واستهلت سنة اثنتين وتسعين وماية وألف (١٧٧٨م)
في يوم الخميس سابع المحرم حضر إسماعيل كتخدا عزبان وبعض صناجق إسماعيل بك.
وفي يوم السبت تاسعه وصل إسماعيل بك وعدى من معادي الخبيري ودخل إلى مصر وذهب إلى بيته، وكثر الهرج في الناس بسبب حضوره ومن وصل قبله على هذه الصورة، ثم تبين الأمر بأن حسن بك الجداوي وخشداشينه وهم رضوان بك وعبد الرحمن بك وسليمان كتخدا وتبعهم حسن بك سوق السلاح وأحمد بك شنن وجماعة الفلاح بأسرهم وكشاف ومماليك وأجناد ومغاربة، خامر الجميع على إسماعيل بك بمن معه وطلب مصر حتى وصلها في أسرع وقت وهو في أشد ما يكون من القهر والغيظ، وأصبح يوم الأربعا فأرسل إسماعيل بك ومنع المعادي من التعدية.
وفي يوم الاثنين طلعوا إلى القلعة وعملوا ديوانًا عند الباشا وحضر الموجودون من الأمرا والوجاقلية والمشايخ، وتشاوروا في هذا الشأن فلم يستقر الرأي على شيء، ونزلوا إلى بيوتهم وشرعوا في توزيع أمتعتهم وتعزيل بيوتهم واضطربت أحوالهم وطلب إسماعيل بك تجار البهار والمباشرين، وطلب منهم دراهم سلفة، فدخل عليهم الخبيري وأخبره بأن الجماعة القبليين وصلت أوايلهم إلى البساتين، وبعضهم وصل إلى بر الجيزة بالبر الآخر.
فلما تحقق ذلك أمر بالتحميل، وخرجوا من مصر شيًّا فشيًّا من بعد العصر إلى رابع ساعة من الليل، ونزلوا بالعادلية وذلك ليلة الثلاثا رابع عشر المحرم، وهم إسماعيل بك وصناجقة إبراهيم بك قشطة وحسين بك وعثمان بك طبل وعثمان بك قفا التور وعلي بك الجوخدار وسليم بك وإبراهيم بك طنان وإبراهيم أوده باشه وعبد الرحمن أغا مستحفظان وإسماعيل كتخدا عزبان ويوسف أغا الوالي وغيرهم، وباتت الناس في وجل، وأصبح يوم الثلاثا وأشيع خروجهم ووقع النهب في بيوتهم، وركبوا في صبح ذلك اليوم وذهبوا إلى جهة الشام؛ فكانت مدة إمارة إسماعيل بك وأتباعه على مصر في هذه المرة ستة أشهر وأيامًا بما فيها من أيام سفره إلى قبلي ورجوعه.
وعدى مراد بك ومصطفى بك وآخرون في ذلك اليوم، وكذلك إبراهيم أغا الوالي الذي كان في أيامهم وشق المدينة ونادى بالأمان، وأرسل إبراهيم بك يطلب من الباشا «محمد باشا عزت» فرمانًا بالإذن بالدخول، فكتب لهم الباشا فرمانًا وأرسله صحبة ولده وكتخدايه وهو سعيد بك.
فدخل بقية الأمرا يوم الأربعا ما عدا إبراهيم بك فإنه بات بقصر العيني، ودخل يوم الخميس إلى داره وصحبته إسماعيل أبو علي كبير من كبار الهوارة.
وفي يوم الأحد ثامن عشر طلعوا إلى الديوان وقابلوا الباشا، وخلع عليهم خلع القدوم ونزلوا إلى بيوتهم.
وفي يوم الخميس حادي عشرينه طلعوا أيضًا إلى الديوان، فخلع الباشا على إبراهيم بك، واستقر في مشيخة البلد كما كان، واستقر أحمد بك شنن صنجقًا كما كان، وتقلد عثمان أغا خازندار، وإبراهيم بك صنجقية وهو الذي عرف بالأشقر، وقلدوا مصطفى كاشف المنوفية صنجقية أيضًا، وعلي كاشف أغات مستحفظان، وموسى أغا من جماعة علي بك واليًا كما كان أيام سيده.
وفي أواخره وردت أخبار بأن إسماعيل بك ومن معه وصلوا إلى غزة، واستقر المذكورون بمصر علوية ومحمدية، والعلوية شامخة على المحمدية ويرون المنة لأنفسهم عليهم، والفضيلة لهم بمخامرتهم معهم، ولولا ذلك ما دخلوا إلى مصر، ولا يمكن المحمدية التصرف في شيء إلا بإذنهم ورأيهم بحيث صاروا كالمحجور عليهم لا يأكلون إلا ما فضل عنهم.
وفي يوم الخميس ثامن شهر جمادى الأولى حضر إلى مصر إبراهيم بك أوده باشه من غزة مفارقًا لإسماعيل بك، وقد كان أرسل قبل وصوله يستأذن في الحضور، فأذنوا له وحضر وجلس في بيته، وتخيل منه رضوان بك وقصد نفيه فالتجأ إلى مراد بك وانضم إليه وقال له مراد بك: لا تخش من أحد؛ فحرك ذلك ما كمن في صدور العلوية، فلما كان يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى ركب مراد بك وخرج إلى مرمى النشاب منتفخًا من القهر مفكرًا في أمره مع العلوية، فحضر إليه عبد الرحمن بك وعلي بك الحبشي من العلوية، فعندما أراد عبد الرحمن بك القيام عاجله مراد بك ومن معه وقتلوه، وفر علي بك الحبشي وغطى رأسه بفوقانيته وانزوى في شجر الجميز فلم يروه، فلما ذهبوا ركب وسار مسرعًا حتى دخل على حسن بك الجداوي في بيته وركب مراد بك وذهب إلى بيته، واجتمع على حسن بك أغراضه وعشيرته وأحمد بك شنن وسليمان كتخدا وموسى أغا الوالي وحسن بك رضوان أمير الحاج وحسن بك سوق السلاح وإبراهيم بك بلفيا، وكرنكوا في بيت حسن بك الجداوي بالداوودية، وعملوا متاريس في ناحية باب زويلة وناحية باب الخرق والسروجية والقنطرة الجديدة.
واجتمع على مراد بك خشداشينه وعشيرته وهم: مصطفى بك الكبير ومصطفى بك الصغير وأحمد بك الكلارجي، وركب إبراهيم بك من قبة العزب وطلع إلى القلعة وملك الأبواب وضرب المدافع على بيت حسن بك الجداوي، ووقع الحرب بينهم بطول نهار يوم السبت، وغلقت الأسواق والحوانيت، وباتوا على ذلك ليلة الأحد ويوم الأحد. والضرب من الفريقين في الأزقة والحارات رصاص ومدافع وقرابين، ويزحفون على بعضهم تارة ويتأخرون أخرى، وينقبون البيوت على بعضهم؛ فحصل الضرر للبيوت الواقعة في حيزهم من النهب والحرق والقتل، ثم إن المحمدية تسلق منهم طايفة من الخليج وطلعوا من عند جامع الحين من بين المتاريس، وفتحوا بيت عبد الرحمن أغا من ظاهره وملكوه وركبوا عليه المدافع وضربوا على بيت الجداوي، فعند ذلك عاين العلوية الغلب فركبوا وخرجوا من باب زويلة إلى باب النصر، والمحمدية خلفهم شاهرين السيوف يحجبون بالخيل، فلما خرجوا إلى الخلا التقوا معهم، فقتل حسن بك رضوان أمير الحاج وأحمد بك شنن وإبراهيم بك بلفيا المعروف بشلاق وغيرهم أجناد وكُشَّاف ومماليك، وفر حسن بك الجداوي ورضوان بك وكان ذلك وقت القايلة من يوم الأحد، وكان يومًا شديد الحر، ولم يقتل أحد من المحمديين سوى مصطفى بك الكبير أصابته رصاصة في كتفه انقطع بسببها أيامًا ثم شفي.
وأما حسن بك ورضوان بك فهربا في طايفة قليلة، وخرج عليهما العربان فقاتلوهما قتالًا شديدًا وتفرقا من بعضهما، وتخلص رضوان بك وذهب في خاصته إلى شيبين الكوم.
