التأمُّل كتنمية للعقول
لقد استكشفنا الآن بشيءٍ من التفصيل ما تستلزمه الحياة الروحانية والأخلاقية على مستوى الممارسة الشخصية. فناقشنا بعضَ الطرق لتنمية الوعي واليقظة في الحياة اليومية، وبعضَ الطرق التي تمكِّننا من زيادة الوعي حتى نستطيع تعلُّم إدارة مشاعرنا وضبطها، وأخيرًا عرضنا بعضَ الطرق لتنمية قيمنا الداخلية. ولمَّا كانت جميع هذه الممارسات، لا سيَّما الأخيرتَين، تنطوي على درجةٍ معينة من الاستخدام المنضبط للعقل؛ ففي هذا الفصل الأخير أودُّ أن أقول بضع كلماتٍ عن تنمية الانضباط العقلي. بالنسبة إليَّ، تمثِّل هذه التنمية أمرًا لا غنى عنه في الحياة اليومية. فهي من ناحيةٍ تساعدني دومًا في تقوية عَزمي على مراعاة الرأفة في تصرفاتي لتعزيز رفاهية الآخرين. ومن ناحيةٍ أخرى، تساعدني في كبح تلك الأفكار والمشاعر المؤذية، التي تهاجمنا جميعًا من حينٍ لآخر، وفي الحفاظ على هدوئي الذهني.
ما أعنيه بالتنمية العقلية هو استخدامٌ منضبط للعقل ينطوي على تعميق معرفتنا بشيءٍ أو موضوعٍ معين. في هذا السياق، أفكِّر في المصطلح السنسكريتي «بهافانا» الذي يعني ضمنيًّا «التنمية»، ومعادله التبتي «جوم» الذي يشير إلى «التعوُّد». وهذان المصطلحان اللذان غالبًا ما يُترجمان بمصطلح «التأمُّل»، يشيران إلى مجموعةٍ كاملة من الممارسات الذهنية وليس إلى الطرق البسيطة للاسترخاء فحسب مثلما يفترض الكثيرون. ذلك أنَّ المصطلحَين الأصليَّين يشيران إلى عملية تنمية الألفة بشيءٍ ما، سواءٌ أكان ذلك الشيء عادةً، أم طريقةً للنظر في الأمور، أم طريقة للوجود.
(١) عملية التحول
كيف إذن تؤدي عملية التنمية العقلية هذه إلى التحول الروحاني والداخلي؟ قد يكون من المفيد هنا أن نستدعي فكرة «المستويات الثلاثة للفهم»، التي نجدها في النظرية البوذية الكلاسيكية للتحول العقلي. تتمثل هذه المستويات فيما يلي: الفهم المستمَدُّ من السَّمع (أو التعلُّم)، والفهم المستمد من التفكُّر، والفهم المستمد من التجربة التأملية. على سبيل المثال، فكِّر في الأشخاص الذين يسعون إلى فهْم طبيعة عالم اليوم الذي يتسم بالاعتماد المتبادل. ربما يعرفون بشأنها أولًا من خلال الاستماع إلى شخصٍ يتحدث عن هذه المسألة أو عن طريق القراءة عنها. لكن إذا لم يتفكَّروا بعُمق فيما يسمعونه أو يقرءونه، فسيظل فهْمهم سطحيًّا وقريبًا للغاية من مستوى معرفتهم بمعنى الكلمات. على هذا المستوى، سيكون فهمهم لحقيقةٍ معينة هو محض افتراضٍ مستنير. أما حين يتفكَّرون بعد ذلك على نحوٍ أعمق في معنى الأشياء، ويستخدمون التحليل مع التمعن بانتباه في الاستنتاج الذي توصلوا إليه، ينشأ شعورٌ عميق بالاقتناع بصحة الحقيقة. هذا هو المستوى الثاني في عملية الفهم. وأخيرًا، مع استمرارهم في تنمية معرفةٍ عميقة بالحقيقة، يصبح استبصارهم لها باطنيًّا، حتى تكاد أن تصبح جزءًا من طبيعتهم هم أنفسهم. يصلون بعد ذلك إلى المستوى الثالث من الفهم، الذي تصفه النصوص الكلاسيكية بأنه تجريبي وتلقائي وعفوي.
ما من شيءٍ غامض في عملية التحول هذه. الواقع أنها تحدث في حياتنا اليومية. وهي تتضح جيدًا في عملية اكتسابِ مهارةٍ ما كالسباحة أو ركوب الدراجة؛ إذ يكون العامل الرئيسي هو الممارسة الفعلية. في سياق التعليم على سبيل المثال، يكون هذا التقدُّم الذي يبدأ بالسمع أو التعلم ويليه تعمُّق الفهم من خلال التفكير النقدي ثم التوصل إلى قناعة، أمرًا معتادًا للغاية. فمن المعروف جيدًا على سبيل المثال، أن المعرفة المستندة إلى الاستماع أو القراءة فحسب دون معالجة من خلال التفكير، لا تؤدي إلى قناعةٍ قوية. ولهذا السبب، فلا يمكن أن تؤدي إلى أي تغيير حقيقي. لكن إذا اكتسبنا من خلال التفكير النقدي، قناعةً عميقة بما تعلمناه، فسيؤدي ذلك إلى التزامٍ جادٍّ من جانبنا لكي نجعل هذه المعرفة جزءًا من منظورنا الشخصي.
لا تنطبق هذه العملية على تنمية القدرات الفكرية فحسب، وإنما تنطبق أيضًا على تنمية صفاتنا الوجدانية، مثل الرأفة. فمن خلال التفكير النقدي ندرك قيمة الرأفة. ويمكن لهذا أن يؤدي بدوره إلى تقديرٍ عميق للفضيلة نفسها. ويؤدي هذا التقدير للفضيلة بعد ذلك إلى الالتزام بتنمية الرأفة داخل أنفسنا، فيؤدي ذلك إلى الممارسة الفعلية. بعبارةٍ أخرى، فإنَّ الوعي بالفوائد يؤدي إلى الاقتناع بأنَّ الفضيلة أو الصفة تستحق عناءَ ممارستها، وتقودنا الممارسة إلى تحقيق هذه الفضيلة التي بدأنا بالتفكر فيها، أو تجسيدها.
(٢) أشكال التنمية العقلية
تؤكِّد جميع التقاليد الدينية الكبرى أهميةَ تنمية الحياة الداخلية للفرد، والعديد من التقنيات التي تذكرها تقاليدي الدينية موجودةٌ كذلك بشكل أو بآخر في تقاليدِ أديانٍ أخرى. فعلى وجه الخصوص، هناك العديد من أوجه التشابه بين ممارسات التدريب الذهني المختلفة المستخدمة في مختلف التقاليد التأملية الهندية. وتوجد مساحاتٌ كبيرةٌ مشتركة مع التقاليد الروحية الأخرى كذلك. مؤخرًا على سبيل المثال، حضرتُ خطابًا غنيًّا بالمعلومات وممتعًا للغاية عن الصلاة التأملية قدَّمه راهبٌ كرمليٌّ مسيحي أشار إلى بعض أوجه التشابه المدهشة بين كلٍّ من الأساليب المسيحية والبوذية.
بالرغم من هذا، ومع أوجه الصلة الكثيرة التي تجمع بين التأمل أو التنمية العقلية والدين، فما من سببٍ يحول دون ممارستها في سياق علماني بالكامل. فبالرغم من كل شيء، لا يستلزم الانضباط العقلي نفسه أيَّ التزام ديني. كلُّ ما يتطلبه الأمر هو إدراك أن تنمية عقلٍ أهدأ وأصفى هو مسعًى جديرٌ بالجهد، وتفهُّم أنَّ القيام بذلك سيعود بالنفع علينا وعلى الآخرين. فيما يتعلق بممارستي اليومية، فإنني إضافةً إلى بعض الممارسات الدينية والتعبدية المحددة، أمارسُ نوعَين رئيسيَّين من التنمية العقلية: التأمُّل «الاستطرادي» أو «التحليلي»، والتأمُّل «الاستيعابي». يُعَدُّ الأول نوعًا من العمليات التحليلية التي ينخرط المتأمل من خلالها في سلسلة من التأملات، بينما يتضمن الثاني التركيز على موضوعٍ أو هدف محدَّد وانشغال العقل به، مثل التأمل بعمق في استنتاجٍ ما. وأنا أجد أن الجمع بين الأسلوبَين مفيد للغاية.
