إبكتيتوس: المختصر «النص الكامل»
(١) ما في قدرتنا وما ليس في قدرتنا
من الأشياء ما هو في قدرتنا وطَوْقِنا، ومنها ما ليس في قدرتنا وليس لنا به يد؛ فمما يتعلق بقدرتنا: أفكارُنا ونوازعُنا ورغبتُنا ونفورُنا، وبالجملة كلُّ ما هو من عملنا وصنيعنا، ومما لا يتعلق بقدرتنا أبدانُنا وأملاكُنا وسُمعتنا ومناصبُنا، وبالجملة كلُّ ما ليس من عملنا وصنيعنا.
أمَّا الأشياء التي في قدرتنا فنحن بطبيعتنا أحرارٌ فيها، لا حائل بيننا وبينها ولا عائق، وأمَّا الأشياء التي ليست في قدرتنا فهي أشياء هشَّةٌ وعبوديةٌ وعُرضةٌ للمنع وأمرُها موكولٌ لغيرنا.
تذكَّر إذن أنك حين تأخذ ما هو بطبيعته مملوكٌ على أنَّه حر، وما هو موكول لغيرك على أنَّه لك، فلسوف تخيب وتأسى وتنخذل، ولسوف تلوم الآلهةَ والبشر. أمَّا حين لا تأخذ إلا ما هو لك على أنه لك، وحين تدع ما هو لغيرك على أنه، حقًّا، لغيرك، فلن يكون لأحدٍ سلطانٌ عليك، ولن يصدَّك أحدٌ عن سبيلك، ولن تلوم إنسانًا ولن تتهم أحدًا، ولن تفعل أيَّ شيءٍ غصبًا، ولن يضرَّك أحدٌ، ولن يكون لك عدوٌّ إذ لا يمكن أن يمسَّك أذى.
إذا كنت تصبو إذن إلى مثل هذه الأشياء العظيمة فتذكَّر أنك لن تشتريها بثمن قليل، إنما سيتعيَّن عليك أن تتخلى عن بعض الأشياء كلَّ التخلي، وأن تُرجئ الأخرى في الوقت الحاضر. أمَّا إذا كنت تريدها وتريد معها النفوذ والثروة أيضًا، فلربما تخسرُ حتى هذه الأشياء نفسها (النفوذ والثروة) لأنك صبوت أيضًا إلى تلك (الأشياء العظيمة). يقينًا سوف تفوتك تلك الأشياء التي بها وحدها تتحقق السعادة والحرية.
(٢) الرغبة والنفور
(٣) تذكَّر بقية الخصائص
(٤) الانسجام مع الطبيعة مطلبي أيضًا
إذا كنت معتزمًا القيام بعمل ما، ذكِّر نفسك بطبيعة هذا العمل. فإذا كنت ذاهبًا لكي تستحمَّ فتمثَّل في نفسك ما يحدث في الحمامات العامة؛ ثمَّة من يُرشِّشُ الماء، والبعض يتدافعون بالمناكب، وآخرون يسبُّ بعضهم بعضًا، وهناك من يسرق. وهكذا سوف يتسنَّى لك الاضطلاع بشأنك على نحوٍ آمِن إذا قلت لنفسك: لقد اعتزمتُ الآن أن أغتسل وأن أحفظ إرادتي في انسجام مع الطبيعة. وليكن هذا دأبك في أي عملٍ آخر؛ فبذلك إذا ألمَّت بك في اغتسالك أيُّ عوائق سيمكنك أن تقول: «لم يكن مقصدي الاغتسال فحَسْب، بل قصدت أيضًا أن أحفظ إرادتي في انسجامٍ مع الطبيعة، ولن يكون لي أن أحفظها هكذا إذا أنا تبرمتُ مما يحدث.»
(٥) الأحكام هي ما يُكرِب٥
ليست الأشياء ما يُكرِبُ الناس ولكن أحكامُهم عن الأشياء. الموتُ مثلًا ليس مُريعًا، وإلا لكان سقراط أيضًا رآه كذلك. وإنما المريعُ هو الحكمُ بأن الموت مريع؛ لذا فعندما ينتابنا الإحباط أو الاضطراب أو الحزن فإن علينا ألَّا نلوم غير أنفسنا؛ أعني غير أحكامنا نحن. أن يلوم المرء الآخرين على ما أصابه … ذلك من شيمة الجاهل. أمَّا بداية العلم فأن تلوم نفسك، وأمَّا تمام العلم فألا تلوم نفسك ولا غيرك.»
(٦) استخدام الانطباعات
ما الذي يخصُّكَ إذَن؟
استخدامُك للانطباعات.
فإذا ما استخدمت الانطباعات بما يُوافق الطبيعة ربما يحقُّ لك عندئذٍ أن تفتخر، ما دام افتخارُك هو بشيءٍ يخصُّك.
(٧) انتبه إلى القُبطان
(٨) أَرِدْ ما يكون
(٩) الإعاقة الخارجية
المرض إعاقةٌ للبدن، ولكن ليس للإرادة، إلا إذا اختارت الإرادة ذلك.
العرجُ إعاقة للأرجل، وليس للإرادة.
وقلِ الشيءَ نفسه عن كل شيء يحدث، فلسوف تجده إعاقةً لشيءٍ آخر ولكن ليس لك أنت.
