اليقظة الأخلاقية في الحياة اليومية
ليست الأخلاق مسألةً تتعلق بالمعرفة فحسب. فالأهم أنها تتعلق بالممارسة. لهذا السبب، فحتى الفهم الأخلاقي الأكثر تعقيدًا يصبح بلا جدوى من ناحيةٍ ما، إن لم يُطبَّق في الحياة اليومية. إنَّ العيش وفقًا للأخلاق لا يقتصر على التبني الواعي لمنظورٍ أخلاقي، بل يقتضي أيضًا الالتزام بتنمية القيم الداخلية في حياتنا اليومية وممارستها.
والآن، فيما يتعلق بمسألة كيفية ممارسة الأخلاق في الحياة اليومية، قد يفيدنا تصوُّر هذه العملية على أنها تتضمن ثلاثة جوانب أو مستويات، كلٌّ منها أكثر تقدُّمًا بشكلٍ تدريجي ويعتمد نجاح كلٍّ منها على الجانب أو المستوى السابق لها. ومثلما يَرد في بعض النصوص البوذية الكلاسيكية، هذه المستويات هي: خُلُق ضبط النفس؛ أي تحرِّي الامتناع عن إلحاق الضرر الفعلي أو المحتمل بالآخرين، ثم خُلُق الفضيلة؛ أي التنمية والتعزيز النشطَين لسلوكنا الإيجابي وقيمنا الداخلية، ثم خُلُق الإيثار؛ أي تكريس حياتنا بصدق ودون أنانية لصالح الآخرين.
ولكي تكون هذه المراحل الثلاث فعَّالة، يجب مراعاتها فيما يتعلق بجميع سلوكنا. معنى هذا أنها لا تؤخذ في الاعتبار فيما يتعلق بأفعالنا الجسدية الخارجية فحسب، بل يجب مراعاتها فيما نقول أيضًا، ثم في أفكارنا ونوايانا في نهاية المطاف. والأهم من بين مستويات السلوك هذه: الجسد والكلام والعقل، تعود الأهمية القصوى إلى العقل باعتباره مصدرَ كلِّ ما نفعله ونقوله.
إن تركيز انتباهنا على أفعال الجسد والكلام فحسب سيكون مثل طبيب يعالج أعراض المرض فقط وليس السبب الكامن وراءه. ولكي يكون العلاج فعَّالًا، يجب أن يستهدف مصدر المشكلة أيضًا. وفي ضوء هذا، فإن الفصول الثلاثة الأخيرة مَعنية كلها على نحوٍ أساسي بتدريب العقل. لكن قبل الانتقال إلى موضوع تربية القلب من خلال تدريب العقل، يجب أن أقول أولًا بضع كلماتٍ عن أهمية التخلي عن العادات الهدامة فيما يتعلق بالجسد والقول؛ لأن هذا هو ما يشكِّل المرحلة الأولى في ممارسة الأخلاق.
(١) خُلُق ضبط النفس
فيما يتعلَّق بأنواعٍ معينة من السلوك الضار الواضح، تتقارب جميع الأديان الرئيسية في العالم والتقاليد الإنسانية. فالقتل والسرقة والسلوك الجنسي غير اللائق كالاستغلال الجنسي، هي أفعالٌ ضارة بالآخرين بطبيعة الحال. ومن ثمَّ فلا بد من التخلي عنها بالطبع.
لكن خُلُق ضبط النفس يستلزم ما هو أكثر من هذا. قبل أن نتمكَّن من التفكير في إفادة الآخرين بفاعلية، يجب علينا أولًا وقبل كل شيء التأكد من أننا لا نؤذيهم، حتى من خلال أفعالنا التي لا تنطوي على عنفٍ مباشر.
فيما يتعلق بمبدأ عدم التسبب في أي ضرر هذا، فأنا شديد الإعجاب بإخواني وأخواتي في تقليد الجاينية، وأشعر بالتواضع أمامهم. فالجاينية، التي هي أشبه بديانة توءم للبوذية، تركِّز بشكلٍ كبير على فضيلة اللاعنف «أهيمسا» تجاه جميع الكائنات. على سبيل المثال، يبذل رهبان الجاينية قصارى جهدهم للتأكد من أنهم لا يطئون الحشرات عن طريق الخطأ أو يؤذون الكائنات الحية الأخرى في أنشطتهم اليومية.
