التعامل مع المشاعر الهدامة
إذا كان أساس السعادة البشرية يكمن في حالتنا الذهنية كما اقترحتُ، فإن ذلك ينطبق أيضًا على العقبات الأساسية التي تحول دون تحقيق تلك السعادة. لا شك أنَّ أكبر العوائق أمام رفاهيتنا كأفراد، وأمام قدرتنا على عيش حياة مُرْضية من الناحية الروحية، هي نزعاتنا المستمرة نحو المشاعر الهدامة أو المؤذية. هذه المشاعر هي العدو الحقيقي لسعادة الإنسان والمصدر الأساسي لكل السلوكيات البشرية الهدامة. ويُعدُّ التعامل مع هذه المشاعر السلبية هدفًا مهمًّا من أهداف الممارسة الأخلاقية والروحية.
لكن قبل تقديم بعض الاقتراحات العملية لكيفية تعاملنا مع هذه الميول الهدامة والحد من تأثيرها على عاداتنا اليومية وسلوكياتنا، لا بد لي أولًا من تناول مسألةِ ما إذا كان هذا هدفًا واقعيًّا أم لا. هل نتمتع، نحن البشر، حقًّا بالقدرة على تغيير أنفسنا من الداخل؟
(١) إمكانية تحسين الذات
لقد أقرَّت أديانُ العالم منذ زمنٍ طويل أن لدينا، نحن البشر، القدرةَ على التغيير من الداخل. لكن توضيح حقيقة هذه القدرة قد يكون صعبًا في سياقٍ علمانيٍّ بحت. فقد يجادل المادي الشديد التمسك بالمادية، على سبيل المثال، بأن ما يحدد سلوكنا بالكامل هو طبيعتنا البيولوجية، أو أننا — بعبارةٍ معاصرة — «مبرمَجون» بطرقٍ معينة. وفقًا لهذا الرأي، قضت الطبيعة بأن يكون بعض الأشخاص غاضبين، وقضت بأن تغلب الطيبة على آخرين، ويقول هذا المنظور أيضًا بأنَّ تركيبنا الوراثي جعل بعضنا أكثر تفاؤلًا، بينما جعل البعض الآخر يميل فطريًّا إلى الاكتئاب. لمَّا كان العديد من صفاتنا الشخصية يبدو موروثًا بالفعل، وكانت تلك المشاعر المؤذية كالغضب والكراهية والغيرة، جزءًا من طبيعتنا، فقد يكون الصواب أيضًا أننا لا نستطيع فعل شيء لتغييرها. ولهذا ربما نشعر أنه قد يكون من المحال حقًّا تغيير النزعة الذهنية التي نُولَد بها.
إذا كنا لا نستطيع بالفعل القيام بأي شيء فيما يتعلق بمشاعرنا، فإنَّ هذا يعني أننا عبيدٌ لها في الواقع. بالرغم من ذلك، تظهر تدريجيًّا أدلةٌ علمية، ولا سيَّما من علم النفس وعلم الأعصاب، تشير إلى أنه من الممكن بالفعل تحقيق تغييرٍ جادٍّ في أنماطنا العاطفية والسلوكية من خلال الجهد الواعي. أنا لست عالمًا بالطبع كما قلتُ من قبلُ. لكني ظللت أناقش هذه القضايا على مدار سنواتٍ عديدة مع الخبراء. ويبدو لي من هذه الأحاديث أن الاكتشاف الحديث لما يُسمَّى ﺑ «مرونة الدماغ» قد يقدِّم تفسيرًا علميًّا جيدًا لإمكانية التغيير الجاد. فقد لاحظ الباحثون أن أنماط الدماغ وبنياته يمكنها أن تتغير، وأنها تتغير بالفعل بمرور الوقت استجابةً لأفكارنا وخبراتنا. علاوة على ذلك، صار العلماء الآن قادرين على ملاحظة التفاعل بين أجزاء الدماغ المرتبطة بالأنشطة المعرفية العليا مثل التفكير العقلاني (في القشرة الجبهية الأمامية) وتلك الأجزاء المعروفة باسم الجهاز الحوفي، بما في ذلك اللوزة الدماغية التي تتخذ شكل اللوزة بالفعل، والتي ترتبط بانعكاساتنا الغريزية والعاطفية الأكثر بدائيةً. وقد دفعت هذه التطورات التي توصَّلَ إليها علمُ الأعصاب العديدَ من العلماء إلى الاهتمام الجاد بفكرة أن جهودنا الواعية قد تمكِّننا من تدريب غرائزنا العاطفية عن طريق تغيير الأنماط المادية في دماغنا بالفعل. لا يزال البحث في هذا المجال جديدًا بعض الشيء، لكن يبدو لي أنه يمكن أن يمنح شديدي التمسك بالمادية أسسًا لأملٍ لا يقل قوةً عن إيمان المؤمن بالدين.
(٢) عالمنا العاطفي
من المثير للاهتمام أنَّ علم العقل البوذي الكلاسيكي الذي تلقيتُ التدريب فيه، لا يضم مفهومًا للشعور بصفته فئةً واحدة، بحيث يتطابق بدقةٍ مع مفهوم الشعور في علم النفس الغربي المعاصر. الحقُّ أنه لا توجد كلمةٌ، سواء في السنسكريتية أو التبتية الكلاسيكية، يمكن ترجمتها بدقةٍ إلى كلمة «عاطفة». بدلًا من ذلك، تُفهَم جميع الحالات الذهنية على أنها تتضمن البُعدَين؛ الإدراكي والعاطفي كليهما بدرجةٍ ما، وأنها تضم خمسة عواملَ ذهنية حاضرة في كل مكان، ومن بينها «الشعور». أما العوامل الأربعة الأخرى، فهي التمييز والإرادة والانتباه والتواصل. ولذلك، فحتى عمليةٌ ذهنية معرفية ببساطة العَدِّ من واحد إلى عشرة تُعدُّ نوعًا من «الشعورِ» أو «نمطٍ شعوريٍّ» يرتبط بطبيعة الحال بالسياق.
توجد أيضًا طرقٌ مختلفة لتصنيف حالاتنا العاطفية. فعلى سبيل المثال، غالبًا ما يميز علم النفس المعاصر تمييزًا رئيسيًّا بين الحالات العاطفية التي تتسم بالمتعة أو البهجة من ناحية، وتُوصَف بأنها إيجابية، وبين تلك التي تتسم بأنها غير سارة أو مؤذية من ناحيةٍ أخرى وتُوصَف بأنها سلبية.
لكنَّ التمييز في علم النفس البوذي الكلاسيكي، يختلف نوعًا ما. فبدلًا من ذلك، لا يكون التمييز الأساسي بين الحالات الممتعة والحالات المؤذية، بل بين الحالات المفيدة والمضرة. الحالات الذهنية «المؤذية»، والمعروفة باسم «نيونمونج» في لغة التبت أو «كليشا» باللغة السنسكريتية، هي الحالات التي تُقوِّض الرفاهية على المدى الطويل، بينما الحالات الذهنية «غير المؤذية»، هي تلك التي ليس لها مثل هذا التأثير المدمِّر.