(١٠) المَلَكَةُ المطلوبة
لدى كلِّ شيءٍ يَعرِضُ لك فَتِّش في نفسك عن الملَكة التي تُعِينك على استخدامه.
إذا عَرَضَ لك شخصٌ مُغرٍ أو مليحٌ فستجِدُ أن التعفُّف هو الملَكة المطلوبة.
إذا فُرِضَ عليك عملٌ شاقٌّ ستجد الجَلَد.
إذا نالتك إهانةٌ فستجد الصبر.
وهكذا إذا وطَّنت نفسك على ذلك، فلن تجرِفَك المظاهر وتغلِبك على أمرِك.
(١١) رد الودائع
فلقد استُرجِعَت الوديعة، وأُخِذَت الرهينة.
لا تقُولَنَّ لشيءٍ: «إني فقدته»، بل قُل «إني رددته».
هل مات وَلدُك؟ لقد استُرِدَّ.
هل ماتت امرأتك؟ لقد استُرِدَّت.
(١٢) ثمن الصَّفاء
إذا شئت أن تُحرِز تقدُّمًا فلتُقلِع عن مثل هذه الاستدلالات:
«إذا أهملتُ شئوني فلن أجِدَ لي سندًا.»
«ما لم أقوِّم خادمي فسوف يسوء حالُه.»
فلأنْ تموتَ جوعًا، فتشْفَى بذلك من الأسى والخوف، خيرٌ لك من أن تعيش غنيًّا معتكر المزاج. ولأن يكون خادمك سيئًا خيرٌ لك من أن تكون أنت تعيسًا.
فلتبدأ من أصغر الأشياء: انسكَبَ شيءٌ من الزيت؟ سُرِق النبيذ؟ قل: «هذا ثمنُ خُلوِّ البال وصفاء النفس، ولكلِّ شيء ثمن.»
إذا ناديتَ خادمك، فاذكر أنَّه قد لا يُجيبك. وإذا أجابك فقد لا يُنفِّذ ما تريده. غير أنه ليس من السطوة بحيث يكون بمقدور مثله أن يعكِّر صفوك.
(١٣) إما الطبيعة وإما الأشياء الخارجية
إذا شئتَ أن تُحرِز تقدُّمًا فلا تستنكِفْ أن تبدو بليدًا ساذجًا تجاه الأمور الخارجية. لا ترغب في أن يظنَّك الناسُ عليمًا بأي شيء. وإذا بدا للبعض أنك ذو شأن فلا تثق في نفسك. ولتعلم أنك لا يمكنك أن تبقى منسجمًا بإرادتك مع الطبيعة، وأن تضمن لنفسك الأشياء الخارجية في الوقت نفسه؛ ذلك أنَّ المرء إذا اهتم بهذه فلا مناصَ له من أن يُهمِلَ تلك.
(١٤) ما السيد؟ وما العبد؟
من السخف أن تطلب لأبنائك وزوجك وأصدقائك البقاء إلى الأبد؛ فذلك يعني أنك تريد أن يكون في قدرتك ما ليس في قدرتك، وأن يكون من ممتلكاتك ما ليس من ممتلكاتك. وهكذا إذا تطلَّبت من خادمك ألا يخطئ فأنت أحمق؛ لأنك تتطلبُ من الرذيلة ألا تكون رذيلة بل تكون شيئًا آخر.
(١٥) سلوك المَآدِب
تذكَّر أنك ينبغي أن تسلك في الحياة مثلما تسلُك في مأدُبة، هل دار عليك أيُّ صنف؟ فامدد إليه يدك ونَلْ منه قسطك باعتدال. هل فاتك؟ فلا تستوقِفْه، ألم يأتِ بعدُ؟ فلا تمدُدْ إليه رغبتك بل انتظر حتى يصل إليك.
افعل ذلك فيما يتعلق بالأطفال والزوجة والمناصب العامة والثروة، ولَسوف تكون في النهاية جديرًا بالمشاركة في ولائم الآلهة.
(١٦) لا تَنُحْ في داخلِك
إذا ما رأيت شخصًا يبكي متحسِّرًا، لفراق وَلَدٍ أو لوفاته، أو لفُقدان ممتلكاته، فاحذر أن يأخذك الظاهرُ بعيدًا فتظنَّ أن الأضرار الخارجية هي ما يُبكيه، بل اذكُر في الحال أن «ما يكرثه ليس الحدث؛ فمثلُ هذا لا يكرُثُ غيره، بل فكرته عن الحدث.»
(١٧) ممثل في مسرحية١٤
تذكر أنَّك ممثلٌ في مسرحية تمضي مثلما يشاءُ لها المؤلف؛ قصيرةٌ إذا شاء لها القِصَر، وطويلةٌ إذا شاء لها أن تطول. إذا راقه أن تلعب فيها دور شحاذ فإن عليك أن تؤديه أداءً طبيعيًّا. وقد يريدك أن تؤدي دورَ أعرجَ أو مسئولٍ حكومي أو صاحب عملٍ خاص. وأيًّا ما كان دورك، فهذه مهمتك: أن تُجيد أداء الشخصية المُقيَّضة لك. أمَّا اختيار الشخصية فليس هذا من شأنك.
