشخصية ورفاهية الآخرين، ويمكننا تطوير اهتمامٍ حقيقي بصالح الآخرين. أعتقد أنَّ هذين المبدأَين معًا يشكِّلان أساسًا كافيًا لتأسيس الوعي الأخلاقي وتنمية القيم الداخلية. فمن خلال مثل هذه القيم نكتسب الشعور بالارتباط بالآخرين، ومن خلال تجاوز المصلحة الذاتية الضيقة نجد المعنى، والغاية، والرضا في الحياة.
قبل تقديم عرضٍ منهجي للتصوُّر الذي لديَّ لهذا النهج العلماني، ينبغي أن أتحدث قليلًا عن الخلفية التي تشكِّل آرائي بشأن هذا الموضوع، والدافع وراء ذلك.
منذ الطفولة وأنا راهبٌ بوذي في تقليد الماهايانا التِّبتي. وقد تَشكَّل فهمي للأخلاق، وكذلك لقضايا مثل الطبيعة البشرية والسعي وراء تحقيق السعادة، بناءً على هذه الخلفية. وعلى المستوى الشخصي، فإن نهجي اليومي في ممارسة الأخلاق متأثر بعمق بكتابات تقاليد النالاندا الهندية، التي تجمع بين البحث الفلسفي النقدي والحياة الأخلاقية والممارسة التأملية. في سياق هذا الكتاب أعتمد على بعض مصادر تقليد النالاندا. ومع ذلك، فمن المؤكد أن نيتي، في تقديم هذا الكتاب، ليست زيادة عدد البوذيين! في الحقيقة، عندما يُطلب مني تقديم التعاليم البوذية في الغرب، غالبًا ما أشارك وجهة نظري الشخصية بأنها ليست بالفكرة الجيدة إلى حدٍّ كبير أن يتبنى الناس ممارساتٍ دينيةً لا تستند إلى ركيزة جيدة في ثقافتهم وخلفيتهم التعليمية. فمن شأن ذلك أن يكون صعبًا وأن يؤدي إلى ارتباكٍ لا داعي له. وإنَّ دافعي في تقديم هذا الكتاب لا يتعدى الرجاء في المساهمة في تحسين الإنسانية. إذا كانت الموارد المستمدة من تراثي يمكن أن تفيد مَن لا ينتمون إليه، فأعتقد أن من الجيد الاستعانة بتلك الموارد. ولا يَعنيني بالطبع من تأليف هذا الكتاب نشرُ إيماني. لكني أدعو قرائي إلى تحري الأمور بأنفسهم والتحقُّق منها. وإذا وجدوا بعضًا من رؤى الفكر الهندي الكلاسيكي مفيدًا في عمليات بحثهم، فهذا ممتاز، وإذا لم يجدوا أي فائدة، فلا بأسَ بذلك أيضًا!
ولهذا، لن أقدِّم في الفصول التالية، أفكاري بصفتي بوذيًّا، ولا حتى بصفتي مؤمنًا بالدين، بل بصفتي إنسانًا فحسب من بين ما يقرُب من سبعة مليارات إنسانٍ آخر، إنسان يهتم بمصير البشرية ويريد أن يفعل شيئًا لحماية مستقبلها وتحسينه.