غير أنَّ محاكاة السلوك المثالي لرهبان الجاينية وراهباتها صعبٌ علينا جميعًا. حتى أولئك الذين تقتصر دائرة اهتمامهم الأولية على الإنسانية لا جميع الكائنات الحية، قد يكون من الصعب عليهم للغاية عدم المساهمة في إيذاء الآخرين بطرقٍ غير مباشرة من خلال أفعالنا. فكِّر على سبيل المثال في كيفية تلوث الأنهار: ربما عن طريق شركات التعدين التي تستخرج المعادن، أو المنشآت الصناعية المنتجة للمكوِّنات التي تعتبر أساسية في التقنيات التي نستخدمها بصفةٍ يومية. وبذلك يكون كل مستخدم لهذه التقنيات مسئولًا بصفةٍ جزئية عن التلوث، ومن ثمَّ يسهم بالسلب في حياة الآخرين. ومع الأسف، من الوارد جدًّا أن نؤذي الآخرين بأفعالنا على نحوٍ غير مباشر دون أي نية لذلك.
ولذا، فمن الناحية الواقعية، أعتقد أن أهم شيء يمكننا جميعًا فعْله لتقليل الضرر الذي نسبِّبه في حياتنا اليومية هو التحلي بالفطنة في سلوكنا، واتباع ذلك الحس الطبيعي بالضمير الذي ينشأ من زيادة الوعي الذي تمنحنا إياه الفطنة.
(٢) الضرر الناجم عن الوسائل غير العنيفة
بالرغم من أننا عادةً ما نستطيع تمييز الضرر الناجم عن الأفعال الخارجية، فإن المعاناة التي نُلحقها بالآخرين بالكلمات قد تكون أكثر خفاءً لكنها في كثير من الأحيان ليست أقل ضررًا. هذا هو الحال لا سيَّما في علاقاتنا الأكثر قُربًا وحميمية. نحن البشر حسَّاسون للغاية، ومن السهل إلحاق المعاناة بمَن حولنا من خلال استخدامنا غير المبالي للكلمات القاسية.
قد نُلحق الضرر أيضًا عن طريق الغش والافتراء والنميمة المسبِّبة للشِّقاق. لا شك أننا جميعًا شعرنا، في وقت أو آخر، بالعواقب السلبية لمثل هذا الكلام التافه. ذلك أنه يقوِّض الثقة والمودة، ويمكنه أن يخلق جميع أنواع سوء الفهم المؤسف والعداوات بين الناس. وفي هذا الجانب، مثلما هو الحال في جوانبَ أخرى، نحتاج إلى مراعاة «القاعدة الذهبية» التي تَرِد في جميع النظم الأخلاقية بالعالم: «عامِلِ الآخرين كما تحب أن يعاملوك» أو «افعل مع الآخرين ما تريد منهم أن يفعلوه معك.»
-
تجنَّب الإفراط في تناول المُسْكِرات.
-
تمسَّك بمبدأ سُبُل العيش الشريفة.
-
احرص على ألا يعتري العنفُ جسدك وكلامك وعقلك.
-
عامِلِ الآخرين باحترام.
-
قدِّر أولئك الذين يستحقون التقدير، كالآباء والأمهات والمعلمين ومَن يتَّسمون بالطِّيبة.
-
كن طيبًا مع الآخرين.
وتوضيحًا لعبارة «سُبُل العيش الشريفة»، يسرد ناجارجونا الأمثلة التالية على النهج غير القويم لكسب العيش: محاولة الحصول على فوائدَ ماديةٍ من الآخرين بالتظاهر، واستخدام كلماتٍ جذابة لكسب الأشياء من الآخرين بالخداع، وإشادة المرء بممتلكات الغير بنيَّة المحاولة للحصول عليها لنفسه، وسَلب ما ينتمي إلى شخصٍ آخر بالقوة، والإشادة بالصفات التي كانت للمرء في الماضي على أمل الحصول على المزيد.