(١٨) نُذُرُ الشؤم
(١٩) الحريةُ هي الغِنَى «عن»
(٢٠) ثورة الغضب
تذكر أنَّ مَن شتمَك أو ضربَك لم يُهِنْك، وإنما الذي أهانك هو حكمُك بأن هذه الأشياء إهانة. فاعلم إذن كلَّما أغضبك أحدٌ أن فكرتك ذاتها هي ما أغضبك؛ لذا حاول جُهدَك في المقام الأول ألَّا تجرفك المظاهر؛ فبمجرد أن تمنح نفسك مُهلةً وتتريَّثَ في الأمر سيكون أيسر عليك أن تتمالك نفسك.
(٢١) فكِّر في الموت
ضع نُصْبَ عينيك، في كل حين، الموتَ والمنفى وكلَّ ما يبدو مرعبًا، ولكن اجعل الموتَ أوَّلَها جميعًا. عندئذٍ لن تفكِّر أبدًا في أي شيءٍ دنيء، ولن تتوق إلى أيِّ شيءٍ تَوْقًا زائدًا عن الحد.
(٢٢) الاستهزاء بالفلسفة
(٢٣) مُحصَّنٌ بالفلسفة
إذا تصادف لك أن التَفَتَّ إلى الأشياء الخارجية لكي تُرضي شخصًا ما فَثِقْ أنك قد ضللت السبيل. فاقنع إذن، في كل شيء، بكونك فيلسوفًا. وإذا أردت أن تبدو أيضًا لأي شخص كفيلسوف، فلتبدُ فيلسوفًا لنفسك، وسوف يكفيك هذا.
(٢٤) مواطنٌ مخلصٌ … عونٌ وثروةٌ
لعلك تقول: «ولكني لن أكون قادرًا على أن أُقدِّم العون لأصدقائي.»
فماذا تعني بكلمة «عون»؟ تعني أنك لن تقدِّم لهم مالًا، ولن تمنحهم المواطنة الرومانية؟ فمن قال لك إن أشياء من هذا القبيل هي في قدرتك وليست في قدرة سواك؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يعطي غيره ما ليس يملكه هو نفسه؟ لعلهم يقولون لك: «حسنًا، فلتَكسِب هذه الأشياء إذن لكي تفيض علينا بحظٍّ منها.» فقل: «إذا كان بالإمكان أن أكتسب المال وأُبقِيَ على تواضعي وإخلاصي وشهامتي، فلتدُلُّوني على الطريق ولسوف أكتسبه. ولكن إذا كنتم تريدونني أن أفقد الأشياء التي هي خيرٌ والتي هي في حوزتي، لكيما تَحْظَوا بالأشياء التي ليست خيرًا، فما أظلَمَكم وأحمَقَكم. ثُمَّ ما هو الأفضل: أن يكون لكم مالٌ أم أن يكون لكم صديقٌ مخلصٌ شريفٌ؟ فلتساعدوني إذن على أن أكون ذلك الشخص لا على أن أفعل ما هو حقيقٌ أن يجرِّدَني من هذه الصفات.
– «ولكن وطني، بقدرِ ما يعتمد عليَّ سوف يفقد عَوْني.»
مرة ثانية، ماذا تعني بكلمة «عون» هنا أيضًا؟ لن يحظى الوطن بأروقةٍ معمَّدة أو حمامات بواسطتك. وماذا في ذلك؟ فالوطن لن يتزود بالأحذية بواسطة الحدَّاد، ولا بالأسلحة بواسطة الإسكاف. ولكن بحَسْبِه أن ينصرف كلٌّ إلى العمل الموكول له فيؤدِّيه أتمَّ الأداء. وإذا كان عليك أن تُزوِّد الوطن بمُواطنٍ إضافيٍّ مخلِصٍ وشريف، ألن يكون هذا ذا نفعٍ له؟ فكذلك أنت.
ستقول: «أي مكانٍ إذن سوف أَشْغَله في الدولة؟»
أيُّما مكانٍ يمكنك أن تَشْغَله محتفظًا بإخلاصك وشرفِك. أمَّا إذا دفَعَتك رغبتُك في نفع الدولة إلى أن تفقد هذه الصفات، فأيُّ نفعٍ يمكن أن ينالها منك إذا ما صِرْت صفيقًا خائنًا؟!
(٢٥) دفعُ الثمن
هل فُضِّل عليك غيرُك في دعوةٍ إلى وليمة، أو في تكريمٍ، أو اجتماع مجلس؟
إذا كانت هذه الأشياء خيرًا، فإن عليك أن تَغْبِط مَن نالها. أمَّا إذا كانت شرًّا فلا تحزن لأنك لم تَنَلْها. واعلم أنك لا يمكن أن يُسمَح لك بمنافسة الآخرين في الأشياء الخارجية دون أن تستخدم نفس الوسائل للحصول عليها. وإلا فكيف يمكن لامرئٍ لا يتردد على أبواب أيٍّ كان ولا يلازمه ولا يتملَّقه أن يحظى منه بما يحظى به مَن يفعل هذه الأشياء؟ إنك لمُجْحِفٌ وجشِعٌ إذا كنت تتخلى عن دفع الثمن الذي تُباع به هذه الأشياء، وتريد أن تحصل عليها بالمجَّان.
كذلك الأمر في حالتنا هذه؛ أنت لم تُدْعَ إلى وليمةِ مثلِ هذا الشخص؛ لأنَّك لم تدفع له الثمن الذي يُباع به العَشاء؛ إنه يُباع بالإطراء، يُباع بالتزلُّف. أَسْدِ إليه الثمن إذن إذا كان في ذلك مصلحتك. أمَّا إذا أردت أن تحتفظ بالثمن وتحظى بالشيء في آنٍ معًا فأنت جشِعٌ وأحمق.
