الأخلاق في عالمنا المشترك
(١) تحدياتنا العالمية
في مسكني في دارامسالا، تلك المدينة الواقعة على التلال في شمال الهند، التي ظلت موطني منذ أوائل ستينيات القرن العشرين، أمارسُ عادتي اليومية في الاستيقاظ مبكرًا، عادةً في حوالي الساعة ٣:٣٠ صباحًا. وبعد بعض ساعاتٍ من التمارين الذهنية والتأمل، أستمع عادةً إلى أخبار العالم عبر الإذاعة. في أغلب الأحيان، أستمِع إلى محطة «بي بي سي وورلد سيرفيس» الإذاعية. وتلك عادةٌ يومية أمارسها منذ سنواتٍ عديدة، كوسيلة للاطلاع على الأحداث حول العالم.
وبينما أستمعُ إلى التيار المتدفق من التقارير التي تناقش النقود والأمور المالية والأزمات والصراعات والحرب، يخطر على ذهني عادةً أن المشكلات المعقَّدة التي نواجهها في العالم: مشكلات الفساد والبيئة والسياسة وما إلى ذلك، تشير في معظم الأحيان إلى غياب القيم الأخلاقية والداخلية. فعلى جميع المستويات، نرى نقصًا في الانضباط الذاتي. كما أن العديد من المشكلات تُعزى أيضًا إلى غياب الفطنة، وقِصَر النظر أو ضيق الأفق.
لا شك في أنَّ الأسباب والظروف المحيطة ببعض المشكلات تكون شديدة التعقيد. فعلى سبيل المثال، يعود تاريخ بذور العنف العِرقي، والتمرد والحرب في الغالبية العظمى من الحالات إلى عقود أو حتى قرونٍ ماضية. بالرغم من ذلك، إذا كنا مهتمين حقًّا بمعالجة مشكلاتنا من جذورها، سواءٌ أكنا نتحدث عن الصراع الإنساني أو الفقر أو تدمير البيئة، فعلينا أن ندرك أنها ترتبط في نهاية المطاف بقضايا أخلاقية. إنَّ مشكلاتنا المشتركة لا تسقط من السماء، ولم تخلقها أيضًا قوةٌ أعلى. وإنما هي في الغالب نتاج الفِعل البشري والخطأ البشري. وإذا تمكَّن الفِعل البشري من خلق هذه المشكلات في المقام الأول، فلا شك بأننا نتمتع — نحن البشرَ — بالقدرة على إيجاد حلولها وبالمسئولية تجاه ذلك أيضًا. الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها تصحيح هذه الأوضاع هي تغيير نظرتنا إليها وطرقنا في حَلِّها، إضافةً إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة.
(٢) المسئولية العالمية
في بعض الأحيان، ألاحظ أن الناس يميزون تمييزًا مريحًا لهم بين الأخلاق على المستوى الشخصي وبين الأخلاق على المستوى الاجتماعي الأوسع. بالنسبة إليَّ، أرى أنَّ مثل هذه المواقف مَعيبة في الأساس؛ لأنها تغفِل الاعتماد المتبادل في عالمنا.
فتلك الأخلاق الفردية، أو بالأحرى غيابها، يمكن أن تترك تأثيرًا على حياة الكثيرين، وقد اتضح ذلك بقوة في الأزمة المالية العالمية التي بدأت عام ٢٠٠٨، والتي لا يزال أثر تداعياتها حاضرًا في جميع أنحاء العالم. لقد كشفتْ هذه الأزمة كيف أنَّ الجشع الجامح من جانب بضعة من البشر يمكن أن يؤثِّر بالسلب على حياة الملايين. ولهذا؛ فمثلما بدأنا في أخذ مخاطر التطرف وعدم التسامح الديني بجدية في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ينبغي أيضًا أن نأخذ مخاطر الجشع وعدم الأمانة بجدية في أعقاب الأزمة المالية. فعندما يكون الجشع مقبولًا، بل جديرًا بالثناء، لا شك في أنَّ نظام قيمنا الجماعي مَعيب.
