الرأفة ومسألة العدالة
(١) مسألة العدالة
في عدد من المناسبات الأخيرة، اعترض أشخاصٌ مفكِّرون من المتعاطفين مع فكرة الأخلاق العَلمانية على اقتراحي بأن الرأفة يمكن أن تكون الأساس لمثل هذا النظام العلماني. ذلك أنَّ كثيرين على ما يبدو، يجدون تضاربًا بين مبدأ الرأفة الذي ينطوي على العفو، وبين ممارسة العدالة التي تتطلب معاقبة المخالفين. وهم يرون أنَّ مبدأ العدل أو الإنصاف هو المبدأ الذي ينبغي أن يدعم أيَّ نهجٍ إنساني للأخلاق، وليس مبدأ الرأفة. تتمثل حجتهم في ذلك في أنَّ إعطاء الأولوية للرأفة والعفو من شأنه أن يسمح للمجرمين بالفرار من العقاب وينصر المعتدين. ويقولون إن أخلاق الرأفة لا تختلف كثيرًا عن أخلاق الضحية، التي ينتصر العدوان فيها دائمًا، وتُغفَر الاعتداءات على الدوام، ويصبح الضعفاء عاجزين دون دفاع.
إنَّ هذا الاعتراض يستند في رأيي إلى سوء فهْم أساسيٍّ لما تستلزمه ممارسة الرأفة. فلا يوجد شيءٌ في مبدأ الرأفة: الرغبة في رؤية الآخرين وقد خُفِّفتْ عنهم المعاناة، ينطوي على الاستسلام لمظالم الآخرين. ثم إنَّ الرأفة لا تستلزم أن نقبَل الظلم بخنوع. إنَّ الرأفة بعيدة كل البُعد عن تعزيز الضعف أو السلبية؛ إذ إنها تستلزم ثباتًا عظيمًا وشخصيةً قوية.
لقد كانت الرأفة العالمية هي الدافع لدى البعض من أعظم محاربي الظلم في العصر الحديث، وقد كانوا من ذوي الشخصية القوية والعزم، ومنهم المهاتما غاندي والأم تيريزا ونيلسون مانديلا، ومارتن لوثر كينج الابن، وفاتسلاف هافيل، وغيرهم. لا يمكن للمرء أن يصف مثل هؤلاء الأشخاص بالخنوع أو التقاعد لمجرد أنهم جمعوا بين تفانيهم من أجل تحقيق صالح الآخرين وبين التزامهم بالممارسات السلمية ورفض العنف.
•••
فمثلما قلت إذن، لا تتضمن الرأفة بأي حال من الأحوال الاستسلام في وجه الاعتداء أو الظلم. عندما يستلزم أحد الأوضاع غير العادلة استجابةً قويةً، كما هي الحال بشأن سياسة التمييز العنصري، فإن الرأفة لا تتطلب أن نقبل بالظلم، بل أن نأخذ موقفًا ضده. إنما تقتضي فحسب أن يكون مثل ذلك الموقف غير عنيف. لكن اختيار اللاعنف ليس علامةً على الضعف، بل هو علامةٌ على الثقة بالنفس والشجاعة. حين يصبح الأشخاص على خلافٍ ما، فإنهم لا يفقدون أعصابهم عادةً ويلجئون إلى الصراخ وحتى إلى العنف، إلا حينما تنفد حججهم. لكن عندما يشعر أطرافُ النزاع بالثقة في أنَّ الحقَّ إلى جانبهم، يظلون في كثير من الأحيان هادئين ويواصلون مناقشة قضيتهم. ولهذا، فإن التحلي بسلوكٍ هادئ وغير عنيف هو في الواقع دلالةٌ على القوة؛ لأنه يوضح الثقة النابعة من تأصل الحق والعدالة في جانب المرء.