بالنظر إلى هذه الطرق المختلفة لتصنيف التجربة الوجدانية أو العاطفية، من المهم للقراء ألا يخلطوا بين تلك المشاعر المؤذية التي يُقصَد بها الضارة للرفاهية على المدى البعيد، وبين تلك المشاعر غير السارة فحسب. تتداخل هذه المشاعر في بعض الأحيان بالطبع. فاختبار مشاعر الكراهية على سبيل المثال، مدمِّر وغير سارٍّ في الوقت نفسه، لكن بعض التجارب الشعورية قد تكون غير سارة لكنها مفيدة مع ذلك، ويمكن بالمثل أيضًا أن تكون بعض المشاعر سارةً لكنها هدامة. مشاعر الحزن والأسى والندم على سبيل المثال، ليست سارة بالتأكيد، لكنها ليست مؤذية في حد ذاتها بالضرورة. فعند مواجهة فجيعة موت أحد الأحباء على سبيل المثال، قد تكون مشاعر الحزن والأسى بنَّاءة جدًّا في مساعدتنا على تقبُّل الفقد والاستمرار في حياتنا. وينطبق الأمر نفسه على المشاعر التي قد تبدو سارة في البداية، لكنها قد تكون هدامةً على مستوًى أعمق مع ذلك؛ إذ تقوِّض سلامنا النفسي واستقرارنا. ومن أمثلة ذلك الشهوة أو الاشتياق المفرط إلى شيءٍ معين. قد يكون هذا الشوق ممتعًا من ناحيةٍ ما. لكن رغبتنا الملحَّة سوف تلتهم قدرتنا على الرضا الحقيقي في نهاية المطاف وتقوِّض توازننا العقلي؛ ولذلك يجب اعتبارها من المشاعر الهدامة.
في سياق الأخلاق العلمانية، فإن هذا التمييز بين تلك الحالات العقلية التي تقوِّض الرفاهية لنا وللآخرين، وتلك التي تعزز البقاء والرفاهية يمكن أن يكون مفيدًا للغاية؛ لأنه وثيق الصلة بسعينا وراء تحقيق السعادة وعيش حياةٍ سليمة أخلاقيًّا. نظرًا لأن الناس ينتمون إلى العديد من الخلفيات والثقافات المتنوعة، فقد تختلف الحالات التي تُعتبر هدامةً والتي تُعتبَر مفيدةً في حالاتٍ معينة. بصفةٍ عامة، يمكن تعريف المشاعر الهدامة بأنها الحالات التي تقوِّض رفاهيتنا إذ تولِّد فينا اضطراباتٍ داخلية، ومن ثمَّ تحول دون ضبط النفس وتسلبنا الحرية الذهنية. في هذا السياق أيضًا، يمكن التمييز بين فئتَين فرعيتَين: الحالات العاطفية الهدامة في حد ذاتها، مثل الجشع والكراهية والحقد؛ والحالات الأخرى التي لا تصبح هدامة إلا حين لا تتناسب شدتها مع الموقف الذي تنشأ فيه، مثل التعلق والغضب والخوف.
من منظورٍ بيولوجي، فإن جميع مشاعرنا الأساسية لها في نهاية المطاف أغراضٌ تطوريةٌ واضحة. فالتعلق على سبيل المثال، يساعدنا على التقارب بعضنا من بعض ويمكِّننا من بناء الروابط فيما بيننا، ويساعدنا الغضب على مقاومة القوى التي تضرُّ ببقائنا ورفاهيتنا، ويمكِّننا الخوف من الاستجابة للتهديد بيقظة، أما الحسد فيدفعنا إلى التنافس مع الآخرين كي لا نهمل احتياجاتنا الخاصة. وقد أثبت العلماءُ أن هذه المشاعر الأساسية لها أبعادٌ بيولوجيةٌ واضحة. عندما نواجه خطرًا وشيكًا على سبيل المثال ونشعر بالخوف، يزداد اندفاع الدم إلى الساقَين، ومن خلال زيادة الأدرينالين وتَسارُع نبضات القلب، يُعِدُّنا شعور الخوف بالفعل للفرار. في المقابل، عندما ينشأ الغضب، يتدفق المزيد من الدم إلى ذراعَينا، وهو ما يُعِدُّنا لمواجهة التهديد. ولذا، فإن الأمر المهم الذي ينبغي لنا تذكُّره هو أن هذه المشاعر ليست هدامةً في حد ذاتها، بل تصبح هدامةً فقط عندما لا تتناسب شدتها مع الموقف، أو تنشأ في موقفٍ لا يستدعيها.
أما بالنسبة إلى التعلُّق الذي هو في نهاية المطاف شعورٌ يربط العائلات والمجتمعات معًا، فلا نفكِّر فيه عادةً باعتباره شعورًا مدمِّرًا. ومع ذلك، عندما يتسم هذا الشعور الأساسي بالمغالاة ويريد التحكم فيمَن يخضع له، فإنه يصبح هدَّامًا. هذا ينطبق أيضًا على الرغبة. فالرغبة في حد ذاتها ليست هدَّامة. ومن دون رغبة، سينمحي الجنس البشري عن الوجود تمامًا! حقيقة الأمر أنَّ الرغبة هي الشعور الذي يُسيِّر الكثيرَ من أنشطتنا اليومية، من الاستيقاظ في الصباح إلى تناول الطعام، والعمل، وحتى السعي إلى تحقيق أهدافنا الفورية والطويلة الأمد في الحياة.
وبالمثل، فإن الغضب نفسه ليس مدمِّرًا على الدوام. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تؤدي الرأفة الشديدة في بعض المواقف إلى توليد شعور شديد بالغضب بالقوة نفسها، تجاه الظلم. مرة أخرى، يمكن للشعور بالغضب أن يجعل عقولنا أكثرَ تركيزًا على المدى القصير ويعطينا دَفعةً إضافية من الطاقة والعزم. بهذه الطرق، يمكن للغضب في مواقفَ معينة أن يجعلنا أكثرَ فاعلية في إنجاز الأمور التي نباشرها والحصول على تلك التي نسعى إليها عن حق. ومع ذلك، عندما يمتد الغضب إلى ما هو أبعد من هذه الوظيفة العملية، فمعظم الطاقة التي يمنحنا إياها لا تكون مفيدة على الإطلاق. نظرًا لأننا جميعًا على الأرجح، كنا في وقتٍ أو آخر ذلك الطرف المتلقِّي لغضب الآخرين، فقد اختبرنا جميعًا عواقبه غير السارة.
وعلى أية حال، فبينما يتسم الغضب بجانبٍ بنَّاء في بعض الأحيان، لا تتسم الكراهية بذلك أبدًا. فالكراهية هدَّامة دائمًا.