وأما حسن بك الجداوي فلم تزل العرب تحاوره حتى أضعفوه وتفرق من حوله، وشيخ العرب سعد صحصاح يتبعه ويقول له: أين تذهب يا ابن الملعون ونحو ذلك، ثم حلق عليه رتيمة شيخ عرب بلي فتقنطر به الحصان في مبلة كتان، فقبضوا عليه وأخذوا سلاحه وعروه وكتفوه وصفعه رتيمة على قفاه ثم سحبوه بينهم ماشيًا على أقدامه وهو حاف، وأرسلوا إلى الأمرا بمصر يخبرونهم بالقبض عليه، وكان السيد إبراهيم شيخ بلقس لما بلغه ذلك ركب إليه وخلصه من تلك الحالة وفك كتافه وألبسه ثيابًا وأعطاه دراهم ودنانير.
فلما بلغ الخبر إبراهيم بك ومراد بك أرسلوا له كاشفا فلما حضر إليه وواجهه لاطفه، فقال له: إلى أين تذهب بي؟ فقال له: محل ما تريد. فلما دخل إلى مصر سار إلى بولاق ودخل إلى بيت الشيخ أحمد الدمنهوري، فركب جماعة كثيرة من المحمدية وذهبوا إلى بولاق وطلبوه فامتنع عن إجابتهم، فلم يجسروا على أخذه قهرًا من بيت الشيخ؛ فداخله الوهم وطلع إلى السطح ونط إلى سطح آخر ولم يزل حتى نزل بالقرب من وكالة الكتان، فصادف أحد المماليك فضربه وأخذ حصانه وركبه وذهب رامحًا بمفرده، وأشيع هروبه فركبت الأجناد وحلقوا عليه الطرق فصار يقاتل من يدركه، ولم يجد طريقا مسلوكًا إلى الخلا فدخل المدينة وذهب إلى بيت إبراهيم بك فوجده جالسًا مع مراد بك، فاستجار بإبراهيم بك فأجاره وأمنه ومكث في بيته خمسة أيام وهو كالمختل في عقله مما قاساه من معاينة الموت مرارًا.
ثم رسموا له أن يذهب إلى جدة وأرسلوه إلى السويس في يوم الأربعاء ثامن عشرين جمادى الأولى في محفة، فلما نزل بالمركب أمر الريس أن يذهب به إلى القصير فامتنع فأراد قتله فذهب بالمركب إلى القصير فطلع إلى الصعيد.
وأما حسن بك سوق السلاح فإنه التجأ إلى حريم إبراهيم بك، وعلي بك الحبشي وسليمان كتخدا دخلوا إلى مقام سيدي عبد الوهاب الشعراني، وحمزة بك ذهب إلى بيته؛ لكونه كان بطالًا فلم يداخله الرعب كغيره، وهرب موسى أغا الوالي إلى شبرا.
ثم إنهم رسموا بنفي علي بك الحبشي وحسن بك وسليمان كتخدا إلى رشيد، وأحضروا موسى أغا الوالي إلى بيته بشفاعة علي أغا مستحفظان، وأرسلوا لرضوان بك الإذن بالإقامة في شيبين وبنى له بها قصرًا على البحر، وجلس فيه وانقضت هذه الحادثة الشنيعة.
(وفي يوم الخميس غاية جمادى الأولى) عملوا ديوانًا بالقلعة، وقلدوا أيوب بك الكبير صنجقية، وكان إسماعيل بك رفعها عنه ونفاه إلى دمياط ثم نقله إلى طندتا، فلما رجع خشداشينه مع العلوية طلبوه إلى مصر وأرادوا رد صنجقيته فلم يرض حسن بك الجداوي فأقام بمصر معزولًا حتى وقعت هذه الحادثة فرجع كما كان، وقلدوا أيوب بك كاشف خازندار محمد بك أبي الدهب كما كان صنجقية أيضًا وعرف بأيوب بك الصغير، وقلدوا سليمان بك أبانبوت صنجقية أيضًا كما كان، وقلدوا إبراهيم أغا الوالي سابقًا صنجقية، وركبوا في مواكبهم إلى بيوتهم وضربت لهم الطبلخانات.
(وفي يوم الخميس سابع جمادى الثانية) طلعوا إلى الديوان وقلدوا سليمان أغا مستحفظان سابقًا صنجقية، وقلدوا يحيى أغا خازندار مراد بك صنجقية أيضًا، وقلدوا علي أغا خازندار إبراهيم بك صنجقية أيضًا، وهو الذي عرف بعلي بك أباظة.
وفيه حضر إلى مصر سليمان كتخدا الشرايبي كتخدا إسماعيل بك وعلى يده مكاتبة من إسماعيل بك، مضمونها يريد الإذن بالتوجه إلى إخميم وإلى السرو ورأس الخليج يقيم هناك ويبقى إبراهيم بك قشطة بمصر رهينة ويكون وكيله في تعلقاته وقبض فايضه، والصلح أحسن وأولى؛ فعملوا ديوانًا وأحضروا المشايخ والقاضي وعرضوا عليهم تلك المكاتبة واشتوروا في ذلك؛ فانحط الرأي بأن يرسلوا له جوابًا بالسفر إلى جدة من السويس ويطلقوا له في كل سنة أربعين كيسًا وستة آلاف إردب غلال وحبوب، وأن يرسل إبراهيم بك صهره كما قال إلى مصر ويكون وكيلًا عنه ومن بصحبته من الأمرا يحضرون إلى مصر بالأمان، ويقيمون برشيد ودمياط والمنصورة ونحو ذلك، وأرسلوا المكاتبة صحبة سليم كاشف تمرلنك أخي إسماعيل بك المقتول وآخرين.
وفيه رسموا نفي إبراهيم بك أوده باشا وسليمان كتخدا الشرايبي، وكان أشيع تقليد إبراهيم بك الصنجقية في ذلك اليوم، وتهيأ لذلك وحضر في الصباح عند إبراهيم بك، فلما دخل رأى عنده مراد بك فاختليا معه فأخرج إبراهيم بك من جيبه مكتوبًا مسكوه عليه من إسماعيل بك خطابًا له مضمونه أنه: بلغنا ما صنعت من إيقاع الفتنة بين الجماعة وهلاك الطايفة الخاينة، وفيه أن يأخذ من الرجل المعهود كذا من النقود يوزعها على جهات كناها له وربنا يجمعنا في خير.
فلما تناوله من إبراهيم وقرأه قال في الجواب: كل منكم لا يجهل مكايد إسماعيل بك وأنكر ذلك بالكلية. فلم يقبلوا عذره ولم يصدقوه وقام وذهب إلى بيته، فأرسلوا خلفه محمد كتخدا أباظة فأخذه وصحبته مملوكين فقط ونزل به إلى بولاق ونفوه إلى رشيد، وكذلك نفوا سليمان كتخدا الشرايبي واحتاطوا بموجود إبراهيم بك.
(وفي يوم الاثنين حادي عشر جمادى الثانية) وصل إبراهيم باشا والي جدة وذهب إلى العادلية، وجلس هناك بالقصر حتى شهلوه وسفروه إلى السويس بعدما ذهبوا إليه وودعوه، وكان سفره يوم الأحد سابع عشر جمادى الثانية، وفي ذلك اليوم حضر جماعة من الأجناد من ناحية غزة من الذين كانوا بصحبة إسماعيل بك.
(وفي يوم الثلاثا تاسع عشر) ركب الأمرا وطلعوا إلى باب الينكجرية والعزب، وأرسلوا إلى الباشا كتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة والترجمان وكاتب حوالة وبعض الاختيارية يأمرونه بالنزول إلى بيت حسن بك الجداوي وهو بيت الداوودية، فلما قالوا له ذلك قال: وأي شيء ذنبي حتى أعزل؟ فرجعوا أخبروهم بما قاله الباشا، فأمروا أجنادهم بالركوب فطلعوا إلى حوش الديوان واجتمعوا به حتى امتلأ منهم؛ فارتعب الباشا منهم فركب من ساعته ونزل من القلعة إلى بيت الداوودية، وأحضروا الجمال وعزلوا متاعه في ذلك اليوم. فكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة أشهر.