من الطرق التي تساعد على فهْم الأشكال المختلفة للتنمية العقلية، تناول كل ممارسة من منظور هدفها. يوجد على سبيل المثال، الممارسة التي تتمثل في «تحديد هدف»، كما هو الحال عندما يتخذ المرء، مثلًا، المساواة الأساسية بين جميع الكائنات هدفًا لتأملٍ عميق. وتوجد أيضًا الممارسة التأملية التي تتمثل في «تنمية الصفات الذهنية الإيجابية». في هذا النوع من التأمل، لا تُعَدُّ الصفات على غرار الرأفة والحنان الناشئ عن الحب، أهدافًا للممارسة. بدلًا من ذلك، يسعى الشخص إلى تنمية هذه الصفات داخل قلبه. يتوافق أول هذين النهجَين مع تنمية الحالات الذهنية التي تميل بدرجةٍ أكبر إلى الإدراك، مثل الفهم، بينما يتوافق الثاني مع تطوير الحالات الذهنية التي تميل بدرجة أكبر إلى الوجدان، مثل الرأفة. يمكننا الإشارة إلى العملية الأولى باعتبارها «تربيةً لعقولنا»، والإشارة إلى الثانية باعتبارها «تربيةً لقلوبنا».
ولأننا نعيش في عصرٍ يمكن القيام فيه بالكثير بضغطة زر، فقد يتوقع بعضٌ منا أن يرى تغيرًا فوريًّا في مجال تنمية العقل كذلك. قد نفترض أن التحول الداخلي ليس سوى مسألة الحصول على الصيغة الصحيحة أو تلاوة الترانيم الصحيحة. وهذا خطأ بالطبع. ذلك أنَّ تنمية العقل تستغرق وقتًا وجهدًا، وتستلزم العمل الجاد والتفاني المستمر.
(٣) التعامُل مع التسويف
بالنسبة إلى المبتدئين، فإن الشرط الأول لتنمية العقل هو الالتزام الجاد بالممارسة. فمن دون هذا الالتزام، من غير المحتمل أن يشرع الشخص في الأمر على الإطلاق! أحيانًا أحكي قصةً تتعلق بمشكلة التسويف. ذات مرة، وعدَ لاما طلابَه، تشجيعًا لهم، بأنه سيأخذهم في نزهة في يوم من الأيام. كان لهذا الحافز الأثرُ المأمول، واجتهدَ الرهبان الشباب في دراساتهم بكل حماس. لكن النزهة الموعودة لم تتحقق. بعد مرور بعض الوقت، ذكَّر الطالبُ الأصغرُ المعلمَ بوعده؛ إذ أبى التخلي عن احتمالية أخْذ يومٍ عطلةً. ردَّ اللاما قائلًا إنه مشغول للغاية في الوقت الحالي، ولذلك سيتعين تأجيل العطلة بعضَ الوقت. مرَّ وقتٌ طويل، وأفسحَ الصيفُ الطريق للخريف. مرةً أخرى، ذكَّر الطالبُ اللاما قائلًا: «متى سنذهب في هذه النزهة المزعومة؟» أجابَ اللاما مرةً أخرى، قائلًا: «ليس الآن، أنا مشغول جدًّا بالفعل.» لاحظَ اللاما ذات يوم اضطرابًا بين الطلاب. فسألَ: «ماذا يجري؟» كانت هناك جثة تُنقل خارج الدير. وأجابَ الطالب الأصغر: «حسنًا، ذلك الرجل المسكين هناك ذاهبٌ في نزهة!»
المغزى من هذه القصة أننا إذا لم نخصِّص للأشياء التي نقول لأنفسنا والآخرين إننا سنقوم بها، ما يلائمها من وقتٍ والتزام، فستكون لدينا دائمًا التزاماتٌ أخرى واهتماماتٌ أكثر إلحاحًا، بينما قد يحلُّ الموت في أي وقت.
(٤) التخطيط لممارستنا
في البداية، يجب أن أدقَّ ناقوس الإنذار. فمثلما سيلاحظ المتأمل المبتدئ، العقل كالحصان البري الجامح. فعلى غرار الحصان البري، يستغرق العقل وقتًا طويلًا قبل أن يهدأ ويطيع الأوامر، إضافة إلى عامل التعوُّد على الشخص الذي يرغب في ترويضه. وبالمثل، فإنَّ الفوائد الحقيقية للتأمل لن تظهر إلا مع المثابرة اللطيفة على مدار فترةٍ ممتدة. لا بأسَ بالطبع في تخصيص بضعة أيام فقط لتجربة برنامجٍ قصير للتدريب العقلي، لكن من الخطأ الحكم على النتائج قبل أن تعطي للأمر فرصةً حقيقية. قد يستغرق الأمر شهورًا، وحتى سنوات، لتحقيق فوائده الكاملة.
فيما يتعلق بمواصفات الممارسة، فالصباح الباكر هو أفضل وقت في اليوم بصفةٍ عامة. في ذلك الوقت، يكون العقل في أوج نشاطه وصفائه. ومع ذلك، من المهم أن تتذكَّر أنك إذا أردت الممارسة جيدًا في الصباح الباكر، فإنك تحتاج أن تنال قسطًا وافرًا من النوم الجيد في الليلة السابقة. بالنسبة إليَّ، عليَّ الاعتراف بأنني محظوظ للغاية فيما يتعلق بالنوم. على الرغم من استيقاظي كلَّ صباح في حوالي الساعة الثالثة والنصف صباحًا، فأنا أحرص على نيل ثماني ساعاتٍ أو تسع من النوم العميق. قد يكون القيام بهذا صعبًا على كثير من الناس. إذا كان هناك أطفالٌ صغار في المنزل مثلًا، فقد لا يكون من الممكن التأمل في الساعات المبكرة من اليوم. إذا كان هذا هو الحال، فمن الأفضل إيجاد وقتٍ آخر للممارسة، ويفضَّل أن يكون ذلك بعد غفوةٍ قصيرة أو عندما يكون الأطفال خارج المنزل. يجب أن أشير أيضًا إلى أن العقل سيميل إلى التكاسل بعض الشيء إذا أكلت كثيرًا قبل الممارسة. فالخيار الأمثل ألَّا تأكل كثيرًا في المساء إذا كنت ترجو ممارسةً جيدة في صباح اليوم التالي.
أما عن مقدار الوقت الواجب تخصيصه للتأمُّل؛ ففي المراحل الأولى يكون من عشر دقائق إلى خمس عشرة دقيقةً في كل جلسة كافيًا تمامًا. حقيقةُ الأمر أنَّ وضع طموحاتٍ متواضعة أفضل من البدء في برنامج غير مستدام سيحبطك على الأرجح ولن يساعدك على ترسيخ عادةٍ ما. من المفيد أيضًا أن تخطط للممارسة لبضع دقائق على مدار عدة مرات في اليوم إضافةً إلى الجلسة الرئيسية. فمثلما تحافظ على اشتعال النيران بتأجيجها بين الحين والآخر، يمكنك الحفاظ على استمرارية تأملك من خلال «الإضافة إليه» بين الحين والآخر كي لا يتلاشى ما اكتسبته سابقًا بالكامل بحلول الوقت الذي تبدأ فيه الجلسة الكاملة التالية.
فيما يتعلق بمكان الممارسة، تذكر كتيبات التدريب الكلاسيكية أنَّ الصوت مثل شوكة في العقل. ولذلك، فمن المفيد لغالبية الناس إيجاد مكان للجلوس يخلو من إزعاج الضوضاء. من الواضح أيضًا أن إغلاق الهاتف قبل البدء، من الأفكار الجيدة. بالرغم من هذا، فلست أعني بذلك كلِّه القولَ إنَّ التأمل لا يمكن ممارسته بشكل أو بآخر في أي مكان، أو في أي لحظة من اليوم. وإنما أتحدَّث هنا عن الوضع المثالي. أنا عن نفسي أجد أنَّ التأمل خلال السفر استغلالٌ جيد للوقت.