يمكننا توضيح هذه النقطة المتعلقة بضرورة الوقوف في وجه الظلم مع التحلي بالاهتمام النابع عن الرأفة تجاه الشخص المُعتدي، من خلال مثالٍ على مستوًى شخصي. تخيَّل أن لك جيرانًا يتَّسمون بصعوبة المراس، ويتصرفون تجاهك بعدوانية على نحوٍ متكرر. فما الرد المناسب في هذه الحالة الذي يمكن اتخاذه على أساس الرأفة؟ وفقًا لفهمي، فما من سببٍ لأن تمنعك الرأفة، بما في ذلك بالطبع الرأفة تجاه المعتدين، من اتخاذ رد فعلٍ قوي. وحسب السياق، فإن عدم الاستجابة بإجراءاتٍ قوية، ومن ثمَّ السماح للمعتدين بمواصلة سلوكهم التخريبي، يمكن حتى أن يُحمِّلك جزءًا من المسئولية عن الضرر الذي يواصلون التسبب فيه. إضافةً إلى ذلك، فإن عدم اتخاذ أي إجراءٍ للتصدي لمثل هذا السلوك يُشجِّع في حقيقة الأمر هؤلاء الأشخاص التعساء، كما أنه سيؤدي على الأرجح إلى التمادي والإتيان بسلوكٍ أكثرَ تدميرًا عن سابقه، وهو ما يؤدي إلى المزيد من الضرر للآخرين، ولأنفسهم أيضًا على المدى الطويل. إنَّ الطريقة الوحيدة لتغيير عقلِ شخصٍ ما هي الاهتمام، وليس الغضب أو الكراهية. فالتدابير المادية أو العنيفة لا يمكن أن تُقيِّد سوى السلوك المادي للآخرين، دون أي سبيل لها على عقولهم.
ثمة قصة من جنوب التبت تحكي عن شخص يقول لصديق له: «ضربني فلان ذات مرة، فالتزمتُ الصمت، وضربني مرةً أخرى، فالتزمتُ الصمت، وضربني مرةً ثالثة، فالتزمتُ الصمت، وظلَّ يضربني، وما زلت ألتزم الصمت.» هذا مثالٌ على ما لا تعنيه الرأفة. هذا خنوعٌ وهو ليس بالنهج الصحيح. فالمطلوب في وجه الظلم هو الرأفة القوية!
(٢) العدالة بمفهومَيها: الواسع والضيق
ما من تعارض إذن بين الرأفة حين تُفهَم على النحو الصحيح، وبين ممارسة العدالة. ولكن من المهم مع قولنا هذا أن نميِّز بين المبدأ العام للعدالة؛ بوصفها مبدأً شاملًا للإنصاف والإصلاح على أساس الاعتراف بالمساواة بين البشر، وبين الفهم الضيق للعدالة بوصفها تطبيقًا للقانون في نطاق أي إطار قانونيٍّ معيَّن. من الناحية المثالية، ينبغي أن ينعكس كلٌّ من هذَين المفهومَين للعدالة دائمًا أحدهما على الآخر، لكن في بعض الأحيان لا يحدث ذلك مع الأسف. إذا نظرنا إلى جنوب أفريقيا تحت حكم الفَصْل العنصري، فسنرى على نحوٍ واضح أنَّ النظام القضائي قد يتجاهل المبدأ العالمي للمساواة بين البشر، ويحمي بدلًا من ذلك مصالح قطاعٍ معين من المجتمع. فخلال تلك الفترة، كان من الممكن أن يُعاقَب شخصٌ غير أبيض لمساسه بمصالح الأقلية الحاكمة، حتى في الأمور التافهة. سادَ وضعٌ مماثل في الهند تحت الحكم الاستعماري واستمر ذلك في أجزاءٍ أخرى من العالم، حيث تُقمَع أقلياتٌ وجماعاتٌ معينة على يد آخرين. ومن الواضح أنَّ مثل هذه الأنظمة القانونية تعكس مفهومًا محدودًا للغاية عن العدالة.
توجد أيضًا حالاتٌ تُقيَّد فيها حقوق أحد المجتمعات المتدينة أو الجماعات السياسية على يد مجتمعاتٍ أو جماعاتٍ أخرى. عندما يصون النظام القانوني لبلدٍ ما قدسية الوحدة الوطنية والنظام الاجتماعي بصفتهما أهم أولوياته، ويُدين أيَّ أفعال تُفسَّر على أنها تقوِّض هذه القيم بصفتها جرائمَ جنائية، فإن هذا النظام القانوني لن يخدم العدالة الحقيقية. ومن أمثلة ذلك فترة السجن الطويلة التي تعرضت لها أون سان سو تشي بعد فوزها في انتخابات بورما. ومن أمثلة ذلك أيضًا، ما حدث مؤخرًا من اعتقال رفيقي الحائز جائزةَ نوبل للسلام ليو شياوبو في الصين. عندما ينتقد الناس مثل هذه الانتهاكات للعدالة، تدافع الدول عن نفسها بقولها إن كل شيء قد تم وفقًا لحكم القانون. غير أنه حين يرتبط القانون بمصالحَ ضيقة النطاق، فإنه يفشل في دعم المفهوم الأساسي للعدالة بصفتها مبدأً للإنصاف يقوم على أساس المساواة بين البشر. فلكي يدعم القانون العدالة بحق، يجب أن يحمي الحقوقَ العالمية للبشر.