أتظنُّ أنك لم تفُزْ بشيء في مقابل العشاء الذي فاتَكَ؟
بل فُزتَ حقًّا، فزتَ بإعفائك من تملُّق مَن لا تريد أن تتملَّقه، وإعفائك من تحمُّل فظاظة الحُجَّاب على بابه.
(٢٦) الطبيعة لا تختلف
من يُرد أن يعرف إرادة الطبيعة فليطَّلع على الأمور التي لا يختلف فيها أحدُنا عن الآخر. مثلًا، إذا كسر خادمُ جارِنا كوبًا أو ما أشبه، فإننا نسارع بقولنا: «لا بأس، مثل هذه الخسائر لا بد منها.» عليك إذن إذا انكسر كوبك أنت، أن تكون مثلما كنت بإزاء كوب غيرك.
فلتُطبِّق هذا على ما هو أعظم من الأمور؛ هل تُوفِّيَ ابنٌ لأحدٍ أو تُوفِّيَت زوجته؟ ليس منا مَن لن يقول: «هكذا حالُ البشر.» فإذا ما تُوفِّي أحدٌ من ذويه لم يلبث أن يقول: «وا أسفاه، كم أنا حزين!» فلنتذكر دائمًا ما نجده في أنفسنا عندما نسمع بحدوث الشيء نفسه للآخرين.
(٢٧) العالم ليس شرًّا
لا أحد يُحدد أمامه دَرِيئةً (هدفًا للرمي) من أجْلِ أن يُخطئها! وبالمثل، لا شيء في العالم هو شرٌّ في طبيعته وصميمه.
(٢٨) تسليمُك لعقلك!
إذا سلَّمَ أحدٌ جسدك لأولِ عابرٍ فسوف تغضب ولا ريب.
أفلا تخجل إذن وأنت تُسلم عقلك لأي عابرٍ بحيث إذا سَبَّك تكدَّرت وتعكَّر صفوُك؟!
(٢٩) رياضة الفلسفة
في كل فعلٍ تَهُمُّ به انظر فيما سبق وما يلحق، ثُمَّ امضِ في الفعل نفسه. وإلا فإنك ستبدأ بحماسٍ، غيرَ مُبالٍ بالعواقب، حتى إذا ما اعترضتك بعضُ المصاعب انسحبت منخذلًا.
هل تريد أن تفوز في الأوليمبياد؟ أنا أيضًا أريد، وحقِّ الآلهة؛ فهذا شيءٌ رائع. ولكن انظر فيما يسبق ذلك وما يتلوه، فإذا راقك فاشرع في العمل؛ إن عليك أن تلتزم في كل شيءٍ بقواعد؛ أن تأكل وفق نظامٍ صارمٍ، أن تمتنع عن لذيذ الطعام، أن تأخذ نفسك بالتدريب، شئتَ أم أبَيْتَ، في مواعيد محدَّدة، في الحرِّ والبَرْد، ألَّا تشرب ماءً باردًا، وألا تشرب نبيذًا على هواك. وباختصارٍ، يجب أن تُسْلِم نفسك لمدرِّبك مثلما تُسلمها للطبيب؛ وعندئذٍ، عندما تمضي إلى المباراة فقد تقع في مَصرِف، وقد تنخلع ذراعك، أو يلتوي كاحلك، أو تستفُّ ترابًا كثيرًا، وربما تُضرَب، وبعد كل هذا تخسرُ المُنازلة.
إذا بقيتَ تنوي — بعد النظر في كل هذه الاعتبارات — أن تدخل في المسابقات الرياضية، فادخل. وإلا فلتعلم أنك سوف تسلك كالأطفال الذين يلعبون حينًا دَوْرَ المصارعين، وحينًا آخر دورَ المُجالدين، وتارةً ينفخون البوق، وطَوْرًا يمثِّلون تراجيديا إثر رؤيتهم لهذه العروض وإعجابهم بها. كذلك أنت أيضًا ستكون آنًا مصارعًا وآنًا آخر مجالِدًا، وتارةً فيلسوفًا، وطورًا خطيبًا؛ ولكن لن تكون شيئًا على الإطلاق بكلِّ روحك. أنت تُقلِّد، كالقرد، كل ما تراه. يروقُك الشيء تلوَ الآخر بكل تأكيد، غير أنه يفقد لديك جاذبيته بمجرد أن تَألَفَه؛ ذلك أنك لم تدخل في أيِّ شيء قطُّ بتبصُّرٍ أو بعد استقصاء الأمر كله وتمحيصه، بل دخلتَه باستخفافٍ ورغبةٍ فاترة.
انظر يا صاحبي، قبلَ كل شيء، ما هو الأمر، ثُمَّ تفحَّص طبيعتك الخاصة ومدى قدرتك على تحمُّل ذلك. هل تريد أن تشارك في «الخماسي» أو أن تكون مصارِعًا؟ انظر إلى ذراعيك وفخذيك وتفحَّص جنبَيك؛ «فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له.»