(وفي يوم الجمعة حادي عشرين شهر رجب الموافق لعاشر مسرى القبطي) كان وفاء النيل المبارك.
(وفي يوم الاثنين) ثاني عشرين شهر شعبان حضر من أخبر أن جماعة من الأجناد حضروا من ناحية غزة، وصحبتهم عبد الرحمن أغا مستحفظان على الهجن ومروا من خلف الجرة وذهبوا إلى قبلي، وتخلف عنهم عبد الرحمن أغا في حلوان لغرض من الأغراض ينتظره من مصر؛ فركب من ساعته مراد بك في عدة وذهبوا إلى حلوان ليلًا على حين غفلة واحتاطوا بها وبدار الأوسية وقبضوا على عبد الرحمن أغا وقطعوا رأسه، ورجع مراد بك وشق المدينة والرأس أمامه على رمح، ثم أحضروا جثته إلى بيته الصغير بالكعكيين وغسلوه وكفنوه وخرجوا بجنازته وصلوا عليه بالمارداني، ثم ألحقوا به الرأس في الرميلة ودفنوه بالقرافة ومضى أمره، وزاد النيل في هذه السنة زيادة مفرطة حتى انقطعت الطرقات من كل ناحية واستمر إلى آخر توت.
وفي أواخر رمضان هرب رضوان بك علي من شبين الكوم وذهب إلى قبلي، فلما فعل ذلك عينوا إبراهيم بك الوالي فنزل إلى رشيد وقبض على علي بك الحبشي وسليمان كتخدا وقتلهما، وأما إبراهيم بك أوده باشا فهرب إلى القبطان واستجار به.
(وفي تاسع عشر شوال) خرج المحمل والحجاج صحبة أمير الحاج رضوان بك بلفيا، وسافر من البركة في يوم الثلاثا سابع عشرين شوال.
وفيه جاءت الأخبار بورود إسماعيل باشا والي مصر إلى سكندرية.
(وفي يوم الخميس تاسع عشرين شوال) ركب محمد باشا عزت من الداوودية، وذهب إلى قصر العيني ليسافر.
(وفي يوم الاثنين ثالث القعدة) نزل الباشا في المراكب وسافر إلى بحري.
(وفي منتصف شهر ذي القعدة المذكور) نزل أرباب العكاكيز، وهم: علي أغا كتخدا جاوجان، وأغات المتفرقة، والترجمان، وكاتب حوالة، وأرباب الخدم؛ وسافروا لملاقاة الباشا الجديد.
وأما من مات في هذه السنة من أعيان العلما والمشاهير ١١٩٢ (١٧٧٨م)
مات الشيخ الإمام العلامة المتفنن أوحد الزمان وفريد الأوان أحمد بن عبد المنعم بن يوسف بن صيام الدمنهوري المذاهبي الأزهري، ولد بدمنهور الغربية سنة ألف وماية وواحد، وقدم الأزهري وهو صغير يتيم لم يكفله أحد فاشتغل بالعلم وجال في تحصيله واجتهد في تكميله، وأجازه علما المذاهب الأربعة وكانت له حافظة ومعرفة في فنون غريبة وتآليف، وأفتى على المذاهب الأربعة، ولكن لم ينتفع بعلمه ولا بتصانيفه لبخله في بذله لأهله ولغير أهله، وربما يبيح في بعض الأحيان لبعض الغربا فوايد نافعة، وكان له دروس في المشهد الحسيني في رمضان يخلطها بالحكايات وبما وقع له حتى يذهب الوقت.
وولي مشيخة الجامع الأزهر بعد وفاة الشيخ الحفني، وهابته الأمرا لكونه كان قوَّالًا للحق أمارًا بالمعروف سمحًا بما عنده من الدنيا.
وقصدته الملوك من الأطراف وهادته بهدايا فاخرة، وساير ولاة مصر من طرف الدولة كانوا يحترمونه، وكان شهير الصيت عظيم الهيبة منجمعًا عن المجالس والجمعيات، وحج سنة سبع وسبعين وماية وألف مع الركب المصري، وأتى ريس مكة وعلماها لزيارته وعاد إلى مصر. وقد مدحه الشيخ عبد الله الإدكاوي بقصيدة يهنيه بذلك يقول فيها:
قرأ المترجم علي أفقه الشافعية في عصره عبد ربه بن أحمد الديوي: شرح المنهج وشرح التحرير، وعلى الشهاب الخليفي نصف المنهج، وشرح ألفية العراقي في المصطلح، وعلى أبي الصفا الشنواني شرحي التحرير والمنهج، والخطيب على أبي شجاع، وإيساغوجي، وشرح الأربعين لابن حجر، وشرح الجوهرة لعبد السلام، وعلى عبد الدايم الأجهوري بن قاسم، والآجرومية وشرحها، والقطر، والأزهرية، وشرح الورقات للمحلي.
وحضر على الشمس الإطفيحي دروسًا من البخاري، وبعضًا من التحرير، وبعضًا من الخطيب، وكمل على الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي نصف المنهج بعد وفاة الخليفي، وبعضًا من الشمايل، وبعضًا من شرح الأربعين لابن حجر، وعلى الشيخ عبد الوهاب الشنواني ابن قاسم والأزهرية، وعلى الشيخ عبد الجواد المرحومي ألفية ابن الهايم في الفرايض بشرح شيخ الإسلام، وشباك ابن الهايم، ورسالة في علم الأرتماطيقي للشيخ سلطان.
وعلى الشمس الغمري شرح البهجة الوردية لشيخ الإسلام، وشرح الرملي على الزبد، والمواهب للقسطلاني، وسيرة كل من ابن سيد الناس والحلبي، والجامع الصغير للسيوطي مع شرح المناوي عليه، وشرح التائية للفرغاني، وشرح السعد على تصريف العزي.
وعلى عبد الجواد الميداني الدرة والطيبة، وشرح أصول الشاطبية لابن القاصح، والأربعين النووية، والأسماء السهروردية، وبعضًا من الجواهر الخمس للغوث.
وعلى الورزازي شرح الصغرى والكتاني عليه، وبعضًا من شرح الكبرى مع اليوسي، وبعضًا من مختصر خليل ولامية الأفعال، وعلى الشهاب النفراوي دروسًا من الجوهرة والأشموني.
وعلى عبد الله الكنكسي القطر والشذور والألفية والتوضيح، وشرح السلم، وشرح مختصر السنوسي مع حاشية اليوسي، والمختصر والمطول، والخزرجية والكافي، والقلصادي والسخاوية والتلمسانية، وألفية العراقي، وبعض مسلم، وأجازه في بقية الكتب الستة، وفي ورد شيخه مولاي عبد الله السلجماسي الشريف.
وعلى محمد بن عبد الله السلجماسي شرح الكبرى مع حاشية اليوسي والتلخيص، ومتن الحكم، وبعضًا من صحيح البخاري.
وعلى السيد محمد السلموني شيخ المالكية متن العزية والرسالة ومختصر خليل وشرحه للزرقاني، ودروسًا من الخرشي والشبرخيتي، وأجازه بجميع مروياته وبالإفتا في مذهب مالك.
وعلى الفقيه محمد بن عبد العزيز الزيادي الحنفي متن الهداية، وشرح الكنز للزيلعي، والسراجية في الفرايض والمنار.
وعلى السيد محمد الريحاوي متن الكنز والأشباه والنظاير، وشيًّا من المواقف من بحث الأمور العامة.
وأخذ عن الزعتري الميقات والحساب والمجيب والمقنطرات والمنحرفات وبعضًا من اللمعة.
وعلى السحيمي منظومة الوفق المخمس وروضة العلوم.
وعلى الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس والجغميني، وعلى عبد الفتاح الدمياطي لقط الجواهر ورسالة قسطا بن لوقا في العلم بالكرة ورسالة ابن المشاط في الأسطرلاب ودر ابن المجدي.