تتعلَّق معظم هذه الأمور، من ناحية أو أخرى، بعدم الأمانة. فانعدام الأمانة يهدم أسس الثقة لدى الآخرين ويتسبَّب في ضررٍ عميق. لذلك، فالشفافية في تعاملاتنا مع الآخرين مهمة للغاية. إنَّ العديد من الفضائح التي نسمع بها اليوم، ولا سيَّما الفساد الملحوظ على العديد من المستويات وفي العديد من المجالات: في الحكومة، والقضاء، والتمويل الدولي، والسياسة، والإعلام، وحتى الألعاب الرياضية الدولية، يرتبط بمسألة سُبُل العيش الشريفة.
(٣) الانتباه واليقظة والوعي
مثلما أنَّ النجَّار لن يفكِّر حتى في إصلاح كرسي من دون إزميل ومطرقة ومنشار في متناول يده، نحتاج نحن أيضًا إلى مجموعة من الأدوات الأساسية لمساعدتنا في جهودنا اليومية من أجل العيش بأسلوب أخلاقي. في التقليد البوذي، تُوصَف مجموعة الأدوات هذه بثلاثة عواملَ مترابطةٍ هي «الانتباه» و«اليقظة» و«الوعي الاستبطاني». ويمكن لهذه الأفكار الثلاثة أن تكون مفيدة أيضًا في سياقٍ علماني. فهذه الأفكار معًا يمكن أن تساعدنا في الحفاظ على قيمنا الأساسية في الحياة اليومية، وتوجيه سلوكنا اليومي حتى يصبح أكثر انسجامًا مع هدف تحقيق المنفعة للذات وللآخرين.
تشير أولى هذه الأفكار، وهي «الانتباه»، إلى تبني موقفٍ شامل من الحيطة. فالمصطلح التبتي لهذه الفكرة: «بهاكيو»، الذي يُترجم غالبًا إلى «اليقظة» أو «الضمير»، يحمل معنى الحذر أو الانتباه. على سبيل المثال، إذا شُخِّص المرء بمرض السكري، فسينصحه الطبيب بالانتباه الشديد فيما يتعلق بحِميته الغذائية. وسوف يتوجَّب عليه تجنُّب السكر، والملح، والأطعمة الدهنية للحفاظ على مستويات ضغط الدم والأنسولين تحت السيطرة. وسيحذِّره الطبيب من أنه إذا لم يلتزم بهذا النظام الغذائي، فقد تكون هناك عواقبُ وخيمة على صحته. عندما يكون المرضى مهتمين بأمر صحتهم، فإنهم يتَّبعون هذه النصيحة ويتحلَّون بالحذر فيما يتعلق بحِميتهم الغذائية. وإذا اشتهوا تناول شيءٍ يجب تجنُّبه، فإن هذا السلوك أو الموقف الحَذِر سيساعدهم في ممارسة ضبط النفس.
يُوضح مفهوم الانتباه في أحد النصوص البوذية الكلاسيكية من خلال قصة رجلٍ مُدان في جريمة وحَكم عليه الملكُ بحمل وعاءٍ ممتلئ حتى حافته بزيت السمسم، بينما يسير حارس بجانبه وهو يحمل سيفًا مستلًّا. حُذِّر المحكوم عليه من أنه إذا سكب قطرةً واحدة من الزيت، فسيُضرَب بالسيف. يمكننا أن نتخيل مدى حذر المحكوم عليه ويقظته! سيكون حاضر الذهن بالكامل ومنتبهًا تمامًا. توضح القصة الارتباط الوثيق بين الانتباه وصفتَي اليقظة والوعي اللتين نوضحهما فيما يلي.
يوجد اليوم العديد من التقنيات العلمانية لتطوير اليقظة، وقد ثبتت فعاليتها في الحد من التوتر وعلاج الاكتئاب. وفقًا لما أفهمه، فإن اليقظة في هذا السياق تشير عادةً إلى اكتساب الوعي بأنماط سلوكنا، بما في ذلك الأفكار والمشاعر، وتعلم التخلي عن تلك العادات والأفكار والمشاعر غير المفيدة. يبدو لي أنَّ هذا المسعى جديرٌ بالاهتمام الشديد. وسوف أناقش كيفية تطوير هذا النوع من الوعي بدرجةٍ أكبر في الفصل التاسع.