وفيما يتعلق بالوضع الجسدي المناسب للتأمل، فأي وضعٍ مريح سيفي بالغرض، لكن إذا أصبحت مرتاحًا «للغاية»، فقد تنجرف إلى النعاس. ومع ذلك، قد يكون من المفيد الجلوس بالطريقة التي تُسمَّى وضعية اللوتس؛ إذ تضع ساقَيك متقاطعتَين مع إراحة كل قدم على فخذ الساق المقابلة. من مزايا هذا الوضع أنه يبقيك دافئًا ويحافظ على استقامة ظهرك أيضًا. قد يكون الوضع غير مريح في البداية، ولا بأس في هذه الحالة من الجلوس بساقَيك متقاطعتَين لبعض الوقت، ولا بأس أيضًا من الجلوس على كرسي إذا كان هذا الوضع صعبًا أيضًا. وبالمثل، فأولئك الذين يفضلون التأمل أثناء الركوع بسبب تقاليدهم الدينية، يمكنهم فعل ذلك أيضًا. الأهم أن تختار الوضعية التي تجدها أقل تشتيتًا للانتباه.
إذا اخترتَ وضعية اللوتس، يمكنك إراحة يدَيك عن طريق وضع ظهر اليد اليمنى على كف اليد اليسرى. دعِ المرفقَين يستريحان دون إحكامهما، مع دفعهما قليلًا أمام الجسم بحيث توجد فجوة يمكن للهواء أن يمر من خلالها. وغالبًا ما يكون من المفيد الجلوس على وسادةٍ مرفوعة قليلًا من الخلف. هذا يساعد على استقامة العمود الفقري الذي يجب من الناحية المثالية، أن يظل مستقيمًا كالسهم، مع انحناء العنق قليلًا للأسفل. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ إبقاء طرف اللسان ملامسًا لسقف الحلق يساعد على منع العطش، الذي قد ينتج عن بعض تمارين التنفس. أما الشفتان والأسنان فيمكن تركها في الوضع المعتاد. وفيما يتعلق بالعينَين، يمكنك أن تكتشف بنفسك الوضعَ الأفضل لك. بعضُ الناس يجِدون أنَّ التأمل وأعينهم مفتوحة أكثرُ فعالية. ويجد آخرون ذلك مشتِّتًا للغاية. بالنسبة إلى معظم الناس، عادةً ما يكون إغلاق العينَين بعض الشيء هو الأفضل، لكن البعض يجد أنَّ إغلاقهما تمامًا مفيد بدرجةٍ أكبر.
(٥) الاسترخاء وتهدئة العقل
فور أن تستقر في وضعيتك، فإن أول شيء عليك فعله هو استنشاق بعض الأنفاس العميقة. بعد ذلك، تنفَّس بشكلٍ طبيعي مرةً أخرى، وحاولِ التركيز على نفسك، مع ملاحظة الهواء وهو يدخل ويخرج من فتحتَي الأنف. إنَّ ما تحاول الوصول إليه، هو عقل في حالةٍ حيادية، ليس إيجابيًّا ولا سلبيًّا. وبدلًا من ذلك، يمكنك أن تأخذ شهيقًا واحدًا وزفيرًا واحدًا بينما تَعُدُّ بصمت من واحد إلى خمسة أو سبعة، ثم تكرِّر العملية عدة مرات. المفيد في هذا العَدِّ الصامت هو أنَّ تكليف العقل بأداء مهمة يقلل من احتمالية انجرافنا مع أفكارٍ دخيلة. في كلتا الحالتَين، عادةً ما يكون قضاء بضع دقائق في مراقبة التنفس طريقةً جيدة للوصول إلى حالةٍ ذهنية أكثر هدوءًا.
يمكننا تشبيه عملية تهدئة العقل هذه بصباغة قطعة من القماش. يمكن صبغ القماش الأبيض بلونٍ مختلف بسهولة، ولكن من الصعب صبغ قطعة قماش ملونة بالفعل، إذا لم نكن نرغب في جعلها سوداء. بالطريقة نفسها، عندما يكون العقل مضطربًا، من الصعب الحصول على نتيجةٍ إيجابية.
في بعض الأحيان قد تجد صعوبة في التركيز على الإطلاق لأن عقلك أسيرٌ لبعض المشاعر القوية، مثل الغضب. في مثل هذه الأوقات، قد يكون من المفيد ترديد بعض الكلمات القليلة بهدوء. فيمكن لصيغة مثل «أَدَعُ عني مشاعري المؤذية»، وبالنسبة إلى المؤمنين المتدينين، يمكن لتكرار صلاةٍ تعبديةٍ قصيرة أو ترنيمة لعدة مرات أن يخفف من سطوة العاطفة. إذا لم ينجح هذا الأسلوب، فربما تحتاج إلى النهوض والذهاب في نزهة قصيرة قبل المحاولة مرةً أخرى.
قد يحدث أحيانًا لا سيَّما في المراحل الأولى، أن تستمر الأفكار السلبية في الرجوع إليك بعد وقتٍ قصير. في مثل هذه الحالات، قد تجد أنك تستغرق جلسةً كاملة في ممارسة تمارين لتهدئة العقل أو سكونه. ولا بأس في هذا؛ فهو فلا يزال تدريبًا عقليًّا. ومع اكتسابك بعضَ الخبرة في آلية عمل العقل، ومعرفة الأساليب التي تنجح معك بشكلٍ أفضل، ستعتاد تدريجيًّا على حالةٍ ذهنية أكثرَ حيادية. هذا وحده تقدمٌ جيد.
عندما تنجح في الوصول إلى حالةٍ هادئة، ربما في غضون بضع دقائق من جلستك، يمكنك بعد ذلك البدء في العمل الفعلي لتنمية العقل.
في المراحل الأولى من تدريبك، من الأفضل أن تمارس عدة تمارينَ مختلفةٍ على التوالي. في البداية، قد تجد أنه من المحال أن تحافظ على تركيز عقلك لأكثر من بضع دقائق في المرة قبل أن يبدأ في التشتُّت، بل ربما حتى بضع ثوانٍ. هذا طبيعيٌّ للغاية. وحالما تدرك أنك قد أصبحت مشتَّتًا، ما عليك سوى الرجوع بلطف إلى ما كنتَ تفعله قبل بدء التشتت. يجب ألَّا تغضب أو توبِّخ ذاتك عندما يحدث هذا، بل عليك أن تتحلى بالصبر وتدرك ما يفعله العقل، وبهدوءٍ توجِّهه إلى الانتباه من جديد. المهم ألا تشعر بالإحباط.
(٦) التفكير في فوائد التدريب العقلي
من التمارين المفيدة جدًّا في بداية الجلسة، التفكير في فوائد الممارسة. ومن الفوائد الفورية للتدريب العقلي أن الممارسة تمنحنا فترةَ راحةٍ قصيرة من مظاهر القلق والحساب والخيال التي غالبًا ما تتسم بالإفراط وعادةً ما تسكن عقولنا. هذا في حد ذاته هبةٌ عظيمة. ومن الفوائد الأخرى التي يمكننا التفكير فيها، أنَّ الممارسة طريقٌ أكيد للوصول إلى أعلى مراتب الحكمة، حتى وإن كان هذا الطريق طويلًا وبه العديد من العقبات التي يجب التغلب عليها طوال الطريق.
من الجيد أيضًا قضاءُ بعضِ الوقت في التفكير فيما قد يحدث إذا أهملنا الممارسة. ثمَّة خطرٌ في أن ينتهي بنا الحال كما انتهى بالراهب في قصة النزهة؛ فنصير جثةً محمولة قبل أن نعرف حتى فوائد المسعى. ثمَّة احتمالٌ ضعيف للغاية بأن يتمكَّن مَن لم يشارك من قبلُ في هذا النوع من العمل، من التعامل بفاعلية مع الأفكار والمشاعر الهدامة التي تدمِّر كلَّ أمل في راحة البال إن هي استحوذت علينا.
عند التفكير بعمق في هذين الاحتمالَين المتعارضَين وفي مزايا أحدهما مقارنةً بعيوب الآخر، فإننا نتأرجح بينهما ذهابًا وإيابًا. وحين نفعل ذلك، سنجد أن الفوائد تتفوَّق كثيرًا على أي حججٍ تدعم عدم الممارسة. وحينذاك نتوقف بعقولنا عند هذا الاستنتاجِ فترةً قصيرة قبل الانتقال إلى المرحلة التالية من الجلسة.