وله شيوخ آخرون كالشهاب أحمد بن الخبازة والشيخ حسام الدين الهندي وحسين أفندي الواعظ والشيخ أحمد الشرفي والسيد محمد الموفق التلمساني ومحمد السوداني ومحمد الفاسي ومحمد المالكي، كذا في برنامج شيوخه المسمى باللطايف النورية في المنح الدمنهورية. وأما مؤلفاته فمنها: حلية اللب المصون بشرح الجوهر المكنون، ومنتهى الإرادات في تحقيق الاستعارات، وإيضاح المبهم في معاني السلم، وإيضاح المشكلات من متن الاستعارات، ونهاية التعريف بأقسام الحديث الضعيف، والحذاقة بأنواع العلاقة، وكشف اللثام عن مخدرات الأفهام على البسملة، وحسن التعبير لما للطيبة من التكبير في القراءات العشر، وتنوير المقلتين بضيا أوجه الوجه بين السورتين، والفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني، وطريق الاهتدا بأحكام الإمامة والاقتدا على مذهب أبي حنيفة، وإحيا الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد، والدقايق الألمعية على الرسالة الوضعية، ومنع الأثيم الحاير على التمادي في فعل الكباير، وعين الحياة في استنباط المياه، والأنوار الساطعات على أشرف المربعات وهو الوفق المئيني، وحلية الأبرار فيما في اسم علي من الأسرار، وخلاصة الكلام على وقف حمزة وهشام، والقول الصريح في علم التشريح، وإقامة الحجة الباهرة على هدم كنايس مصر والقاهرة، وفيض المنان بالضروري من مذهب النعمان، وشفاء الظمآن بسر قلب القرآن، وإرشاد الماهر إلى كنز الجواهر، وتحفة الملوك في علم التوحيد والسلوك منظومة ماية بيت، وإتحاف البرية بمعرفة العلوم الضرورية، والقول الأقرب في علاج لسع العقرب، وحسن الإنابة في إحيا ليلة الإجابة وهي ليلة النصف من شعبان، والزهر الباسم في علم الطلاسم، ومنهج السلوك إلى نصيحة الملوك، والمنح الوفية في شرح الرياض الخليفية في علم الكلام، والكلام السديد في تحرير علم التوحيد، وبلوغ الأرب في اسم سيد سلاطين العرب، وغير ذلك وغالبها رسايل صغيرة الحجم منشورة ومنظومة اطلعت على غالبها.
اجتمع الفقير على المترجم قبل وفاته بنحو سنتين، ولما عرفني تذكر الوالد وبكى وعصر عينيه وصار يضرب بيده على الأخرى ويقول: ذهب إخواننا ورُفَقَانا، ثم جعل يخاطبني بقوله: يا ابن أخي ادع لي. وكان منقطعًا بالمنزل، وأجازني بمروياته ومسموعاته، وأعطاني برنامج شيوخه ونقلته، ولم يزل حتى تعلل وضعف عن الحركة.
وتوفي يوم الأحد عاشر شهر رجب من السنة المذكورة، وكان مسكنه ببولاق، وصُلِّيَ عليه بالأزهر بمشهد حافل جدًّا، وقرئ نسبه إلى أبي محمد البطل الغازي، ودفن بالبستان، وكان آخر من أدركنا من المتقدمين.
ومات الإمام العلامة المحقق والفهامة المدقق شيخنا الشيخ مصطفى بن محمد بن يونس الطائي الحنفي، ولد بمصر سنة ثمان وثلاثين وماية وألف، وتفقه على والده وبه تخرج، وبعد وفاة والده تصدر في مواضعه ودرس وأفتى، وكان إمامًا ثبْتًا متقنًا مستحضرًا مشاركًا في العلوم والرياضيات فرضيًّا حيسوبًا، وله مؤلفات كثيرة في فنون شتى تدل على رسوخه، وكتب شرحًا على الشمايل وحاشية على الأشموني أجاد فيها، وكان رأسًا في العلوم والمعارف، توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى.
ومات سيدي أبو مفلح أحمد بن أبي الفوز بن الشهاب أحمد بن أبي العز محمد بن العجمي ويعرف بالشيشيني، وكان كاتب الكنى بمنزل السادات الوقائية، وكان إنسانًا حسنًا بهيًّا، ذا تودد ومروة، وعنده كتب جيدة يعير منها لمن يثق به للمطالعة والمراجعة، توفي يوم السبت آخر المحرم.
ومات شيخنا الإمام القطب وجيه الدين أبو المراحم عبد الرحمن الحسيني العلوي العيدروسي التريمي نزيل مصر، ولد بعد الغروب ليلة الثلاثا تاسع صفر سنة خمس وثلاثين وماية وألف، والده مصطفى بن شيخ مصطفى بن علي زين العابدين بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن القطب الأكبر عبد الله العيدروس بن أبي بكر السكران بن القطب عبد الرحمن السقاف بن محمد مولى الدويلة بن علي بن علوي بن محمد مقدم التربة بتريم، بن علي بن محمد بن علي بن علوي بن محمد بن علوي بن عبد الله بن أحمد العراقي بن عيسى النقيب بن محمد بن علي بن جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة ابنة عبد الله الباهر بن مصطفى بن زين العابدين العيدروس، وأرخه سليمان بن عبد الله باجرمي بقوله:
وبها نشأ على عفة وصلاح في حجر والده وجده، وأجازه والده وجده وألبساه الخرقة وصافحاه، وتفقه على السيد وجيه الدين عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه وأجازه بمروياته.
وفي سنة ثلاث وخمسين وماية ألف توجه صحبة والده إلى الهند، فنزلا بندر الشحر واجتمع بالسيد عبد الله بن عمر المحضار العيدروس فتلقن منه الذكر وصافحه وشابكه وألبسه الخرقة، وأجازه إجازة مطلقة مع والده، ووصلا بندر سورت واجتمع بأخيه السيد عبد الله الباصر، وزارا من بها من القرابة والأوليا، ودخلا مدينة بروج فزار محضار الهند السيد أحمد بن الشيخ العيدروس، وذلك ليلة النصف من شعبان سنة واحد وستين، ثم رجعا إلى سورت وتوجه والده إلى تَرِيم وترك المترجم عند أخيه وخاله زين العابدين بن العيدروس، وفي أثنا ذلك رجع إلى بلاد جادة، وظهرت له في هذه السفرة كرامات عدة، ثم رجع إلى سورت وأخذ إذ ذاك من السيد مصطفى بن عمر العيدروس، والحسين بن عبد الرحمن بن محمد العيدروس، والسيد محمد فضل الله العيدروس إجازة بالسلاسل والطرق وألبسه الخرقة، ومحمد فاخر العباسي، والسيد غلام علي الحسيني، والسيد غلام حيدر الحسيني، والبارع المحدث حافظ يوسف السورتي، والعلامة عزيز الله الهندي، والعلامة غياث الدين الكوكبي وغيرهم، وركب من سورت إلى اليمن فدخل تريم وجدد العهد بذوي رحمه، وتوجه منها إلى مكة للحج، وكانت الوقفة نهار الجمعة، ثم زار جده ﷺ، وأخذ هناك عن الشيخ محمد حياة السندي وأبي الحسن السندي وإبراهيم بن فيض الله السندي والسيد جعفر بن محمد البيتي ومحمد الداغستاني، ورجع إلى مكة فأخذ عن الشيخ السند السيد عمر بن أحمد وابن الطيب وعبد الله بن سهل وعبد الله بن سليمان ما جرمي وعبد الله بن جعفر مدهر ومحمد باقشير، ثم ذهب إلى الطايف وزار الحبر بن عباس ومدحه بقصايد، واجتمع إذ ذاك بالشيخ السيد عبد الله ميرغني وصار بينهما الود الذي لا يوصف.
وفي سنة ثمان وخمسين أذن له بالتوجه إلى مصر، فنزل إلى جدة وركب منها إلى السويس، وزار سيدي عبد الله الغريب ومدحه بقصيدة، وركب منها إلى مصر، وزار الإمام الشافعي وغيره من الأولياء، ومدح كلًّا منهم بقصايد هي موجودة في ديوانه وفي رحلته، وهرعت إليه أكابر مصر من العلما والصلحا وأرباب السجاجيد والأمرا، وصارت له معهم المطارحات والمذاكرات ما هو مذكور في رحلته، وممن أتى إليه زايرًا شيخ وقته سيدي عبد الخالق الوفائي فأحبه كثيرًا، ومال إليه لتوافق المشربين، وألبسه الخرقة الوفائية وكنَّاه أبا المراحم بعد تمنع كثير، وأجازه أن يكني من شاء فكنى جماعة كثيرة من أهل اليمن بهذه الإجازة.