في عصر العولمة هذا، حان الوقت لأن نعترف بأن حياتنا مترابطة بعمق، وأن ندرك أن لسلوكنا بُعدًا عالميًّا. وحينها سنرى أن أفضل ما يخدم مصالحنا الخاصة هو ما يخدم مصلحة المجتمع البشري الأوسع. على النقيض من ذلك، إذا اكتفينا بالتركيز على تنميتنا الداخلية وأهملنا المشكلات الأوسع للعالم، أو إذا لم نكترث بمحاولة حلها بعد أن أدركناها، فسنكون إذن قد تجاهلنا شيئًا أساسيًّا. إنَّ اللامبالاة، في رأيي، هي في حد ذاتها شكلٌ من أشكال الأنانية. ولكي يكون نهجنا للأخلاق ذا مغزًى بحق، علينا بالطبع أن نهتم بالعالم. هذا ما أعنيه بمبدأ المسئولية العالمية، وهو جزءٌ أساسي من النهج الذي أقترحُه لأخلاق علمانية.
(٣) تحدي التقدُّم التكنولوجي
مع التطورات العلمية والتكنولوجية الهائلة، في المجالات العسكرية والطبية والزراعية خلال القرنَين الماضيين، أصبح لدى البشر الآن درجةٌ غير مسبوقة من المعرفة بالعالم والسيطرة عليه. لم يحدث في أي وقتٍ مضى أن عرفنا هذا القدر الكبير أو تمتعنا بمثل هذه القدرة على التحكم في العديد من جوانب كوكبنا. والحق أنَّ هذا الوضع يثير مخاوفَ خطيرة للغاية: هل تتزايد مسئولياتنا الآن بسرعةٍ كبيرة مقارنةً بالوتيرة التي يمكن لقدرتنا الطبيعية على الفطنة الأخلاقية مواكبتها؟ هل يمكننا أن نثق في أنفسنا مع القوة التي جلبها لنا كلٌّ من العلم والتكنولوجيا؟ فبينما لم تتغيَّر عقولنا تغيرًا ملحوظًا في خمسة الآلاف عام الماضية، تغيَّر العالم من حولنا بدرجةٍ استثنائية.
بالرغم من التحديات العالمية التي نواجهها اليوم، لم أزل متفائلًا في العموم. فقد ارتقينا — نحن البشرَ — إلى مستوى التحديات التي واجهناها في الكثير من المرات. لقد نجحنا في اجتياز العديد من التحولات في مسار تطورنا من مجتمعات الصيد وجمع الثمار إلى المجتمعات الحضرية العالية التقنية. هذا في حد ذاته دليلٌ قوي على مرونتنا وسِعَة حيلتنا كمخلوقاتٍ اجتماعية وأخلاقية. حقيقة الأمر أنَّ الجنس البشري لم ينجُ بالرغم من كل الحروب والكوارث والأمراض التي واجهها فحسب، وإنما ازدهر أيضًا. لقد ابتعدنا كلَّ البُعد عن تدمير أنفسنا، وخلقْنا في الواقع مشكلةً معاكسة، وهي ارتفاعُ عدد السكان بمعدلٍ غير مسبوق وينذر بالخطر.
إنَّ نجاحنا كنوع أصبح ممكنًا بفضل قدرتنا على التعاون، ولا سيَّما عندما تكون مصالحنا الحيوية في خطر. وفي صميم التعاون، يكمن مبدأ مراعاة منفعة الآخرين وصالحهم. لذلك، فأنا على ثقة من أننا، نحن البشرَ، سنتمكَّن مرةً أخرى من خلال التعاون من التغلب على تحدياتنا البيئية والتكنولوجية الحالية. وبالرغم من ذلك، فلا مجال أمامنا لعدم الاكتراث.
(٤) عبثية الحروب
شهدَ القرن العشرون أحد أشد الصراعات الإنسانية على نطاقٍ غير مسبوق من قبلُ. تشير التقديرات إلى أنَّ أكثر من مائتَي مليون شخص قُتلوا في الحروب، والثورات، والإبادات الجماعية. من المحرقة النازية إلى القتل الجماعي على يد طغاةٍ مثل ستالين وماو (في الجزء الأخير من حياته المهنية)، ومن حقول قتل الخمير الحمر إلى محاولات التطهير العِرقي في البلقان، والإبادة الجماعية في رواندا، فإن تلك المعاناة التي كبَّدتها الإنسانية لنفسها شديدة الوطأة حقًّا. لقد اعترضت الحرب مسار التاريخ البشري دائمًا بالطبع. فما دام البشر موجودين، أعتقد أن الصراع سيظل موجودًا أيضًا، لكن حجم الدمار في المائة عام الماضية لم يكن مسبوقًا.