(٣) دور العقاب
لا شك أنَّ معظمنا يرى العدالة على أنها مبدأٌ عالمي للإنصاف القائم على المساواة الأساسية باعتبارنا بشرًا، سواءٌ أكانت تلك المساواة أمام الإله، أم المساواة من حيث تطلُّعنا الأساسي نحو تحقيق السعادة وتجنُّب المعاناة، أم المساواة أمام القانون كمواطنين. بالرغم من ذلك، يبدو أنَّ الإجماع أقل بشأن الممارسة الفعلية للعدالة في مسائل الجريمة والعقاب. فعلى سبيل المثال، تختلف آراءُ الناس بشأن قضايا مثل عقوبة الإعدام والغرض من العقوبة. يرى البعضُ أنَّ من هذه الجرائم ما هو شديد الشناعة وشديد السلبية، حتى إنه يجب عدم إظهار أي رحمة تجاه مرتكبيها.
عندما يتعلق الأمرُ بالاعتداء، فإنَّ جميع الأديان الكبرى تنطوي على فكرةٍ للإصلاح أو استعادة التوازن في الحياة أو الحيوات القادمة. في الديانات الألوهية، يوجد مفهوم المحاكمة الإلهية. وفي التعاليم البوذية التقليدية، يؤكِّد قانون الكارما أنَّ الأفراد سوف يجنون في نهاية المطاف ثمارَ أفعالهم. وكلا هذَين المعتقدَين يسمح بظهور الرأفة في الشئون الإنسانية الدنيوية. من وجهةِ نظرٍ عَلمانية، ومن دون مثل هذَين المعتقدَين في العقاب والثواب في الحياة الآخرة، يجب أن نسأل أنفسنا عن الهدف الفعلي من مبدأ العقاب. أهو القصاص والانتقام؛ أي أنَّ شعور المعتدين بالمعاناة هو الهدف في حد ذاته؟ أم هو منع ارتكاب المزيد من الاعتداءات؟ في رأيي أنَّ الهدف من العقوبة لا يتمثل في إلحاق المعاناة بالمعتدين. بدلًا من ذلك، ينبغي أن يكون للمعاناة الناتجة عن العقاب غرضٌ أسمى، وهي ثني المعتدي عن تكرار الجُرم وردع الآخرين عن ارتكاب أفعالٍ مماثلة. وبهذا، لا يكون الهدف من العقاب تأديبًا بل ردعًا.
ينبغي بالطبع أن يكون لدى المحاكم وسائلُ لعقاب المعتدين. ذلك أنَّ تركَ الجرائم المروِّعة كالقتل والاعتداء العنيف دون عقاب قد يوحي بأن أسوأ أفعال البشرية مقبول بطريقةٍ ما، ولن يكون ذلك في مصلحة أي شخص، بمَن فيهم مرتكبو هذه الجرائم أنفسهم. فللعقاب دورٌ حتمي وضروري في تنظيم شئون البشر، ويتمثل هذا الدور في الردع ومنح الناس شعورًا بالأمان والثقة في القانون.
ومع ذلك، إذا كان الهدف من العقاب هو الردع فحسب، فقد يُقال إذن إنه حتى أفعال الاعتداء البسيطة يجب أن يقابلها عقوباتٌ شديدة للغاية، باعتبارها الرادع الأكثر فعالية ضد سلوكٍ كهذا. وبالرغم من أنَّ هذه الطريقة قد تكون فعَّالة لضمان انخفاض معدلات الجريمة، فهي ليست نَهجًا يمكنني قبوله. فليس من العدل أبدًا أن يُعاقَب شخصٌ ما بعقوبةٍ شديدة لارتكابه جُرمًا بسيطًا. بدلًا من ذلك، ينبغي أن نراعي تحقق نوع من التناسب؛ أي كلما زادت شدة الجريمة، زادت شدة العقاب.