وفي سنة تسع وخمسين سافر إلى مكة صحبة الحج، وتزوج ابنة عمه الشريفة علوية العيدروسية، وسكن بالطايف وابتنى بالسلامة دارًا نفيسة، ومدح الحبر بقصايد طنانة، ثم عاد إلى مصر ثانيًا في سنة اثنتين وستين مع الحج، فمكث بها عامًا واحدًا وعاد إلى الطايف.
وفي سنة أربع وستين أتاه خبر وفاة والده، ثم ورد مصر في سنة ثمان وستين ومكث بها عامًا ثم عاد إلى مكة مع الحج، وفي عام اثنتين وسبعين تزوج الشريفة رقية ابنة السيد أحمد بن حسني باهرون العلوية ودخل بها، وولد منها ولده السيد مصطفى في سنة ثلاث وسبعين، وفي سنة أربع وسبعين عاد إلى مصر بعياله صحبة الحج.
فألقى عصاه واستقر به النوى. وجمع حواسه لنشر الفضايل وأخلاها عن السوى، وهرعت إليه الفُضَلا للأخذ والتلقي، وتلقى هو عن كل من الشيخ الملوي والجوهري والحفني وأخيه يوسف، وهم تلقوا عنه تبركًا، وصار أوحد وقته حالًا وقالًا مع تنويه الفضلا به، وخضعت له أكابر الأمرا على اختلاف طبقاتهم وصار مقبول الشفاعة عندهم لا ترد رسايله ولا يرد سايله، وطار صيته في المشرق والمغرب، وفي أثنا هذه المدة تعددت له رحلات إلى الصعيد الأعلى وإلى طندتا وإلى دمياط وإلى رشيد وإسكندرية وفوة وديروط، واجتمع بالسيد علي الشاذلي، وكل منهما أخذ عن صاحبه، وزار سيدي إبراهيم الدسوقي، وله في كل هؤلاء قصايد طنانة، ثم سافر إلى الشام فتوجه إلى غزة ونابلس ونزل بدمشق ببيت الجناب حسين أفندي المرادي، وهرعت إليه عُلَمَا الشام وأدباها وخاطبوه بمدايح، واجتمع بالوزير عثمان باشا في ليلة مولد النبي ﷺ في بيت السيد علي أفندي المرادي، ثم رجع إلى بيت المقدس وزار وعاد إلى مصر وتوجه إلى الصعيد، ثم عاد إلى مصر وزار السيد البدوي ثم ذهب إلى دمياط كعادته في كل مرة، ثم رجع إلى مصر، ثم توجه إلى رشيد ثم الإسكندرية، ومنها إلى إسلامبول، فحصل له بها غاية الحظ والقبول، ومدح بقصايد وهرعت إليه الناس أفواجًا ورتب له في جوالي مصر كل يوم قرشان، ولم يمكث بها إلا نحو أربعين يومًا وركب منها إلى بيروت ثم إلى صيدا، ثم إلى قبرص ثم إلى دمياط، وذلك غاية شعبان سنة تسعين، ثم دخل المنصورة وبات بها ليلة، ثم دخل مصر في سابع عشر رمضان، وكان مدة مكثه في الهند عشرة أعوام، وحج سبع عشرة مرة منها ثلاث بالجمعة، وسفره من الحجاز إلى مصر ثلاث مرات وللصعيد ست مرات، ولدمياط ثماني مرات، ومن قصايده في مدح ابن عباس — رضي الله عنهما — سنة تسع وخمسين قوله:
وهي طويلة، ومن كلامه رحمه الله تعالى:
وله أيضًا:
ومنها:
ومن كلامه رحمه الله تعالى:
وهي طويلة ومنها:
ومن كلامه وهي بديعة جدًّا:
ومنها:
(ومنها في المدايح):
إلى أن قال:
(وقال في مراسلة للشيخ الحفني قدس الله سره):
(وله مشجر في يوسف):
وله مطرز في إبراهيم:
وطلب منه المراسلة إلى علي باشا الحكيم من مصر إلى الروم، فكتب: الحمد لله البديع الحكيم، والصلاة والسلام على الصدر العظيم حمدًا لرب منعم حكيم، مولًى عليٍّ راحم كريم، ثم الصلاة والسلام النامي، على النبي صاحب الإنعام، وآله الكرام والأصحاب، والأوليا الكل والأنجاب، وبعد فالسلام والتحيهْ، في حالة الصباح والعشيهْ، يهدي إلى خدن المقام العالي، مولى الأجلة كعبة المعالي، شمس المعالي واحد الصداره، سامي المزايا مفخر الوزاره، أعني علي الذات والصفاتِ، أكرم به فيما مضى وآتي، بعد الدعاء الصالح المكرر، إلى علا ذاك الوداد الأكبر، وصفتي الإخلاص والمحبه، وذاك من شأني مع الأحبه، وإنني بحمد دب كافي، ومن معي في حلة العوافي، لا زلتم في أمن رب غافر، وكل أحباب ذوي البشائر، ودمتم للكل نفعًا صافي، حصنًا حصينًا من ذوي الخلاف؛ إذ أنتم أهل السماح السامي وجودكم كالغيث زاه طامي، كذا سلامي للذي لديكم، من كل محسوب غدا عليكم، لا سيما الأحفاد والأولاد، أكرم بهم من سادة أمجاد، وشيخنا البكري والخضيري، نسل الإمام العارف الزبير وكاتب الديوان سامي القدر، خدن العلا والاهتدا والذكر، وترجمان الفضل والأسرار، أخي حسين عمدة الأخيار، أدامكم للكل رب الكل، ولا برحتم في ربوع الفضل، وهذه أبيات عيدروسي، وقيتكم بالواحد القدوسي، لا زلتمو في الصفو والسعادة، بجاه طه معدن الإفادة، صلى عليه الله والصحابه، والآل أهل المجد والقطابه.
وأنشدني شيخنا العلامة أبو الفيض السيد مرتضى، قال: أنشدني السيد عبد الرحمن العيدروس لنفسه وأنا نزيله بالطايف سنة ست وستين وماية ألف قوله:
وهي طويلة. قال: وأخبرني أنها من العقايد المكنونة، وسألته عن قوله: أثبت الأعيان فقال: المراد إثباتها في العلم؛ ولذا يعبر عنها بالأعيان الثابتة.
(ووردت) مراسلة من السيد سليمان بن يحيى الأهلي مفتي الشافعية بزبيد إلى المشار إليه بطلب الإجازة له ولأولاده، فكتب إجازة غراء في منظومة بديعة دالية طويلة أكثر من أربعين بيتًا، وله منظومات كثيرة ومقاطيع وموشحات مثبتة في دواوينه ومؤلفاته كثيرة، منها: مرقعة الصوفية ستون كراسًا، ومرآة الشموس في سلسلة القطب العيدروس خمسون كراسًا، والفتح المبين على قصيدة العيدروس فخر الدين خمس وعشرون كراسًا، وله عليها شرحان آخران: أحدهما ترويح الهموس من فيض تشنيف الكوس، وتشنيف الكوس من حميا ابن العيدروس، وفتح الرحمن بشرح صلاة أبي الفتيان ست كراريس، وذيل الرحلة خمس كراريس، والترقي إلى الغرف من كلام السلف والخلف عشر كراريس، والرحلة عشر كراريس، والعرف العاطر في النفس والخاطر، وتنميق السفر ببعض ما جرى له بمصر خمس كراريس، وعقد الجواهر في فضل آل بيت النبي الطاهر، ونفايس الفضول المقتطفة من ثمرات أهل الوصول ثماني كراريس، والجواهر السبحية على المنظومة الخزرجية اثنتا عشرة كراسة، والمنهج العذب في الكلام على الروح والقلب كراستان، وديوان شعره سماه ترويح البال وتهييج البلبال عشر كراريس، وإتحاف الخليل في علم الخليل أربع كراريس، والعروض في علمي القافية والعروض أربع كراريس، والنفحة الأنسية في بعض الأحاديث القدسية، وحديقة الصفافي في مناقب جده عبد الله بن مصطفى، وتنميق الطروس في أخبار جده شيخ بن عبد الله العيدروس، وإرشاد العناية في الكتابة تحت بعض آية، ونفحة الهداية في التعليق، وله ثلاث كتابات على بيتي المعية، وهما:
- الأولى: إرشاد ذي اللوذعية على بيتي المعية.