بالرغم من هذا، ففي سياق العيش بأسلوب أخلاقي في الحياة اليومية، أرى أنَّ المعنى الأهم لليقظة هو «التذكُّر». أعني بهذا أنَّ اليقظة هي القدرة على جمع شتات النفس ذهنيًّا ومن ثمَّ تذكُّر قيم المرء ودوافعه الأساسية. في اللغة التبتية، تُعد «الذاكرة» أيضًا من مرادفات كلمة اليقظة «درينبا»؛ ولذا فهو مصطلح يشير إلى تنمية حضور الذهن في الأنشطة اليومية. في ظل ذلك التذكر، تقل احتمالية انغماسنا في عاداتنا السيئة وتزيد احتمالية أن نمتنع عن الأفعال الضارة. وتُعدُّ سلوكياتٌ مثل رمي القمامة والإسراف والإفراط في الترف جميعها أمثلةً بسيطة على السلوك الذي يمكن تحسينه من خلال ممارسة اليقظة.
أما الوعي أو «شيشين» في لغة التبت، فيعني الانتباه إلى سلوكنا الشخصي. فهو يعني مراقبة سلوكنا بصدق أثناء وقوعه، ومن ثمَّ إخضاعه للسيطرة. من خلال الوعي بأقوالنا وأفعالنا، نحمي أنفسنا من الإتيان بأفعال وأقوال من شأنها أن نندم عليها فيما بعدُ. إذا غضبنا على سبيل المثال، وعجزنا عن إدراك أن الغضب يشوِّه فهمنا، فقد نقول أشياء لا نعنيها. ولذلك، فإن امتلاك القدرة على مراقبة الذات؛ أي أن نتمتَّع بمستوًى ثانٍ من الانتباه، إن جاز هذا التعبير، له فائدةٌ عمليةٌ كبيرة في الحياة اليومية؛ إذ يمنحنا سيطرةً أكبر على سلوكنا السلبي ويمكِّننا من الالتزام بدوافعنا وقناعاتنا الأكثر عمقًا.
إنَّ مثل هذا الوعي بسلوكنا، على مستوى الأفعال والأفكار والكلمات، ليس أمرًا يمكننا تعلُّمه بين عشية وضحاها. وإنما يتطور تدريجيًّا، وكلما أصبحنا أكثر وعيًا، ازداد إتقاننا له ببطء.
ربما يرى بعض القراء أنَّ مجموعة الأدوات الذهنية هذه أشبه بنصيحة من نوعية «أصغِ إلى ضميرك»، وهي فكرة لها دور مهم في العديد من المناهج الدينية لممارسة الأخلاق. وبالفعل توجد تشابهاتٌ كثيرة بين الأمرَين. ففي بعض الأديان، يعتبر الضمير هبةً ثمينة من الإله تجعل البشر مخلوقاتٍ أخلاقيةً فريدة. ومن منظورٍ علماني، يمكن فهم الضمير باعتباره نتاجَ طبيعتنا البيولوجية بصفتنا حيواناتٍ اجتماعية، أو شيئًا نكتسبه من المجتمع بحُكم تنشئتنا وبيئتنا. في كلتا الحالتَين، فإن جميع العقلاء والمسئولين سيوافقون بالتأكيد على أن هذه الصفة ذات دلالةٍ كبيرة فيما يتعلق بإدراكنا الأخلاقي. مهما كانت آراؤنا بشأن الدين، فإن فكرة تجرُّد الشخص من الضمير؛ أي ألَّا يتمتع بأي صوتٍ داخلي لضبط النفس أو المسئولية الأخلاقية، أمرٌ مخيف بحق.
ومع ذلك، فممارسة الوعي ليست مرادفًا دقيقًا للإصغاء إلى الضمير. ففي النظرية الأخلاقية البوذية لا توجد فكرة الضمير بصفتها قدرةً ذهنية مميزة. لكن فكرة يقظة الضمير أمرٌ شديد الأهمية. وتوصف يقظة الضمير من خلال ملَكتَين ذهنيتَين رئيسيتَين، وهما «احترام الذات» و«مراعاة الآخرين».