إنَّ هذا يثير التساؤل عن حدود الإصلاح. وأعتقد أن من المهم للغاية أن ندرك أن جميع البشر لديهم القدرة على التغيير. ولذا، أرى أنَّ فكرة عقوبة الإعدام غير مقبولة. ولهذا السبب دعمتُ لسنواتٍ طويلة، حملة منظمة العفو الدولية لإلغائها. وليس رأيي هذا من قبيل التساهل. لكن قتْل بشرٍ آخرين بهدف القصاص، أيًّا كان ما فعلوه، لا يمكن في رأيي أن يكون فكرةً صحيحة؛ إذ تحول دون إمكانية تغيرهم. وأعتقد أن الأكثر حكمةً للمجتمع هو الحفاظ على إتاحة تلك الإمكانية.
إنني أعي أنَّ الانتقام العنيف؛ أي الرد بقوة على الاعتداء، على سبيل المثال، هو شيءٌ متجذر بعمق في الغريزة الإنسانية. ونحن لا نختلف في هذا الصدد عن الحيوانات الأخرى، التي عند مهاجمتها قد تتقاتل حتى الموت. بالرغم من ذلك، يبدو أنَّ ممارسة الانتقام سمةٌ إنسانيةٌ خاصة، وترتبط بقدرتنا على التذكر. وربما كان الانتقام ضروريًّا للبقاء في المجتمع البشري البدائي، لكن مع تطور المجتمع أدرك الناس العواقب السلبية للانتقام وقيمة العفو. وهذا، في رأيي، هو المعنى الحقيقي للتحضر.
ولهذا؛ فإنني أعتقد أن إشباع غرائزنا العنيفة من خلال السعي للانتقام هو أمرٌ مضلِّل ولا يخدم مصلحة أحد. ذلك أنَّ النتيجة الوحيدة المضمونة للانتقام هي أنه سيغرس بذورًا لمزيد من الصراع. إنه يثير الاستياء والخطر المتمثل في ظهورِ دائرةٍ متصاعدة من العنف والانتقام لا يمكن كسرها إلا عند نبذ مبدأ الانتقام نفسه. إن الانغماس في الرغبة في الانتقام يخلق جوًّا من الخوف، والمزيد من الاستياء، والكراهية. وعلى النقيض من ذلك، حيثما يوجد العفو، فثمة فرصة للسلام. لذلك، فإن الانتقام، في فهْمي، ليس له أي دَخْل في ممارسة العدالة. الفكرة نفسها قد عفَاها الزمن. ذلك أنَّ الانتقام يُضعِف المجتمع، أما العفو فيمنحه القوة.
لقد تجلَّى ذلك بقوة من خلالِ ما حدث في جنوب أفريقيا بعد تفكيك نظام الفَصْل العنصري. فتحْت القيادة الحكيمة لنيلسون مانديلا، تصرَّف «المؤتمر الوطني الأفريقي» بشهامة لضمان عدم وجود أي حوادثَ انتقاميةٍ تقريبًا ضد الأقلية البيضاء. ولو كان القادة اختاروا بدلًا من ذلك التركيزَ على الماضي وخلْقَ جوٍّ من الاستياء، لكان الوضع قد أصبح مأساويًّا بالفعل. بدلًا من ذلك، أنشأت الحكومة لجنة «الحقيقة والمصالحة» برئاسة صديقي القديم وزميلي الروحي رئيس الأساقفة ديزموند توتو. واتباعًا لمثاله الأخلاقي، استندت اللجنة إلى مبدأ أنَّ إعلان الحقيقة من جانب المسئولين عن ارتكاب المخالفات الجسيمة وحتى الفظائع، سيعود بأثره في الشفاء والتحرر على كلٍّ من الضحايا ومرتكبي هذه الجرائم. واليوم بعد أكثر من عشر سنوات على انتهاء اللجنة من عملها، من شبه المؤكد أنَّ تلك العملية قد جلبت للكثيرين من الضحايا ومرتكبي الجرائم على حدٍّ سواء، قدرًا كبيرًا من راحة البال، ومنحتهم أيضًا الفرصة لطي هذه الصفحة من حياتهم. وقد تشرفتُ بمقابلة الرئيس مانديلا بعد فترةٍ وجيزة من تحرُّر جنوب أفريقيا من سياسة الفَصْل العنصري. تركتْ هذه الزيارة لديَّ انطباعًا عظيمًا، وليس ذلك للطفه فحسب، بل أيضًا لعدم شعوره بالاستياء تجاه أولئك المسئولين عن سجنه الطويل.