ومثل الغضب، لا يكون الخوف أيضًا مدمِّرًا في كل المواقف. ذلك أنَّ الخوف يجعلنا أكثرَ انتباهًا ويحمينا من الخطر. وهو أيضًا عاملُ تحفيزٍ قوي؛ إذ يجبرنا على توخِّي الحذر والاهتمام برفاهيتنا. لكن عندما يستحوذ الخوف علينا، فقد يشلنا عن التصرف ويصبح حالةً ذهنية هدامة للغاية. ثمَّ إنَّ الخوف المفرط يخلق حالةً مستمرة من القلق؛ مما يضرُّ بصحتنا. ولهذا أُميِّز غالبًا بين الخوف المنطقي والخوف غير المنطقي. وهذا النوع الأول من الخوف ليس جائزًا فحسب، بل ضروري لبقائنا على قيد الحياة. إذا أتى كلبٌ مجنون يركض نحونا، فنحن بحاجة إلى الاستجابة لهذا الخطر بالخوف. وهذا واضح. في المقابل، يحدث الخوف غير المنطقي عندما يكون مصدر التهديد نابعًا إلى حدٍّ كبير مما نمارسه من إسقاطٍ ذهني. نحن بحاجة إلى إبقاء هذا النوع من الخوف تحت السيطرة؛ لأنه غير مُجدٍ على الإطلاق ومدمِّر في كثير من الأحيان. وما نحتاج إليه لمواجهة الخوف غير المنطقي هو فهمٌ أفضل للموقف الذي نحن بصدده.
هذه الطبيعة الازدواجية للمشاعر والعواطف، التي تجعل لكلٍّ منها جانبًا مدمِّرًا وآخرَ غيرَ مدمِّر، تتضح أيضًا في حالاتٍ ذهنية أخرى، مثل الشك والخزي والحزن والتنافسية، وحتى في إحساسنا بالأنا في حد ذاته. الشك هو العامل الذهني الذي يمكِّننا من التساؤل والسعي للفهم. ولذا، دائمًا ما أقول بالفعل إن جرعةً من الشك أمرٌ صحي تمامًا من حيث إنها تفتح عقولنا للتساؤل والمعرفة الجديدة. ومع ذلك، عندما يصبح الشك مَرضيًّا، فقد يُعيقنا ويمنعنا من اتخاذ أي إجراءٍ حاسم. وينطبق الأمر نفسه على الخزي. على المستوى الأساسي، يُعد الخزي شعورًا اجتماعيًّا مهمًّا له وظيفةٌ بناءة، ولكن عندما يصبح الشعور بالخزي شديدًا فقد يؤدي إلى تدني احترام الذات والحكم عليها سلبيًّا، وهو ليس بالأمر البنَّاء بالطبع. أما فيما يتعلق بالأسى أو الحزن، فإنَّ هذا الشعور يكون بنَّاءً في بعض المواقف وله تأثيرٌ إيجابي. لكنه حين يصبح أشبه بعادة ذهنية دون أي سببٍ واقعي، فقد يكون مدمِّرًا، مثلما يحدث عندما يظهر في حالات الحزن المستحوِذ على الذات أو الاكتئاب.
التنافسية أيضًا يمكنها أن تكون بنَّاءة، كما هو الحال عندما يدفعنا حافزنا التنافسي إلى السعي وراء تحقيق شيءٍ أفضل أو أعلى. لكن حين تتسم التنافسية بجانب من الرغبة في إضعاف الآخرين أو إعاقتهم حتى نتمكَّن من التفوق عليهم، فإنها تصبح إذن هدَّامة.
وفيما يتعلق بالأثرة وحُبِّ الذات، فيمكننا التمييز أيضًا بين نوعَين منها. ذلك أنَّ الإحساس القوي بالذات يمكن أن يكون بنَّاءً، وهو الأساس الذي يولِّد الثقة بالنفس، وهي تلك الحالة الذهنية التي تسمح لنا بالشعور بأنه «أجل، أستطيع القيام بهذا.» غير أن شكلًا آخر من الأثرة يتجلى عندما نهمل صالح الآخرين تمامًا، بل ونصبح على استعداد لاستغلال الآخرين من أجل تحقيق النفع لأنفسنا؛ سعيًا وراء مصلحتنا الذاتية. هذا النوع من الأثرة مدمِّر بلا شك.
ولهذا السبب؛ عندما نتعامل مع أمورٍ دقيقة كالعمليات الذهنية للإنسان، من المهم ألا نبالغ في الدوجمائية. فمن الصعب تحديد ما إذا كانت حالةٌ ذهنية معينة هدامةً أم لا دون معرفة سياقها، بل ربما يكون ذلك محالًا. في كثير من الأحيان، يمكننا اتخاذ هذا القرار من خلال النظر في الدافع الأساسي للعاطفة، والهدف المحدَّد منها، وعواقبها، وما إلى ذلك. في مجال العقل البشري إذن يجب أن نحافظ دائمًا على موقفٍ من الانفتاح، والبراجماتية، والمرونة.
(٣) السمات المشتركة للمشاعر الهدامة
إحدى السمات التي تميِّز جميع المشاعر الهدامة هي أنها غالبًا ما تشوِّه إدراكنا للواقع. إنها تؤدي إلى تضييق منظورنا، فنفشل في رؤيةِ موقفٍ معيَّن في سياقه الأوسع. على سبيل المثال، عندما نشعر بشكلٍ متطرف من أشكال التعلُّق، كالرغبة الشديدة أو الشهوة أو الجشع، فإننا في كثير من الأحيان نُسقِط على ما نرغب فيه مستوًى من الجاذبية يفوق كثيرًا ما يتمتع به في الواقع. نصبح عميانًا حتى عن أوجه القصور الشديدة الوضوح، وبتشبثنا المفرط نخلق نوعًا من عدم الأمان في أنفسنا؛ إذ نشعر بأننا في حاجة إلى الحصول على ما نستهدفه برغبتنا وأننا غير مكتملين من دونه. غالبًا ما ينطوي التعلق المفرط أيضًا على رغبةٍ في السيطرة، مما قد يكون خانقًا للغاية إذا كان المستهدف بتلك الرغبة شخصًا آخر. ولذلك، فإن التعلق الشديد غير مستقر بطبيعته على الإطلاق. فقد نشعر للحظة بعاطفةٍ كبيرة تجاه شيءٍ ما أو شخصٍ ما، لكن حين تُحبَط رغبتنا في السيطرة على سبيل المثال، يمكن لهذا الشعور أن يتحول بسهولة إلى الاستياء أو الكراهية.