تتعلق الملَكة الأولى، وهي احترام الذات، بامتلاك حس النزاهة الشخصية؛ أي صورة المرء عن ذاته بصفته شخصًا يدعم قيَمًا معينة. وبذلك، عندما يغرينا الانغماس في سلوكٍ ضارٍّ، تعمل صورتنا الذاتية كقيد؛ إذ نفكر أنَّ «هذا لا يليق بأن يصدر مني». وتتعلَّق الملَكة الذهنية الثانية، مراعاة الآخرين، بالاحترام الصحي لآراء الآخرين، لا سيمَّا لرفضهم المحتمل. إنَّ هذين العاملَين معًا، يشكِّلان مستوًى إضافيًّا من الحذر بشأن ارتكاب الخطأ، وهو ما يعزز بوصلتنا الأخلاقية.
(٤) خُلُق الفضيلة
إذا استطعنا، من خلال اليقظة والوعي والانتباه، الامتناعَ عن إيذاء الآخرين بأفعالنا وأقوالنا في الحياة اليومية، فسيمكننا البدء في إيلاء المزيد من الاهتمام الجاد لفعل الخير بنشاط، وهذا من شأنه أن يكون مصدرًا لسعادةٍ غامرةٍ وثقةٍ داخلية كبيرة. يمكننا أن نفيد الآخرين من خلال أفعالنا بأن نكون ودودين وكرماء تجاههم، ومن خلال فعل الخير أيضًا ومساعدة المحتاجين. ولهذا، عندما يتعرض الآخرون للمحن أو يخطئون، يجب أن نتواصل معهم ونساعدهم لا أن نردَّ بالسخرية أو بإلقاء اللوم. ومن الأمور التي نستطيع إفادة الآخرين بها من خلال القول، الإطراء لهم والإصغاء إلى مشكلاتهم، وتقديم النصح والتشجيع.
لمساعدتنا على تحقيق المنفعة للآخرين من خلال أقوالنا وأفعالنا، سيكون من المفيد تنمية سلوك السعادة المتعاطفة بإنجازات الآخرين وحظهم السعيد. يُعَدُّ هذا السلوك ترياقًا فعَّالًا ضد الحسد الذي لا يقتصر تأثيره السيئ على المعاناة غير الضرورية التي يُلحِقها بنا على المستوى الفردي، بل يصبح أيضًا عقبة أمام قدرتنا على التواصل مع الآخرين والتفاعل معهم. كثيرًا ما يقول المعلمون التبتيون إن مثل هذه السعادة المتعاطفة هي أقل الطرق تكلفة لتعزيز فضائل المرء.
(٥) خُلُق الإيثار
الإيثار هو تكريس الفرد لأفعاله وأقواله على نحوٍ غيرِ أناني وصادق من أجل منفعة الآخرين. تعترف جميع التقاليد الدينية في العالم بأن الإيثار هو أعلى شكل من أشكال الممارسة الأخلاقية، وهو يُعدُّ في كثير منها السبيل الرئيسي إلى التحرُّر أو التوحُّد مع الإله.
وبالرغم من أن التكريس الكامل وغير الأناني للآخرين هو أعلى شكل من أشكال الممارسة الأخلاقية، فهذا لا يعني أنه لا يمكن لأي شخص أن يمارسه. الواقع أنَّ كثيرًا من الأشخاص الذين يعملون في مهن الرعاية مثل العمل الاجتماعي والرعاية الصحية، ومَن يعملون في التدريس أيضًا، يشاركون في السعي إلى تحقيق هذا المستوى الثالث من الأخلاق. مثل هذه المهن، التي تعود بالنفع المباشر على حياة الكثيرين، هي مهنٌ نبيلة حقًّا. ومع ذلك، فثمَّة طرقٌ أخرى لا تُحصى يمكن للأشخاص العاديين انتهاجها كي يفيدوا غيرهم، وكثيرون ينتهجونها بالفعل. المطلوب ببساطة هو أن نجعل خدمة الآخرين ضمن أولوياتنا.
يتمثل جزءٌ مهم من خدمة الآخرين في استخدام الفطنة لتقييم العواقب المحتملة لأفعالنا. بعد ذلك، سنبدأ في اكتساب مهارة التحكم في أفعالنا وأقوالنا، من خلال التحلي بالانتباه واليقظة والوعي في حياتنا اليومية. هذا هو الأساس الجوهري للحرية، واكتسابُ مثل هذه القدرة على التحكم في الذات وممارستها لضمان خلو أفعالنا من الضرر على كل المستويات، هو ما يمكِّننا من البدء في العمل بنشاط من أجل إفادة الآخرين.