حتى في أوقات السِّلم، تطوَّرت تقنيات الدمار البشرية، وتحسَّنت، وجرى تداولها دون توقف. اليوم لا يوجد مكان على وجه الأرض لا تهدِّده ترساناتُ الدمار هذه. عند معالجة مشكلة العنف في العالم والتفكير في الكيفية التي يمكننا بها خلق عالمٍ أكثر أمانًا للأجيال القادمة، يجب أن نفعل أكثر من مجرد مناشدة السياسيين وخصومهم لممارسة ضبط النفس. تنبع التهديدات التي نعيشها أيضًا من صناعة الأسلحة نفسها، ومن تجارة الأسلحة، وبالطبع من ثقافة العنف التي غالبًا ما تعمل وسائل الإعلام على إدامتها؛ مما يشجِّع على الوهم القائل بأن العنف نهجٌ عملي لحل النزاع الإنساني. ما نحتاج إليه حقًّا هو تحولٌ جذري في الوعي الإنساني. ذلك أنه في جميع الظروف عدا الحالات الأكثر استثنائية، لا يوَلِّد العنف إلا مزيدًا من العنف. ومن ثمَّ؛ فإنَّ الافتراضُ القائل بإمكانية تحقيق السلام من خلال العنف مضلِّل تمامًا.
في العالَم المعاصر الذي يتسم بالاعتماد المتبادل على نحوٍ عميق، باتت الحرب فكرة غير منطقية وعفَاها الزمن. ففي الماضي البعيد، عندما كانت مصالح مجموعةٍ ما مستقلة تمامًا عن مصالح مجموعة أخرى، ربما كان اللجوء إلى العنف كحلٍّ أخير مبرَّرًا بعض الشيء. لكن هذا لم يَعُد ينطبق اليوم. فجميع المناطق وجميع الشعوب مرتبطة بيئيًّا، واقتصاديًّا، وسياسيًّا. ومن الحتمي أن تؤثِّر الحروب أو الاضطهاد أو النزاع الأهلي في إحدى المناطق على البشر في أجزاءٍ أخرى من العالم. وتُعَد مشكلة الإرهاب خيرَ مثال على ذلك. عندما يكون للناس دافعٌ قوي يشجِّعهم على الدمار، فما من نظامٍ شُرطي أو أَمني سيكون كافيًا لمنعهم على الإطلاق.
من العوامل الأخرى التي تجعل العنف وسيلةً غير واقعية لحل النزاع، عدمُ القدرة على التنبؤ بنتائجه. والحرب الأخيرة في العراق مثالٌ جيد على هذا. فبالرغم من أن النية كانت في البداية شنَّ حملةٍ محدودة، فقد نتجَ عنها نزاعٌ طويل الأمد لم يُحل حتى الآن، ودمَّر حياة الملايين من الأبرياء.
في السنوات المتبقية من القرن الحادي والعشرين، يجب أن نحرص على عدم تكرار أخطاء الماضي. والطريق الوحيد للحد من مستوى العنف في عالمنا هو أن يتخذ المزيدُ والمزيد من الناس في جميع أنحاء العالم موقفًا واعيًا من نزع السلاح. إنَّ نزع السلاح هو ممارسةٌ فعلية للرأفة. ما يلزمنا إذن، هو نزع السلاح الداخلي، على مستوى كراهيتنا الفردية وتحيُّزنا وتعصُبنا، ونزع السلاح الخارجي، على مستوى الشعوب والدول. بدلًا من عادة صَبِّ الملح على الجراح التي ورثناها عن الأجيال السابقة، يجب أن نبدأ في معالجة انقساماتنا من خلال إلزام أنفسنا بالحوار والتعاون والتفاهم. فمع استمرار زيادة عدد سكان العالم، وتسابق دولٍ كبيرة مثل الصين، والهند، والبرازيل في التسابق نحو توسعٍ اقتصاديٍّ سريع، سيزداد التنافس العالمي على الموارد الطبيعية حتمًا، ولن يكون هذا التنافس على الوقود الأحفوري فحسب، بل على الضروريات الأساسية كالماء والغذاء والأرض أيضًا. ومن ثمَّ، فمن الضروري أن يتشكَّل لدى أجيالنا الشابة: حُرَّاس مستقبلنا، وعيٌ قوي بعدم جدوى الحرب. يمكننا التعلم من الإنجازات العظيمة التي حققها المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينج الابن لإدراك أنَّ اللاعنف هو أفضل نهجٍ طويل الأمد لرفع الظلم. إذا كان القرن العشرون قرنًا من العنف، فلنجعل القرن الحادي والعشرين قرنًا للحوار.