(٧) بعض الممارسات المنهجية
(٧-١) تركيز الاهتمام
من ممارسات التأمل المتعارف عليها على نحوٍ كبير تنميةُ الانتباه المستدام من خلال التركيز الأحادي. في هذه الممارسة، تختار شيئًا ليكون محطَّ انتباهك. يمكن أن تختار زهرةً أو لوحة أو مدارًا من الضوء، ويمكن لممارسي التأمل من المتدينين اختيار شيءٍ مقدَّس مثل الصليب أو صورة بوذا. على الرغم من أنَّ وجود الشيء الفعلي أمامك قد يكون مفيدًا في البداية كأداة مساعدة، فهو ليس بمحور انتباهك في نهاية المطاف. وإنما عليك أن تحاول تنمية صورةٍ ذهنية عن الشيء فور أن تختاره، وعندما تألف الصورة جيدًا، ثبِّتها في عين عقلك. هذه الصورة الذهنية للشيء هي ما يمثل مرساة تأمُّلك.
بعد أن تكون قد استرخيت وهدأ عقلك، حاوِل أن تحافظ على تركيزك على الشيء. تخيَّله على بُعد أربعة أقدام أمامك وفي مستوى حاجبَيك. تخيَّل أن الشيء بارتفاع بوصتَين تقريبًا وأنه يشعُّ ضوءًا، فتكون صورته مشرقة وواضحة. حاول أيضًا أن تتخيَّل أنه ثقيل. يؤدي هذا الثقل إلى منع الإثارة، بينما يمنع سطوع الشيء بدء الارتخاء.
من الأفضل عدمُ إغلاق العينَين عند الانخراط في هذا النوع من التأمل، وإبقاؤهما مفتوحتَين قليلًا، والنظر إلى الأسفل. في بعض الأحيان، قد تنغلقان من تلقاء نفسيهما، ولا بأس في ذلك. لكن المهم هو ألا تكونا مغلقتَين تمامًا أو مفتوحتَين على مصراعَيهما. يمكنني الإشارة هنا أيضًا إلى أنَّ الأشخاص الذين يرتدون النظارات عادةً مثلي، لن يستفيدوا دائمًا من خلعها. فعلى الرغم من أن عدم ارتداء النظارات يقلل من احتمالية التشتُّت البصري، قد يساعد فقدان الوضوح البصري على التراخي أو الخمول. ويمكن لهذا أن يؤدي إلى أن تصبح ممارستنا أشبه بحلم يقظة غير مُوجَّه. إذا حدث هذا، فثمَّة إجراءٌ مضادٌّ مفيد يمكن القيام به، وهو التفكير في شيءٍ مقبول، شيءٍ يجعلك تشعر بالسعادة. وثمَّة إجراءٌ آخر وهو التفكير في شيءٍ مُنبِّه، حتى وإن كان يجعلك تشعر بالحزن قليلًا. يمكن أيضًا أن تتخيَّل النظر إلى الأسفل من قمة جبل حيث يمكنك الرؤية من جميع الاتجاهات دون عائق.
إذا بدأتَ تعاني المشكلةَ المعاكسة؛ التشتُّت بشيءٍ تراه، فعليك بمحاولة الانسحاب بالتركيز العقلي من العينَين. يمكن للجلوس أمام حائطٍ فارغ أن يكون مفيدًا في مثل هذه الحالات.
عندما يكون الشيء الذي تتخيَّله مستقرًّا في عين عقلك، ربما بعد عدة أسابيع أو شهور من الممارسة المستمرة، حاوِل حينئذٍ فحص العقل نفسه أثناء تركيزه على الشيء موضع الرؤية. في هذه الحالة، تحاول تركيز العقل مع فحصه في الوقت نفسه، وكأنك تراقبه من إحدى الزوايا، كي تضمن عدم السماح له بالاسترخاء سهوًا. عندما يصبح عقلك مسترخيًا للغاية، قد يصبح النوم غير بعيد عنك! لكن عندما تنجح في تكوين صورةٍ ذهنيةٍ قوية وواضحة، يمكنك أن تبدأ في تعويد نفسك على نوع التركيز الذي لا تختبره في الحياة العادية إلا عندما تحاول حل مشكلةٍ ذهنية شديدة الصعوبة. الفكرة هنا هي أننا عندما نتعلم التركيز بعقلنا حقًّا، يغدو ما يحدث شبيهًا بتدفق المياه عبر محطة الطاقة الكهرومائية لتوليد الطاقة الهائلة المطلوبة لتشغيل التوربينات، وحينها تستطيع استخدام القوة الكاملة لعقلك للتركيز على صفاتٍ مثل الرأفة، والصبر، والتسامح، والعفو.
حتى بعد تحقيق بعض القدرة في الحفاظ على التركيز، فمن الحتمي أن تجد أنك تفقد الانتباه من وقتٍ لآخر؛ إذ يبتعد عقلك عن الشيء، إما بسبب أحداثٍ خارجية أو بسبب عمليات التفكير الداخلي. عندما تلاحظ أن عقلك قد ضلَّ بعيدًا، فلتدرِك هذا بوعي وتُعِد تركيزه على الشيء برفقٍ مرةً أخرى. وإذا لزم الأمر، فلتنعش تصوُّرك للشيء بين الحين والآخر؛ كي تستعيد صورتُك وضوحَها. ثمَّة صفتان أساسيتان في هذا النوع من التأمل؛ الوضوح الذهني والاستقرار. يساعد الوضوح الذهني في الحفاظ على تركيزك. ويساعد الاستقرار في ضمان الوضوح من خلال مراقبةِ ما إذا كان انتباهك لا يزال نابضًا بالحياة أم لا. وللمساعدة في ضمان وجود هاتَين الصفتَين باستمرار، تحتاج إلى تطوير قدرتَين مهمتَين ثم ممارستهما، وتتمثل هاتان الصفتان في اليقظة والوعي الاستبطاني. من خلال الممارسة المستمرة لهاتَين القدرتَين، يمكنك أن تتعلم تدريجيًّا كيفية تدريب تركيزك حتى تستطيع الحفاظ على انتباهك فترةً زمنيةً طويلة.
يمكن تلخيص ما سبق إذن فيما يلي: في جلسة تأمُّل منهجيةٍ نموذجية، نبدأ بتهدئة عقلنا بالتنفس. بعد ذلك نختار شيئًا للتأمل فيه وتركيز انتباهنا عليه، وبين الحين والآخر نراقب ما إذا كان انتباهنا قد تشتَّت أم لا. وعندما نلاحظ شرود عقلنا، نعيده بلطف إلى التركيز على الشيء موضع التأمل ونستمر في العملية. وأخيرًا، عندما نرغب في إنهاء الجلسة، يمكننا القيام ببعض تمارين التنفس العميق مرةً أخرى حتى ننهيها في حالة استرخاءٍ ذهني.
(٧-٢) الوعي باللحظة الراهنة
بعد استرخاء عقلك بدرجةٍ كبيرة من خلال بعض أشكال تمارين التنفس، يكون من الممارسات المفيدة الأخرى أن تحاول إبقاء عقلك في حالته الطبيعية المتمثلة في الوعي الأساسي، إن جاز التعبير، أو ما يمكننا أن نطلق عليه «وعي اللحظة الراهنة». عندما تبدأ، من المهم أن تستحضر نيةً قوية لعدم السماح لعقلك بالانجراف بالأفكار إلى ما قد يحدث في المستقبل أو إلى ذكريات حدثت في الماضي. بدلًا من ذلك، اجعل نيتك هي تركيز عقلك على اللحظة الراهنة فحسب، والحفاظ على هذا التركيز أطولَ فترةٍ ممكنة. من الجيد عند القيام بهذه الممارسة، الجلوس إذا أمكن أمام جدار ليس به لون أو نقشٌ لافت للنظر. وبعد عدة أنفاسٍ عميقة، تريح العقل وتبدأ في الملاحظة.