أتظن أنك إذ تَمضي في هذه الأشياء يكون لك أن تأكل مثلما تأكل، وتشرب مثلما تشرب، وتغضب وتستاء مثلما اعتدت؟ إنما يتعيَّن عليك أن تبقى صاحيًا، أن تعمل، أن تهجر عشيرتك، أن يزدريك خادمٌ، أن يَسْخَر منك كلُّ ساخر، أن يكون لك النصيب الأدنى في كل شيء؛ في الشهرة، في المنصب، في المحاكم، في كل صغيرة وكبيرة.
انظر في كل هذه الأشياء، وانظر هل تريد أن تستبدل بها خُلوَّ البالِ والحرِّية والسكينة، وإلا فلا تقترب. لا تكن كالأطفال آنًا فيلسوفًا، ثُمَّ جابيًا، ثُمَّ خطيبًا، ثُمَّ موظَّفًا لقيصر؛ فهذه الأشياء لا تَتَّسِق.
إنما عليك أن تكون شخصًا واحدًا، جَيِّدًا أو رديئًا. إما أن تُنمِّي ملَكَتك العقلية، وإما أن تُنمِّي أشياءك الخارجية. إمَّا أن تنصرف إلى الأشياء الداخلية وإما إلى الأشياء الخارجية؛ أي إنك إمَّا أن تكون أحدَ الفلاسفة، وإمَّا أن تكون أحدَ السُّوقة.
(٣٠) تأمَّل العلاقات
العلاقات تحدِّد الواجبات.
«هو والدُك» تعني أن عليك أن ترعاه، وتُذعِن له في كلِّ أمر، وتحتمله إذا أهانك أو ضربك.
– «ولكنه أبٌ سيئٌ.»
– حسنًا، وهل لديك أيُّ حقٍّ طبيعيٍّ في أبٍ جيد؟! كلا، بل في أبٍ فحَسْب.
– «أخي يُسيءُ إليَّ.»
– احرص إذن على أن تحفظ العلاقة التي تربطك به، ولا يُهِمَّك ما يفعله هو، بل ما يجب عليك أنت فِعله إذا كانت غايتك أن تظل منسجمًا مع الطبيعة. فما كان لأحدٍ أن يضرَّك ما لم تُرِدْ أنت ذلك. إنما يقع بك الضرر إذا افترضتَ أنت أنك أُضِرْت.
كذلك إذن سوف تعرف واجبك من علاقتك، بالجار، بالمُواطن، بقائد الجيش، إذا أنت اعتَدتَ أن تتأمَّل العلاقات.
(٣١) التقوى
أمَّا بخصوص التقوى تجاه الآلهة، فلتعلم أن هذا هو رأس الأمر: أن تتصوَّرهم على النحو الصحيح، بوصفهم موجودين ويُديرون الأشياء على أقوم نحوٍ وأعدلِه، وأن تعقِدَ عزْمَك على هذا، أن تطيعهم وتمتثل لإرادتهم في كل شيءٍ يحدث، وتتَّبعهم طائعًا في كل ما يجري بوصفه من تصريف الحكمة العليا؛ فبذلك لن تلوم الآلهة أبدًا ولن تتهمها بالتقصير.
ولكن لن يتسنَّى لك ذلك إلا بأن تنصرف عن الأشياء التي ليست في قدرتك، وأن تَعُدَّ الخير والشر مقصورَين على الأشياء التي في قدرتك؛ ذلك أنك إذا رأيت أيًّا من الأشياء التي ليست في قدرتك خيرًا أو شرًّا، فإنك قَمِينٌ بالضرورة أن تتبرَّم إذا ما فشلتَ في الحصول على ما ترغب أو وقَعتَ فيما لا ترغب، وأن تلوم المتسبِّبين في ذلك أو تُكرَهَهم.
فهكذا جُبِلَ جميع المخلوقات: أن يتجنبوا أو يفرُّوا مما يبدو لهم ضارًّا وما يبدو سببًا للضرر، وأن يلتمسوا أو يُعجَبوا بما يبدو نافعًا أو جالبًا للمنفعة. من الصعب إذن على شخص يرى أنه يُضارُّ أن يبتهج بما يراه سببًا للضرر، مثلما أنه من الصعب أن يُسَرَّ بالضرر نفسه.
لهذا السبب أيضًا يَلعن الزارعُ الآلهة، وكذلك الملَّاحُ، والتاجرُ، وأولئك الذين يَفقِدون زوجاتهم وأبناءهم. فحيثما كانت المصلحة كانت التقوى!
وعلى ذلك، فإن كلَّ مَن يهتم بشأن الرغبة والنفور ويضع كلًّا منهما في نصابه الصحيح يكون قد اهتمَّ بالتقوى أيضًا. على أنه من الواجب كذلك على الجميع الإراقة للآلهة وتقديم البواكيرِ والأُضحيةِ وفقًا لسُنن الأسلاف، بصفاءٍ ومن غير رثاثةٍ ولا إهمالٍ ولا شُحٍّ ولا إفراط.
(٣٢) الكهانة
(٣٣) سلوكيات الرواقي
ابدأْ بتحديد طابعٍ ونموذجٍ في السلوك تلتزم به، سواء كنت منفردًا أو كنت مع الآخرين.
الزَمِ الصمت ما استطعت ولا تتكلم إلا في الضرورة وبكلمات موجزة. ولكن إذا اقتضى الأمرُ، في أحيانٍ نادرة، أن تتحدَّث، فلتتنكَّب الحديثَ في الأشياءِ الشائعة: عن المجالدين أو عن سباقات الخيل أو عن الرياضيين، أو عن الأطعمة أو الأشربة، تلك الموضوعات المبتذَلة للحديث. وتنكَّبْ بصفةٍ خاصة الحديث عن الناس، سواء بالذم أو بالمدح أو بعقد المقارنات بينهم. عليك أن تستميل رفاقك، ما استطعت، إلى الحديث فيما يليق. أمَّا إذا ألقَتْ بك الظروف بين غُرباء، فلتصمت.
إياك وكثرة الضحك، سواء بتحيُّنه أو بالإطالة فيه. اجتنب الحَلف تمامًا إن أمكن، فإذا لم يُمكن فاجتنِبْه جُهدَ ما تستطيع.
تجنَّب المحافلَ الشعبيةَ والسوقية، فإذا ما دعت الظروف فلتأخذ كل الحذر من أن تنزلق إلى الإسفاف دون أن تدري. ولتعلم أنه مهما يكن المرء نقيًّا، فإن رفيقَ السوء لا بد من أن يلوِّثه.
أمَّا عن ضروريات الجسد، فلا تأخذ منها إلا الكفاف؛ كاللحم والشراب والكساء والمأوى والخدم، وقاطِعْ كل ما يتصل بالأُبَّهَة والترف.
أمَّا الجنس فتعفَّفْ عنه ما استطعت قبل الزواج. فإذا مارستَه فلتكن ممارسةً مشروعة. ولكن لا تكن فظًّا ولا مضيِّقًا تجاه من يستبيحون لأنفسهم هذه الأشياء. ولا تُكثر من التباهي بأنك لا تفعل ذلك.
إذا أنبأك شخصٌ بأن فلانًا يتحدث عنك بما يسيء فلا تدافع عن نفسك ضد ما قال، بل قُل: «إنه لا يعرف بقية عيوبي، وإلا لما اقتصر على هذه.»
ليس عليك أن تُكثر من حضور المباريات. فإذا شاءت الظروف أن تكون هناك فلا تُبدِ حرصًا تجاه أي طرفٍ أكثر من حرصك على نفسك! أي أرِدِ الأشياء أن تكون ما تكونه فحَسْب، وأن يفوز الذي يفوز فحَسْب. فهكذا تَسْلَم من أي متاعب. ولكن امتنِعْ تمامًا عن الهتاف والسخرية والانفعالات العنيفة. وعندما تنصرف لا تُكثِر من التعليق على ما حدث، وعلى ما لا يُسهمُ في صلاح حالك، وإلا بدا من حديثك أنك مأخوذٌ بالمشهد أكثر من اللائق.
لا تُهرَع إلى الندوات الخاصة وتُعجِّل في حضورها. فإذا حضرتَ فاحتفِظْ برصانتك واتِّزانك، ولكن تجنَّبْ أن تكون ممتعضًا نَكِدًا.
إذا ذهبت للاجتماع بأحدٍ، وبخاصةٍ بمَن هو من عِلْيَة القوم، فتمثَّل في نفسك كيف كان سقراط أو زينون قَمِينًا أن يَسْلُك في مثل هذا الموقف، ولن تعدم إذ ذاك التناول الصحيح لأي شيء يَتِمُّ.
إذا ذهبتَ لتمثُلَ أمام أيِّ شخص ذي سلطان، فتخيَّل في نفسك أنك قد لا تجِدُه بالمنزل، أنك قد لا يُسمَح لك بالدخول، أن الأبواب قد لا تُفتَح لك، أنه قد لا يُعيرك اهتمامًا. فإذا كان من واجبك رغم كل هذا أن تذهب، فاحتمِلْ ما يحدث، وإياك أن تقول (لنفسك): «لم يكن الأمر يستأهل.» فهذا إسفافٌ ومِن شيمةِ مَن تُزعجه الأشياء الخارجية.
تجنَّب في محادثاتك أن تُكثر من ذكر مغامراتك ومن الإطالة في الحديث عن الأهوال التي صادفتَها، فمهما تكن هذه شائقةً لك، فما هو بشائقٍ للآخرين بنفس الدرجة أن يسمعوا مغامراتك. تجنَّب بالمِثل محاولة إثارة الضحك، فهذا منزلَقٌ قد يهوي بك إلى الإسفاف، وهو جديرٌ أيضًا أن يذهب بهيبتِك لدى جلسائك.
من العادات الخطرة أيضًا الاقتراب من البذاءة. فإذا وقع أيُّ شيءٍ من ذلك فانْهَر من أقدَمَ عليه إذا سمحت الظروف. فإذا لم تسمح فليكن صمتك على الأقل وخجلك وامتعاضُ سِحْنَتِك مُعبِّرًا بوضوح عن استيائك من هذا الحديث.
(٣٤) اللَّذة
حين تراودك خيالاتُ متعةٍ مرتقَبة، فاحذر أن تأخذك بعيدًا، شأنَ غيرها من الخيالات. بل انتظر قليلًا وامنح نفسك مُهْلَة، ثُمَّ استحضر في ذهنك كلتا اللحظتين: تلك التي ستنال فيها المتعة، وتلك التي ستندم فيها بعد ذلك وتوبِّخ نفسك. وضع مقابل ذلك بهجتك وغِبْطتك بنفسك إذا أنت تعفَّفت عن اللذة. أمَّا إذا بدا لك الوقت ملائمًا للانغماس، فاحترِسْ ألا يقهرك سِحْر اللذة وتخْلِبَك متعتها وإغراؤها، وضَعْ في الكفَّة الأخرى كم هو أفضلُ بكثيرٍ إدراكك بأنك قد انتصرت عليها.