في رأيي أنَّ ممارسة العدالة بعيدةٌ كل البُعد عن التناقض مع مبدأ الرأفة، وإنما ينبغي أن تستند إلى نهجٍ أساسه الرأفة. أتذكَّر دائمًا شرح وزير العدل الاسكتلندي لقراره الصعب بإطلاق سراح الشخص المُدان في تفجير طائرة «لوكربي». فقد قال إن الناس في بلده «يرغبون في العدالة ويريدون تعزيزها بالرأفة والرحمة.» وأنا أدرك أن قراره أثار الكثير من الجدل والغضب لدى بعض عائلات الضحايا. لكني أعتقد أن تصريح الوزير كان في حد ذاته حكيمًا للغاية. فعندما يتعلق الأمر بالعدالة، يجب ألا تُنحى الرأفة والرحمة جانبًا.
(٤) التفريق بين الفِعل والفاعِل
النقطة المهمة بشأن مبدأ الرأفة، باعتبارها أساسَ ممارسة العدالة، هو أنها ليست موجَّهة نحو «الأفعال»، بل نحو «الفاعِل». تتطلب الرأفة منا أن نُدين الأفعال الخاطئة ونعارضها بكل الوسائل اللازمة، بينما نسامح في الوقت نفسه مرتكبي تلك الأفعال ونحافظ على موقفٍ ودِّيٍّ تجاههم. فمثلما أنَّ الإله، بمصطلحات الديانات الألوهية، يحرِّم الخطيئة بينما لا يزال يحب المخطئ، علينا نحن أيضًا أن نعارض الخطأ بقوة مع الحفاظ على اهتمامنا بالمخطئ. ومن الصواب أن نفعل ذلك لأنني أؤكِّد مرةً أخرى أنَّ جميع البشر لديهم القدرة على التغيُّر. وأعتقد أننا جميعًا نعرف هذا من واقع تجربتنا الخاصة. فبالرغم من كل شيء، ليس من الغريب للغاية على أولئك الذين يعيشون حياةً متهورة في شبابهم أن يتَّسموا بالمسئولية والاهتمام مع اكتسابهم النضجَ والخبرة. في التاريخ أيضًا، يوجد العديد من الأمثلة على الأفراد الذين كانت بداية حياتهم بغيضةً من الناحية الأخلاقية، لكنهم جلبوا فائدةً كبيرة للآخرين فيما بعد. لنا أن نذكر على سبيل المثال، الإمبراطور أشوكا، والقديس بولس، وغيرهم كثير.
إن هذه القدرة على التغيُّر حقيقةٌ حتى لأولئك الذين ارتكبوا أفظع الأفعال. يشجِّعني على هذا الاعتقاد المناقشات التي خضتُها على مدار السنوات مع ممثلي السجناء والاختصاصيين الاجتماعيين العاملين في السجون في كلٍّ من الهند والولايات المتحدة. إنها لمأساةٌ كبيرة أنَّ الإحصائيات في كثير من البلدان، تشير إلى عودة السجناء لارتكاب الجرائم مجددًا. بعض البلدان الآن تستخدم برامج إعادة التأهيل، التي توفِّر للمجرمين من خلال التدريب النفسي، الإرشادَ والتوجيه بشأن كيفية إعادة تعديل فهْمهم للعالَم تدريجيًّا وتعلُّم المساهمة في سُبل رفاهية الآخرين بدلًا من سلبها منهم. فعلى سبيل المثال، في إطار مبادرةٍ قدَّمتْها كيران بيدي في سجن «تيهار» المشدَّد الحراسة في دلهي، يتلقَّى السجناء دروسًا في تأمل اليقظة الذهنية. وأنا متفائل بأنه مع الوقت، سيثبت هذا البرنامج فعاليته في مساعدة حتى السجناء الأكثر بؤسًا على تطوير إحساس بالغاية في الحياة من خلال الاهتمام بالآخرين. إنني أشعر بالتواضع دائمًا عندما ألتقي بالأشخاص الذين يديرون مثل هذه البرامج وبالسجناء الذين شعروا بتأثيرها الإيجابي.
وتلخيصًا لما سبق، دعوني أقول ببساطة: تذكَّر أنه حتى المجرم إنسانٌ مثلك وقادر على التغيُّر. عاقِب المخطئ بما يتناسب مع الجُرم الذي ارتكبه، لكن لا تنغمس في الرغبة في الانتقام. فكِّر بدلًا من ذلك في المستقبل، وفي طرقٍ لضمان عدم تكرار الجريمة.