إنَّ القيام بهذا صعبٌ في البداية في واقع الأمر. ففي حياتنا اليومية، تهيمن على عالمنا الذهني الحالات الموجَّهة بالأهداف سواءٌ أكانت في شكلِ تجاربَ حسية أو في شكل أفكار وذكريات. نادرًا ما نختبر حالةً لا ترتبط بمحتوًى محدَّد وتنتمي إلى حالة الوعي الطبيعية للعقل فحسب. ولذا، عندما تنخرط في البداية في هذا التأمل، ستجد أن عقلك ينجرف، وتجد الأفكار والصور تتدفق عبر وعيك المدرك، أو تجد أنَّ ثمَّة ذكرى تنبثق من دون سببٍ واضح. عندما يحدث هذا، لا تنهمك في طاقة هذه الأفكار والصور بمحاولة قمعها أو تعزيزها. فقط راقِبها ودَعْها تمر كأنها غيوم تظهر في السماء ثم تتوارى عن البصر، أو فقاعات تتكون في المياه وتتلاشى مرةً أخرى. بمرور الوقت، ستبدأ في إدراك ومضات من الحالة الأساسية للوعي في عقلك، أو لما يمكن تسميته «إشراقة مجردة». وبينما تتقدم على هذا الطريق، ستشعر بين الحين والآخر في فتراتٍ قصيرة بما يشبه الغياب أو الفراغ لا يكون لعقلك فيها محتوًى معيَّن. وستكون نجاحاتك الأولى في هذا سريعة الزوال. ولكن مع المثابرة على مدى فترةٍ طويلة، يمكن لما بدأ ومضةً فحسب أن يزيد تدريجيًّا، ويمكنك أن تبدأ في فهْم أن العقل مثل المرآة، أو الماء الصافي، حيث تظهر الصور وتختفي دون التأثير على الوسط الذي تظهر فيه.
من الفوائد المهمة لهذه الممارسة تلك المهارة التي تكتسبها؛ إذ تصبح قادرًا على ملاحظة أفكارك دون الانهماك فيها. سوف تتعلم رؤية أفكارك على حقيقتها بصفتها بنًى افتراضيةً في عقلك، وكأنك متفرجٌ منفصل عنها. إنَّ الكثير من مشكلاتنا ينشأ لأننا، في حالتنا البسيطة غير المدرَّبة، نخلط بين أفكارنا وبين الواقع الفعلي. إننا نتمسك بمحتوى أفكارنا كما لو كانت حقيقيةً ونبني إدراكنا للواقع بالكامل واستجابتنا له بناءً عليها. ونحن إذ نقوم بذلك نربط أنفسنا بقوةٍ بعالمٍ هو في الأساس من ابتكارنا الخاص ونصبح محاصرين فيه، كقطعة حبل تشابكت وصارت مليئة بالعُقَد.
(٧-٣) التدريب على الرأفة والحنان الناشئ عن الحب
تتمثل إحدى الفئات الأخرى من الممارسات المفيدة للغاية في تنمية الصفات الذهنية الإيجابية، مثل الرأفة والحنان الناشئ عن الحب. وهذه الأنواع من التمارين تستخدم عمليات التفكير المتعمَّد. مرةً أخرى، نبدأ بتمرين تنفسٍ أوَّلي لإراحة العقل وتهدئته. ولا نبدأ في الممارسة الفعلية إلا بعد هذا التحضير.
تفيد هذه التمارين أيضًا بصورةٍ خاصة في المواقف التي تجد فيها صعوبة بشأن توجُّهك أو مشاعرك تجاه شخص يمثِّل لك بعض المشكلات. أولًا، استحضِر هذا الشخص في ذهنك، واستدعِ له صورةً حية حتى تكاد أن تشعر بوجوده. بعد ذلك، ابدأ في تأمُّل حقيقة أنه هو أيضًا لديه آمال وأحلام، وأنه يشعر بالسعادة عندما تسير الأمور على ما يرام، وبالحزن عندما لا يحدث ذلك. في هذا السياق، لا يختلف هذا الشخص الآخر عنك مثقال ذرة. إنه مثلك تمامًا، يرغب في تحقيق السعادة ولا يريد أن يشعر بالمعاناة.
بعد إدراك هذا المسعى الأساسي المشترك بينكما، حاول أن تشعر بالتواصل مع الشخص وتنمِّي الرغبة في أن يحقق السعادة. قد يكون من المفيد أن تردد رغبتك بالكلمات في صمت، بأن تقول شيئًا مثل «أتمنى ألا تتجرَّع شيئًا من المعاناة وأسبابها. أتمنى أن تنعم بالسعادة والسلام.» بعد ذلك، استقِر بعقلك في هذه الحالة من الرأفة. من بين نوعَي ممارسة التنمية العقلية المذكورتَين سابقًا؛ الاستطرادية والاستيعابية، فإنَّ هذه الطريقة في تنمية الرأفة تتضمن في المقام الأول عمليةً استطرادية، لكن من الجيد أيضًا أن نستقر بالعقل بين الحين والآخر في حالة من الاستيعاب، وذلك شبيه إلى حدٍّ ما بإيضاح نقطةٍ حاسمة في سياق نقاشٍ ما.
ونظرًا لأنني ناقشتُ موضوعَ الرأفة بالفعل بشيء من التفصيل، فلن أناقشه هنا مجددًا. ذلك أنَّ الكثير من النقاط الموضَّحة سابقًا يمكن إدخالها في عملية التنمية المتعمَّدة للرأفة. وهذا الجمع بين الطرق؛ أي بين التدريب العقلي الاستطرادي والتدريب العقلي الاستيعابي، مفيدٌ بالقدْر نفسه أيضًا في تنمية الصفات الداخلية الأخرى، مثل الصبر أو التحمل.
(٧-٤) تنمية الاتزان
عند الإشارة إلى حالة الاتزان، من المهم ألا نخلط بينها وبين اللامبالاة. إنما يمثل الاتزان حالةً ذهنية يتمكن المرء فيها من تفهم الآخرين وتقديرهم على نحوٍ خالٍ من التحيز المتجذر في المشاعر المؤذية المتمثلة في فرط الانجذاب أو النفور.
تتخذ ممارسة الاتزان شكلَين أساسيَّين. يمكن تشبيه أحدهما بتسوية تربة الحديقة كي تنمو الأزهار التي نزرعها متساوية وبصحةٍ جيدة. يتمثَّل هدف هذا الشكل من الممارسة في كبح نزعتنا المعتادة لتحديد تفاعلاتنا مع الآخرين بناءً على فئاتٍ ذاتِ مرجعيةٍ ذاتية، مثل الأصدقاء والأعداء والغرباء. أما الممارسة الثانية، فتُعنى بتطويرِ إدراكٍ حدسي، إن جاز التعبير، للمساواة الأساسية بين الذات والآخرين بصفتهم بشرًا يطمحون إلى تحقيق السعادة ويرغبون في تجنب المعاناة.
في أولى هاتَين الممارستَين، نستخدم عمليات التفكير الاستطرادي. فعلى الرغم من أنه من الطبيعي أن نشعر بالقرب من أحبائنا، وبالمشاعر السلبية تجاه أولئك الذين يتمنون لنا الأذى، وباللامبالاة تجاه الغرباء، غالبًا ما نفتعل المشكلات والمعاناة غير الضرورية، لأنفسنا وللآخرين، من خلال التشبث المفرط بهذه الفئات لأسبابٍ ذاتية فحسب. ومثلما ناقشنا سابقًا، هذا هو أساس نزعتنا لفهم الآخرين من منطلق «نحن» و«هم». ولهذا فإن تنمية الاتزان فيما يتعلق بالآخرين مفيد للغاية، لا سيَّما كوسيلة لمساعدتنا على أن نعيش حياةً أخلاقية.
للقيام بهذا، مرةً أخرى تبدأ بالاسترخاء وتهدئة العقل من خلال تمرين التنفس ثم تواصِل على النحو التالي. استحضِر صورة ذهنية لمجموعةٍ صغيرة من الأشخاص الذين تحبهم، مثل أصدقائك المقرَّبين وأقاربك. تخيَّل هذه الصورة بأكبرِ قدرٍ ممكن من التفاصيل وبأكبرِ درجةٍ تُقارِبُ الحقيقة. بعد ذلك تخيَّل بجانبها صورةً لمجموعة من الأشخاص الذين تشعر تجاههم باللامبالاة، مثل الأشخاص الذين تراهم في العمل أو التسوق بالخارج لكنك لا تعرفهم جيدًا. ومرةً أخرى، حاوِل أن تجعل هذه الصورة على أكبر درجةٍ ممكنة من الواقعية والتفصيل. وأخيرًا، استحضِر صورةً ثالثة ستكون هذه المرة لمجموعة من الأشخاص الذين لا تحبهم، أو الذين تكون في صراع معهم، أو الذين تختلف مع آرائهم بشدة، ومرةً أخرى تخيَّلها بأكبر قدرٍ ممكن من الوضوح والتفصيل.