يضيق منظورنا على نحوٍ مماثل أيضًا عندما نختبر درجةً مفرطة من مشاعر النفور، مثل الغضب والكراهية والازدراء والاستياء. عندما يسيطر علينا الغضب الشديد على سبيل المثال، نتبنَّى نظرةً سلبية تمامًا لما نستهدفه بغضبنا، على الرغم من أننا في لحظات الهدوء قد ندرك أن الشخص نفسه أو الشيء نفسه يتمتع بالعديد من الصفات الرائعة. إنَّ العاطفة المفرطة القوة تفقدنا القدرة على التمييز. نعجز عن رؤية العواقب الطويلة الأجل والقصيرة الأجل لأفعالنا، فلا نستطيع التمييز بين الصواب والخطأ. ذلك أننا نصبح حرفيًّا، للحظة، على شفا الجنون ولا نستطيع القيام بما يخدم مصلحتنا. وبعد أن ينتهي الحدث وتهدأ العاطفة، كثيرًا ما نأسف على ما فعلناه أو قلناه ونحن غاضبون!
في رحلة قصيرة إلى السويد منذ بضع سنواتٍ، أجريتُ محادثةً مطوَّلة مع الدكتور آرون بيك، أحد الروَّاد المؤسِّسين للعلاج المعرفي السلوكي، وهو فرعٌ رئيسي في العلاج النفسي الحديث أثبتَ فاعليةً كبيرة في علاج المشكلات السلوكية والاكتئاب. عندما التقينا، كان الدكتور بيك في أوائل الثمانينيات من عمره. وكان من المثير للغاية بالنسبة إليَّ ما وجدتُه من تقاربٍ كبير بين العديد من ملاحظاته وبين أفكار علم النفس البوذي الكلاسيكي. فقد قال على سبيل المثال، إنه في حالة الغضب الشديد، يكون تسعون بالمائة من نوعية النفور التي نراها فيما نستهدفه بغضبنا، مبالغةً وإسقاطًا. وهذا يتوافق توافقًا وثيقًا مع الفهم الوارد في النصوص البوذية الكلاسيكية.
إنَّ جوهر كل هذه الحالات الذهنية المؤذية، هو أنها بطريقة أو بأخرى، تحجب عنا الرؤية بتعتيم قدرتنا على التمييز. فهي تجعلنا غير قادرين على الحُكم بعقلانية، ومن ثمَّ يمكننا القول إنها تسلبنا عقولنا.
(٤) عائلات المشاعر
أحد النُّهج المفيدة لفهم مشاعرنا الهدَّامة هو النظر إليها على أنها عائلاتٌ مرتبطة يميزها نوع الحالة الذهنية الأساسية التي تنطوي عليها. على سبيل المثال، كما قلتُ على سبيل المثال، المشاعرُ التي تنتمي إلى عائلة الغضب، كالكراهية والعداوة والحقد، تتسم بالنفور المبالَغ فيه، بينما المشاعر التي تنتمي إلى عائلة التعلُّق، كالجشع والشهوة والاشتياق، تتسم بإحساسٍ بالجاذبية على الدرجة نفسها من المبالغة. وفيما يتعلق بالعائلات الرئيسية الأخرى للمشاعر المؤذية: الحسد والكبرياء والشك، فهي تنطوي على خلائط من الانجذاب المفرط من جهة (مثل التعلق المفرط لدى المرء بصورةٍ ذهنية مضلِّلة عن ذاته في حالة الكبرياء) والنفور المفرط من جهةٍ أخرى (مثل الشعور المفرط لدى المرء بالعداء تجاه غريم له في حالة الحسد). كما رأينا بالفعل، إضافةً إلى هذا العنصر من النفور أو الانجذاب المفرط أو الخلائط غير الصحية من الاثنين، فإنَّ جميع المشاعر المؤذية تتسم بأنها غير واقعية أو ذات منظورٍ مضلل.
يُعَدُّ الحسد عائلةً معقدة نوعًا ما من المشاعر المؤذية؛ ذلك أنه يكمن بالأساس في التعلق والانجذاب، لكنه ينطوي أيضًا على عنصرٍ قوي من الغضب والعداء والنفور. لقد وجدت الأبحاث العلمية الحديثة عن موضوع السعادة أن أحد المصادر الأساسية للسخط في عالم اليوم، لا سيَّما في المجتمعات الأكثر ثراءً، هو نزعتنا البشرية لمقارنة أنفسنا بمَن حولنا. ويتلخص هذا بالأساس في مسألة الحسد.
أما عائلة المشاعر المؤذية المتمثلة في الكبرياء أو الغرور، التي تنطوي على مواقفَ هدامةٍ كالغطرسة والتحيُّز وحتى الإحراج المفرط أو غير الواقعي، فهي تتضمن أيضًا مزيجًا من الانجذاب والنفور: الانجذاب على سبيل المثال إلى صورةٍ ذهنية غير واقعية أو مضللة عن الذات، والنفور من أي شخص أو أي شيء يهدِّد تلك الصورة الذاتية العزيزة، أو ازدرائه. هذا التعلق بصورةٍ متغطرسة للذات، سواءٌ أكانت قائمة على حالةٍ اجتماعية أو إنجازٍ ما أو ظروف الميلاد، قد يدفعنا إلى القيام بأفعالٍ تسيء إلى الآخرين، ومثل هذه الأفعال تدمِّر رفاهية الآخرين ورفاهيتنا أيضًا.
وأخيرًا، لدينا عائلة الشك المؤذي، التي تشمل مثل هذه المشاعر الهدامة كالقلق والشعور المفرط بالذنب. تنشأ هذه المشاعر من الخوف المعتاد والكراهية غير الواقعية للذات، والتي تضرُّ للغاية بقدرتنا على التراحم. ومن ثمَّ، يمكن للمشاعر التي تنتمي إلى عائلة الشك المؤذي أن تكون شديدة الضرر على شعورنا بالرفاهية.
تلك إذن هي المشاعر الهدامة التي أرى أنها العقبات الرئيسية أمام رفاهية الإنسان، لا رفاهيتنا الفردية فحسب بل رفاهية مَن حولنا أيضًا، ورفاهية العالم الذي نتشارك فيه في النهاية. إنَّ هذه المشاعر تقوِّض قدرتنا على ممارسة القيم الأخلاقية الإيجابية، مثل الرأفة، بصورةٍ جوهرية. والحقُّ أننا لن نتمكَّن من معالجتها بفعالية إلا عندما نصبح على وعيٍ كامل بالتداعيات السلبية لمثل هذه المشاعر الهدامة ويتضح لنا عدم جدواها وانعدام فائدتها العَملية كاستجابات.
إنَّ تطورنا الداخلي فيما يتعلق بإدارة مشاعرنا الهدامة وضبطها يستلزم نهجًا ذا شقَّين. فمن ناحية، يجب أن نسعى إلى الحد من التأثير المدمِّر للإمكانات المتأصلة فينا، ومن ناحيةٍ أخرى، يجب أن نسعى إلى تعزيز الصفات الإيجابية الموجودة أيضًا فينا بشكلٍ طبيعي. وهذا النهج ذو الشقَّين لتدريب العقل هو ما أعتبره قلب الممارسة الروحية الحقيقية.