(٥) البيئة
منذ عقودٍ طويلة وأنا أؤكِّد على أهمية الوعي البيئي لرفاهيتنا في المستقبل. من المشجِّع للغاية أن هذا الوعي قد بدأ يزداد في السنوات الأخيرة ولا سيَّما بين الشباب، وأن السياسيين قد صاروا الآن يأخذون هذه القضايا على محمل الجِدِّ.
في الماضي، عندما بدأ التصنيع في أوروبا وانتشر تدريجيًّا إلى أجزاءٍ أخرى من العالم، لم تكن العلاقات المتداخلة المعقَّدة للعالم الطبيعي مفهومة جيدًا. فباسم التقدُّم، صِيدَت الحيوانات إلى حَدِّ الانقراض، وقُطِعَت الغابات، ولوِّثت المجاري المائية بفِعل المصانع والمنشآت الصناعية. لكن مع تقدم العلم وزيادة فهمنا للتوازن الدقيق في العالم الطبيعي، لم يَعُد عذر الجهل متاحًا.
اليوم، يجب أن نواجه حقيقة أن أنماط حياتنا المفرطة في المادية هي أنماطٌ إسرافية وذات آثار بيئيةٍ وخيمة. من الطبيعي جدًّا للأشخاص في العالم النامي أن يطمحوا إلى مستوى الراحة نفسه الذي يتمتع به سكان العالم المتقدم. لكن مع ارتفاع عدد سكان العالم بسرعة، فمن الواضح أننا إذا لم نغيِّر أنماط الاستهلاك التي نعتبرها «متقدمة»، فسيصبح تعطُّش البشرية إلى الموارد الطبيعية أمرًا لا يمكن تحمُّله. لقد بدأنا بالفعل في رؤية النتائج؛ إذ يولِّد الاستغلال المفرط وما يقابله من تدهور للبيئة الطبيعية أزماتٍ بيئية على المستويين المحلي والعالمي. ولذا، فمن المهم للغاية للشعوب التي تسعى إلى مثل هذا النمو الاقتصادي السريع ألا تتَّبع نماذج التنمية التي تراها في البلدان الأكثر ثراءً اتباعًا أعمَّى. وإنما يجب أن تأخذ دولٌ كالصين والهند والبرازيل دورَ الريادة في إيجاد طرقٍ جديدة وأكثر استدامة للتنمية. في هذا الصدد، أرى أن نموذج الاقتصاد القائم على التمويل الصغير، الذي من شأنه أن يكون مرنًا ومراعيًا للقضايا المحلية والبيئية، يتسم بتفكيرٍ شديد التطلع نحو المستقبل.
إنَّ التحديات التي تفرضها البيئة تستلزم التعاون على المستوى العالمي. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك، تغيُّر المناخ. في التبت، الذي يسميه بعضُ مناصري حماية البيئة «القطب الثالث» بسبب الأهمية الكبيرة لأنهاره الجليدية في أنظمة الطقس في آسيا، يُلاحَظ حدوث ذوبانٍ جليدي بالفعل، وتفيد التقارير بازدياد درجة الحرارة على هضبة التبت بمعدلٍ أسرع كثيرًا من معدل ازديادها في مناطق الأراضي المنخفضة المجاورة. إنَّ العديد من أهم أنهار آسيا، مثل اليانجتسي، والنهر الأصفر، والميكونج، والسالوين، والبراهمابوترا، والسِّند، تنبع من التبت. ومع انحسار الأنهار الجليدية، ستصبح جميع المناطق الواقعة في اتجاه مجرى النهر أكثر عرضة للجفاف. سيحدث هذا إلى جانب آثار إزالة الغابات، التي نشهد خسائرها بالفعل في صورة ارتفاع مستويات الفيضانات. على المدى الطويل، يمكن لذوبان الجليد في التبت أن يسهم في إحداث تغيرٍ مناخيٍّ شديد ونقصٍ حاد في المياه وتصحر في الصين، والهند، وباكستان، وجنوب شرق آسيا. سيكون هذا كارثيًّا للعالم بأسره.