بعد بناء صورٍ ذهنية لهذه المجموعات الثلاث من الأشخاص في عقلك، اسمح لردود أفعالك العادية تجاههم بالظهور. لاحظ أفكارك ومشاعرك تجاه كل مجموعة تلو الأخرى. ستجد أن نزعتك التلقائية هي أن تشعر تجاه المجموعة الأولى بالتعلق، وتجاه المجموعة الثانية باللامبالاة، وتجاه المجموعة الثالثة بالعداء. حين تدرك هذا، تنتقل بعد ذلك إلى استجواب عقلك والنظر في كيفية تأثير كلٍّ من هذه الاستجابات الثلاث عليك. سوف تجد أن مشاعرك تجاه أعضاء المجموعة الأولى سارَّة، وتلهمك ثقةً معينة وقوةً تقترن بالرغبة في تخفيف معاناتهم أو منعها. وستلاحظ أن مشاعرك تجاه المجموعة الثانية لا تثيرك ولا تلهمك بأفكارٍ معينة للاهتمام بهم على الإطلاق. أما المجموعة الثالثة، فستجد أنَّ مشاعرك تجاهها تحفِّز عقلك في اتجاهاتٍ سلبية.
الخطوة التالية هي الانخراط في التأمُّل باستخدام قدرتك النقدية. فالأشخاص الذين نعتبرهم اليوم من أعدائنا ربما لا يظلون كذلك، وهذا ينطبق أيضًا على أصدقائنا. ثم إنَّ مشاعرنا تجاه الأصدقاء، مثل التعلق، قد تُسبِّب لنا أحيانًا المشكلات، وقد تفيدنا تفاعلاتنا مع الأعداء في أحيانٍ أخرى؛ إذ يمكن أن تجعلنا أقوى وأكثر انتباهًا. ربما يقودك التأمل في مثل هذه التعقيدات إلى التفكير في عدم جدوى المغالاة في الارتباط بالآخرين، سواءٌ أكانوا أعضاءً في المجموعة الثالثة أم حتى في الأولى. فور أن ترى أن هذه الطريقة في الارتباط بالآخرين تعيق قدرتك على تنمية حُسن النية تجاههم، وتدرك تأثيرها السلبي على راحة بالك، تحاول بعد ذلك أن تخفِّف من حدة مشاعرك المتطرفة. مع مرور الوقت، يصبح الهدف أن تكون قادرًا على التواصل مع الآخرين، وليس بصفتهم أصدقاء أو أعداء تبعًا لتصنيفك التقسيمي لهم، بل بصفتهم إخوةً لك في الإنسانية تُدرِك المساواة الأساسية بينك وبينهم.
أما بالنسبة إلى الشكل الثاني من ممارسة الاتزان، فقد ناقشتُ العديد من نقاطه بالفعل في الفصل الثاني الذي يتحدَّث عن إنسانيتنا المشتركة، ويمكن دمجها أيضًا في سياق الحديث عن عملية التنمية العقلية هنا. تتمثَّل النقاط الرئيسية في حقيقتَين بسيطتَين هما؛ مثلما أنني شخصيًّا لديَّ رغبةٌ غريزية ومشروعة في تحقيق السعادة وتجنُّب المعاناة فالآخرون أيضًا كذلك، ومثلما أنَّ لديَّ الحق في تحقيق جميع هذه التطلعات الفطرية فهم أيضًا يتمتعون بالحق نفسه. عند التفكير في هاتين النقطتَين، يمكننا بعد ذلك أن نسأل أنفسنا: على أي أساس نميِّز بقوة بيننا وبين الآخرين؟ إذا مارسنا هذا التمرين مرارًا وتكرارًا، لا في جلسةٍ واحدة أو جلستَين فحسب، بل على مدار أسابيع وشهور وحتى سنوات، فسنجد تدريجيًّا أننا قادرون على توليد اتزانٍ داخليٍّ حقيقيٍّ قائم على أساس الإدراك العميق للتطلع البشري المشترك والفطري إلى السعادة، وكراهية المعاناة.
(٧-٥) الابتهاج بنماذج الآخرين
من التمارين الأخرى التي يمكن أن تكون مفيدة للغاية في تنمية الحالات الذهنية النافعة، ممارسةٌ استطرادية تتخذ من النموذج الجيد لشخصٍ نُكنُّ له إعجابًا كبيرًا موضوعًا لها. وهذه الممارسة شبيهة في بعض النواحي باتخاذنا بعضَ الشخصيات قدوةً نستلهم بها. بالنسبة إلى مَن ينتمون إلى خلفيةٍ علمانية، ربما تكون هذه القدوة شخصًا من الماضي أو الحاضر ونُعجَب به لرحمته وإيثاره على وجه الخصوص؛ ربما طبيب أو ممرِّض أو مدرِّس أو عالِم. أما المؤمنون بالأديان، فربما يكون القدوة هو مؤسِّسَ التقليد الديني أو قديسًا من تاريخه. فمن خلال التفكير في حياة الشخص الذي نُعجب به، والتأمُّل في الكيفية التي يعيش بها لنفسه أو للآخرين، وكيف أن سلوكه يتسم بالرأفة أو كان يتسم بها، نألف النموذج الذي يمثله.
أحد أهداف هذا النوع من التدريب الذهني التحليلي هو الإدراك المباشر لصفةٍ معينة. في هذه الحالة، نُحلِّل ما يحفِّز الناس على تكريس أنفسهم للآخرين. وبعد تحديد هذه الصفة، نركِّز عليها، ونتوقَّف بعقولنا عندها؛ إذ يُعَدُّ ذلك طريقة للارتباط بالصفة من خلال التبصر الفطري المباشر في دافع الرأفة الذي هو الهدف النهائي لهذا التمرين. بعبارةٍ أخرى، تتمثل فكرة هذا التمرين في تدريب أنفسنا على التصرف في حياتنا اليومية، على النحو الذي يتصرف به الشخص الذي نُعجَب به، ومن ثمَّ فعندما ندرك على سبيل المثال، معاناة الآخرين، نشعر بالرغبة في الاستجابة على النحو الذي كان هذا الشخص سيستجيب به. وبهذا؛ فإننا نسعى أولًا إلى تغيير موقفنا تجاه الآخرين ثم إلى تغيير سلوكنا. وهذا في نهاية المطاف، هو المقصد من ممارستنا؛ تشكيل أفعالنا بوعي والتأثير فيها. وإذا لم يحدث ذلك، فلا جدوى إذن من الممارسة.
(٧-٦) التعامل مع المواقف والمشاعر المؤذية
من المجالات التي يمكن أن يكون للتدريب العقلي الاستطرادي أو التحليلي فيها فاعليةٌ كبيرة، التعامل مع المشاعر والمواقف المؤذية. ومن أفضل المراحل التي يمكنك البدء بها، اختيار حالةٍ ذهنية مؤذية هي السائدة لديك على المستوى الشخصي. فجميعنا يمتلك كلَّ هذه الأنواع من المشاعر والمواقف المؤذية، لكن الأفراد يختلفون في الأنواع المحدَّدة التي تهيمن عليهم على المستوى الشخصي. بعضنا أكثر عرضةً للمشاعر المؤذية التي تنتمي إلى عائلة الغضب، مثل الانزعاج والاضطراب والعِدائية وحدَّة المزاج. وبعضنا الآخر أكثر عرضة للحسد والغيرة وعدم التسامح مع نجاح الآخرين، أو للمشاعر المؤذية التي تنتمي إلى عائلة التعلُّق، مثل الرغبة والتوق الشديدين والجشع والشهوة. بينما يعاني بعض الأفراد مشكلةً معاكسة، وهي اللامبالاة أو عدم القدرة على التواصل مع الآخرين.
بعد اختيار الشعور أو الموقف المؤذي الذي ستتعامل معه أولًا، تبدأ كما هو موضح سابقًا، في إراحة العقل والتهدئة من خلال تمارين التنفس. وحينها تصبح مستعدًّا لبدء الممارسة الفعلية.