(٥) العقاب الإيثاري
منذ وقتٍ ليس ببعيد، حضرتُ مؤتمرًا أُقيم في زيورخ بشأن موضوع الرأفة والإيثار في النظم الاقتصادية. في هذا المؤتمر، قدَّم خبيرٌ اقتصاديٌّ نمساوي يُدعَى إرنست فير مفهومًا مثيرًا للاهتمام أطلق عليه اسم «العقاب الإيثاري».
شرح الخبير مفهومه من خلال إحدى ألعاب الثقة. تُجرى هذه اللعبة على جولات ويشارك فيها عشرة لاعبين. يُعطى اللاعبون مبالغَ متساوية من المال ويُطلَب منهم المساهمة ببعضها في صندوق تمويلٍ جماعي. يشرح القائم بالتجربة أنَّ المبلغ الإجمالي الذي يسهم به اللاعبون في هذا الصندوق في كل جولة سيُضاعَف ثم يُعاد توزيعه عليهم بالتساوي. في الجولات الأولى، كان معظم اللاعبين كرماء إلى حدٍّ كبير وقدَّموا للصندوق المركزي مساهماتٍ ضخمة؛ اعتقادًا منهم بأنَّ الآخرين سيفعلون الشيء نفسه. وهذا في رأيي يعكس جانب التفاؤل البديهي في الطبيعة البشرية. ومع ذلك، فمن الحتمي أن يوجد بعض الأفراد الذين يمتنعون ولا يسهمون بشيء. فمن ناحيةٍ ماليةٍ أساسية، يرون أنَّ أكثر ما يجلب لهم الربح هو الاحتفاظ بنصيبهم مما مُنح لهم، دون إنفاق أيٍّ من أموالهم. يُعرَف مثل هؤلاء الأشخاص في لغة الاقتصاد باسم «المنتفع المجاني». ونتيجة لسلوكهم، يبدأ اللاعبون الآخرون في الشعور بأنهم يتعرضون للاستغلال، ويبدءون في تقليل مساهمتهم في الصندوق المركزي شيئًا فشيئًا حتى ينهار النظام بأكمله في نهاية المطاف، وعادةً ما يكون ذلك في الجولة العاشرة. في هذه المرحلة، لا أحدَ يرغب في المساهمة، على الرغم من أن عرض القائم بالتجربة المتمثل في مضاعفة أي أموال تجري المساهمة بها، لا يزال قائمًا.
في هذه المرحلة، يتعرف اللاعبون على مفهوم العقاب الإيثاري، وهو آلية تمكِّنهم من معاقبة المنتفعين المجانيين. فمن خلال المساهمة ببعضٍ من أموالهم في صندوق عقاب غير قابل للاسترداد، يستطيعون إجبار المنتفعين المجانيين على دفع ضِعف ذلك المبلغ. ومن ثمَّ، فعلى سبيل المثال، عن طريق إنفاق ثلاثة دولارات في العقاب، يمكن للاعب أن يجعل أحد المنتفعين المجانيين يدفع ستة دولارات. وقد اتضح بالفعل أنه فور إدخال هذا النظام في اللعبة، يمكن أن يستمر التعاون بين اللاعبين إلى أجلٍ غير مُسمًّى تقريبًا. ذلك أنَّ مثل هذا الإجراء يُثني المنتفعين المجانيين المحتملين عن استغلال الآخرين، ونتيجةً لذلك يستمر اللاعبون في المساهمة في الصندوق المركزي ويستفيد الجميع.
بالرغم من أن هذه التجربة قد صُمِّمت في الأساس لاختبار نظرية في الاقتصاد، فأنا أرى أنها تتضمن أيضًا رسالةً يمكن تطبيقها على نحوٍ شامل. فهي توضح لنا إمكانية فرض العقاب بطريقةٍ تعود بالنفع على الجميع، بما في ذلك المعتدون أنفسهم. وهي توضح أيضًا فكرة أن العقاب الذي لا يستوجب الانتقام، بل يُصلِح المعتدي، يكون في صالح الجميع.
