أهمية الفطنة
لم أزل أؤكِّد حتى الآن أهميةَ الرأفة: دافع الاهتمام الحقيقي بصالح الآخرين، باعتبارها أساس الأخلاق والرفاهية الروحية وحتى أساس فهْم العدالة. ومن خلال الاعتراف بإنسانيتنا المشتركة وطبيعتنا البيولوجية ككائناتٍ تعتمد سعادتها على الآخرين، نتعلم أن نفتح قلوبنا، وبذلك نكتسب إحساسًا بالغاية والاتصال بمَن حولنا. وقد أشرتُ أيضًا إلى أن الرأفة الشاملة وغير المنحازة هي الأرضية التي تنبثق منها جميع القيم الداخلية الإيجابية، مثل الصبر والطيبة والعفو والانضباط الذاتي والقناعة وما إلى ذلك.
بالرغم من هذا، ففي حين أن دافع الرأفة السليم هو أساس الأخلاق والروحانية، فثمة عاملٌ جوهريٌّ آخر إذا أردنا تحقيق نظامٍ متوازن وعالمي بالفعل للأخلاق. فمع أن النية هي العامل الأول والأكثر أهمية لضمان أن سلوكنا أخلاقي، فنحن نحتاج أيضًا إلى «الفطنة» للتأكد من واقعية خياراتنا وأنَّ نياتنا الحسنة لن تذهب سدًى.
على سبيل المثال، إذا أدخل السياسيون بلادهم في حربٍ دون اعتبارٍ كامل للعواقب المحتملة، فحتى إذا كان دافعهم في ذلك يستند بصدق إلى الرأفة، فسوف تكون النتيجة كارثية على الأرجح. المطلوب إذن، إضافةً إلى حُسن النية، هو استخدام قدرتنا النقدية المتمثلة في الفطنة. ذلك أنَّ ممارسة هذه المَلَكة، التي تمكننا من فهْم المواقف بطريقة تتوافق مع الواقع، تسمح لنا بترجمة نياتنا الحسنة إلى نتائجَ جيدة.
تؤدي الفطنة أيضًا دورًا حاسمًا في تكوين المستوى الشخصي للوعي الأخلاقي. فاستخدام ذكائنا هو الطريقة التي نصل بها إلى الفهم، والفهم هو أساسُ الوعي. إذن فالوعي الأخلاقي؛ أي الوعي بما سيفيد المرء نفسه والآخرين، لا ينشأ فجأة بطريقةٍ سحرية، بل يأتي من استخدام المنطق. ومن هذا الجانب، فإنَّ تعليم الوعي الأخلاقي لا يختلف عن أي نوعٍ آخر من التعليم.
(١) إرساء القيم الداخلية
جميع أفعالنا لها عواقبها، التي يكون لها حتمًا تأثيرٌ على كلٍّ من أنفسنا والآخرين. ولأننا نحتاج في حياتنا اليومية على الدوام إلى اتخاذ قراراتٍ صغيرة تتسم بهذا البُعد الأخلاقي، فمن المفيد للغاية أن تكون لدينا قواعدُ أخلاقيةٌ أساسية، أو مبادئُ توجيهية يمكن الرجوع إليها. فحتى اختيار المنتجات التي نشتريها أو نوعية الطعام الذي نأكله يستلزم قدرًا من الفطنة الأخلاقية. وفي معظم الأحيان لا تُتاح لنا الفرصة ونحن نتخذ هذه الخيارات، للتفكير في جميع الاختيارات المتاحة والنظر في جميع النتائج المحتملة على أساس كل حالة على حدة. الحقُّ أننا إذا كنا سنفكِّر بعمق في كل خيار أخلاقي نواجهه، فلا أعتقد أنه سيتبقى لدينا الكثير من الوقت لفعل شيءٍ آخر. ولهذا؛ فسيكون من المفيد أن تكون لدينا قواعدُ داخلية عامةٌ لتوجيه أفعالنا كي تساعدنا في تلك المناسبات التي لا يتسع الوقت لدينا لتفنيد الأمور بالتفصيل.
الأديان الرئيسية في العالم جميعها غنية بمثل هذه المبادئ التوجيهية، وعندما تُغرَس هذه القواعد في سنٍّ مبكرة، فإنها تصبح جزءًا من نظام القيم الداخلية للشخص. على سبيل المثال، في المجتمع التبتي التقليدي، كان المبدأ البوذي المتمثل في تفادي إلحاق الضرر بالحيوانات قيمةً اكتسبها الناس من البيئة الثقافية. فقد تعلَّم الأطفال منذ الصغر أن يتجنَّبوا القتل حتى قتل الحشرات؛ ومن ثمَّ أصبح هذا التجنُّب داخليًّا وتلقائيًّا. وإذا داسوا بالخطأ على حشرة، يقولون: «أخا، نينجي» (آه، يا له من أمر مثير للشفقة!). لقد عرفت التبت في الماضي تشريعاتٍ تحظر بالفعل الصيد البري وصيد الأسماك، إلا في بعض المناطق القليلة حيث تعتمد معيشة السكان على هذه الأنشطة. كان هناك أيضًا المزيد من القوانين الخاصة بحماية الحياة البرية، مثل اللوائح المتعلقة بالطيور المهاجرة التي تعشش حول ماناساروفار وغيرها من البحيرات. وكان الحرَّاس الموظفون يضمنون عدم المساس ببيضها. إنَّ هذه اللوائح من أمثلة الإجراءات التي تساعد بها الثقافة السائدة في تشكيل الأولويات الأخلاقية للأشخاص.
على العكس من ذلك، ففي سياقٍ علمانيٍّ بحت، على الرغم من أن الناس لا يزالون بالطبع يتمتعون بقيمٍ متأصلة، فإنَّ ماهية هذه القيم لا يمكن أن تُعَدُّ من المُسلَّمات على الدوام. بعض الأفعال كالقتل والسرقة والكذب وتشويه السمعة والاستغلال الجنسي، التي هي بأكملها من أشكال العنف، وضارة بطبيعتها بالآخرين؛ لذلك يشعر معظم الناس غريزيًّا بقيمةِ تجنُّبها. غير أننا بحاجة إلى التوسع أكثر من هذا في عالمٍ مُعَولم لا تُقبَل فيه التعاليم الأخلاقية الدينية على نطاقٍ شامل. إننا بحاجة إلى استخدام فطنتنا لفهم فوائد أنواعٍ معينة من السلوك والعواقب السلبية للأنواع الأخرى. بهذه الطريقة، يمكننا تطوير نظامٍ داخلي للقيم كي يرشدنا في استجاباتنا في حياتنا اليومية.
إذن، فالمطلوب منا أن نتفكَّر في سلوكنا، باستخدام فطنتنا في تقييم أيٌّ من أفعالنا هو الأكثر ضررًا بأنفسنا وبالآخرين وأيها الأكثر فائدةً. ومن خلال ذلك، يمكننا أن نتعلم تدريجيًّا كيفية تحديد جوانب سلوكنا التي ينبغي كبحها وتلك التي ينبغي تنميتها.
فعلى سبيل المثال، باستخدام فطنتنا للنظر في عواقب العنف، يمكننا أن نتوصَّل بالتدريج إلى فهمٍ واضح واقتناع بضرره وعدم جدواه. ينطبق الأمر نفسه عند استخدام فطنتنا للتأمل في عواقب الصبر أو الكرم؛ إذ يمكننا أن ندرك آثارها الإيجابية، ويمكننا تعزيز هذا الفهم بحيث يصبح جزءًا متأصلًا بعمق في وعينا. عندما يحدث هذا، سنجد أن سلوكنا أصبح يميل عفويًّا إلى رفاهية الآخرين. وهذا النوع من التدريب الذهني هو موضوعٌ سأعود إليه في الجزء الثاني من الكتاب.
(٢) التعامل مع المعضلات
بالرغم من أن القيم الداخلية ضرورية للغاية بصفتها أدواتٍ عمليةً للحياة على نحوٍ أخلاقي، فثمَّة ظروفٌ استثنائية مع الأسف، لا تكفي فيها مثل هذه المبادئ العامة. فقد تظهر مواقفُ معينة تضطرنا إلى الاختيار بين المبادئ التي نعتزُّ بها. وفي مثل هذه الحالات، يصبح استخدام الفطنة، لصالح دوافعنا الرحيمة، أمرًا مصيريًّا. ذلك أننا لن نستطيع التوصُّل إلى نتيجةٍ متوازنة بشأن المسار الأكثر نفعًا إلا من خلال تقييم العواقب المحتمَلة، والموازنة بين إيجابيات المسارات المختلفة وسلبيات كلٍّ منها.
في حالتي شخصيًّا، حين يستلزم الأمرُ اتخاذ قرارٍ صعب، أبدأ دائمًا بمراجعة حافزي. هل أضع بالفعل رفاهيةَ الآخرين في المقدمة؟ هل أخضع لتأثير أيِّ مشاعر مشتتة كالغضب، أو نفاد الصبر، أو العداء؟ وإذا استقرَّ لي أن دافعي سليم، فإنني أتأمل الموقف بعناية في سياقه. ما الأسباب والظروف الأساسية التي أدَّت إلى ذلك؟ ما الخيارات المتاحة لديَّ؟ ما نتائجها المحتملة؟ وما المسار الذي سيحقق على الأرجح أكبر فائدة على المدى الطويل للآخرين، مع مراعاة جميع العوامل؟ وأنا أجد أن اتخاذ القرارات بهذه الطريقة يعني أنها لن تكون سببًا في أي ندم فيما بعدُ.
ولذا، فبينما أشجِّع القارئ على تشكيل نظام قيم شخصي، سيكون من غير الواقعي افتراض أن المسائل الأخلاقية يمكن أن تتحدَّد بناءً على القواعد والمبادئ فحسب. فالمسائل الأخلاقية لا تكون في الغالب بيضاء أو سوداء. بعد التحقُّق للتأكد من أن دافعنا هو الاهتمام بصالح الإنسانية، يجب أن نزن إيجابيات المسارات المختلفة المتاحة لنا وسلبياتها، ثم نسمح لأنفسنا بالاسترشاد بإحساسٍ طبيعي بالمسئولية. وهذا، في الأساس، هو معنى التحلِّي بالحكمة.
(٣) تبنِّي نظرةٍ شمولية
تعدُّ الفطنة أمرًا جوهريًّا إذا أردنا تكوين فهمٍ واقعي عن العالم الذي نعيش فيه. وفي هذه المرحلة، يكون المبدأ الأساسي الذي نحتاج إلى استيعابه هو «الاعتماد المتبادل». يمكن معالجة هذا المبدأ العام والعميق في الوقت ذاته على مستوياتٍ مختلفة وفي سياقاتٍ مختلفة. فهو جديرٌ بالدراسة المتأملة. لقد ناقشنا بالفعل الاعتماد المتبادل بين رفاهيتنا ورفاهية الآخرين، إضافةً إلى ذلك، فإن الاعتماد المتبادل هو إحدى سمات العالَم التي تظهر في العديد من المجالات. يظهر الاعتماد المتبادل، على سبيل المثال، في المجال المالي العالمي أو الاقتصاد العالمي، والاعتماد المتبادل للبشرية نفسها في عصر العولمة، والاعتماد المتبادل في العالم الطبيعي، الذي يناقشه علماء الأحياء تحت مسمَّيات «السلاسل الغذائية» و«التكافل» بين الكائنات الحية. يوجد الاعتماد المتبادل أيضًا في مجال فيزياء الكَمِّ المثير للاهتمام، بمفاهيمه عن «النسبية العامة» و«التشابك الكَمِّي»، وحتى في النظريات التي تناقش أصل الكون. إنَّ الاعتراف بأنَّ الكثير من جوانب عالمنا يتميز بالاعتماد المتبادل، يساعدنا في تكوين فهْمٍ أكثرَ واقعية للعالم؛ فهم أكثر تماشيًا مع ماهية الأمور وحقيقتها في الواقع.
إنَّ كل موقف نواجهه في الحياة ينشأ من التقاء عددٍ كبير من العوامل المساهِمة؛ ولذا فلا بد من اتخاذ منظورٍ واسع إذا أردنا لاستجاباتنا أن تكون واقعية. لا يكفي أن ننظر إلى أي موقف أو مشكلةٍ معينة من منظورٍ واحد فقط. وإنما نحتاج إلى النظر من هذا الاتجاه وذاك، ومن جميع الجوانب. مثلما أقول في كثير من الأحيان، يجب أن ننظر من الأمام والخلف فنحصل بذلك على بُعدَين للنظر، ومن الجانب الأيمن والجانب الأيسر فنحصل على أربعة أبعاد، ومن الأعلى والأسفل فنحصل على ستة أبعاد. عندما نفعل هذا؛ أي عندما نتبنى هذا النوع الأوسع أو الأكثر شمولية من وجهات النظر، ستكون استجاباتنا بالتأكيد أكثرَ تناغمًا مع الواقع. وبهذا، نصبح أوفر حظًّا في تحقيق أهدافنا.
عندما تنشأ المشكلات، غالبًا ما ينظر الناس إليها من منظورٍ شديد الضيق مع الأسف. على سبيل المثال، تخيَّل أنك تُشغِّل سيارتك لكنها لا تعمل. وإذا ظللتَ تدير المفتاح مرارًا وتكرارًا، فسوف يصيبك الإحباط وتُستنزَف البطارية، وسيكون ذلك من الحماقة. والخيار الأكثر واقعيةً هو أن تتوقف وتفكِّر في السبب المُحتمَل لهذه المشكلة. هل يمكن أن يكون نقصَ الوقود، أو شيئًا له علاقة بالطقس الممطر؟ إنَّ مجرد التراجع وتأمُّل الموقف من منظورٍ أوسع سيمكِّننا من التعامل مع المشكلة بمزيدٍ من الهدوء. وغنيٌّ عن القول أن هذا سيمنحك أيضًا فرصةً أفضل في القدرة على التعامل مع المشكلة بكفاءة.