(٥) اتخاذ موقف
من أجل البدء في معالجة هذه المشاعر الهدامة، ينبغي لنا أولًا تبنِّي موقفٍ عامٍّ حيالها؛ موقف معارضة.
ينطوي مثل هذا الموقف على إدراك أن قانون المعارضة، الذي يتمثل في أنَّ الإيجابيات تلغي السلبيات أو تُحيِّدها، لا ينطبق على العالَم المادي فحسب، بل ينطبق أيضًا على عالَمنا الداخلي أو النفسي. ونحن نجد في تقاليد الحكمة العظيمة دروسًا واضحة عن الحالات الذهنية التي يجب معالجتها، وعن الحاجة إلى تنمية ترياقها واستخدامه. إذا لم تكن هناك قوًى مضادة لمشاعرنا الهدامة، فما من شيءٍ يمكننا القيام به حيالها. لكن إذا وُجِدَت قوًى مضادة وإيجابية، فمن شأنها إذن أن تصبح ترياقًا قويًّا. فعلى سبيل المثال، الترياق الرئيسي للغضب هو الصبر، وترياق الجشع هو الرضا، وترياق الخوف الشجاعة، وترياق الشك الفهم.
يتمثل أحد العناصر الأساسية في تكوين موقفٍ فعَّال من معارضة المشاعر السلبية، في الإدراك العميق لطبيعتها الهدَّامة، والاقتناع بأننا نستطيع التغلب عليها، وأنَّ علينا السعي جاهدين إلى تحقيق ذلك. حينئذٍ يمكن لهذه القناعة أن تكون بمثابة الأساس لقرارٍ راسخ يقضي بمعالجتها. ويمكننا تطوير هذا العنصر من موقف المعارضة العام من خلال التفكير بانتباه ورأفة، في الآثار المدمِّرة التي تخلِّفها هذه المشاعر على حياتنا وحياة مَن حولنا. يمكننا التأمل في حقيقة أن مثل هذه المشاعر: الكراهية والجشع على سبيل المثال، لا تتسبَّب في العديد من المشكلات الشخصية فحسب، بل هي أيضًا المصادر النهائية للعديد من مشكلاتنا الجَمْعية مثل الحرب والفقر والتدهور البيئي. وببساطة، فإنَّ تبني موقفٍ معارض تجاه المشاعر الهدامة، سيكون له تأثيرٌ فوري؛ إذ يمنحنا الشعور بالحذر، وهو ما يشكِّل عاملَ دفاع أساسيًّا عندما تعصف بنا مثل هذه المشاعر القوية. ولذا فمن المهم جدًّا أن نفكِّر بعناية في التأثير السلبي لكل نزعاتنا الهدامة الأكثر إلحاحًا.
إذا فقدنا صوابنا، ولو فترةً قصيرة، بسببِ شعورٍ هدَّام كالكراهية، فقد تصدر منا أفعالٌ وأقوالٌ فظيعة. وقد يكون الضرر الذي ينشأ في لحظةٍ من الكراهية مدمِّرًا تمامًا. في البوذية، غالبًا ما يُشبَّه العقل البشري بالفيل البري. فكما يعلم بعضُ المزارعين جيدًا، عندما يهتاج الفيل يمكنه أن يُحدِث دمارًا كبيرًا. لكن العقل البشري الجامح والمعتاد على نوبات الغضب أو الحقد أو الرغبة المفرطة أو الغيرة أو الغطرسة، يمكنه أن يُحدِث دمارًا أكبر حتى مما قد يُحدثه فيلٌ هائج، ويمكنه أن يدمِّر حيواتٍ كثيرة.
لمواجهة هذه المشاعر الهدَّامة القوية للغاية التي تكمن بداخلنا جميعًا، نحتاج إلى التحلي بقدرٍ كبير للغاية من الحماس والإصرار إزاء هذه المهمة. وهذا الحماس سوف ينبع بدرجةٍ كبيرة، من النظر في التأثير السلبي لتلك المشاعر. ذلك أنَّ تأثير هذه المشاعر لا يقتصر على الدمار الكبير الناتج عنها في لحظات الاستحواذ الشديد لهذه المشاعر على الذات، بل يمكن أن تخلِّف أيضًا تأثيرًا خبيثًا يفسد علينا رفاهيتنا الداخلية. فعلى نحوٍ تدريجيٍّ مؤكَّد، تقوِّض هذه المشاعر سلامنا الداخلي، وتسلبنا الحرية الذهنية، وتعيق التعبير عن طبيعتنا المتعاطفة التي هي مصدر سعادتنا الكبرى. الحقُّ أننا نستطيع حتى القول إنَّ كل هذا العنف والدمار في العالم هو نتيجة للكراهية. فنحن نستطيع ملاحظة العواقب الهدامة للكراهية على مستوى الفرد والأسرة وعلى المستويات العالمية.
ولهذا؛ أحثُّ الناسَ على التأمل المستمر في الطبيعة الهدَّامة لمثل هذه المشاعر. وسوف أعود إلى مناقشة هذا الموضوع في الفصل الحادي عشر الذي أصفُ فيه بعضَ ممارسات التدريب العقلي البسيطة التي يمكنها أن تكون مفيدة كوسيلة لتنمية الاقتناع بالحاجة إلى التغلب على مثل هذه المشاعر، ويمكنها أن تكون مفيدة في تدريب العقل أيضًا.
(٦) فهْمُ أسباب الأذى
بعد أن نتحلى بعزمٍ قوي للتصدي لمشاعرنا الهدامة، يمكننا حينئذٍ التفكير في أسبابها. من أين تأتي هذه المشاعر المزعجة؟ حسنًا، قد نُجيب بأنها تأتي من العالم الذي نعيش فيه، ومن الآخرين الذين يسيئون إلينا! قد نعتقد أنه لولا الآخرون لما كان لدينا سبب للشعور بالعدوانية أو الاستياء أو القلق.
تُعَدُّ هذه الإجابة المتمثلة في اعتبار الظروف الخارجية هي المصدر لمشكلاتنا، إجابةً طبيعية، لا سيَّما عندما لا نكون معتادين على الانتباه إلى عملياتنا الذهنية الداخلية. فنحن نميل إلى رؤية العامِل المُعكِّر على أنه شيءٌ يقع خارج أنفسنا. لكن إذا تأملنا بعمق، فسنكتشف أن المعكِّر الحقيقي لصفو حياتنا يكمن في داخلنا، وأن ميولنا التدميرية هي عدونا الحقيقي. ذلك أنه إذا كان الظرف الخارجي هو المصدر الحقيقي لمشكلتنا، فسنجد أنه إذا واجه عشرة أشخاص على سبيل المثال، الظرفَ الخارجي نفسه، فسيجد كلٌّ منهم الصعوبة نفسها عند مواجهة ذلك الظرف الخارجي. لكننا نعرف أن الوضع ليس كذلك. فالطريقة التي نستجيب بها عاطفيًّا لأي موقف تعتمد إلى حدٍّ كبير على منظورنا الخاص؛ أي موقفنا وعاداتنا العاطفية.