(٦) العفو
يُعد العفو جزءًا جوهريًّا من سلوك الرأفة، لكنه فضيلة يَسهُل إساءة فهمها. ففي البداية ينبغي أن نوضح أنَّ العفو لا يعني النسيان. ففي نهاية المطاف، إذا نسي المرء خطأً قد ارتُكِب، فلن يتبقى شيء ليعفو عنه! ما أقترحه بدلًا من ذلك هو أن نجد للتعامل مع الاعتداء طريقةً تمنحنا راحة البال وفي الوقت نفسه تجنِّبنا الخضوع لدوافعَ هدامةٍ كالرغبة في الانتقام. وسوف أستفيض لاحقًا في الحديث عن الطرق التي يمكن أن تتيح لنا القيام بذلك، لكن جزءًا مما هو مطلوب يتمثل في قبول أنَّ ما حدث قد ولَّى. سواءٌ أكان الأمر على مستوى الفرد أم على مستوى المجتمع ككل، فمن المهم الاعتراف بأن الماضي خارج سيطرتنا. أما الطريقة التي «نستجيب» بها لأخطاء الماضي فهي ليست كذلك.
مثلما ذكرتُ من قبلُ، من الضروري جدًّا أن نراعي التمييز بين الفِعل والفِاعل. قد يكون هذا صعبًا في بعض الأحيان. فعندما نكون نحن أنفسنا أو بعض المقربين منا للغاية ضحايا لجرائم فظيعة، يمكن أن يكون من الصعب إقصاء الشعور بالكراهية تجاه مرتكبي تلك الجرائم. بالرغم من ذلك، إذا توقفنا برهةً لتدبُّر الأمر، فسندرك أن التمييز بين الفِعل المروع ومرتكبه هو شيءٌ نقوم به كل يوم بالفعل عندما يتعلق الأمر بأفعالنا وتجاوزاتنا. ففي لحظات الغضب أو الانزعاج، يمكن أن نكون وقحين مع أحبَّائنا أو عدوانيين تجاه الآخرين. ربما نشعر لاحقًا ببعض الندم أو الأسف، لكن حين نراجع انفعالنا، فإننا لا نعجز عن التمييز بين ما فعلناه وبين ما نحن عليه. إننا نعفو عن أنفسنا بطبيعة الحال، وربما نعزم على عدم القيام بالخطأ نفسه مرةً أخرى. ونظرًا للسهولة الشديدة التي نجدها عندما يتعلق الأمر بمسامحة أنفسنا، فلا شك بأننا نستطيع بالتأكيد تقديم المعروف نفسه للآخرين! ليس جميعنا بالطبع قادرًا على مسامحة نفسه، وقد يمثل هذا عقبة. فقد يكون من المهم لمثل هؤلاء الأشخاص أن يمارسوا الرأفة والعفو تجاه أنفسهم كأساس لممارسة الرأفة والعفو تجاه الآخرين.
ثمَّة حقيقةٌ أخرى يجب وضعها في الاعتبار، وهي أنَّ العفو عن الآخرين يترك في النفس أثرًا محرِّرًا للغاية. عندما تنهمك في الأذى الذي ألحقه بك أحدُ الأشخاص، فسوف تنزع لا محالة إلى الشعور بالغضب والاستياء حين تطرأ الفكرة على ذهنك. غير أنَّ التشبث بالذكريات المؤلمة وإضمار النوايا السيئة لن يفيد بأي شيء في تصحيح الخطأ المرتكَب ولن يكون له أيُّ أثرٍ إيجابي عليك. ستتلاشى راحة بالك، وسيضطرب نومك، بل يمكن حتى لصحتك الجسدية أن تتأذى في نهاية المطاف. من ناحيةٍ أخرى، إذا تمكَّنت من التغلب على مشاعر العداء تجاه المعتدين وأن تعفو عنهم، فسيعود ذلك عليك بفائدةٍ فورية وملموسة. من خلال ترْك أفعال الماضي في الماضي واستعادة اهتمامك برفاهية هؤلاء الذين أخطئوا في حقك، تكتسب شعورًا رائعًا بالثقة الداخلية والحرية، وهو ما يمكِّنك من المضيِّ قُدمًا؛ إذ تبدأ أفكارك السلبية وعواطفك في التلاشي.
بالنسبة إليَّ، أرى أن قوة العفو تتجلَّى على نحوٍ لافت للنظر في مثالِ رجلٍ أعتبره بطلًا شخصيًّا لي، وهو ريتشارد مور. عام ١٩٧٢، عندما كان عمره لا يتجاوز العاشرة، أُصيب ريتشارد بالعمى الكلِّي بسبب رصاصةٍ مطاطية أطلقها جنديٌّ بريطاني في أيرلندا الشمالية. كان من الممكن لهذه المأساة أن تحوِّل الصبي إلى رجلٍ غاضِب وناقِم. لكن ريتشارد لم يحمل أيَّ نيةٍ سيئة قط، وكرَّس حياته لقضيةٍ إيجابية وهي مساعدة الأطفال المعرَّضين للأذى حول العالَم وحمايتهم. والواقع أنه حَرَص أشدَّ الحرص على إيجاد الرجل الذي تسبَّب له في العمى وإخباره بأنه قد عفا عنه. وقد أصبح الرجلان الآن صديقَين. فيا له من مثالٍ رائع على قوة الرأفة والعفو!