لم يَعُد من الواقعي أن تفكِّر الدول في مصلحتها الذاتية القومية الضيقة النطاق فحسب. يجب أن تعمل الدول المتقدمة، التي تتمتَّع بالعديد من المنافع، بالتعاون مع الدول النامية، التي تريد بطبيعة الحال المشاركة في تلك المنافع. بالرغم من ذلك، فلا يمكن فرض التعاون الحقيقي بالقوة؛ فهو لا ينشأ إلا من الثقة والاحترام المتبادلَين بين الأطراف المعنية، والثقة لا تأتي إلا مع الشفافية. كان فشل قمة كوبنهاجن للبيئة العالمية عام ٢٠٠٩، للأسف، مثالًا على استحالة التعاون عندما تعجز الأطراف المعنية عن النظر إلى ما هو أبعد من مصلحتها الذاتية الضيقة.
(٦) إشكالية الجشع في مقابل بهجة الإحسان
في عالم اليوم المادي، ثمَّة توجُّهٌ لأن يصبح الناس عبيدًا للمال، وكأنهم جزءٌ من آلة صنْع أموالٍ ضخمة. وهذا لا يفيد كرامة الإنسان، وحريته، ورفاهيته الحقيقية. إنَّ الثروة هي ما ينبغي أن يخدم البشرية، وليس العكس. وهذه الفوارق الهائلة في الثروة، والتي تتضح جلية في العالم اليوم، تلك الفوارق الأكثر تطرفًا من أي وقتٍ مضى والتي لا تزال تنمو، أمرٌ محزن للغاية. إنَّ عدم المساواة الاقتصادية الصارخة في عالم اليوم، ليس بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب فحسب، بل بين الأغنياء والفقراء داخل كل بلد على حدة أيضًا، ليست أمرًا خاطئًا من الناحية الأخلاقية فحسب، بل إنه مصدر للعديد من المشكلات العملية أيضًا، بما فيها الحرب والعنف الطائفي، والتوترات الاجتماعية الناتجة عن الهجرة الاقتصادية على نطاقٍ واسع. وفيما يخص مسألة عدم المساواة الاقتصادية، فإنني أعتبر نفسي نصف ماركسي على الأقل. أما فيما يتعلق بتكوين الثروة ومن ثمَّ تحسين الظروف المادية للناس، فإنَّ الرأسمالية تصبح فعالةً للغاية بلا شك، لكن من الواضح أن الرأسمالية لا تكفي، مثلها في ذلك مثل أي شكل من أشكال المثالية الاجتماعية؛ لأن ما يدفعها هو الربح فقط، دون أي مبدأ أخلاقي يوجِّهها. ويمكن أن تنطوي الرأسمالية الجامحة على استغلالٍ رهيب للضعفاء. ومن ثمَّ، فنحن نحتاج إلى تبني نَهجٍ للعدالة الاقتصادية يراعي ديناميكية الرأسمالية مع دمجها بالاهتمام بالأشخاص الأقل حظًّا. مرةً أخرى، أعتقد أن التمويل الصغير يقدم طريقةً مستدامة ومتجاوبة لمعالجة قضايا التخفيف من حدة الفقر والتنمية، وهو نهج يمكن أن يجنِّبنا إفراط الرأسمالية من ناحية، وعدم الكفاءة الناتجة عن سيطرة الدولة المفرطة من ناحية أخرى.
منذ وقتٍ مضى، جاء لرؤيتي زوجان هنديان ثريان للغاية من مومباي. جاءا طلبًا لبركاتي. أخبرتُهما، كما أُخبِر الكثيرين غيرهما، أن البركات الحقيقية الوحيدة ستأتي من نفسَيهما. واقترحتُ طريقة لإيجاد البركات في حياتهما، وهي أن يستخدما ثرواتهما لإفادة الفقراء. فبالرغم من كل شيء، لا تزال مومباي تضم العديد من الأحياء الفقيرة حيث يصعب الحصول على الضروريات الأساسية كالمياه النظيفة. ولذا، أخبرتهما أنهما بعد أن صنعا أموالهما من الرأسمالية، يجب أن ينفقاها على الطريقة الاشتراكية!