إذا أردنا تعلُّم اكتساب قدرٍ من السيطرة على المشاعر كخطوةٍ نحو تشكيلِ عقلٍ هادئ، فمن المهم أن نتبع نهجًا محسوبًا، وواقعيًّا قبل كل شيء، للتعامل مع العالم والمشكلات التي نواجهها. لننظر إلى الغضب على سبيل المثال. هل يفيد الغضب حقًّا؟ إذا كان لدينا جارٌ مُعادٍ يستفزنا باستمرار، فهل يفيد غضبنا بأي شيء في تصحيح هذا الوضع؟ أضف إلى ذلك أننا إذا سمحنا للغضب والاستياء بالتفاقم، فسوف يستنزفاننا تدريجيًّا، ويؤثران على مزاجنا ونومنا وحتى شهيتنا. وإذا حدث هذا، فسيكون الجار المعادي قد حقَّق في الواقع نوعًا من الانتصار! من الحماقة أن نستجيب بهذه الطريقة؛ لأنها نوع من التعذيب الذاتي. على النقيض من ذلك، إذا استطعنا التحلي ببعض الهدوء الذهني، والحفاظ على رباطة جأشنا، والاستمرار في حياتنا الطبيعية، فسنكون على درجةٍ أكبرَ كثيرًا من الاستعداد لتحديد المسار الأقوى فاعلية للتعامل مع مثل هذه المواقف. الحقُّ أننا عندما نكون محتدِّين فإننا لا نجيد أيَّ شيء، فحتى تثبيت مسمار في وضعٍ مستقيم قد يكون صعبًا علينا!
عند التأمل إذن، نبدأ في إدراك الخطأ في فهْم أسباب مشاعرنا المزعجة على أنها تتعلَّق فحسب بالأشياء أو الأشخاص الذين يثيرون تلك المشاعر فينا. إذا نظرنا من بعيد وفكَّرنا بعضَ الوقت، فسنجد أنه على الرغم من أن شكاياتنا قد تكون مشروعة إلى حدٍّ ما، فإن مشاعرنا من غضب وإحباط غير واقعية بعضَ الشيء بالفعل وغالبًا ما تكون أضخم مما يستدعيه الموقف الفعلي. قد نجد أيضًا أن مثل هذه المشاعر المزعجة تتكرر كثيرًا، وليس ذلك بسببِ عواملَ خارجية فحسب، بل لأنها صارت أيضًا عادةً عاطفية لدينا.
عندما نبدأ في رؤية الأشياء من هذا المنظور، يمكننا البدء في إدراك أن هذه المشاعر الهدامة تزداد تلقائيًّا؛ أي إننا كلما انغمسنا فيها أصبحت أقوى. ومن ثمَّ فلكي نعالج مثل هذه المشاعر الهدامة الذاتية الاستدامة، يتطلب الأمر منا أن نحوِّل انتباهنا إلى عاداتنا الذهنية. فبدلًا من إلقاء اللوم على الآخرين والعالم من حولنا، علينا أن ننظر في أنفسنا أولًا.
لقد أوضح المفكِّر البوذي شانتيديفا الذي عاشَ في القرن الثامن، هذه النقطةَ على نحوٍ رائع عندما ناقشَ مسألة الغضب. قال إننا إذا أردنا منْع الأشواك من وخز أقدامنا، فسيكون من الحماقة أن نحاول تغطية العالم بأسْره بالجلد. الأسهل كثيرًا والأكثر فاعلية، أن نغطي نحن أقدامنا. وبالطريقة نفسها، من الخطأ الاعتقاد بأننا سنتخلص من الغضب بتغيير كل شيء يغضبنا في العالم. فبدلًا من ذلك، يجب أن نتطلع إلى تغيير أنفسنا.
إنَّ أكثر ما يسهم في استمرار الغضب هو عدم رضانا الداخلي؛ أي تلك الحالة من الغضب الكامن أو الافتقار إلى الرضا، التي نسميها في التبت «يي مي ديوا». إن هذه الحالة من عدم الارتياح الذهني العام الكامن هو ما يجعلنا عرضة لتحفيز المشاعر الهدامة، ولا سيَّما الغضب. وعدم الرضا الداخلي هو الوقود الذي تعتمد عليه المشاعر الهدامة كالغضب والعداء. ولهذا، فمثلما أنَّ إخماد الشرارات الأولى أكثر فاعلية من الانتظار حتى تضطرم النيران لتجنب أضرار الحرائق، تُعَد معالجة الأسباب الكامنة وراء عدم الرضا طريقةً أكثرَ فاعلية من الانتظار حتى تتفجر المشاعر بالكامل، في كبح المشاعر الهدامة من إلحاق الضرر.
(٧) الوعي العاطفي
إذا أردنا أن ننجح في معالجة نزعاتنا الهدامة بفعالية، فيجب علينا أولًا وقبل كل شيء، أن نراقبها وندرسها عن كثب. فمعالجة الميول الهدامة لا تقتصر على قمعها فحسب. ذلك أنَّ عاداتنا العاطفية والنفسية يمكن أن تكون عميقة الجذور ومتأصلة، وغالبًا ما تكون قد تشكَّلت على مدار العديد من السنوات. ومن ثمَّ، إذا لم نتعامل مع مثل هذه المشاعر بصدقٍ وكبتناها عوضًا عن ذلك، فقد يؤدي هذا إلى نتائجَ عكسية. حقيقة الأمر أنَّ تجاهل المشاعر أو قمعها قد يجعلها تتفاقم بالفعل وتشتد حتى تنبثق إلى السطح كنهرٍ ممتلئ يفيض على ضفافه، وربما تجد هذه المشاعر مُتَنَفَّسًا تعبيريًّا في أفكارٍ وسلوكياتٍ سلبية غير متوقعة. ولهذا؛ فبدلًا من قمع مشاعرنا الهدامة، يجب أن نكون منفتحين وصادقين مع أنفسنا وأن نستحضر وعينا ويقظتنا بما يثيرها وما تحفِّزه فينا، إضافةً إلى السلوكيات التي تدفعنا لها. هذا النوع من الانتباه الاستبطاني إلى الطريقة التي تنشأ بها هذه المشاعر بداخلنا، وتتجلى في سلوكنا، هو ما أسميه بالوعي العاطفي. إنَّ ممارسة مثل هذا الوعي من خلال التصدي المباشر لهذه المشاعر وإمعان النظر الدقيق فيها، هي الطريقة الوحيدة التي تمكِّننا تدريجيًّا من التحكم فيها.