أولًا، تأمَّل التأثيرات الهدامة للحالة الذهنية التي اخترتها. عند التعامل مع الغضب على سبيل المثال، يمكنك التأمل في أنه يُربك هدوءك الذهني على الفور، وأنه أيضًا يخلق مزاجًا سلبيًّا يفسد الأجواء من حولك. فكِّر أيضًا في أنك في خضم الغضب تميل إلى قولِ أشياءَ قاسيةٍ حتى لمَن تهتم بأمرهم حقًّا، وأن هذا بوجه عام يؤثر سلبًا على تفاعلاتك مع الآخرين. يجب أن يكون تأمل الطبيعة الهدامة لهذه الحالات الذهنية عميقًا بما يكفي كي يتسم موقفك الأساسي تجاه مثل هذه الحالات مع مرور الوقت بالحذر واليقظة. قال أحد المتأملين التبتيين المشهورين ذات مرة: «لديَّ مهمةٌ واحدة فقط عليَّ إنجازها؛ أن أقف حارسًا عند مدخل عقلي. عندما تترقبني المشاعر المؤذية، أظل مترقبًا لها، وعندما تسكن، أسكن.»
حالما تقتنع بالطبيعة الهدامة لهذه المشاعر المؤذية، تنتقل بعد ذلك إلى المرحلة التالية من التأمل. تنطوي هذه المرحلة على تطوير وعي أكبر بالحالات الذهنية نفسها، لا سيَّما بدايتها. وعندما تعي ما تشعر به عندما تظهر هذه المشاعر؛ مثل ما تجعلك تشعر به ماديًّا على مستوى جسدك، وما تجعلك تشعر به على المستوى الذاتي أو النفسي، يمكنك أن تتعلم التعرف عليها قبل أن يبدأ تأثيرها المدمِّر. كلما زادت دقتُك في التعرف على الخصائص المحددة المرتبطة بظهور مشاعرَ بعينها، زادت فرصتك في استحضار الوعي واليقظة الذهنية إلى العملية، ومن ثمَّ التدخل مبكرًا في سلسلة السببية.
أما المرحلة الثالثة من هذه الممارسة للتنمية العقلية للتعامل مع الحالات الذهنية المؤذية، فهي استخدام الترياق المناسب لكلٍّ من الحالات: على سبيل المثال، التحمُّل لمواجهة الغضب، والحنان الناشئ عن الحب لمواجهة الكراهية، والتفكير في نواقص الشيء لمواجهة الجشع أو الرغبة الملحَّة في الحصول عليه. ويمكن لهذه الطريقة أن تكون فعَّالة إلى حَدٍّ كبير في انحسار الحالات الذهنية المؤذية.
ومثلما أشرتُ سابقًا، من المهم في جميع المراحل الثلاث لهذه الممارسة، أن ندمج العمليات الاستطرادية والتحليلية مع التوقف بالعقل لاستيعاب نقطةٍ واحدة من النقاط الحاسمة. وهذا المزيج يسمح لتأثيرات الممارسة بالتغلغل إلى عقلك بعمق، حتى يبدأ في إحداثِ تأثيرٍ حقيقي في حياتك اليومية.
(٨) عقباتٌ أمام ممارسة التنمية العقلية الجيدة
من المتوقع تمامًا في البداية أن يواجه ممارِسُ هذه الأنواع من التهذيب العقلي العديدَ من المحن والصعوبات على طول الطريق. القليلُ فقط من المهارات المفيدة هي التي يمكن تحقيقها دون بذل قدرٍ كبير من الجهد على مدار فترةٍ طويلة من الزمن. لكنَّ التحدي في عملية التنمية العقلية أكبرُ؛ فليس الهدف من مسعانا هو وحده العامل الذهني، بل إنَّ الوسط الذي نمارس فيه والمجال الذي تحدث فيه الممارسة كلاهما ذهنيان أيضًا. لذلك، فحتى الممارسون المتقدمون يواجهون العقبات.
إنَّ جميع الممارسين المبتدئين منهم والخبراء يواجهون، إضافةً إلى المشكلات العامة المتعلقة بالدافع، نوعَين أساسيَّين من العقبات التي تحول دون الممارسة الجيدة. يتمثل أحد هذين النوعَين في التشتُّت، بينما يتمثل النوع الآخر في التراخي أو ما يمكن أن نطلق عليه «الغرق العقلي». من المرجَّح أن يواجه المبتدئ التشتُّت أولًا؛ تشتُّت العقل بينما يتتبَّع الأفكار أو الخواطر أو المشاعر؛ مما يجعله في حالة إثارة أو اضطراب ويمنعه من الوصول إلى الاستقرار. وقد يتخذ التشتُّت شكل الإثارة الواضحة التي يضيع فيها موضوع الممارسة تمامًا. وقد يتخذ شكلًا ألطف؛ فلا نفقد موضوع الممارسة بالكامل، لكنَّ أحد جوانب العقل يظل مشغولًا بشيءٍ آخر؛ مما يمنعنا من تحقيق التركيز المناسب.
تعتمد كيفية التغلب على هذه العقبات التي تحول دون الممارسة الجيدة على تجربتنا الفردية. في بعض الأحيان سيكون من الكافي أن نتذكَّر هدفنا من القيام بهذه التنمية العقلية. وفي أوقاتٍ أخرى، قد نضطر إلى التوقف عن كلِّ ما نحاول القيام به وننتقل إلى تمرينٍ آخر. ويمكن أيضًا أن نقوم بتمرين تنفسٍ قصير، أو نكرِّر بضعَ كلماتٍ مناسبة للموقف. قد تكفي بضع كلماتٍ بسيطة كأن نقول: «عليَّ أن أترك ما يُشتِّت انتباهي»، مع تكرار العبارة ببطء وتأنٍّ عدةَ مرات. وفي بعض الأحيان الأخرى، قد نضطر إلى قطع الجلسة والتجول في الغرفة بضعَ دقائق. والشيء المهم كالعادة، هو ألَّا تصاب بالإحباط.
تتمثل العقبة الأساسية الأخرى أمام الممارسة الناجحة في التراخي أو الغرق العقلي، وهي تحدث عندما يصبح العقل مسترخيًا للغاية. ننجح في الانفصال عن انشغالاتنا المعتادة ونتمكَّن من تنحية المشتِّتات عن عقلنا، لكن لأن طاقتنا تصبح منخفضة بعد ذلك، أو لأننا لا نكون متيقظين بدرجةٍ كافية، يغرق العقل ونصبح وكأننا «شاردون». يمكن أن تؤدي هذه التمارين العقلية إلى الاسترخاء، لكن الاسترخاء في حد ذاته ليس هو الهدف منها على الإطلاق. إنما نحتاج إلى تنميةِ حالةٍ ذهنيةٍ هادئة تتسم باليقظة في الوقت ذاته، ثم الحفاظ على هذه الحالة. فالواقع أنَّ التعوُّد لفتراتٍ طويلة على حالة من الاسترخاء تفتقر إلى اليقظة قد يُضعِف حِدَّةَ الذهن.
إنَّ طريقة التغلب على التراخي تختلف من شخص لآخر، ومن جلسة إلى أخرى. قد يكون المشي السريع القصير علاجًا فعَّالًا، أو ربما قضاء بضع لحظات في تخيُّل ضوءٍ ساطع. بالنسبة إلى ذوي الميول الدينية، قد يساعدهم التفكُّر قليلًا في الصفات الفائقة لبعض الشخصيات في تقاليدهم الدينية. ثمَّة علاجٌ آخر يتمثل في أن نتخيَّل أن وعينا ينبثق في الفضاء. ينبغي التأكيد مرةً أخرى على أنَّ العلاج الأفضل هو العلاج الذي ينجح بأكبر درجة مع الفرد. باختصار، إذا وجدت أن عقلك في حالة من الخمول، فهذا مؤشرٌ على بدء ظهور عقبة التراخي. لمواجهة هذا، تحتاج إلى إيجاد طريقة لتحفيز حالتك الذهنية وتنشيطها.