في هذا الصدد، ينبغي أن أُعبِّر عن إعجابي الشديد بفاعلي الخير أمثال بيل جيتس وميليندا جيتس وأعدادٍ متزايدة من الآخرين الذين يشاركون مواردهم مع المجتمع العالمي على نطاقٍ واسع. هذا رائع، وأنا أناشدُ الآخرين الذين حققوا درجةً عالية من النجاح المادي بأن يصبحوا جزءًا من هذا الاتجاه النبيل.
(٧) تحدياتٌ جديدة يفرضها العِلم
شهدت السنواتُ الأخيرة تطوراتٍ سريعة في مجالاتٍ كعلم الوراثة والتكنولوجيا الحيوية. وفي مجالات الاستنساخ لأغراض العلاج والتكاثر، نكتسب الآن سيطرةً غير مسبوقة على خلق الحياة نفسها والتلاعب بها. وقد قِيلَ لي إن تسلسل الجينوم البشري يُحدِث ثورةً في العلوم الطبية، ويحوِّلها من نموذج العلاج الكيميائي الحيوي إلى نموذج العلاج القائم على الجينات. إضافةً إلى ذلك، تزداد قدرة العلماء باستمرار على القيام بتنبؤاتٍ جينية تمكِّنهم من توقُّع المسار المحتمل لصحة المرء. تثير هذه التطورات العديد من الخيارات الصعبة، ليس لدى الأطباء والآباء فحسب، بل لدى أصحاب العمل والمؤسسات أيضًا. إنَّ بعض الأشخاص يستجيبون للتحديات التي تطرحها هذه التقنيات الجديدة بإداناتٍ شاملة؛ إذ يقولون، على سبيل المثال، إنَّ جميع التعديلات الجينية أمرٌ خاطئ، لكني لا أعتقد أنَّ رفض هذه القضايا يكون بهذه السهولة. فمن المهم أن نفي بمهام مجالات مسئوليتنا الجديدة بدافعٍ سليم وبصيرةٍ ناقدة. وقد ناقشتُ بعض القضايا ذات الصلة بالتطورات الجديدة في علم الوراثة الحيوية في كتاب سابق بعنوان «الكون في ذرةٍ واحدة».
إنَّ جميع التحديات الرئيسية التي نواجهها في العالم تستلزم اتباع نهجٍ قائم على الوعي الأخلاقي والقيم الداخلية. فصيانة المستقبل لا تقتصر على القوانين والأنظمة الحكومية؛ بل تتطلب المبادرة الفردية أيضًا. نحن بحاجة إلى تغيير طريقتنا في التفكير وسَدِّ الفجوة بين الإدراك والواقع. لهذا السبب، ومن أجل مواجهة هذه التحديات، فإن التعليم أمرٌ جوهري.
(٨) تعليم الأجيال القادمة
عندما بدأ التعليم الحديث، كان الدين لا يزال قوةً مؤثِّرة في المجتمع، ومن ثمَّ كان غرس فضائل من قبيل ضبط النفس، والتواضع، والخدمة؛ جزءًا من التنشئة الأسرية والمشاركة في مجتمعٍ ديني، ومن ثمَّ فقد كان من الممكن إهمالها إلى حدٍّ كبير في السياقات التعليمية. وكان نقل المعرفة الأدبية والتقنية هو ما يُعَدُّ الأولوية الرئيسية للتعليم العالمي الحديث. أما اليوم، فإن الافتراض القائل بأن الأطفال سيتلقَّون التعليم الأخلاقي تلقائيًّا لم يَعُد يبدو واقعيًّا. لم يَعُد للدين ذلك التأثير الذي كان يُحدِثه في المجتمع من قبلُ، وتآكلت القيم الأسرية القوية، التي غالبًا ما كانت ترتكز في الماضي على الإيمان الديني وتتغذَّى داخل هويات مجتمعٍ قوي، وذلك بسبب القيم المادية والضغوط الاقتصادية في معظم الأحيان. نتيجة لذلك، لم يَعُد غرس القيم الداخلية في الشباب شيئًا يمكننا اعتباره أمرًا مُسلَّمًا به. إذا كنا لا نستطيع افتراض أن الناس يتعلمون القيم الأخلاقية والروحية في المنزل أو من خلال المؤسسات الدينية، إذن يبدو من الواضح أن مسئولية المدارس في هذا المجال: التعليم الروحي والأخلاقي، قد زادت إلى حَدٍّ كبير.