مرةً أخرى، يجدر بنا في هذا السياق أن نفكِّر في سلوكنا من حيث الأبعاد الثلاثة: على مستوى الجسم، والكلام، والأكثر أهمية؛ العقل. إذا استطعنا الحفاظ على انتباهٍ استبطاني فيما يتعلق بهذه الجوانب الثلاثة لتجربتنا وسلوكنا، فسوف نتمكَّن تدريجيًّا من تنمية وعيٍ عاطفي من شأنه أن يكون مفيدًا للغاية في كبح دوافعنا السلبية.
(٨) الانتباه
إن الانتباه إلى التجربة العاطفية مفيدٌ للغاية، لكن تحقيقه صعب للغاية في بادئ الأمر. الحقُّ أنَّ محاولة تمييز المشاعر في لحظة ظهورها قد تبدو مستحيلة في البداية. ويُعزى ذلك بقدرٍ كبير إلى أنها سريعة للغاية، وفي تلك اللحظة الخاطفة التي ينشأ فيها بداخلنا شعورٌ قوي، فإنَّ هذا الشعور يبدو وكأنه يشغل كامل وعينا. ونتيجة لهذا، فإنَّ العملية التي تظهر من خلالها غامضةٌ علينا. هذه الصعوبات طبيعية، وينبغي ألا تجعلنا نشعر بوهن العزيمة أو الإحباط. بل يجب أن نتذكَّر أن الوعي العاطفي لا يتطور إلا تدريجيًّا، مع التحلي بالمثابرة والصبر. ولهذا السبب، لا يمكننا البدء بمعالجة مشاعرنا مباشرةً، بل ينبغي لنا التركيز على مظاهرها الخارجية في سلوكنا.
في هذا السياق، من المفيد تصوُّر بداية الشعور الهدَّام على أنه سلسلةٌ سببية تبدأ بمنبهٍ خارجي وتنتهي باستجابتنا السلوكية. ويتمثَّل الهدف من الوعي العاطفي في جذب انتباهنا أو يقظتنا إلى هذه العملية التي تستغرق أجزاءً من الثانية، ومن ثمَّ اكتساب قدرٍ من التحكم فيها.
تخيَّل، على سبيل المثال، بابًا يُصفَق. يأتي بعد ذلك إدراكنا المادي لذلك المنبه من خلال حاستَي السمع والبصر، وربما اللمس أيضًا. في البداية، يكون هذا حدثًا ماديًّا بحتًا، لم يصطبغ بعدُ بأي تأويل. لكن بعد ذلك، بعد أقل من جزءٍ من الثانية، يأتي التأويل. وغالبًا ما تنطوي هذه المرحلة على عنصرٍ من الإسقاط أو المبالغة: على سبيل المثال، إصدار حُكم في جزء من الثانية بأن فلانًا قد صفَق الباب عمدًا على سبيل الإهانة. وسرعان ما يُتبَع التأويل بالاستجابة العاطفية أو الانفعالية، التي قد تكون الغضب أو الانزعاج أو الهياج. وفي النهاية، وبسرعةٍ كبيرة في كثير من الأحيان أيضًا، تأتي استجابتنا السلوكية؛ إذ نقول شيئًا أو نفعل شيئًا بدافع الانتقام.
حالما نفهم هذه السلسلة السببية، يصبح الهدف هو اعتراضَ تدفُّقها عن طريق «كَبح جماح أنفسنا»، إن جاز التعبير، واستحضار الوعي في العملية. وعمومًا، فإنَّ الأسهل هو البَدء بالقرب من النهاية؛ أي بين رد الفعل العاطفي والتعبير السلوكي عنه. وبعد ذلك، عندما نصبح أكثر درايةً بالعملية ويتطور وعينا العاطفي بمرور الوقت، يمكننا العودة إلى الوراء على طول السلسلة السببية، رغبةً في تحقيق الهدف النهائي المتمثل في قمع المشاعر المؤذية أو التخلص منها تمامًا.
(٩) كَبْح جماح النفس
إذن، ينبغي توجيه جهودنا الأولية نحو ضمان عدم تحوُّل استجاباتنا العاطفية الهدامة إلى فعلٍ بدني أو لفظي. الفكرة هي أن نكبح جماح أنفسنا قبل أن نبدأ في الانفجار، وأن نمارس ضبط النفس. يذكِّرني هذا بقصةٍ تبتيةٍ معروفة عن بن جونجيال، الذي كان لصًّا ثم أصبح معلمًا روحيًّا. ذات يوم بينما كان بن جونجيال يزور منزل أحد الأشخاص، تركه مضيفه وحده. ولأنه كان قد اعتاد السرقة للغاية، امتدت يده اليمنى غريزيًّا لأخذ شيءٍ ما. وفي اللحظة نفسها أمسك بنفسه حرفيًّا؛ إذ قبض بالفعل على ذراعه اليمنى بيده اليسرى وصرخ قائلًا: «يوجد لصٌّ! يوجد لصٌّ هنا!»
لمساعدتنا على تعلُّم كيفية ضبط النفس وكبح جماحها، من المفيد أن نألف الطرق التي تؤثِّر بها تجاربنا العاطفية الهدامة على جسدنا. على سبيل المثال، ماذا يكون شعورك في اللحظة التي تصبح فيها منزعجًا؟ هل تتغير ضربات قلبك؟ هل تشعر بأي شَد في الوجه؟ هل يحدث أي وخز في ذراعَيك أو كتفَيك؟ بماذا تشعر عندما تواجه مشهدًا يثير اشمئزازك لأول مرة؟ هل يوجد شد في العضلات؟ وما الأحاسيس المصاحبة لمشاعر الغيرة أو الحسد؟ هل تشعر بها في معدتك، أو ربما في صدرك؟
إضافةً إلى تعلُّم كيفية التعرُّف على المظاهر الجسدية لعواطفنا، يمكننا أن نحاول مراقبة استجاباتنا الجسدية والنفسية لهذه الأحاسيس. هل نتصرف بطريقةٍ معينة، أو نقول أشياءَ معينة، أو تدور في أذهاننا أفكارٌ معينة؟ هل نقطِّب جبيننا أو نحكم قبضة أيدينا؟ أيمكن أن نشعر بالحاجة إلى المشي أو الوقوف، أو ربما التململ فحسب؟ هل يتغيَّر صوتُنا عندما نكون مضطربين؟ أيصبح الصوت أعلى أو أكثر حدة؟ هل تَرِد الكلمات على الذهن بوتيرةٍ أسرع؟ إذا كنا بصدد العمل أو الحديث عند ظهور مثل هذه العواطف، فكيف تؤثِّر العاطفة على عملنا أو مضمون ما نقوله؟
يساعدنا الانتباه إلى مثل هذه التفاصيل في التعرُّف على حالاتنا العاطفية، ومع المزيد من المعرفة نكتسب مزيدًا من السيطرة. وغالبًا ما تساعد الأعمال البسيطة المتمثلة في الانفصال بأنفسنا عن هذه الحالات العاطفية وفحصها في تهدئتها.