- الثانية: إتحاف ذوي الألمعية في تحقيق معنى المعية.
-
الثالثة: النفحة الألمعية في تحقيق معنى المعية، ونثر اللآلي الجوهرية على
المنظومة الدهرية، والتعريف بتعدد شق صدره الشريف، وإتحاف الذايق بشرح بيتي
الصادق، ورفع الإشكال في جواب السؤال، والإرشادات السنية في الطريقة
النقشبندية، والنفحة العلية في الطريقة القادرية، وإتحاف الخليل بمشرب
الجليل الجميل، والنفحة المدنية في الأذكار القلبية والروحية والسرية،
وتمشية القلم ببعض أنواع الحكم، وتشنيف الأسماع ببعض أسرار السماع، ورفع
الستارة عن جواب الرسالة، والبيان والتفهيم لمتبع ملة إبراهيم، وشرح بيتي
ابن العربي وهما:
إنما الكون خيالوهو حق في الحقيقةكل من يفهم هذاحاز أسرار الطريقة
وتحرير مسألة الكلام على ما ذهب إليه الأشعري الإمام، وفتح العليم في الفرق بين الموجب وأسلوب الحكيم، وقطف الزهر من روض المقولات العشر، ورشحة سرية من نفحة فخرية، وتعريف الثقات بمباشرة شهود وحدة الأفعال والصفات والذات، ورشف السلاف من شراب الأسلاف، والقول الأشبه في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه، وبسط العبارة في إيضاح معنى الاستعارة، والمتن للعارف الطنتداوي، وكتب عليه الشيخ يوسف الحفني حاشية، ونفحة البشارة في معرفة الاستعارة، وشرحه العلامة الشيخ محمد بن الجوهري، ومتن لطيف في اسم الجنس والعلم، وشرحه الشيخ أبو الأنوار بن وفا، وتشنيف السمع ببعض لطايف الوضع، وشرحه الشيخ عبد الرحمن الأجهوري شرحين مبسوطين، وإتحاف السادة الأشراف بنبذة من كلام سيدي عبد الله باحسين السقاف، وشرح على قصيدة بالحزمة، وحاشية على إتحاف الذايق، وشرح على العوامل النحوية لم يتم، وسلسلة الذهب المتصلة بخير العجم والعرب، وحزب الرغبة والرهبة، والاستغاثة العيدروسية، وشرحها الشيخ عبد الرحمن الأجهوري، ومرقعة الفقها، وذيل المشرع الروي في مناقب بني علوي لم يكمل، والإمدادات السنية في الطريقة النقشبندية، وغير ذلك.
ولما كثر عليه الواردون من الديار البعيدة وصاروا يتلقون عنه طرق الصوفية وكان هو في أغلب أوقاته في مقام الغطوس أمر شيخنا السيد محمد مرتضى أن يجمع أسانيده في كتاب، فألف باسمه كتابًا في نحو عشر كراريس وسماها النفحة القدسية بواسطة البضعة العيدروسية، وذلك في سنة إحدى وسبعين، وقد نقل منها نسخ كثيرة وعم بها النفع، ولم يزل يعلو ويرقى إلى أن توفي ليلة الثلاثاء ثاني عشر محرم من هذه السنة، وخرجوا بجنازته من بيته الذي تحت قلعة الكبش بمشهد حافل، وصُلي عليه بالجامع الأزهر وقُري نسبه على الدكة، وصلى عليه إمام الشيخ أحمد الدردير، ودفن بمقام ولي الله العتريس تجاه مشهد السيدة زينب، ورثي بمَرَاثٍ كثيرة ربما يأتي ذكرُها في تراجم العصريين، ولم يخلف بعده مثله، رحمه الله.
ومات الوجيه المبجل عبد السلام أفندي بن أحمد الأزرجاني مدرس المحمودية، كان إمامًا فاضلًا محققًا له معرفة بالأصول، قرأ العلوم ببلاده وأتقن في المعقول والمنقول، وقدم مصر ومكث بها مدة، ولما كمل بناء المدرسة المحمودية بالحبانية تقرر مدرسًا فيها، وكان يقرأ فيها الدرر لملا خسرو، وتفسير البيضاوي، ويورد أبحاثًا نفيسة، وكان في لسانه حبسة وفي تقريره عسر، وبآخرة تولى إمامتها، وتكلف في حفظ بعض القرآن وجَوَّدَهُ على الشيخ عبد الرحمن الأجهوري المقرئ، وابتنى منزلًا نفيسًا بالقرب من الخلوتي، وكان له تعلق بالرياضيات وقرأ على المرحوم الوالد أشياء من ذلك، واقتنى آلات فلكية نفيسة بيعت في تركته. مات بعد أن تعلل بالحصبة أيامًا في يوم الثلاثا سادس جمادى الأولى من السنة، ولم يخلف بعده في المحمودية مثله وجاهة وصرامة واحتشامًا وفضيلة، رحمه الله.
ومات الإمام العلامة والحبر الفهامة الشيخ أحمد بن عيسى بن محمد الزبيري الشافعي البراوي، ولد بمصر وبها نشأ وقرأ الكثير على والده وبه تفقه، وحضر دروس مشايخ الوقت في المعقول والمنقول، وتمهر وأنجب وعد من أرباب الفضايل، ولما توفي والده أجلس مكانه بالجامع الأزهر واجتمع عليه طلبة أبيه وغيرهم واستمرت حلقة درس والده على ما هي عليه من العظم والجلالة والرونق وإفادة الطلبة، وكان نعم الرجل صلاحًا وصرامة، توفي بطندتا في ليلة الأربعا ثالث شهر ربيع الأول فجأة، وجِي به إلى مصر فغُسِّلَ في بيته وصلي عليه بالأزهر، ودفن عند والده بتربة المجاورين، رحمه الله.
ومات الوجيه المبجل بقية السلف سيدي عامر ابن الشيخ عبد الله الشبراوي، تربى في عز ودلال وسيادة ورفاهية، وكان نبيلًا نبيهًا إلا أنه لم يلتفت إلى تحصيل المعارف والعلوم، ومع ذلك كان يقتني الكتب النفيسة ويبذل فيها الرغايب، واستكتب عدة كتب بخط المرحوم الشيخ حسن الشعراوي المكتب، وهو في غاية الحسن والنورانية. ومن ذلك مقامات الحريري وشروحها للزمزمي وغيره، وجلدها وذهبها ونقشوا اسمه في البصمات المطبوعات في نقش الجلود بالذهب، وعندي بعض على هذه الصورة، ورسم باسمه الشيخ محمد النشيلي عدة آلات فلكية وأرباع وبسايط وغير ذلك، واعتنى بتحريرها وإتقانها، وأعطاه في نظير ذلك فوق مأموله، وحوى من كل شيء أظرفه وأحسنه مع أن الذي يرى ذاته يظنه غليظ الطبع، توفي — رحمه الله — يوم الجمعة تاسع عشرين المحرم من السنة.