بالرغم من هذا، فإنَّ الوفاء بهذه المسئولية ليس بالأمر السهل في عصر العولمة والمجتمعات المتنوعة. فعلى سبيل المثال، إذا كان الأطفال في مدرسةٍ ما ينتمون إلى دياناتٍ أو خلفياتٍ ثقافيةٍ متنوعة، فما الأساس الذي ينبغي للمدرسة أن تدير التربية الأخلاقية وفقًا له؟ ذلك أن تطبيق منظورٍ دينيٍّ واحد لن يكون كافيًا. في بعض أنحاء العالم، يُستبعَد الدين تمامًا من المناهج المدرسية. فكيف يمكن للمدارس أن تقدم لتلاميذها تعليمًا أخلاقيًّا غير متحيز وشامل؟
كلما تحدثتُ في المدارس والجامعات عن الحاجة إلى مزيد من الاهتمام بالأخلاق والقيم الداخلية، وجدتُ استجابةً إيجابية للغاية. وهذا يشير إلى أن المعلمين والطلاب أيضًا يشاركونني اهتمامي. المطلوب إذن هو وسيلة لتعزيز القيم الداخلية العالمية حقًّا، تلك القيم التي يمكن أن تستوعب وجهاتِ النظر الإنسانية الملحدة والدينية بمختلف أنواعها، على حدٍّ سواء ودون تحيُّز.
في خريف عام ٢٠٠٩ في كندا، شاركتُ في حوارٍ مثير للاهتمام عن هذا الموضوع والتقيتُ بالعديد من المعلمين المتدربين من جميع أنحاء مقاطعة كيبيك. حتى وقتٍ قريب، كان المجتمع في كيبيك تقليديًّا إلى حدٍّ ما ومعظم أفراده من الرومان الكاثوليك. لكنه أصبح في العقود الأخيرة مثلما هو الحال في العديد من الأجزاء الأخرى من العالم، علمانيًّا على نحو متزايد، ومع الهجرة، أصبح أيضًا متعدد الثقافات ومتعدد الأديان. استجابةً لهذه التغييرات، تبحث السلطات المحلية عن طرقٍ جديدة لتدريس الأخلاق في المدارس، طرقٍ أقلَّ اعتمادًا على المناهج الدينية التقليدية.
في مسائلَ محدَّدة، مثل كيفية تطوير خطةٍ دراسية وكيفية تعليم فئاتٍ عمريةٍ مختلفة، لم يكن لديَّ الكثير لأقدِّمه؛ فهذه أمورٌ متروكة للمختصين في التعليم وعلم النفس التنموي، والمجالات ذات الصلة. أما فيما يتعلق بالنهج العام، فقد شاركتُ وجهة نظري المتمثلة في أنَّ النهج العلماني للأخلاق يستوجب أن تكون المبادئ الأساسية عالمية حقًّا.
شاركتُ أيضًا وجهة نظري القائلة بأن التدريبات المنهجية على الاهتمام بالقيم الداخلية وتنميتها يمكن أن يفيد العديد من الأشخاص. ومن هذا المنطلق، شرحتُ بعضًا منها في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
وفيما يتعلق بمسائل علم التربية، كان اقتراحي الوحيد الذي لا يزال قائمًا، هو أن نتذكَّر أنه عند تدريس الوعي الأخلاقي والقيم الداخلية، فإنَّ توفير المعلومات لا يكفي أبدًا، وأن التعليم بالقدوة يتخذ أهميةً قصوى. إذا تحدَّث المعلمون عن قيمة الطيبة واستفاضوا في فوائدها دون توضيحِ ما يقولونه من خلال القدوة الشخصية، فمن غير المرجَّح أن يجد الطلاب كلماتهم مقنعة. لكن إذا جسَّد المعلمون الطِّيبة في سلوكهم من خلال التعبير لطلابهم عن اهتمامٍ حقيقي، فإنهم بذلك سيزيدون من فاعلية طرحهم.