على الرغم من أننا — نحن التبتيين — قد عانينا الكثير، فلا يزال شعبنا يحاول عدم الاستسلام لأي نزعة نحو العداء والانتقام. فنحن نحاول الحفاظ على تحلِّينا بالرأفة حتى تجاه الجنود الشيوعيين الصينيين المسئولين عن ارتكاب الفظائع ضد التبتيين. ويسفر ذلك في بعض الأحيان عن نتائجَ غير متوقعة. فمؤخرًا على سبيل المثال، قابلتُ ابن ضابط سلاح الفرسان الصيني، الذي تورَّط عندما كان عضوًا في جيش التحرير الشعبي في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، في اضطهاد التبتيين. أرسلَ إليَّ الأب الذي صار عجوزًا الآن، رسالةً عن طريق ابنه يبدي فيها أسفه واعتذاراته الصادقة عن أفعاله. كان سماع هذه الرسالة أمرًا مؤثرًا للغاية. ومع ذلك، أعتقد أنه لو كانت هناك كراهية من جانبي، لما كان لهذه الحادثة إلا أن تزيدَ منها. من خلال عدم التشبث بتجارب الظلم الماضية، ومن خلال المحاولة الواعية لتنمية الرأفة تجاه إخواننا وأخواتنا من الصينيين، نتفادى — نحن التبتيين — أن نعلق في الماضي، ونتمكَّن من الحفاظ على إحساسنا بالحرية. لكن هذا لا يعني أننا لا نتخذ موقفًا حازمًا ضد الظلم الذي نواجهه.
ولهذا، فردًّا على مَن يصرون على أن العدالة هي ما ينبغي أن يكون الجوهر لأي نظام أخلاقي وليست الرأفة، أقول إنه لا يوجد في الواقع أي تضارب بين مبدأ العدالة وبين ممارسة الرأفة والعفو. حقيقة الأمر أنني أرى أن مفهوم العدالة نفسه يستند إلى الرأفة.
(٧) نطاق الأخلاق
في الختام، يجدر بنا أن نستكشف نطاق الأخلاق بإيجاز. إذا فُهِمَت الأخلاق على أنها آلية للحفاظ على النظام الاجتماعي ليس إلا، فلن تغطي سوى جوانب السلوك الإنساني الخارجي التي يكون لها تأثيرٌ مباشر على الآخرين ويمكن ملاحظته. وإذا كانت غير مَعنية إلا بتأثير أفعالنا على الآخرين فقط، أي ﺑ «عواقب» أفعالنا فحسب فعليًّا، فإن أي مشاعر ونيَّات قد نحملها في قلوبنا، ستكون غير ذات صلة أو محايدةً، فيما يتعلق بالأخلاق. لكني لا أستطيع القبول بهذا. فهذا الفهم للأخلاق ضيقٌ ومحدودٌ للغاية.
إنَّ فكرة الأخلاق في حد ذاتها تصبح غير منطقية تمامًا، بدون تضمين الدافع. إذا اصطدم رأسنا بشجرة، فهل نلوم الشجرة؟ بالطبع لن نفعل ذلك! إنَّ فكرة المسئولية الأخلاقية تستلزم وجود دافعٍ داخلي. ومن ثمَّ، فإنَّ وصف الأخلاق دون الرجوع إلى مستوى الدافع يبدو غير مكتمل على الإطلاق من وجهة نظري.
حقيقة الأمر أنَّ بُعد التحفيز الداخلي هو أهم جانب من جوانب الأخلاق. ذلك أنه حين يكون دافعنا نقيًّا؛ أي موجَّهًا بصدق إلى منفعة الآخرين، فإن أفعالنا ستميل بطبيعة الحال إلى أن تكون سليمةً أخلاقيًّا. ولهذا السبب أرى أنَّ الرأفة هي المبدأ الأساسي الذي يمكن أن يُبنى عليه نهجٌ أخلاقيٌّ كامل. فانطلاقًا من الاهتمام القائم على الرأفة بصالح الآخرين، تنشأ جميع قيمنا ومبادئنا الأخلاقية، بما في ذلك العدالة.