ومات العلامة الفقيه الفاضل الشيخ محمد سعيد بن محمد صفر بن محمد بن أمين المدني الحنفي نزيل مكة والمدرس بحرمها تفقه على جماعة من فضلا مكة، وسمع الحديث على الشيخ محمد بن عقيلة والشيخ تاج الدين القلعي وطبقتهما، وبالمدينة الشيخ أبي الحسن السندي الكبير وغيره، وكان حسن التقرير لما يمليه في دروسه، حضره السيد العيدروس في بعض دروسه وأثنى عليه، وفي آخر عمره كف بصره حزنًا على فقد ولده، وكان من نجبا عصره أرسله إلى الروم وكان زوجًا لابنة الشيخ ابن الطيب فغرق في البحر، وفي أثناء سنة أربع وسبعين وماية وألف ورد مصر، ثم توجه إلى الروم على طريق حلب فقرأ هناك شيًّا من الحديث، وحضره علماها ومنهم السيد أحمد بن محمد الحلوي وذكره في جملة شيوخه، وأثنى عليه ورجع إلى الحرمين وقطن بالمدينة المنورة، ومن مؤلفاته الأربعة: أشعار في مدح النبي المختار ﷺ، وله قصيدة مدح بها الشيخ العيدروس، ولما حج الشيخ أحمد الحلوي في سنة تسعين اجتمع به بالمدينة المنورة، وذاكره بالعهد القديم فهش له وبش واستجاز منه ثانيًا فأجازه، ولم يزل على حاله المرضية من عبادة وإفادة حتى توفي في هذه السنة، رحمه الله تعالى.
ومات الأمير عبد الرحمن أغا أغات مستحفظان وهو من مماليك إبراهيم كتخدا، وتقلد الأغوية في سنة سبعين كما تقدم، واستمر فيها إلى سنة تسع وسبعين، فلما نفي علي بك النفية الأخيرة عزله خليل بك وحسين بك وقلدوا عوضه قاسم أغا، فلما رجع علي بك ولاه ثانيًا وتقلد قاسم أغا صنجقًا فاستمر فيها إلى سنة ثلاث وثمانين فعزله وقلد عوضه سليم أغا الوالي، وقلد موسى أغا واليًا عوضًا عن سليم المذكور وكلاهما من مماليكه، وأرسل المترجم إلى غزة حاكمًا وأمره أن يتحيل على سليط ويقتله، وكان رجلًا ذا سطوة عظيمة وفجور، فلم يزل يعمل الحيلة عليه حتى قتله في داره وأرسل برأسه إلى علي بك بمصر، وهي أول نكتة تمت لعلي بك في الشام وبها طمع في استخلاص الشام، فلما حصلت الوحشة بين محمد بك وسيده علي بك انضوى إلى محمد بك، فلما استبد بالأمر قلده أيضًا الأغوية فاستمر فيها مدته، ولما مات محمد بك انحرف عليه مراد بك وعزله وولى عوضه سليمان أغا وذلك في سنة تسعين، ولما وقعت المنافرة بين إسماعيل بك والمحمدية انضم إلى إسماعيل بك ويوسف بك واجتهد في نصرتهما وصار يكر ويفر ويجمع الناس، ويعمل المتاريس ويعضد المتاريس ويعمل الحيل والمخادعات ويذهب ويجي الليل والنهار حتى تم الأمر، وهرب إبراهيم بك ومراد بك واستقر إسماعيل بك ويوسف بك فقلداه الأغوية أيضًا، فاستمر فيها مدته فلما خرج إسماعيل بك إلى الصعيد محاربًا للمحمديين تركه بمصر فاستقل بأحكامها، وكذلك مدة غياب محمد بك بالشام، فلما خان العلوية إسماعيل بك وانضموا إلى المحمدية ورجع إسماعيل بك على تلك الصورة — كما ذكر — خرج معه إلى الشام إلى أن تفرق أمرهم، فأراد التحول إلى جهة قبلي فانضم معه كثير من الأجناد والمماليك وساروا إلى أن وصلوا قريبًا من العادلية، فأرسل مملوكًا له أسود ليأتيه بلوازم من داره ويأتيه بحلوان فإنه ينتظره هناك، وحلوان كانت في التزامه وعدى من خلف الجبل ونزلوا بحلوان وركبوا وساروا وتخلف هو عنهم للقضاء المقدر ينتظر خادمه فبات هناك، وحضر بعض العرب وأخبر مراد بك فأرسل الرصد لذلك العبد وركب هو في الحال وأتاه الرصد بالعبد في طريق ذهابه فاستخبره فأعلمه بالحقيقة بعد التنكر، فسار مستعجلًا إلى أن أتى حلوان واحتاط بها وهجمت طوايفه على دوار الأوسية وأخذوه قبضًا باليد وعروه ثيابه حتى السراويل، وسحبوه بينهم عريانًا مكشوف الرأس والسوأتين وأحضروه بين يدي مراد بك، فلما وقعت عينه عليه أمر بقطع يديه وسلموه لسواس الخيل يصفعونه ويضربونه على وجهه، ثم قطعوا رقبته حزًّا بسكين ويقولون له: انظر قرص البرغوث يذكرونه قوله لمن كان يقتله: لا تخف يا ولدي إنما هي كقرصة البرغوث ليسكن روع المقتول على سبيل الملاطفة فكانوا يقولون له ذلك على سبيل التبكيت، ودخل مراد بك في صبحها برأسه أمامه على رمح ودفن كما ذكر، ولم يأت بعده في منصبه من يدانيه في سياسة الأحكام والقضايا والتحيلات على المتهومين حتى يقروا بذنوبهم، وكان نقمة الله على المعاكيس وخصوصًا الخدمة الأتراك المعروفين بالسراجين.
واتفق له في مبادي ولايته أنه تكرر منه أذيتهم فشكوا منه إلى حسين بك المقتول فخاطبه في شأنهم فقال له: هؤلاء أقبح خلق الله وأضرهم على المسلمين وأكثرهم نصارى ويعملون أنفسهم مسلمين ويخدمونكم ليتوصلوا بذلك إلى إيذا المسلمين، وإن شككت في قولي أعطني إذنًا بالكشف عليهم لأميز المختون من غيره. فقال له الصنجق: افعل ما بدالك، فلما كان في ثاني يوم هرب معظم سراجين الصنجق ولم يتخلف منهم إلا من كان مسلمًا ومختونًا وهو القليل؛ فتعجب حسين بك من فطانته، ومن ذلك الوقت لم يعارضه في شيء يفعله، وكذلك علي بك ومحمد بك. ولما خالف محمد بك على سيده وانفصل عنه وذهب إلى قبلي وانضم إليه خشداشه أيوب بك تعاقدا وتحالفا على المصحف والسيف، ونكث أيوب بك العهد وقضى محمد بك عليه قطع يده ولسانه، أرسل إليه عبد الرحمن أغا هذا ففعل به ذلك، ولما حضر إليه ليمثل به ودخل إليه وصحبته الجلاد فتمنى بين يديه وقال: يا سلطانم أخوك أمر فيك بكذا وكذا فلا تؤاخذني فإني عبدكم ومأموركم، وصار يقول للجلاد: ارفق بسيدي ولا تولمه ونحو ذلك. ولما ملك محمد بك ودخل مصر أرسله إلى عبد الله بك كتخدا الباشا الذي خامر على سيده، وانضم إلى علي بك فذهب إليه وقبض عليه ورمى عنقه في وسط بيته، ورجع برأسه إلى مخدومه وباشر الحسبة مدة مع الأغاوية، وكان السوقة يحبونه، وتولى ناظرًا على الجامع الأزهر مدة، كان يحب العلما ويتأدب مع أهل العلم ويقبل شفاعتهم، وله دهقنة وتبصر في الأمور، وعنده قوة فراسة وشدة حزم حتى غلب القضا على حزمه، عفا الله عنه.