بالطبع، لا أقصد باقتراحي أن يكون المعلمون شديدي اللين! على العكس من ذلك، فعادةً ما يكون أفضل المعلمين صارمين بعضَ الشيء. لكن لكي تكون الصرامة فعالة، يجب أن ترتكز على الاهتمام بصالح الطلاب. يذكِّرني قولي هذا بمعلمي الكبير الراحل، الذي كان عزيزًا جدًّا عليَّ. في مظهره الخارجي، كان لينج رينبوتشي شديدَ الصرامة. عندما كنت راهبًا شابًّا أدرس في التبت، كان يحتفظ بسوطَين بجانبه في أثناء الدروس. كان أحدهما سوطًا عاديًّا من الجلد البُني، مخصَّصًا للاستخدام مع أخي الأكبر، والآخر كان سوطًا بلونٍ أصفرَ مميَّز، مخصصًا لي. الحقُّ أنَّ السوط الأصفر لم يُستخدَم قط، لكنه لو كان قد استُخدِم، فأنا متأكد من أنه ما كان ليغدو أقل إيلامًا من ذلك الذي استُخدِم مرة أو مرتَين مع أخي البائس! بصرف النظر عن المزاح، فإن تأثير المعلمين على تطور الأطفال كبيرٌ للغاية، وليس ذلك في الأمور الأكاديمية فحسب، بل فيهم كأفراد أيضًا. لمختلف الطلاب احتياجاتٌ مختلفة، ويجب أن ينتبه المعلمون إلى ذلك. قد يكون النظام الحازم جيدًا لبعض الطلاب بينما يكون النهج اللطيف أكثرَ ملاءمة لآخرين. أنا عن نفسي أشعر في هذا اليوم بامتنانٍ عميق تجاه معلمي. فعلى الرغم من المظهر الخارجي الصارم الذي كان يبديه لينج رينبوتشي، أصبحتُ أقدِّر عمق طيبته بمرور الوقت. في التعليم الرهباني التبتي التقليدي، يوجد العديد من الصفات التي تثير الإعجاب لدى المعلمين، مثل الصبر والحماس والقدرة على الإلهام والحيوية والمهارة في شرح الدروس بوضوح. لكن قبل كل شيء، توجد صفاتٌ ثلاث هي ما يميِّز المعلم العظيم: التفوق الأكاديمي (خي)، والنزاهة الأخلاقية (تسون)، والطِّيبة (سانج).
أُدرك أن المعلمين في المجتمعات الحديثة غالبًا ما يواجهون تحدياتٍ هائلة. قد تكون الفصول الدراسية كبيرةً جدًّا ومكدَّسة، وقد تكون المواد التي يدرِّسونها معقدة للغاية، وقد يكون الحفاظ على النظام صعبًا. وعلى ذكر أهمية مهنة التدريس وصعوبتها، فقد فوجئت عندما سمعتُ أن التدريس صار اليوم يُنظَر إليه في بعض المجتمعات الغربية على أنه مهنة متدنية إلى حدٍّ ما. هذا بالتأكيد وضعٌ مضطرب للغاية. يجب الثناء على المعلمين لاختيارهم هذه المهنة. وينبغي لهم أن يهنئوا أنفسهم، لا سيَّما في الأيام التي يكونون فيها مرهَقين ومحبَطين. إنهم يشاركون في عملٍ لن يقتصر تأثيره على مستوى المعرفة الفوري للطلاب، بل سيمتد أيضًا ليشمل حياتهم ككل، ومن ثمَّ فإنهم يتمتعون بالقدرة على المساهمة في مستقبل البشرية نفسه.
(٩) الحاجة إلى المثابرة
في ظل جميع تحديات عالم اليوم المترابط، هل يُعَدُّ تفاؤلي بمستقبل الإنسانية مثاليًّا؟ ربما هو كذلك. هل هذا غير واقعي؟ بالتأكيد لا. إن عدم الاكتراث بالتحديات التي نواجهها هو أمرٌ يتعذَّر تبريره. إذا كان الهدف نبيلًا، فلا يهم كثيرًا إن كان سيتحقق خلال حياتنا أم لا. ما يجب أن نفعله إذن هو أن نجاهد ونثابر وألا نستسلم أبدًا.