(٣٥) لا تتحرَّجْ مما هو صواب
(٣٦) الأكل
مثلما أن عبارة «الوقتُ نهارٌ» وعبارة «الوقت ليلٌ» تعنيان الكثير وهما منفصلتان، فإذا اتصلتا لا تَعنِيان شيئًا، كذلك أخذُك نصيبًا أكبرَ قد يفيد جسدَك كثيرًا، أمَّا إذا كُنت مجتمعًا بغيرك في وليمة وتريد أن تلتزم باللياقة الاجتماعية فلن يفيدك في ذلك شيئًا؛ لذا عندما تأكل مع غيرك، فلا يكن حرصُك مقصورًا على فائدة الجسم من الأصناف المقدَّمة أمامك، بل أيضًا على فائدة الكياسة تجاه مُضيفِك.
(٣٧) دور يتجاوز قدراتك
إذا حاولت أن تضطلع بدَورٍ يتجاوز قدراتِك، فأنت لا تُخزي نفسك فيه فحسب، بل تَصرِفها أيضًا عما كانت قادرةً على أدائه.
(٣٨) إيذاء العقل
عندما تمشي فأنت تأخذ حذرك من أن تطأ مسمارًا أو أن تَلوي قدمك.
فلتأخذ حذرًا مماثلًا من أن تؤذي عقلك الموجِّه. وإذا راعينا هذه القاعدة في كل فعلٍ فسوف نباشره بأمانٍ أكبر.
(٣٩) لا حَدَّ بعد الحدِّ
الجسد لكلٍّ مِنَّا هو المقياس القويم لحاجاته المادية، مثلما أن القَدم هي مقياس الحذاء. فإذا ما وقفت عند ذلك فقد التزمت بالمقياس. أمَّا إذا تجاوزته فسوف تنزلق بعيدًا بالضرورة كمَن يهوي من جُرُف.
كذلك الأمر مع الحذاء؛ فإذا ما تجاوزتَ ملاءمته للقَدم، فسوف يصبح مُذهَّبًا في البداية، ثُمَّ أرجوانيًّا، ثُمَّ مُرصَّعًا بالجواهر.
ذلك أن ما تخطَّى المعيارَ مرَّةً فلن يجدَ حدًّا يَحُدُّه.
(٤٠) النساء
حريٌّ بنا إذن أن نحاول جهدنا أن نُظهرهن على أن قيمتهن الحقَّة لدينا هي في دماثة الخُلُق وفي التواضع والحكمة.
(٤١) متعلقات الجسد
من البلاهة أن تُكِبَّ على ما يتعلق بالجسم: أن تطيل التدريب، والأكل، والشرب، وتصريف الوظائف الحيوانية الأخرى.
(٤٢) الإهانة
إذا أهانك أحدٌ بالقول أو الفعل، فتذكَّرْ أنه يفعل أو يقول ذلك لأنه يراه موافقًا له؛ فمن غير الممكن له أن يتَّبع ما يبدو لك أنت صوابًا بل ما يبدو صوابًا له هو؛ وبالتالي فإذا كان على خطأ في رأيه يكون هو الطرف المُضار، من حيث هو الطرف المضلَّل؛ ذلك أن مَن يأخذ قضيةً صادقةً على أنها كاذبة فإنه لا يضرُّ القضية، بل يضر نفسه بضلاله في شأنها. إذا انطلقتَ إذن من هذه المبادئ فسوف تكون متسامحًا مع من يُهينك، قائلًا لنفسك في كل مناسبة: «هكذا يبدو له الأمر.»
(٤٣) مَقبِضان
لكلِّ شيءٍ مَقبِضان؛ مَقبِض يمكن أن يُحمَل به الشيء، والآخر لا يمكن أن يُحمَل به. إذا ارتكب أخوك إساءةً ما تجاهك فلا تأخذ الأمر بمَقبِض الإساءة؛ إذ لا يمكنك حملُه بهذه الطريقة. بل خذه بالمَقبِض المقابل؛ أنه أخوك، وأنه نشأ معك؛ بذلك سوف تُمسِك الأمر كما ينبغي له أن يُمسَك.
(٤٤) استدلال متساوق
-
أنا أغنى منك، إذن أنا أفضل منك.
-
أنا أبلَغُ منك، إذن أنا أفضل منك.
-
أنا أغنى منك، إذن أنا لديَّ ممتلكاتٌ أكثر.
-
أنا أبلغ منك، إذن أسلوبي في الخطاب أفضل من أسلوبك.
غير أنك، بعد كلِّ شيء، لست مِلْكًا ولا أسلوبًا.
(٤٥) الحكم بعد المداولة
هل يغتسل فلانٌ سريعًا؟ لا تقل: إنَّه يُسيء الاغتسال.
هل يشرب فلانٌ كثيرًا؟ لا تقل: إنَّه يُسيءُ الشراب.
فما دمت لم تَقِف على «الحكم» الذي دفعه إلى ذلك، فكيف تعرف أنه يُسيء الفعل؟!
(٤٦) طبِّق المبادئ
أوضعُ العلمِ ما وقف على اللسان، وأرفعُه ما ظهر في الجوارح والأركان.