(٩) مسألة التقدُّم
مثلما هو الحال في أي نشاطٍ بشري، يتقدم مختلف الأفراد في ممارسة التنمية العقلية بمعدلاتٍ مختلفة ويصلون إلى مستوياتٍ مختلفة من الإنجاز في أوقاتٍ مختلفة، وفقًا لسنِّهم، وحالتهم الجسدية، وفكرهم، وعواملَ أخرى. بعض الذين يتمتعون بقدرةٍ جيدة على الاستبطان سيتعلمون كيفية اكتشاف بداية التشتُّت أو التراخي بسرعة، وسيتخذون الإجراءات لمنع التطور الكامل لأيٍّ منهما. وسوف يستغرق الآخرون وقتًا أطول للقيام بذلك. في كلتا الحالتَين، ينبغي ألَّا يكون هذا سببًا للفخر أو الأسى. بدلًا من ذلك، متى ما ظهرت العقبات، علينا التحلي بالتواضع والسعي للتغلُّب عليها دون غضب.
(١٠) البهجة في التدريب العقلي
عندما نحقِّق إنجازاتٍ أكبر في ممارستنا، يزداد إدراكنا تدريجيًّا لقابلية تدريب العقل. نتعلم أن نستبدل الأفكار والمشاعر الإيجابية بالأفكار والمشاعر السلبية، وأن نضعف من سيطرة الأفكار والمشاعر المؤذية على عقولنا. ومع ذلك، فمن المهم توضيح أن ما نناقشه هنا لا يعني «قمع» الأفكار والمشاعر السلبية. وإنما علينا أن نتعلم إدراكها على حقيقتها وأن نستبدل بها حالات ذهنية أكثر إيجابية. ونحن لا نفعل هذا لتحقيق السيادة الذاتية فحسب، بل لأن الوصول إلى هذا النوع من التحكم في عقولنا يجعلنا أكثرَ قدرة على إفادة الآخرين على نحوٍ يتسم بالرأفة.
من المهم أيضًا أن نراعي أنه يتعيَّن علينا ألَّا نجبر أنفسنا أبدًا على الممارسة. ومثلما أشرنا سابقًا، سيواجه المبتدئون حتمًا الكثير من التشتُّت. ثم إنَّ تعويد العقل على الممارسة المنهجية للتأمُّل يستغرق بعضَ الوقت. لذلك من الضروري التحلي بالصبر وعدم الشعور بالإحباط. إذا وجدنا أنفسنا مضطرين إلى المجاهدة، فقد تكون هذه إشارةً إلى أنه قد حان الوقت لقَطع الجلسة. ذلك أنَّ محاولة الاستمرار في هذه الظروف لن تكون فعَّالة. فكلما جاهدنا، أصبح العقل أكثر إرهاقًا. إذا واصلنا في ظل هذه الظروف، فسرعان ما سنبدأ في كُره الممارسة. وفي النهاية، يمكن حتى لرؤية المكان الذي نُجري فيه ممارستنا أن تؤدي إلى الشعور بالنفور. لذلك من المهم ألا نصل إلى هذه المرحلة. لا شك أنَّ الانضباط العقلي هو محور التنمية العقلية وجوهرها، لكن هذا لا يعني أن تكون الممارسة عقابًا. على العكس، فهي شيءٌ يمكن الاستمتاع به. ولذا علينا أن نحاول الاستمتاع بممارستنا. وعندما ننجح في ذلك، ستساعدنا بهجتنا في التقدُّم بسرعةٍ أكبر.
(١١) التأثير على الحياة اليومية
عندما نواجه المشكلات في حياتنا اليومية، كما يحدث لنا جميعًا من وقتٍ لآخر، يمكن لممارسة الوعي العقلي أن تساعدنا في التحلي بمنظورٍ أكثرَ واقعية تجاه ما يسبِّب لنا المشكلات. إذا تبادلنا على سبيل المثال، كلماتٍ قاسيةً مع شخصٍ ما، كأحد أفراد العائلة أو زميل في العمل أو شخص غريب عنا تمامًا، فسيفيدنا تخصيص بضع دقائق من ممارستنا للتفكير في الحدث وتفحُّص ردود أفعالنا تجاهه. بعد ذلك، نتخيَّل خصمنا أمامنا، ونحاول توليد مشاعر من الامتنان تجاهه. قد يبدو هذا غريبًا في البداية. لكن مثلما أشرتُ سابقًا، فالحقُّ أنَّ أعداءنا هم أعظم معلمينا في جانبٍ مهم للغاية؛ ولذا فمشاعر الامتنان هذه في الواقع ملائمة تمامًا. مع وضع هذه الفكرة في الاعتبار، نتخيَّل أننا ننحني لِخَصْمنا. وعندما نفعل هذا مرارًا وتكرارًا، إذا كان موقفنا صحيحًا ودافعنا نقيًّا، فإنَّ الكره الذي نشعر به تجاه هذا الشخص سيتبدَّد تدريجيًّا، وسوف نتمكَّن من توليد مشاعر الحب والرأفة بدلًا منه.
إنَّ الغرض الأساسي من تمارين التدريب العقلي التي كنت أصفها، لا سيما من منظور الأخلاق العلمانية، هو أن نصبح بشرًا أهدأ، ونتمتع بدرجةٍ أكبر من الرأفة والفطنة. بالرغم من ذلك، يمكن لهذه التمارين أن تفيدنا في حياتنا اليومية بطرقٍ أخرى أيضًا. إحدى هذه الطرق على وجه التحديد أننا حين نحرز تقدُّمًا في الممارسة، تتشكَّل لدينا درجة من الاستقرار في أذهاننا فنصبح أقل عرضة للمغالاة في الإثارة أو الاكتئاب؛ ومن ثمَّ تساعد في حمايتنا من إجهاد المرور بتقلبات الحياة على نحوٍ حادٍّ. هذا لا يعني أنها تخدِّر العقل. ما أقصده أنها تكبح جماح الإفراط. فالتدريب العقلي لا يمنعنا من اختبار الحياة بكلِّ ما فيها، لكنه يساعدنا على أن نكون أكثر اعتدالًا في ردود أفعالنا. قد يبدو هذا على أنه الطريق لحياةٍ مملة، لكن إذا فكرنا للحظةٍ فسنرى أنَّ وجود عقلٍ يتقلب في هذا الاتجاه وذاك كقاربٍ صغير في بحرٍ هائج الأمواج، ليس بالأمر المُرضي للغاية. وليس من المفيد أيضًا أن يكون الضوء في غرفتنا شديدَ السطوع للحظة حتى إننا لا نكاد نرى شيئًا، وشديد الإظلام في اللحظة التالية حتى إننا لا نستطيع رؤية أي شيء على الإطلاق. ما نريده هو ضوءٌ معتدل وثابت يمكِّننا من رؤية الأشياء من حولنا بوضوح. ولهذا؛ فعندما نطوِّر درجةً معينة من السيطرة على عقولنا نصبح أكثر قدرةً على تحمُّل الأحداث التي تواجهنا، سواءٌ أكانت إيجابية أم سلبية.
ومثلما أنني لا أتحدَّث عن تخدير العقل، فأنا لا أتحدث أيضًا عن السيطرة التامة على المشاعر المؤذية. إنَّ تحقيق هذا يستلزم قدرًا كبيرًا من الجهد فترةً زمنيةً طويلة. إنما أتحدَّث عن هدفٍ أكثرَ تواضعًا يتمثل في تحقيق نوع من الاستقرار المعتاد. وتتسم مثل هذه الحالة بالتواضع الطبيعي وراحة البال الراسخة. هذه الصفات بدورها تجعل العقل أكثرَ طواعية في سعينا لتنمية الرأفة.
خلاصة الأمر أنَّ الجهد المعتدل على مدى فترةٍ طويلة من الوقت، هو أساسُ النجاح في ممارسة التنمية العقلية. فنحن نجلب الفشل على أنفسنا من خلال العمل المفرط في الجدية أو من خلال المحاولة فتراتٍ طويلةً في البداية. إنَّ القيام بهذا يزيد كثيرًا من احتمالية أن نتوقف بعد فترةٍ قصيرة فحسب. فما تستلزمه الممارسة الجيدة في حقيقة الأمر هو تيارٌ مستمر من الجهد؛ نهج مستدام ومستمر قائم على التزامٍ طويل الأجل. ولهذا؛ فإن أداء التدريبات على النحو الملائم وإن كان لفترةٍ قصيرة، هو الطريقة الفضلى. يجب أن يكون التركيز على الجودة وليس المقدار. والأهم من ذلك كله، علينا أن نتذكَّر أن الغرض الأساسي من ممارسة التأمُّل هو أن نصبح بشرًا أكثرَ رأفة.