إضافةً إلى ذلك، عندما تحل علينا المحن، فإننا نميل إلى رؤيتها كنتيجة لسببٍ واحد ونتسرَّع في إلقاء اللوم على الآخرين. لكن هذا النوع من الاستجابة الوجدانية المفرطة هو في الواقع غير واقعي تمامًا. فأيُّ نفع نجنيه من صَبِّ جامِّ غضبنا من السائق عندما تتأخر الحافلة؟ في كثير من الأحيان، لا تؤدي تصرفات أي فرد سوى دورٍ ثانوي في الكيفية التي تتكشف بها الأحداث. ولهذا؛ فإنَّ الاستجابة للعقبات بالاتهامات وإلقاء اللائمة، سواءٌ أكانت موجَّهة إلى الآخرين أم موجَّهة إلى أنفسنا، عادةً ما تكون مضلِّلة، ولا تؤدي على الأرجح إلا لتفاقم الموقف. حقيقة الأمر أن كل حادثة نواجهها تأتي نتيجة لأسباب وظروفٍ مختلفة لا حصر لها، وكثيرٌ منها يتجاوز قدرة أي شخص على السيطرة، وربما يظل بعضُها حتى مجهولًا تمامًا.
ومن ثمَّ، فعند مواجهةِ تحدٍّ كبير كفقدان وظيفة مثلًا، قد يشلُّنا القلق، وينصبُّ كاملُ تركيزنا على الجوانب السلبية لما حدث، ونحدِّث أنفسنا قائلين: «الآن لن أكون قادرًا على دعم عائلتي» و«يا لي من مسكين! لن أحصل على وظيفة أخرى». خطرُ هذا الموقف أنَّ التركيز على ورطتنا المباشرة من منظورٍ ضيِّق للغاية، سيتركنا غير قادرين على أن نحرِّك ساكنًا حيالها. وعلى العكس من ذلك، سنجد أنَّ استخدام فطنتنا للنظر في المواقف في سياقها الأوسع ومن وجهات نظر مختلفة يساعدنا في التوصل إلى حلول.
(٤) عدم اليقين الحتمي
من المؤكَّد أننا مهما حاولنا بجِدٍّ، فستظل الفطنة البشرية دائمًا غير مكتملة. وما لم نكن مستبصرين أو كُلِّيي المعرفة، مثل بوذا أو مثل الإله، فلن نرى الصورة كاملة أبدًا، ولن نعرف جميع الأسباب التي أدت إلى أي موقف. ونحن لا نستطيع أيضًا توقُّع جميع عواقب أفعالنا. سيظل عنصر عدم اليقين حاضرًا على الدوام. من المهم أن نعترف بهذا، لكنه ينبغي ألا يقلقنا. وينبغي أيضًا ألا يجعلنا نيئس من قيمة التقييم العقلاني. وإنما ينبغي أن يُلطِّف من حدة أفعالنا بدرجةٍ مناسبة من الحذر والتواضع. ففي بعض الأحيان، يكون الاعتراف بأننا لا نعرف الإجابة مفيدًا في حد ذاته. إذا كنا لا نعرف شيئًا، فالاعتراف بذلك صراحة أفضل من التظاهر باليقين النابع من كبرياء في غير محلها أو غرور.
إنَّ عدم اليقين هو سببٌ آخر لضرورة ارتكاز الأخلاق على مستوى الدافع كما قلتُ، بدلًا من التفكير في العواقب فحسب. الحقيقة هي أن عواقب أفعالنا غالبًا ما تكون خارج نطاق سيطرتنا. لكن ما نتمتع بالسيطرة عليه هو مستوى الدافع، إضافةً إلى استخدام قدراتنا النقدية وفطنتنا. وعندما نجمع بين هذين العنصرَين، فإننا نضمن بذلك أننا نبذل قصارى جهدنا.
(٥) ثمار الفطنة
إنَّ جميع تطبيقات حُسن التمييز التي ناقشتُها فيما سبق، تمنحنا فهمًا، ويمنحنا التأمل في هذا الفهم وعيًا أعمقَ وأكثرَ استدامة. فعندما تقترن الفطنة بدافع من دوافع الرأفة، يصبح لدينا المكونان الرئيسيان لنهجٍ شاملٍ للأخلاق والرفاهية الروحية في سياقٍ علماني. وهذان المكونان: الرأفة والفطنة يعزز كلٌّ منهما الآخر. فعن طريق الحد من الخوف وانعدام الثقة تخلق الرأفة مساحةً هادئة ومستقرة في قلوبنا وعقولنا، وهذه المساحة تُسهِّل علينا كثيرًا فيما يتعلق بممارسة الفطنة أو الذكاء. وبالمثل، فإن ممارسة الفطنة يمكنها أن تعزِّز اقتناعنا بضرورة الرأفة ومزاياها. ولذا، فكلٌّ منهما يكمل الآخر على نحوٍ عميق.