حالما تعتادَ تمامًا على هذه العملية وتبدأ في وضع مقياس للنجاح في تقييد ردود أفعالك السلوكية، يمكنك بعد ذلك التراجع خطوةً واحدة على طول سلسلة السببية ومحاولة منع الشعور نفسه من الوصول إلى مرحلة التفجُّر. بعبارةٍ أخرى، يمكنك أن تتعلم تهدئة نفسك في اللحظة ذاتها التي تدرك فيها بداية نشوء الشعور القوي. قد يشمل القيام بذلك على سبيل المثال، أخْذَ عدةِ أنفاسٍ عميقة، أو يتضمن ببساطة تحويلَ ذهنك عن العامِل المثير. أو ربما تصبح قادرًا على رؤية موقفٍ معيَّن بصورة أكثرَ إيجابية، كما في حالة الشباب الفلسطينيين الذين تعلموا رؤية صورة الإله في وجوه الجنود عند نقاط التفتيش الإسرائيلية. في بعض الأحيان، حتى إذا كان الموقف الراهن مأساويًّا، فإن النظر إليه في سياق أسبابه وظروفه المتعددة يمكن أن يساعد في نزع فتيل ردود الفعل العاطفية السلبية القوية. يفيد ذلك أيضًا في رؤية الموقف من زوايا أو وجهات نظر مختلفة؛ فيصبح من الممكن رؤية بعض النتائج الثانوية في موقفٍ يبدو مأساويًّا من إحدى الزوايا.
مع اكتساب المزيد والمزيد من الدراية بهذا النهج، ستصبح تدريجيًّا أكثرَ تمرسًا وإتقانًا، حتى تصل إلى النقطة التي قد تتمكَّن عندها من الإمساك بزمام نفسك حتى قبل نشوء السلوك الانفعالي. فحين تصبح واعيًا بكيفية نشوء المشاعر الانفعالية كالغضب أو الحنق أو الانزعاج لديك، يمكنك أن تتعلم تمييز ما يحفِّزها ومن ثمَّ يمكنك تسليح نفسك ضدها من خلال استحضار الوعي لممارسته في مرحلةٍ مبكرة من العملية. في النهاية، من خلال الممارسة يمكنك إضعاف حساسيتك للمحفزات نفسها، من خلال عدم السماح لعنصر الإسقاط بتشويه تفسيرك للأحداث. يمكن أن تكون هذه المرحلة النهائية بالغة الصعوبة، لكن إذا تمكَّنتَ من تحقيقها، فستجدها أيضًا تحريرية للغاية. فحتى عندما تتعرض لمحفِّز مثل كلماتٍ عدائية من شخصٍ آخر، سيحميك وعيك من التأويلات الغريزية التي تجعلها المبالغة والإسقاط ضبابية، ومن ثمَّ فإنها تمكِّنك من الاستجابة بهدوءٍ وفطنة.
(١٠) مسألة الحالات المزاجية
استمتعتُ في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، بعدد من الحوارات مع الدكتور بول إيكمان، أحد رواد الدراسة العلمية للوجدان، أو ما يُسمَّى ﺑ «علم الأعصاب الوجداني». من وجهة نظر الدكتور إيكمان، ليست عواطفنا، التي يصفها بأنها سريعة الزوال، هي الأكثر ضررًا على رفاهيتنا، بل حالاتنا المزاجية. فبينما تأتي العواطف وتختفي بسرعة، تكون الحالات المزاجية أكثر ديمومة، ونظرًا لأنها كامنة إلى حدٍّ كبير وتحدِّد حالتنا الذهنية لكن دون أي تركيزٍ خاص، فقد تكون خفية أيضًا إلى حدٍّ ما عن إدراكنا الواعي ومن ثمَّ تصعب معالجتها. يقول الدكتور إيكمان إن الحالات المزاجية هي التي تجعلنا أكثرَ عُرضة لانفعالاتٍ معينة، وإنها ما يجب أن نحوِّل انتباهنا إليه. وأنا أعتقد أن هذه الملاحظة مفيدة.
وفقًا لفهمي، أرى أنَّ العواطف، والحالات المزاجية، والسمات الشخصية يمكن التعامل معها جميعًا على أنها ظواهر تجمع بينها صلة قرابة وتقع على تسلسلٍ متصل، حيث تزيد قدرة كلٍّ منها على الاستدامة بدرجةٍ أكبر من سابقتها. لهذا السبب، فإن الطرق الأساسية للتعامل معها تتماثل إلى حدٍّ كبير. لكن مسألة الحالات المزاجية تثير أيضًا مسألة المستوى العام لطاقة الشخص، الجسدية والنفسية على حدٍّ سواء. ولذا؛ يركِّز التقليد البوذي تركيزًا كبيرًا، لا سيَّما في سياق تدريب العقل، على مواجهة المشكلتَين المتقابلتَين المتمثلتَين في فرط التراخي أو البلادة أو الكسل من ناحية، والإثارة المفرطة من ناحيةٍ أخرى. وأنا أعتقد أن لهذا النوع من النصائح، التي أناقشها بمزيد من التفصيل في الفصل الحادي عشر، بعضَ التأثير على مسألة التعامل مع حالاتنا المزاجية. علاوةً على ذلك، بالرغم مما قد يبدو من صعوبة الخروج من إحدى الحالات المزاجية، أعتقد أننا جميعًا شعرنا بتحسن في حالتنا المزاجية بسرعةٍ كبيرة استجابةً لبعض الأخبار الجيدة. يدل هذا على أن الحالات المزاجية لا تتسم بما قد تبدو عليه من استقرار واستمرارية. أحيانًا تنشأ الحالة المزاجية نتيجةَ بعض المشاعر المكبوتة بداخلنا، وعندما تتحرَّر تلك المشاعر عن طريق التحدُّث إلى شخصٍ ما، أو ربما الاعتذار عن شيءٍ تندم عليه، أو حتى مشاركة مزحةٍ ما، قد يتغيَّر مزاجك سريعًا. ربما يكون هذا الارتياح مؤقتًا بالطبع؛ أي كالراحة التي نشعر بها عند تناول المسكِّنات. ومن ثمَّ، نجد في النهاية أنَّ الطريقة الأكثر فعالية للتعامل مع الحالات المزاجية هي التعامل مع المشاعر المسببة لها نفسها.
لا شك أن التعامل مع ميولنا إلى السلبية يمثِّل تحديًا كبيرًا. ففي مواجهة عقبات الحياة اليومية، يمكن أن نقع جميعًا بسهولةٍ كبيرة في العادات النفسية السلبية القديمة مثل الإحباط أو الغضب أو القنوط. ولذا؛ فما نحتاج إليه هو تجديد جهودنا باستمرار كي نعيش وفقًا للقيم التي نريد دعمها.