وعلى ذلك، فإذا ما دار أيُّ حديثٍ بين الجُهَّال حول أيِّ نظرياتٍ فلسفيةٍ، فالزَمِ الصمتَ دائمًا، فثمَّة خطرٌ كبيرٌ بأن تقيء في الحال ما لم تهضمه، وعندما يأتي اليوم الذي يُقال لك فيه إنك لا تعرف شيئًا، فلا يثير ذلك غضبك ولا سخطك، فثق عندئذٍ إنك قد وضعت قدَمك على بداية طريق الحكمة.
(٤٧) لا تفاخِرْ بتجلُّدك٢٤
(٤٨) دلائل التقدُّم
صفةُ الجاهل وأمارته أنه لا يرتقبُ النفع ولا الضرر من نفسه، بل من الأشياء الخارجية.
صِفةُ الفيلسوف وأمارته أنه يرتقب كلَّ النفع والضرر من نفسه. أمارات المتقدِّم على درب الحكمة هي أنه لا يذمُّ أحدًا ولا يُطري أحدًا ولا يلوم أحدًا ولا يتهم أحدًا، ولا يتحدث عن نفسه كما لو كان شيئًا ما أو كما لو كان لديه علمٌ ما. وإذا أُعيق أو تعثَّر يتهم نفسه. وإذا مُدِحَ يسخرُ في نفسه من المادح، وإذا انتُقدَ لا يَرُد. بل يمضي حذِرًا كأنَّه النَّاقِهُ يخشى أن يُتعتِع أيَّ عضوٍ فيه لم يلتئم بَعْدُ. إنَّه ينفي عنه كلَّ رغبة. أمَّا نفوره فيحصره فيما هو في قدرته ومضادٌّ للطبيعة، إنَّ نزوعه معتدلٌ تجاه كلِّ شيء. إذا بدا غبيًّا أو جاهلًا لا يُبالي. وباختصار، يراقِبُ نفسَه كما لو كان عدوًّا مترصِّدًا لها في مَكْمَن.
(٤٩) التَّفسير
(٥٠) التزمْ بالمبادئ
أيًّا ما كانت المبادئ التي اتخذتها لنفسك، فالتزم بها كأنَّها قوانين، وكأنَّ من الفجور أن تنتهك أيًّا منها. ولا تلتفت إلى ما عسى أن يقول الناس عنك؛ فهذا ليس شأنك.
(٥١) المُنازَلة الآن
(٥٢) المواضيع الثلاثة في الفلسفة
(٥٣) مأثورات اجعلها نصبَ عينيك
أي أقريطون، إذا كان هذا يُرضي الآلهة، فلتكن مشيئتها.
بوسع أنيتوس وميليتوس أن يقتلاني، ولكن ليس بوسعهما أن يؤذياني.
– لكي تستعملها.
– «إلى متى؟»
– إلى حيثما شاء مَن أعارك إياها.
– «وماذا لو كانت ضرورية لي؟»
– لا تربط نفسك بها ولن تعود ضرورية. لا تُحدِّثُ نفسك بأنها ضرورية ولن تعود ضرورية. هذا التدريب عليك أن تمارسه من الصباح حتى المساء، بادئًا من أصغر الأشياء وأكثرها هشاشة: بوعاء فخاري، بكوب، ثُمَّ تقدَّم بهذه الطريقة إلى رداء، ثُمَّ إلى كلب صغير، ثُمَّ حصان، إلى قطعة صغيرة من الأرض مملوكة لك، ثُمَّ إلى نفسك، جسدك، أجزاء جسدك، إخوتك. انظر حولك وانفض عنك هذه الأشياء، طهِّر فكرك بحيث لا يلتصق بك شيءٌ من الأشياء التي ليست ملكك، بحيث لا يكبر شيء في نظرك فيؤلمك إذا انتُزع منك. ولا تقل وأنت تدرِّب نفسك، مثلما تفعل هنا، إنك تمارس التفلسف؛ فهذا ادعاء متغطرس، بل قل إنني أدعم حريتي» (المحادثات، ٤-١).
في مقاله «علاقة التفكير والسلوك الاعتياديَّين باللغة» يقول بنيامين وُرف: إن نعت «فارغ» حين يُلصَق ببرميل بنزين يصبح حاملًا لخطر الحريق! إنَّ الموقف هنا خطِر من الوجهة المادية، غير أن الضرورة اللغوية تضطرنا إلى استخدام لفظة توحي بالخلو من الخطر، وتضرب صفحًا عن «امتلاء» البرميل في حقيقة الأمر ﺑ «الأبخرة» وبقايا السائل والمخلفات القابلة للاشتعال. وكأني ببنيامين ورف يقول، على طريقتنا: قُلْ «مليء بالأبخرة» ولا تقُل «فارغ».
واللغة عند الرواقيين هي فعل للإرادة، به يُنظَر إلى العالم بطريقة من شأنها أن تحصر الخبرة في صورة ثابتة، ومِنْ ثَمَّ فإن تعَلُّم استخدام ألفاظ مختلفة هو نوع من تغيير زاوية تقاطُع الذات مع الحياة الجارية. إنَّه لا يغيِّر الأشياء، وإنما يراها رؤية جديدة أكثر واقعية ودقَّة، يراها في نِصابها الصحيح (انظر في ذلك فصل «العلاج الرواقي» من كتابنا «تأملات ماركوس أوريليوس»).