ومات الأمير عبد الرحمن بك وهو من مماليك علي بك وصناجقه الذين أمَّرَهُم ورقاهم فهو خشداش محمد بك أبي الدهب وحسن بك الجداوي وأيوب بك ورضوان بك وغيرهم. وكان موصوفًا بالشجاعة والإقدام فلما انقضت أيام علي بك وظهر أمر محمد بك خمل ذكره مع خشدشينه إلى أن حصلت الحادثة بين المحمديين وإسماعيل بك، فرد لهم إمرياتهم إلا عبد الرحمن هذا فبقي على حاله مع كونه ظاهر الذكر، فلما كان يوم قتل يوسف بك وكان هو أول ضارب فيه وهرب في ذلك اليوم من بقي من المحمديين وأخرج باقيهم منفيين فردوا له صنجقيته كما كان، ثم طلع مع خشداشينه لمحاربتهم بقبلي ثم والسوا على إسماعيل بك وانضموا إليهم ودخلوا معهم إلى مصر كما ذكر، ثم وقع بينهم التحاقد والتزاحم على إنفاذ الأمر والنهي، وكان أعظم المتحاقدين عليهم مراد بك وهم له كذلك، وتخيل الفريقان من بعضهم البعض، وداخل المحمدية الخوف الشديد من العلوية إلى أن صاروا لا يستقرون في بيوتهم فلازموا الخروج إلى خارج المدينة والمبيت بالقصور، فخرج إبراهيم بك وأتباعه إلى جهة العادلية، ومراد بك وأتباعه إلى جهة مصر القديمة، فلما كان يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى أصبح مراد بك منتفخ الأوداج من القهر فاختلى مع من يركن إليهم من خاصته وقال لهم: إني عازم في هذا اليوم على طلب الشر مع الجماعة. قالوا: وكيف نفعل؟ قال: نذهب إلى مرمى النشاب ولا بد أن يأتينا منهم من يأتي، فكل من حضر عندنا منهم قتلناه ويكون ما يكون بعد ذلك. ثم ركب ونزل بمساطب النشاب وجلس ساعة، فحضر إليه عبد الرحمن بك المذكور وعلي بك الحبشي فجلسا معه حصة ومراد بك يكرر لأتباعه الإشارة بضربهما وهم يهابون ذلك، ففطن له سلحدار عبد الرحمن بك فغمز سيده برجله فهم بالقيام فابتدره مراد بك وسحب بالته وضربه في رأسه، فسحب الآخر بالته وأراد أن يضربه فألقى بنفسه من فوق المسطبة إلى أسفل، وعاجل أتباع مراد بك عبد الرحمن بك وقتلوه، وفي وقت الكبكبة غطى علي بك الحبشي رأسه بجوخته واختفى في شجر الجميز، وركب في الحال مراد بك وجمع عشيرته وأرسل إلى إبراهيم بك فحضر من القبة إلى القلعة، وكان ما ذكر، واستمر عبد الرحمن بك مرميًّا بالمسطبة حتى حضر إليه أتباعه وشالوه ودفنوه بالقرافة.
ومات الأمير أحمد بك شنن وأصله مملوك الشيخ محمد شنن المالكي شيخ الأزهر، فحصل بينه وبين ابن سيده وحشة ففارقه ودخل في سلك الجندية، وخدم علي بك وأحبه ورقاه وأمَّرَه إلى أن قلده كتخدا الجاويشية فلم يزل منسوبًا إليه ومنضمًّا إلى أتباعه، وتقلد الصنجقية وصاهره حسن بك الجداوي، وتزوج بابنته وبنى لها البيت بدرب سعادة ولم يزل حتى قتل في هذه الواقعة، وكان فيه لين جانب ظاهري، ويعظم أهل العلم ويظهر لهم المحبة والتواضع.
ومات الأمير إبراهيم بك طنان وهو من مماليك حسن أفندي مملوك إبراهيم أفندي المسلماني، وكانوا عدة وعزوة معروفين ومشهورين في البيوت القديمة، ومنهم مصطفى جربجي وأحمد جربجي، ثم لما ظهر أمر علي بك انتسبوا إليه وخرجوا مع محمد بك عندما ذهب لمحاربة خليل بك كشكش ومن معهم بناحية المنصورة، فوقع في المقتلة أحمد جربجي المذكور، وأعجب بهم محمد بك في تلك الواقعة فأحبهم وضمهم إليه ولازموه في الأسفار والحروبات، ولما خالف على سيده علي بك وهرب إلى الصعيد خرجوا معه كذلك، ومات مصطفى جربجي على فراشه بمصر أيام علي بك وصار كبيرهم والمشار إليه فيهم إبراهيم جربجي، فلما رجع محمد بك وتعين في رياسة مصر قلده صنجقًا ونوه بشأنه وأنعم عليه وأعطاه بلادًا مضافة إلى بلاده منها سندبيس ومنية حلفة وباقي الأمانة، وكان عسوفًا ظالمًا على الفلاحين لا يرحمهم، وله مقدم من أقبح خليقة الله من منية حلفة فيغري بالفلاحين ويسجنهم ويعذبهم ويستخلص لمخدومه منهم الأموال ظلمًا وعدوانًا، فلما حصلت تلك الحادثة وهرب إبراهيم بك المذكور مع إسماعيل بك اجتمع الفلاحون على ذلك المقدم وقتلوه وحرقوه بالنار، وكان إبراهيم بك هذا ملازمًا على زيارة ضرايح الأوليا في كل جمعة يركب بعد صلاة الصبح إلى القرافة ويزور قبور البستان وقبور أسلافه، ثم يذهب إلى زيارة الشافعي ويخرج منه ماشيًا فيزور الليث وما جاورهما من المشاهد المعروفة كيحيى الشيبة والسادات الثعالبة والعز وابن حجر وابن جماعة وابن أبي جمرة وغير ذلك، وكان هذا دأبه في كل جمعة، ولما وقعت الحوادث خرج مع إسماعيل بك إلى غزة، فلما سافر إسماعيل بك ونزل البحر تخلف عنه، ومات ببعض ضياع الشام، وظهر له بمصر ودايع أموال لها صورة.
ومات الأمير إبراهيم بك بلفيا المعروف بشلاق وهو مملوك عبد الرحمن بلفيا بن إبراهيم بك، وعبد الرحمن أغا هذا هو أخو خليل بك، وكان علي بك ضمه إليه وأعجبه شجاعته فقلده صنجقًا وصار من جملة صناجقه وأمرايه ومحسوبًا منهم، فلما حصلت هذه الحادثة كان فيهم وقتل معهم.
ومات الأمير الكبير حسن بك رضوان أمير الحاج وهو مملوك عمر بك بن حسين رضوان، تقلد الصنجقية بعد موت سيده وجلس في بيته وطلع أميرًا بالحج سنة ثمان وسبعين وتسع وسبعين، وعمل دفتر دار مصر ثم عزل عنها، وطلع بالحج في سنة إحدى وثمانين وسنة اثنتين وثمانين، وقلدوا رضوان بك مملوكه صنجقًا، فلما تملك علي بك نفى رضوان بك هذا فيمن نفاهم في سنة واحد وثمانين ثم رده ثم نفاه مع سيده بعد رجوعه من الحج في سنة ثلاث وثمانين إلى مسجد وصيف، ثم نقل إلى المحلة الكبرى فأقام إلى سنة إحدى وتسعين، فكانت مدة إقامته بالمحلة نحو ثماني سنين، فلما تملك إسماعيل بك أحضره إلى مصر وقلده إمارة الحج سنة إحدى وتسعين كما ذكر، فلما انضم العلوية إلى المحمدية ورجعوا إلى مصر وهرب إسماعيل بك بمن معه إلى الشام لم يخرج معه، وبقي بمصر لكونه ليس من قبيلتهم، وانضوى إلى العلوية كغيره لظنهم نجاحهم فوقع لهم ما وقع، وقتل مع أحمد بك شنن بشبرا وأتوا بهما إلى بيوتهما وكل منهما ملفوف في قطعة خيمة، ودفن حسن بك المذكور عليه رحمة الله، وكان أميرًا جليلًا مهذبًا كريم الأخلاق لين الجانب يحب أهل الصلاح والعلم، وعاشر بالمحلة صاحبنا الفاضل اللبيب الأديب الشيخ شمس الدين السمربائي الفرغلي وأحبه واغتبط به كثيرًا وأكرمه وحجزه عنده مدة إقامته بالمحلة، ومنعه عن الذهاب إلى بلده إلا لزيارة عياله فقط في بعض الأحيان ثم يعود إليه سريعًا، ويستوحش لغيابه عنه فكان لا يأتنس إلا به. وللشيخ شمس الدين فيه مدايح ومقامات وقصايد، فمن ذلك ما ضمنه في مزدوجته نفحة الطيب في محاسن الحبيب، ولرقتها وسلاستها أوردتها هنا وهي:
ولأديب العصر الشيخ قاسم مدايحُ في المترجم، ومنها الموشح المشهور بين أهل المغاني والآلاتية من نواه، وهو: