سنة إحدى ومايتين وألف (١٧٨٦م)
(في يوم الاثنين سابع المحرم) حضر إسماعيل بك في تطريدة إلى مصر، فركب بمفرده وهو ملثم بمنديل، وحضر عند حسن باشا وقابله، وهو أول اجتماعه به وجلس معه مقدار درجتين لا غير واستأذنه في القيام، فخلع عليه فروة سمور وقام وذهب إلى بيت مملوكه علي بك جركس، وهو بيت أيوب بك الصغير الذي في الحبانية، وكان السبب في حضوره على هذه الصورة أنه في يوم الخميس ثالث المحرم التقوا مع الأمرا القبليين واتفقوا معهم عند المنشية، فكان بينهم وقعة عظيمة وقتل من الفريقين جملة كبيرة، وأبلى فيها المصريون البحرية والقبلية مع بعضهم، وتنحت عنهم العساكر العثمانية ناحية، وهجمت القبالي وألقوا بأنفسهم في نار الحرب، وطلب كل غريم غريمه ثم اندفعت العثمانية مع البحرية، وظهر من شجاعة عابدي باشا ما تحدث به الفريقان في شجاعته، وأصيب إسماعيل بك برشة رصاص دخلت في فمه وطلعت من خده، فولى منهزمًا وألقى نفسه في البحر وركب في قنجة وحضر إلى مصر على الفور، ولم يدر ماذا جرى بعده، فلما حضر على هذه الصورة وأشيع وقوع الكسرة والهزيمة على التجريدة، اضطربت الأقاويل واختلفت الروايات وكثرت الأكاذيب، وارتج العثمانيون وأرسل حسن باشا الرسل لإحضار العساكر التي بالإسكندرية، وكذلك أرسل إلى بلاد الروم.
(وفي يوم السبت ثاني عشره) حضر حسن بك الجداوي وجماعة من الوجاقات والعساكر، فذهب حسن بك إلى حسن باشا وقابله، وقد أصيب بسيف على يده فخلع عليه فروة، ثم ذهب إلى بيته القديم وهو بيت الداوودية، وكذلك حضر بقية الأمرا الصناجق، وأصيب قاسم بك بضربة جرحت أنفه، وكذلك حضر عابدي باشا وطلع إلى قصر العيني وأقام به.
وفيه حضر ططري وعلى يده مرسوم بعزل محمد باشا عن ولاية مصر وولاية عابدي باشا مكانه، وأن محمد باشا يتوجه إلى ولاية ديار بكر عوضًا عن عابدي باشا، فشرع عابدي باشا في نقل عزاله إلى بولاق، فتحدث الناس أن ذلك من فعل حسن باشا؛ لأن بينهما أمورًا باطنية.
(وفي يوم الاثنين) عمل حسن باشا ديوانًا في بيته اجتمع فيه جميع الأمراء والصناجق والمشايخ، وألبس إسماعيل بك خلعة، وجعله شيخ البلد وكبيرها، وألبس حسن بك خلعة وقلده أمير الحاج، ثم قال يخاطب الجمع: هذا إسماعيل بك حضر إليكم وصار كبيركم فشدوا عزمكم وتأهبوا لقتال أخصامكم، وكل إنسان يقاتل عن نفسه. فسكتوا جميعًا ولم يجيبوه، فقال أحمد جربجى أرنؤد: كيف يخرجون من غير مصروف، وكل إنسان يلزمه أتباع وخدم ودواب؟ فقال: الذي يأكله الإنسان في يوم يقسمه على يومين. فخرجوا من مجلسه وهم كاظمون لغيظهم.
هذا وإسماعيل بك متململ من جرحه، والسيد عثمان الحمامي يعالجه، وأخرج من عنقه ست عشرة زردة من زرد الزرخ، فإن الرصاص لما أصابه منع الزرخ من الغوص في الجسد، فغاص نفس الزرد فأخرجه السيد عثمان بالآلة واحدة بعد واحدة، بغاية المشقة والألم، ثم عالجه بالأدهان والمراهم حتى بري في أيام قليلة.
وفيه حضر إلى إسماعيل بك رجل بدوي، وأخبر أن الجماعة القبليين زحفوا إلى بحري ووصلت أوايلهم إلى بني سويف، وأخبر أنه مات منهم مصطفى بك الداوودية ومصطفى بك السلحدار وعلي أغا خازندار مراد بك سابقًا، ونحو خمسة عشر أميرًا من الكشاف وأن نفوسهم قويت على الحرب.
(وفي يوم الثلاثا) حضر إسماعيل أغا كمشيش، وكان ممن تخلف في الأسر عند القبليين فأفرجوا عنه، وأرسلوا معه مكاتبة يذكرون فيها طلب الصلح وتوبتهم السابقة، واستعدادهم للحرب إن لم يجابوا في ذلك.
(وفي يوم الأربعا) نزل محمد باشا من القلعة وذهب إلى بولاق.
(وفي يوم الخميس) نودي على النفر والألضاشات والأجناد والمماليك بأن يتبع كل شخص متبوعه وبابه، ومن وجد بعد ثلاثة أيام بطالًا ولم يكن معه ورقة يستحق العقوبة، وكذلك حضور الغايبين بالأرياف.
وفيه أخذ أحمد القبطان المعروف بحمامجي أوغلي المراكب الرومية التي بقيت في النيل وجملة نقاير، وصعد بهم إلى ناحية دير الطين قريبًا من التبين، وشرعوا في عمل متاريس وحفر خنادق هناك، ونقلوا جملة مدافع أيضًا، وكان أشيع طلوع عابدي باشا إلى القلعة في ذلك اليوم فلم يطلع، وحضر عند حسن باشا وتكلم معه كلامًا كثيرًا، وقال: كيف أطلع وأتسلطن في هذا الوقت والأعدا زاحفون على البلاد وأولاد أخي قتلوا في حربهم، ولا أطلع حتى آخذ بثأرهم أو أموت؟! ثم قام من عنده ورجع إلى القصر العيني.
وفيه سافر عمر كاشف الشعراوي لملاقاة الحجاج إلى الأزلم، وحضرت مكاتيب الجبل على العادة القديمة وأخبروا بالأمن والراحة.
(وفي يوم الجمعة) خرج رضوان بك بلفيا وسليمان الشابوري وعبد الرحمن بك عثمان وبرزوا خيامهم ناحية البساتين.
وفيه عمل حسن باشا ديوانًا وخلع على ثلاثة أشخاص من أمرا حسن بك الجداوي وقلدهم صناجق، وهم: شاهين وعلي وعثمان.
وفيه حضر إلى مصر ذو الفقار الخشاب كاشف الفيوم المعروف بأبي سعده.
(وفي يوم السبت) خرج غالب الأمرا ناحية البساتين، وورد الخبر عن القبليين أنهم لم يزالوا مقيمين في ناحية بني سويف.
وفيه أنفق حسن باشا ثلث النفقة على العسكر، فأعطى إسماعيل بك عشرين ألف دينار، وحسن بك خمسة عشر ألفًا، ولكل صنجق عشرة آلاف، ولكل طايفة وجاق أربعة آلاف، فاستقل الينكجرية حصتهم وكتبوا لهم عرضحال يطلبون الزياد في نفقتهم.
وفيه طلب حسن باشا دراهم سلفة من التجار فوزعوها على أفرادهم، فحصل لفقرايهم الضرر، وهرب أكثرهم وأغلقوا حوانيتهم وحواصلهم، فصاروا يسمرونها وكذلك البيوت، وطلبوا أيضًا الخيول والبغال والحمير وكبسوا البيوت والأماكن لاستخراجها، وعزت الخيول جدًّا وغلت أثمانها.
(وفي يوم الاثنين) قبض حسن باشا على إسماعيل أغا كمشيش المتقدم ذكره، وأمر بقتله وأخرجوه من بين يديه، وعلى رأسه دفية، فشفع فيه الوجاقلية، فعفا عنه من القتل وسجنوه؛ وسبب ذلك أنه أحضر صحبته عدة مكاتيب سرًّا خطابًا لبعض أنفار فظهروا على ذلك فوقع له ما وقع.
وفيه عمل حسن باشا ديوانًا عظيمًا جمع فيه الأمرا والأعيان وقروا مكاتبات أرسلها القبليون يطلبون الصلح والأمان، ويذكرون لعابدي باشا ما نهب له في المعركة، وأن يرسل قايمة بذلك، ويردون له ما ضاع بتمامه، فقال عابدي باشا لحسن بك الجداوي: ما تقول في هذا الكلام؟ قال: أقول لا نأخذه إلا بالسيف كما أخذوه منا بالسيف. فقال: وهذا جوابي. ثم إن حسن بك قال لحسن باشا: يا مولانا، الرأي أن لا يصحبنا أحد من المحمدية مطلقًا، فإنهم أعداؤنا فيلحقنا منهم الضرر. فأجابه إلى ذلك وأمر بجمع خيولهم.
ثم إن حسن باشا قال يخاطب الأمر خطابًا عامًّا: اسمعوا … ربما تحدثكم نفوسكم وتقولون: هولا عثمانية لا نملكهم بلادنا أو إنهم مقصرون معنا في النفقة، والمصرلية غرضهم مع بعضهم فتذهبوا معنا ثم يقع منكم الخيانة والمخامرة. ثم حلف إنه إن وقع منهم شي من ذلك ليكون سببًا في خراب مصر سبع سنوات ولا يبقى بها أحد، وانفض الديوان ووقع الاتفاق على أن يكتبوا لهم جوابًا عن رسالتهم ملخصها إن كان قصدهم الصلح والأمان وقبول التوبة فإنهم يجابون إلى ذلك، ويحضر إبراهيم بك ومراد بك ويأخذ لهم حضرة القبطان أمانًا شافيًا من مولانا السلطان ويوجه لهم مناصب أينما يريدون في غير الإقليم المصري، يتعيشون فيها بعيالهم وأولادهم وما شاءوا من مماليكهم وأتباعهم، وأما بقية الأمرا فإن شاءوا حضروا إلى مصر وأقاموا بها، وكانوا من جملة عسكر السلطان، وإن شاءوا عينوا لهم أماكن من الجهات القبلية يقيمون بها، وإن أبوا ذلك فليستعدوا للحرب والقتال.
(وفي يوم الثلاثا) قبض حسن باشا على عمر كاشف الذي سكنه بالشيخ الظلام، وعلى محمد أغا البارودي وأمر بحبسهما عند إسماعيل بك، وسبب ذلك المكاتبات التي تقدم ذكرها مع إسماعيل أغا كمشيش.
(وفي يوم الأربعا) سافر محمد أفندي مكتوبجي حسن باشا بالمكاتبة إلى القبليين.
وفيه قتل رجل من عسكر القليونجية رجلًا بربريًّا، فاجتمعت طايفة البرابرة وأخذوا قتيلهم وذهبوا به إلى حسن باشا، فأحضر القليونجي القاتل وقتله.
(وفي يوم الخميس) نزل الأغا والجاويشية ونادوا على جميع الألضاشات بالذهاب إلى بولاق ليسافروا في المراكب صحبة الوجاقلية، وكل من بات في بيته استحق العقوبة، وطاف الأغا عليهم يخرجهم من أماكنهم، ويقف على الخانات ويسأل على من بها منهم ويأمرهم بالخروج، فأغلق الناس حوانيتهم، وبطل سوق خان الخليلي في ذلك اليوم، وخرج منهم جماعة ذهبوا إلى بولاق، ومنهم من طلع إلى الأبواب حسب الأمر، وحصل لفقرايهم كرب شديد لكونهم لم يأخذوا نفقة، بل رسموا لهم أنهم يأكلون على سماط يلكهم ويعلقون على دوابهم وطعامهم البقسماط والأرز والعدس لا غير، وذلك لعزة اللحم وعدم وجوده، فإن اللحم الضاني بالمدينة بثلاثة عشر نصف فضة إن وجد والجاموسي بثمانية أنصاف، وزاد سعر الغلة بعد الانحطاط، وكذلك السمن والزيت.
وفيه نقل محمد أغا البارودي وعمر كاشف من بيت إسماعيل بك وحبسا بباب مستحفظان بالقلعة.
وفيه أرسل القبالي أحد أولاد أخي عابدي باشا وكان مأسورًا عندهم، وأرسلوا صحبته منهوبات عابدي باشا وجملة من العساكر المجروحين، وأنعموا على كل عسكري بدينار.
(وفي يوم الأحد سابع عشرينه) حضر محمد أفندي المكتوبجي من عند الجماعة وصحبته علي أغا مستحفظان بجواب الرسالة السابق ذكرها، فأخبر أنهم ممتثلون لجميع ما يؤمرون به ما عدا السفر إلى غير مصر، فإن فراق الوطن صعب، ويذكر عنهم أنه لم يشق عليهم شيء أعظم من تمكن أخصامهم من البلاد — أعني إسماعيل بك وحسن بك — وذلك هو السبب الحامل لهم على القدوم والمحاربة، فإن لم يقبل منهم ذلك فالقصد أن يبرز لحربهم أخصامهم دون العساكر العثمانية، فتكون الغلبة لنا أو علينا، فإن كانت علينا وظفروا بنا استحقوا الإمارة دوننا، وإن كانت لنا وظفرنا بهم فالأمر لكم بعد ذلك إن شئتم قبلتم توبتنا ورددتم لنا مناصبنا وشرطتم علينا شروطكم، فقمنا بها قيامًا لا نتحول عنه أبدًا ما بقينا، وإن شئتم وجهتمونا إلى أي جهة امتثلنا ذلك، فلما ذكر ذلك لحسن باشا قال لعلي أغا: أنا ما جيت إلى مصر لأعمل لهم على قدر عقولهم، وإنما السلطان أمرني بما أمرت به، فإن كانوا مطيعين فليمتثلوا الأمر وإلا فسيلقون وبال عصيانهم. وكتب لعلي أغا جوابًا بذلك، وخلع عليه فروة سمور، وسافر من وقته ورجع إلى أصحابه وصحبته شخص من طرف الباشا، ولما ذهب إليهم محمد أفندي المكتوبجي أنعموا عليه وأكرموه وأعطاه مراد بك خاصة ألف ريال، فجعل يثني عليهم ويمدح مكارم أخلاقهم.
واستهل شهر صفر الخير أوله يوم الخميس
فيه حضرت خزينة حسن باشا من ثغر إسكندرية، فدفع باقي النفقة للعسكر والأمرا.
وفيه وصل الخبر أن الأمرا القبالي زحفوا إلى بحري، ووصلت أوايلهم إلى بر الجيزة وآخرهم بالرقق وفردوا الكلف على بلاد الجيزة.
وفيه خرجت خيام إسماعيل بك وحسن بك إلى ناحية طرا، وحجزوا المعادي والمراكب وانحازت كلها إلى البر الشرقي.
وفيه طلب إسماعيل بك دراهم سلفة من التجار فاعتذروا بقلة الموجود بأيديهم، وأغنياؤهم جلوا إلى الحجاز ولم يدفعوا له شيًّا، وادعى على تجار البن بمبلغ دراهم باقي حساب من مدته السابقة فصالحوه عنها بأربعة آلاف دينار.
(وفي يوم الجمعة) نودي على المحمدية المقيمين بمصر أنهم يذهبون إلى إسماعيل بك ويقابلونه سواء كان جنديًّا أو أميرًا أو مملوكًا، ومن تأخر استحق العقوبة وقبض على أنفار منهم وسجنوا بالقلعة وختم على دورهم، من جملتهم جعفر كاشف الساكن عند بيت القاضي من ناحية بين القصرين.
فيه حضر الأغا الذي كان بصحبة علي أغا المتوجه بالرسالة، وحضر بجوابات من القبال ملخصها: إننا طلبنا العفو مرارًا فلم تعفوا ولم تقبلوا توبتنا، وحيث كان كذلك فالله أولى وبه الإعانة.
(وفي يوم السبت) خرج حسن باشا وإسماعيل بك وحسن بك وبقية الأمرا وبرزوا إلى نواحي البساتين.
(وفي تلك الليلة) — أعني ليلة الأحد — وقعت حادثة لشخص من الأجناد يقال له إسماعيل كاشف أبو الشراميط، بيته في عطفة بخط الخيمية قتله مماليكه، وسبب ذلك على ما سمعنا تقصيره في حقهم، وفي تصرفه عدة حصص جارية في التزامه، فكتب تقسيطها بتمامها باسم زوجته ولم يكتب لهم شيًّا من ذلك، وكان جبارًا ظالمًا معدودًا في جملة كشاف مراد بك، فلما حصلت المناداة على المحمدية ذهب إلى إسماعيل بك وقابله، فطرده وأمره بلزوم بيته وأن لا يخرج منه، فذهب إلى بيته وأرسل إلى إسماعيل بك حصانين بعددهما أحدهما مركوبه والثاني لأحد مماليكه.
وأرسل معهما درعين على سبيل التقدمة والهدية ليستميل خاطره، وكان مملوكه صاحب الحصان غايبًا في شغل، فلما حضر لم يجد الجواد فسأل عنه، فأخبره خشداشه بصورة الحال فدخل إلى سيده وسأله فنهره وشتمه، فخرج مقهورًا وجلس يتحدث مع رفيقه، فقالوا لبعضهم: هذا الرجل سيدنا لا نرى منه إلا الأذى ولا نرى منه إحسانًا ولا حلاوة لسان، وكذلك الحصص كتبها لزوجته ولم يفعل معنا خيرًا عاجلًا ولا آجلًا. وحملهم الغيظ على أنهم دخلوا عليه بعد العشاء وقتلوه، فصرخت زوجته من أعلى ونزلت إليهم فقتلوها أيضًا هي وجاريتها، فسمعت الجيران وكثر العايط وحضر الوالي، فوقف المملوكان وضربا عليه بنادق الرصاص ونقبوا بيوت الجيران ونطوا منها، فلم يزل حتى قبض عليهما وقتلهما على رأس العطفة، وأصبح الخبر شايعًا بين الناس بذلك.
(وفي يوم الأحد المذكور) حضر نجاب الحج وأخبر أن العرب وقفت للحجاج في طريق المدينة وحاربوهم سبعة أيام وانجرح أمير الحاج، وقتل غالب أتباعه وخازنداره، ومن الحجاج نحو الثلث ونهبوا غالب حمولهم بسبب عوايدهم القديمة.
(وفي يوم الاثنين) شق الأغا وأمامه المنادي يقول: إن إبراهيم بك ومراد بك مطرودا السلطان، ومن كان مختفيًا أو غايبًا وأراد الظهور أو الحضور فليظهر أو يحضر وعليه الأمان ولا بأس عليه، ومن خالف فلا يلومن إلا نفسه.
وفيه انتقل عساكر القليونجية وعدوا إلى البر الغربي ونصبوا هناك متاريس، وأما الأمرا القبليون فإنهم أخرجوا أثقالهم من المراكب وطلعوها بأجمعها إلى البر، وتركوا المراكب ذهبت إلى حال سبيلها وانحازوا جميعًا عند الأهرام.
(وفي يوم الثلاثا) نودي على جميع الألضاشات بالخروج إلى الوطاق وكذلك المقيمون بالقلعة، فتكدر الناس لذلك واختفوا في الدور ولبس كثير منهم ملابس الفقها والمجاورين؛ وسبب ذلك عدم قدرتهم على الخروج من غير مصرف، فإذا خرج فقير الحال لا يجد ما يأكله ولا ما ينفقه عياله في غيبته ولا يفيده إلا مقاساة الجوع والبرد والغربة والمشقة.
(وفي يوم الأحد حادي عشره) نزل الحجاج ودخلوا مصر على حين غفلة وهم في أسوأ حال من العري والجوع، ونهبت جميع أحمال أمير الحاج وأحمال التجار وجمالهم وأثقالهم وأمتعتهم، وأسر العرب جميع النسا بالأحمال وكان أمرًا شنيعًا جدًّا، ثم إن الحجاج استغاثوا بأحمد باشا الجزار أمير الحاج الشامي، فتكلم مع العرب في أمر النسا فأحضروهن عرايا ليس عليهن إلا القمصان وأجلسوهن جميعًا في مكان، وخرجت الناس أفواجًا فكل من وجد امرأته أو أخته أو أمه أو بنته وعرفها اشتراها ممن هي في أسره، وصارت المرأة من نسا العرب تسوق الأربعة من الجمال والخمسة بأحمالها فلا تجد مانعًا؛ وسبب ذلك كله رعونة أمير الحاج، فإنه لما أراد أن يتوجه بالحجاج إلى المدينة أرسل إلى العرب، فحضر إليه جماعة من أكابرهم فدفع لهم عوايد سنتين وقسط البواقي على السنين المستقبلة بموجب الفرمان وحجز عنده أربعة أشخاص رهاين، فبدا له أن كواهم بالنار في وجوههم، فبلغ ذلك أصحابهم فقعدوا للحجاج في الطريق، فبلغ أمير الحاج ذلك فذهب من طريق أخرى فوجدهم رابطين فيها أيضًا فقاتلوا قتالًا هينًا، ففر هاربًا وترك الحجاج والعرب؛ فنهبوا حملته وقتلوا مماليكه ولم يبق معه إلا القليل، فهرب بمن بقي معه واختفى عن الحجاج ثلاثة أيام ولم يره أحد، وفعلت العرب في الحجاج ما فعلوه وأخذوا ما أخذوه، فلم ينج منهم إلا من طال عمره وسلم نفسه أو افتداها إلى غير ذلك، وأخذوا المحمل أيضًا ولم يردوه.
(وفي يوم الاثنين ثاني عشره) دخل أمير الحاج المذكور وخلفه محمل زوروه من المحامل القديمة، وأشاعوا رجوعه بالكذب.
وفيه هجمت القبليون على المتاريس وأرادوا أن يملكوها في غفلة آخر الليل، لعلمهم أن الأمرا والباشا ذهبوا إلى مصر واشتغلوا بالحجاج، وكان حسن باشا أمس ذلك اليوم لما بلغه حضور الحجاج ركب من فوره وذهب إلى العادلية، فقابل أمير الحاج ورجع من ليلته إلى الوطاق فلما هجموا على المتاريس كان المتترسون مستيقظين فضربوا عليهم المدافع من البر والبحر من الفجر إلى شروق الشمس، فرجعوا إلى مكانهم من غير طايل، ثم هجموا أيضًا يوم الثلاثا بعد الظهر فضربوا عليهم ورجعوا.
(وفي يوم الأربعا) ركب الأمرا القبليون وحملوا أحمالهم وصعدوا إلى دهشور وجلسوا هناك، وحضر منهم جماعة من الأجناد بأمان وانضموا إلى البحريين.
(وفي عشرينه) حضر أحمد كتخذا علي ومعه بعض كشاف ومماليك.
وفيه حصل العفو عن الألضاشات وغيرهم من المتعيشين؛ وسبب ذلك أنه لما زاد الإلحاح في طلبهم وصار الأغا يكثر من تكرار المناداة والتفتيش عليهم في الخانات والمساكن، وكل من صادفه بالغ في أذاه فضاق ذرعهم من ذلك، وشكا بعضهم للاختيارية، فتكلموا مع حسن باشا وكان المخاطب له أحمد جريجي أرنؤد اختيار تفكجيان، فقال له: يا سلطانم، الجماعة الألضاشات مكروبون من هذا الحال وغالبهم فقرا، ومنهم من لا يملك قوته، وما أعطيتموهم نفقة. فقال: ليست هذه الحادثة أحدثناها بل ذلك أمر قديم؛ لأنهم ينتسبون إلى الوجاقات. فقال له: نعم، ولكن العادة القديمة كان كل وجاق له دفتر وفيه عدة معدودة منهم ولهم جدكات وعوائد وكساوي، وهذا الأمر بطل من مدة سنين، فلما فهم حقيقة الحال أعفاهم وأمر الأغا فنادى عليهم بالعفو، وكل من كان له عادة قديمة يتبعها ويكتب اسمه في الدفتر ويأخذ جدك، فاطمأنوا لذلك، ثم ترك هذا الأمر وقعدوا في حوانيتهم وسكنت نفوسهم.
(وفي أواخره) أمر حسن باشا بمحاسبة محمد باشا المعزول، فذهب إليه أرباب الخدم والعكاكيز واختيارية الوجاقات والأفندية وذهبوا إليه ببولاق وتحاسبوا معه ودققوا عليه في الحساب، فطلع عليه ألف ومايتان وخمسة وعشرون كيسًا، فطلب أن يخصم منها باقي عوايده التي بذمم الأمرا وغيرهم، فعرفوا حسن باشا عن ذلك فلم يقبل، وقال: إن كان له شيء عند أحد يأخذه منه، ولا بد من إحضار الدراهم التي طلعت عليه فإني محتاج إلى ذلك في المصاريف اللازمة للعسكر، فشددوا عليه في الطلب فضاق خناقه واعتذر وبكى، وكتب على نفسه تمسكًا بذلك، واستوحشا من بعضهما، فسعى فيض الله أفندي الريس بينهما في إزالة ذلك، ثم ذهب محمد باشا إلى حسن باشا واجتمع معه في قصر الآثار.
وفيه حضرت مكاتبة من القبالي يطلبون الأمان وأن يعينوا لهم أماكن في الجهة القبلية يقيمون بها ويعيشون هناك، فأجيبوا إلى ذلك ويختاروا مكانًا يريدونه بشرط أن يكونوا جماعة قليلة، ويحضر باقي الأمرا والعسكر إلى مصر بالأمان، فلم يرضوا بالافتراق ولم يجابوا إلا بمثل الجواب الأول، واستقروا ناحية بني سويف، ورجعت عنهم عرب الهنادي وفارقوهم.
واستهل ربيع الأول بيوم الجمعة
فيه حضر ططري من الدولة وعلى يده مثال لحسن باشا بأن يقيم بمصر ولا يخرج مع العساكر، بل يستمر محافظًا في المدينة فتحقق الناس إقامته وعدم سفره.
وفيه شرع الأمرا في التعدية إلى الجهة الغربية، فأول من عدى علي بك الدفتر دار فعدى إلى الشيمي بأثقاله، وكذلك بقية الأمرا صاروا في كل يوم يعدى منهم جماعة.
وفيه شرع حسن باشا في عمل شر كفلك فشرعوا في عمله على ساحل بولاق تجاه الديوان، وهو عبارة عن متريز مصنوع من أخشاب ممتدة على مقصات من خشب وهي قطع مفصلات يجمعها أغربة من حديد، على تلك المدادات عدة حراب حديد مسمرة عليها محددة الأطراف، وبين كل مقصين سفل الأخشاب الممتدة مدفع موضوع على شبه بسطة من الخشب، ومساحة ذلك نحو أربعمائة وخمسين ذراعًا، وهو يوضع على هيئات مختلفة مربعًا ومدورًا والعسكر من داخله متحصنين به، وإذا هجمت عليه الخيول رشقت بها تلك الحراب.
(وفي يوم الاثنين رابعه) ركبت طوايف العسكر والوجاقات ومروا بنظامهم من تحت قصر الآثار وحسن باشا ينظرهم، فأعجبه نظامهم وترتيبهم وحسن زيهم، ثم تتابعوا في التعدية.
(وفي يوم الاثنين حادي عشره) سافر عابدي باشا بمن بقي من العسكر.
(وفي ليلة الخميس رابع عشره) كسف جرم القمر جميعه، وكان ابتداؤه من رابع ساعة إلى ثامن ساعة من الليل.
(وفي منتصفه) حضرت عساكر من الأضات مثل قبرس وقرمان وغير ذلك، وجاء الخبر عن الأمرا القبالي أنهم وصلوا إلى أسيوط، وتخلف عنهم جملة من المماليك والأتباع في نواحي المنية وغيرهم، فمنهم من حضر إلى مصر ومنهم من اختفى في البلاد.
وفيه اشتكت الناس من غلا الأسعار، وتكلم الشيخ العروسي مع حسن باشا بسبب ذلك، وقال له: في زمن العصاة كان الأمرا ينهبون ويأخذون الأشياء من غير ثمن والحمد لله هذا الأمر ارتفع من مصر بوجودكم، وما عرفنا موجب الغلا أي شي. فقال: أنا لا أعرف اصطلاح بلادكم. وتشاور مع الاختيارية في شأن ذلك، فوقع الاتفاق على عمل جمعية في باب الينكجرية وإحضار الأغا والمحتسب والمعلمين ويعملون تسعيرة وينادون بها، ومن خالف أو احتكر شيًّا قتل.
فلما كان يوم السبت سادس عشره اجتمعوا في باب مستحفظان، وحضر الشيخ العروسي أيضًا، واتفقوا على تسعيرة في الخبز واللحم والسمن وغير ذلك، ركب الأغا وبجنبه المحتسب ونادوا في الأسواق فجعلوا اللحم الضاني بثمانية أنصاف وكان بعشرة، والجاموسي بستة بعد سبعة، والسمن المسلي بثمانية عشر، والزبد بأربعة عشر، والخبز عشرة أواق بنصف فضة وهكذا، فعزت الأشياء وقل وجود اللحم، وإذا وجد كان في غاية الرداءة مع ما فيه من العظم والكبد والفشة والكرشة.
(وفي يوم السبت ثالث عشرينه) سافر محمد باشا المنفصل من بولاق إلى رشيد.
(وفي أواخره) وصل الخبر بأن رضوان بك قرابة علي بك الكبير المنافق وعلي بك الملط وعثمان بك وجماعة علوية حضروا إلى عرضي التجريدة، وأخذوا الأمان من إسماعيل بك وعابدي باشا وأنهم قادمون إلى مصر، وأن القبالي استقروا بوادي طحطا مكانهم الأول الذي قاتلوا فيه.
شهر ربيع الثاني
وفي يوم الخميس خامسه وصل المذكورون إلى مصر وقابلوا حسن باشا وتوجهوا إلى بيوتهم.
وفيه ألبسوه أوده باشه بوابة، وكان شاغرًا من أيام علي بك الكبير نحوًا من ثماني عشرة سنة.
(وفي يوم الأحد ثامنه) ضربوا مدافع كثيرة وقت الضحى، وكان أشيع في أمسه أن التجريدة نصرت وقتل من القبالي أناس كثيرة، فلما سمعت الناس تلك المدافع ظنوا تحقيق ذلك وكثرت الأكاذيب والأقاويل، ثم تبين أن لا شي، وأنها بسبب رجوع بعض مراكب رومية من ناحية الفشن بسبب قلة ماء النيل، ومن عادتهم أنهم إذا وصلوا للمرساة ضربوا مدافع فيجابوا بمثلها.
(وفي منتصفه) حضر محمد كتخدا الأشقر بسبب تجهيز ذخيرة ولوازم ومصاريف فهيئت وأرسلت، وكذلك قبل ذلك مرارًا كثيرة، وأخبر أن التجريدة وصلت إلى دجرجا وأن القبالي ارتحلوا منها وصعدوا إلى فوق وتباعدوا عن البلد نحو ست ساعات ثم انقطعت الأخبار.
واستهل شهر جمادى الأولى
فيه زاد قلق حسن باشا بسبب تأخر الجوابات وطول المدة.
وفيه عين حسن باشا علي محمد باشا برشيد وشدد عليه في طلب الدراهم وضايقوه حتى باع أمتعته وحوايجه وغلق ما عليه، وتوفيت زوجته فحزن عليها حزنًا شديدًا مع ما هو فيه من الكرب ولم يفده من فعايله وهمته التي فعلها بمصر قدوم حسن باشا شيء، وجازاه بعد ذلك بأقبح المجازاة فإنه لولا أفاعيله وتمويهاته وأكاذيبه ما تمكن حسن باشا من دخول مصر، فإنه كان يعظم الأمر على الأمرا المصريين ويهول تهويلات كثيرة عليهم وعلى المشايخ واختيارية الوجاقات، ويقول: إياكم والعناد وإياكم أن توقعوا حربًا فإنكم تخربون بلادكم وتكونون سببًا في هلاك أهلها، فإنه بلغني أنه تعين مع حسن باشا كذا كذا ألفًا من الجنس الفلاني وكذا كذا ألفًا من جنس العسكر الفلاني، وأنهم متأخرون في الحضور عنه تحت الاحتياج، وكذلك في عساكر البر الواصلة من الجهة الشامية ومعهم ثمانون ألف ثور وماية ألف جاموس برسم جر المدافع، وفي المدافع ما يسحبه خمسون ثورًا ونحو ذلك. حتى أدخل عليهم الوهم وظنوا صدقه وانحلت عرا الناس عنهم وخصوصًا بما مناهم به من إقامة العدل ومنع الظلم والجور وغير ذلك، حتى جذب قلوب العالم وتحولوا عن الأمرا وتمنوا زوالهم في أسرع وقت، وهيج الناس وأثارهم قبل وصول حسن باشا، وملك القلعة ومهد له الأمور، فجزاه بعد تمكنه بالخذلان والعزل والحساب والتدقيق وغير ذلك.
(وفي يوم الأربعا ثالثه) ورد نجاب وصحبته مكتوب من عابدي باشا إلى حسن باشا وأخبر بوقوع الحرب بين الفريقين في يوم الجمعة ثامن عشرين ربيع الآخر عند الأمير ضرار، وكانت الهزيمة على القبالي ولكن بعد أن كسروا الجردة مرتين، وهجموا على شركفلك فضربوا عليهم من داخله بالمدافع والبنادق وقتل لاجين بك عند شركفلك، وقتل الكثير من عرب الهنادي وقبض على كبيرهم أسيرًا، ومات من المصاحبين للعسكر ذو الفقار الخشاب وجماعة من الوجاقلية منهم علي جربجي المشهدي، وكانت الحرب بينهم نحو ست ساعات وكانت وقعة عظيمة، وقتل من الفريقين ما لا يحصى وكان حضور هذا النجاب على الفور من غير تحقيق، فلما ورد ذلك سر الباشا سرورًا كثيرًا وأمر بعمل شنك، ضربوا مدافع كثيرة من قصر العيني والقلعة وضربوا النوبة السلطانية في برج القلعة وكذلك نوبة حسن باشا تحت القصر، وأرسل الشيخ إلى الأعيان كالشيخ البكري والشيخ السادات وأكابر الوجاقات وحضروا جميعًا للتهنية.
(وفي عصريتها) أحضر آلات اللهو والطرب فضربوا نوبة بين يديه، وعمل في ليلتها شنكًا وحراقة سواريخ ونقوطا، وابتهج ابتهاجًا عظيمًا وسكن ما كان به من الوجل.
(وفي سادسه) حضرت عدة مكاتبات من أمرا التجريدة، فأخبروا فيها بتلك الواقعة وأن القبالي صعدوا بعد الهزيمة إلى عقبة الهو (بنجع حمادي) على جرايد الخيل فلم يصعدوا خلفهم لصعوبة المسلك على الأحمال والأثقال، وأنهم منتظرون حضور مراكبهم وما فيها من الذخيرة فيحملوا الأحمال ويسيرون بأجمعهم خلفهم من الطريق المستقيم التي توصل إلى خلف العقبة، وأخبروا أيضًا أنهم استولوا على حملاتهم ومتاعهم حتى بيع الجمل، وعليه النقاقير بخمسة ريال ونحو ذلك.
(ومن الحوادث في هذه الأيام) وقوع الموت الذريع في الأبقار حتى صارت تتساقط في الطرقات.
ومات لابن بسيوني غازي بناحية سنديون خاصة ماية وستون ثورًا، وقس على ذلك.
(وفي عاشره) طلب الباشا حوضًا ليعمله حنفية، فأخبره الحاضرون وعرفوه بالحوض الذي تحت الكبش المعروف بالحوض المرصود، فأمر بإحضاره فأرسلوا إليه الرجال والحمالين، وأرادوا رفعه من مكانه فازدحمت عليه الناس من الرجال والنسا لما تسامعوا بذلك لينظروا ما شاع.
وثبت في أذهانهم من أن تحته كنزًا وهو مرصود على شي من العجايب أو نحو ذلك، وأن الباشا يريد الكشف عن أمره فلما حصل ذلك الازدحام وجده الحمالون ثقيلًا جدًّا وهم لا يعرفون صناعة جر الأثقال، وحركوه عن مكانه يسيرًا وبلغ الباشا ما حصل من ازدحام العامة أمر بتركه فتركوه ومضوا، فذهب العامة في أكاذيبهم كل مذهب، فمنهم من يقول: إنهم لما حركوه وأرادوا جره رجع بنفسه ثانيًا، ومنهم من يقول غير ذلك من السخافات.
(وفي يوم الثلاثا سادس عشره) وصل نيف وثلاثون رأسًا من قتلى القبليين فألقوهم عند باب القلعة بالرميلة على سرير من جريد النخل وأبقوهم ثلاثة أيام ثم دفنوهم، ووجد فيهم رأس عزوز كتخدا عزبان.
(وفي ذلك اليوم) أمر الباشا بشنق رجلين من الغيطانية تشاجرا مع طايفة من العسكر وضرباهم وأخذا سلاحهم ورفعت الشكوى إلى الباشا، فأمر بشنق الغيطانية ظلمًا على الشجرة التي عند القنطرة فيما بين طريق مصر القديمة وطريق الناصرية.
(وفي يوم السبت عشرينه) تقلد حسن أغا كتخذا علي بك الدفتردار المعروف بحسن جلبي الحسبة وعزل ابن ميلاد.
(وفي يوم الاثنين ثاني عشرينه) نظر أصحاب الدرك عدة هجانة مرت من ناحية الجبل معهم أمتعة وثياب مرسلة إلى القبالي من نسايهم، فركبوا خلفهم فلم يدركوهم وأشاعوا أنهم قبضوا عليهم من غير أصل، ووصل خبرهم حسن باشا فاغتاظ على الأغا والوالي، وأمرهما بالذهاب إلى بيوتهم ويسمرونها عليهم ففعلوا ذلك، وقبضوا على الأغوات الطواشية والسقايين، وحلت ضجة في البلد بين الظهر والعصر بسبب ذلك، وفرت زوجة إبراهيم بك إلى بيت شيخ السادات، ثم إن رضوان بك قرابة علي بك تشفَّع في تسمير البيوت فقبلت شفاعته، وأرسل لمعادي الخبيري والجيزة ومنعهم من التعدية وحجزوهم إلى البر الشرقي.
(وفي يوم الثلاثا) وردت نجابة وعلى أيديهم مكاتبات من عابدي باشا يخبر فيها بأن يحيى بك وحسن كتخدا الجربان حضرا إليه بأمان وخلع عليهم فراوي وصحبتهم عدة من الكشاف والمماليك، وذلك بعد أن وصلوا إلى إسنا وأن القبالي ذهبوا إلى ناحية إبريم فتخلف عنهم المذكورون.
(وفي يوم الخميس سادس عشرينه) حضر إسماعيل القبطان وكان بصحبته حمامجي أوغلي، وأخبر أن العسكر العثمانية ملكوا أسوان وأن الأمرا القبالي ذهبوا إلى إبريم وأنهم في أسوأ حال من العري والجوع وغالب مماليكهم لابسون الزعابيط مثل الفلاحين، وتخلف عنهم كثير من أتباعهم فمنهم من حضر إلى عابدي باشا بأمان ومنهم من تَشَتَّتَ في البلاد، ومنهم من قتله الفلاحون وغير ذلك من المبالغات.
(وفي يوم الاثنين) خلع حسن باشا على رضوان بك العلوي وقلده كشوفية الغربية، وقلد علي بك الملط كشوفية المنوفية، وقرر لهما على كل بلد أربعة آلاف نصف فضة، ونزلا إلى طندتا لأجل خفارة مولد السيد أحمد البدوي.
(وفي هذا الشهر) عمت البلوى بموت الأبقار والثيران في ساير الإقليم البحري ووصل إلى مصر حتى أنها صارت تتساقط في الطرقات وغيطان المرعى وجافت الأرض منها، فمنها ما يدركونه بالذبح ومنها ما يموت، ورخص سعر اللحم البقري جدًّا لكثرته حتى صار يباع بمصر آخر النهار كل رطلين بنصف فضة مع كونه سمينًا غير هزيل، وعافته الناس وبعضهم كان يخاف من أكله، وأما الأرياف فكان يباع فيها بالأحمال، وبيعت البقرة بما خلفها بدينار.
وكثر عويل الفلاحين وبكاهم على البهايم، وعرفوا بموتها قدر نعمتها، وغلا سعر السمن واللبن والأجبان بسبب ذلك لقلتها.
شهر جمادى الآخرة
استهل بيوم الأربعا وكان ذلك يوم النوروز السلطاني وانتقال الشمس لبرج الحمل.
(وفي يوم الأحد خامسه) حضر حمامجي أوغلي وأخبر أن القبالي ذهبوا إلى إبريم، وأن الباشا والوجاقلية والعسكر رجعوا إلى إسنا، وأرسلوا يستشيرون الباشا في الذهاب خلفهم أو الرجوع أو الإقامة.
(وفي يوم الاثنين) سافر حمامجي أوغلي بالجوابات إلى الجهة القبلية وفيها الأمر بحضور عابدي باشا وإسماعيل بك وباقي الأمرا إلى مصر، وأن حسن بك ومحمد بك المبدول ويحيى بك يقيمون بإسنا محافظين.
(وفي يوم الخميس سادس عشره) نودي على النسا أن لا يخرجن إلى موسم الخماسين المعروف عند القبطة بالنسيم وذلك يوم الاثنين صبيحة عيدهم.
(وفي عشرينه) نودي بإبطال المعاملة بالذهب الفندقلي الجديد، واستمرت المناداة على النسا في عدم خروجهن إلى الأسواق، وسبب ذلك وقايعهن مع العسكر، منها أنهم وجدوا ببيت يوسف بك سكن حمامجي أوغلي نحو سبعين امرأة مقتولة ومدفونة بالإسطبلات، ومن النسا من لعبت على العسكر وأخذت ثيابه، وأمثال ذلك، فنودي عليهن بسبب ذلك، فتضرر المحترفات منهن مثل البلانات والدايات وبياعات الغزل والقطن والكتان، ثم حصل الإطلاق وسومحن في الخروج.
(وفي خامس عشرينه) حضرت نجابة من قبلي وحضر أيضًا حمامجي أوغلي وأخبروا أن الباشا والأمرا وصلوا إلى دجرجا.
(وفي أواخره) وصل جماعة من الوجاقلية وحضر عمر كاشف الشعراوي ولبس قفطانًا على كشوفية الشرقية؛ لأنه كان أزلم باشا.
شهر رجب الفرد استهل بيوم الخميس
فيه قبض حسن باشا على أحمد قبودان المعروف بحمامجي أوغلي وحبسه وحبس أيضًا تابعه عثمان التوقتلي، كان يسعى معه في الخبايث، وكذلك رجل يقال له مصطفى خوجه.
(وفي يوم الخميس سابعه) نودي على النسا أنهن إذا خرجن لحاجة يخرجن في كمالهن، ولا يلبسن الحبرات الصندل ولا الإفرنجي، ولا يربطن على روسهن العمايم المعروفة بالقازدغلية.
وذلك من مبتدعات نسا القازدغلية، وذلك أنهن يربطن الشاشات الملونة المعروفة بالمدورات، ويجعلنها شبه الكعك ويملنها على جباههن معقوصات بطريقة معلومة لهن، وصار لهن نسا يتولين صناعة ذلك بأجرة على قدر مقام صاحبتها، ومنهن من تعطي الصانعة لذلك دينارًا أو أكثر أو أقل، وفعل ذلك جميع النسا حتى الجواري السود.
(وفي يوم الأحد حادي عشره) حضر عابدي باشا وإسماعيل بك وعلي بك الدفتردار ورضوان بك بلفيا وحسن بك رضوان ومحمد بك كشكش وعبد الرحمن بك عثمان وسليمان بك الشابوري وباقي الوجاقلية إلى مصر وذهبوا إلى بيوتهم، وبات الباشا في مصر القديمة.
(وفي صبحها يوم الاثنين) ركب عابدي باشا وطلع إلى القلعة من غير موكب وطلع من جهة الصليبة، وذلك قبل أذان الظهر بنحو خمس درجات، فلما استقر بها ضربوا له مدافع من الأبراج، وبعد انقضاء المدافع أرعدت السما رعودًا متتابعة إلى العصر وأمطرت مطرًا غزيرًا، وذلك رابع عشرين برموده القبطي وتاسع عشر نيسان الرومي، وأما حسن بك الجداوي فإنه تخلف بقنا هو وأتباعه، وكذلك عثمان بك وسليم بك الإسماعيلي بإسنا، وعلي بك جركس بأرمنت، وعثمان بك وشاهين بك الحسيني ويحيى بك وباكير بك ومحمد بك المبدول، كذلك تخلفوا متفرقين في البنادر لأجل المحافظة، وقاسم بك أبو سيف في منصبه بدجرجا.
وأراد الباشا وإسماعيل بك أن يبقوا طايفة من الوجاقلية ومعهم طايفة من العسكر فأبوا وقالوا: حتى نذهب إلى مصر ونعدل حالنا وبعد ذلك نأتي.
(وفي ذلك اليوم) وصل الخبر بأن القبالي رجعوا من أسوان وشرعوا في التعدية إلى إسنا، فأرسل إسماعيل بك إلى الاختيارية فحضروا عنده بعد العصر وتكلموا في شأن ذلك بحضرة علي بك أيضًا، وكذلك اجتمعوا في صبحها يوم الثلاثا وانفصل المجلس كالأول.
(وفي أواخره) وصل الخبر أنهم زحفوا إلى بحري وأن حسن بك تأخر عنهم.
شهر شعبان
في أوايله جا الخبر أنهم وصلوا إلى دجرجا وأن حسن بك والأمرا وصلوا في التأخر إلى المنية، وعملت جمعيات ودواوين بسبب ذلك وشرعوا في طلوع تجريدة، ثم وقع الاختلاف بين الباشا والأمرا، واستقر الأمر بينهم في الرأي أن يراسلوهم في الصلح وأنهم يقيمون في البلاد التي كانت بيد إسماعيل بك وحسن بك، ويرسلوا أيوب بك الكبير والصغير وعثمان بك الأشقر وعثمان بك المرادي يكونون بمصر رهاين، وكتبوا بذلك مكاتبات وأرسلوها صحبة محمد أفندي المكتوبجي وسليمان كاشف قنبور والشيخ سليمان الفيومي.
وفيه تقلد غيطاس بك إمارة الحج.
وفيه قررت المظالم على البلاد، وهي المعروفة برفع المظالم، وكان حسن باشا عندما قدم إلى مصر أبطلها، وكتب برفعها فرمانات إلى البلاد، فلما حضر إسماعيل بك حسن له إعادتها فأعيدت، وسموها التحرير وكتب بها فرمانات، وعينت بها المعينون، وتفرقوا في الجهات والأقاليم يطلبها مع ما يتبعها من الكلف وحق الطرق وغيرها، فدهى الفلاحون وأهل القرى بهذه الداهية ثانيًا على ما هم فيه من موت البهايم وهياف الزرع وسلاطة الفيران الكثيرة على غيطان الغلة والمقاثي وغيرها، وما هم فيه من تكلف المشاق الطاري عليهم أيضًا، بسبب موت البهايم في الدراس وإدارة السواقي بأيديهم وعوافيهم، أو بالحمير أو الخيل أو الجمال لمن عندهم مقدرة على شرايها، وغلت أثمانها بسبب ذلك إلى الغاية، فتغير قلوب الخلق جميعًا على حسن باشا وخاب ظنهم فيه وتمنوا زواله، وفشا شر جماعته وعساكره القليونجية في الناس، وزاد فسقهم وشرهم وطمعهم، وانتهكوا حرمة المصر وأهله إلى الغاية.
(وفي خامسه يوم الأربعا) توفي أحمد كتخدا المجنون، وقلدوا مكانه في كتخدايته مستحفظان رضوان جاويش تباعه عوضًا عنه.
وفيه قتل عثمان التوقتلي بالرميلة رفيق حمامجي أوغلي، بعد أن عوقب بأنواع العذاب مدة حبسه، واستصفيت منه جميع الأموال التي كان يملكها واختلسها ودل على غيرها حمامجي أوغلي، واستمر حمامجي أوغلي في الترسيم.
وفيه قبض على سراج متوجه إلى قبلي ومعه دراهم وأمتعة وغير ذلك فأخذت منه ورمي عنقه ظلمًا بالرميلة.
شهر رمضان استهل بيوم الأحد
فيه اختصرت الأمرا من وقدة القناديل في البيوت عن العادة.
وفيه عبَّى إسماعيل بك هدية جليلة، وأرسلها إلى حسن باشا وهي سبع فروق بن وخمسون تفصيلة هندي عال مختلفة الأجناس، وأربعة آلاف نصفية دنانير نقد مطروقة، وجملة من بخور العود والعنبر وغير ذلك، فأعطى للشيالين على سبيل الإنعام أربعة عشر قرشًا رومية عنها خمسماية وستون نصفًا فضة.
(وفي ثامنه) حضر حسن بك الجداوي إلى مصر.
(وفي يوم الثلاثا عاشره) حضر المحمل صحبة رجل من الأشراف، وذلك أنه لما وقع للحجاج من العربان ما وقع في العام الماضي، ونهبوا الحجاج وأخذوا المحمل بقي عندهم إلى أن جيش عليهم الشريف سرور وحاربهم وقاتلهم قتالًا شديدًا، وأفنى منهم خلايق لا تحصى، واستخلص منهم المحمل وأرسله إلى مصر صحبة ذلك الشريف، وقيل إن الشريف الذي حضر به هو الذي افتداه من العرب بأربعماية ريال فرانسة، فلما حضر خرج إلى ملاقاته الأشاير والمحملدارية وأرباب الوظايف، ودخلوا به من باب النصر وأمامه الأشاير والطبول والزمرد، وذلك الشريف راكب أمامه أيضًا.
(وفي ذلك اليوم بعد أذان العصر بساعتين) وقعت حادثة مهولة مزعجة بخط البندقانيين، وذلك أن رجلًا عطارًا يسمى أحمد ميلاد وحانوته تجاه خان البهار، اشترى جانب بارود إنكليزي من الفرنج في برميلين وبطة ووضعها في داخل الحانوت، فحضر إليه جماعة من أهل الينبع وساوموه على جانب بارود وطلبوا منه شيًّا ليروه ويجربوه، فأحضر البطة وصب منها شيًّا في المنقد الذي يعد فيه الدراهم، ووضعوه على قطعة كاغد وأحضروا قطعة يدك وطيروا ذلك البارود عن الكاغد فأعجبهم، ومن خصوصية البارود الإنكليزي إذا وضع منه شيء على كاغد وطير فالنار لا تؤثر في الكاغد، ثم رموا بالقطعة اليدك على مصطبة الحانوت، وشرع يزن لهم وهم يضعونه في ظرفهم ويتساقط فيما بين ذلك من حباته، وانتشر بعضها إلى ناحية اليدك وهم لا يشعرون.
فاشتعلت تلك الحبات واتصلت بما في أيديهم وبالبطة، ففرقعت مثل المدفع العظيم واتصلت النار بذينك البرميلين كذلك، فارتفع عقد الحانوت وما جاوره بما على تلك العقود من الأبنية والبيوت الربع والطباق في الهوا، والتهبت بأجمعها نارًا، وسقطت بمن فيها من السكان على من كان أسفلها من الناس الواقفين والمارين وصارت كومًا يظن من لم يكن رآه قبل ذلك أنه له ماية عام، وذلك كله في طرفة عين، بحيث إن الواقع في ذلك السوق أو المار لم يمكنه الفرار والبعيد أصيب في بعض أعضايه، إما من النار أو الردم وكان السوق في ذلك الوقت مزدحمًا بالناس خصوصًا وعصرية رمضان، وذلك السوق مشتمل على غالب حوايج الناس، وبه حوانيت بالعطارين والزياتين والقبانية والصيارف، وبياعي الكنافة والقطايف، والبطيخ والعبدلاوي، ودكاكين المزينين والقهاوي، وغالب جيران تلك الجهة وسكان السبع قاعات وشمس الدولة يأتون في تلك الحصة ويجلسون على الحوانيت لأجل التسلي، والحاصل أن كل من كان حاصلًا بتلك البقعة في ذلك الوقت سوا كان عاليًا أو متسفلًا، أو مارًّا أو واقفًا لحاجة أو جالسًا أصيب البتة.
وكان ذلك العطار يبيع غالب الأصناف من رصاص وقصدير ونحاس وكحل وكبريت، وعنده موازين شبه الجلل فلما اشتعل ذلك البارود صارت تلك الجلل وقطع الرصاص والكحل والمغناطيس تتطاير مثل جلل المدافع حتى أحرقت واجهة الربع المقابل لها، وكان خان البهار مقفولًا منخربًا وبابه كبير مسماري فصدمه بعض الجلل وكسره واشتعل بالنار واتصل بالطباق التي تعلو ذلك الخان ووقعت ضجة عظيمة، وكل من كان قريبًا وسلم أسرع يطلب الفرار والنجاة وما يدري أي شيء القضية، فلما وقعت تلك الضجة وصرخت النسا من كل جهة وانزعج الناس انزعاجًا شديدًا، وارتجت الأرض واتصلت الرجة إلى نواحي الأزهر والمشهد الحسيني وظنوها زلزلة.
شرع تجار خان الحمزاوي في نقل بضايعهم من الحواصل، فإن النار تطايرت إليه من ظاهره، وحضر الأغا والوالي فتسلم الأغا جهة الحمزاوي، وتسلم الوالي جهة شمس الدولة، وتتبعوا النار حتى أخمدوها، وختموا على دكاكين الناس التي بذلك الخط، وأرسلوا ختموا بيت أحمد ميلاد الذي خرجت النار من حانوته بعد أن أخرجوا منه النسا ثم أفرجوا عنهم بأمر إسماعيل بك، وأحضروا في صبحها نحو المايتي فاعل، وشرعوا في نبش الأتربة وإخراج القتلى، وأخذ ما يجدونه من الأسباب والأمتعة وما في داخل الحوانيت من البضايع والنقود وما سقط من الدور من فرش وأوان ومصاغ النسا وغير ذلك شيًّا كثيرًا، حتى الحوانيت التي لم يصبها الهدم فتحوها وأخذوا ما فيها وأصحابها ينظرون، ومن طلب شيًّا من متاعه يقال له: هو عندنا حتى تثبته. هذا إذا كان صاحبه ممن يخاطب ويصغى إليه، وقيامة قايمة ومن يقرأ ومن يسمع، ووقفت أتباعهم بالنبابيت من كل جهة يطردون الناس ولا يمكنون أحدًا من أخذ شي جملة كافية، وأما القتلى فإن من كان في السوق أو قريبًا من تلك الحانوت والنار فإنه احترق، ومن كان في العلو من الطباق انهرس، ومنهم من احترق بعضه وانهرس باقيه، وإذا ظهر وكان عليه شي أو معه شي أخذوه، وإن كانت امرأة جردوها وأخذوا حليها ومصاغها، ثم لا يمكنون أقاربهم من أخذهم إلا بدراهم يأخذونها، وكأنما فتح لهم باب الغنيمة على حد قول الشاعر:
ولما كشفوا عن أحمد ميلاد وحانوته وجدوه تمزق واحترق وصار قطعًا مثل الفحم، فجمعوا منه ست قطع وأخذوا شيًّا كثيرًا من حانوته ودراهم وودايع كانت أسفل الحانوت لم تصبها النار وكتم عليها الردم والتراب.
وكذلك حانوت رجل زيات انهدم على صاحبه، فكشفوا عنه وأخرجوه ميتًا وأخذوا من حانوته مبلغ دراهم، وكذلك من بيت صباغ الحرير بجوار الحمزاوي انهدمت داره أيضًا وأخذوا ما فيها، ومن جملتها صندوق ضمنه دراهم لها صورة ونحو ذلك، واستمر الحال على ذلك أربعة أيام، وهم في حفر ونبش وإخراج قتلى وجنايز، وبلغت القتلى التي أخرجت نيفًا عن ماية نفس وذلك خلاف ما بقي تحت الردم منهم إمام الزاوية المجاورة لذلك، فإنها انخسفت أيضًا على الإمام وبقي تحت الردم ولم يجدوا بقية أعضاء أحمد ميلاد، وفقدوا دماغه، فجمعوا أعضاءه ووضعوها في كيس قماش ودفنوه، وسدوا على تلك الخطة من الجهتين وتركوها كما هي مدة أيام، ونظفت وعمرت بعد ذلك فكانت هذه الحادثة من أعظم الحوادث المزعجة المورخة وما راء كمن سمعا.
(وفي يوم الخميس) حضر الرسل من عند القبليين، وحضر أيوب بك الكبير رهينة عن المماليك المحمدية، وعثمان بك الطنبرجي عن مراد بك، وعبد الرحمن بك عن إبراهيم بك، فذهبوا إلى حسن باشا وقابلوه، وكذلك قابلوا عابدي باشا، ثم اجتمع الأمرا عند حسن باشا وتكلموا في شأن هولا الجماعة، وقالوا: هولا ليسوا المطلوبين، ولم يأت إلا أيوب بك الكبير من المطلوبين، ولم يأت عثمان بك الأشقر وأيوب بك الصغير، فاتفق الرأي على إعادة الجواب، فكتبوا جوابات أخرى وأرسلوها صحبة سلحدار حسن باشا.
(وفي هذا الشهر) أخذت القرصان ثلاثة غلايين، وفيها أناس من أتباع الدولة وأعيانها.
وفيه وصل الخبر بوقوع حريق عظيم ببندر جدة، وتوفي أحمد باشا واليها.
وفيه عبى علي بك الدفتردار كساوي للأمرا، فأرسل إلى إسماعيل بك وحسن بك الجداوي ورضوان بك وباقي الصناجق والأمرا، حتى لحريمهم وأتباعهم وأرسل أيضًا لطايفة الفقها.
وفيه فتح السفر لجهة الموسقو وتقليد باكير قبطان باشا قايمقام عن حسن باشا.
(وفي منتصفه) وقعت حادثة بثغر بولاق بين طايفة القليونجية والفلاحين باعة البطيخ، وذلك أن شخصًا قليونجيًّا ساوم على بطيخة وأعطاه دون ثمنها، فامتنع وتشاجر معه فوكزه العسكري بسكين، فزعق الفلاح على شيعته، وزعق الآخر على رفقايه؛ فاجتمع الفريقان ووقع بينهم مقتلة كبيرة قتل فيها من الفلاحين نحو ثلاثين إنسانًا، ومن القليونجية نحو أربعة.
(وفي يوم الأحد ثاني عشرينه) قررت تفريدة على بلاد الأرياف أعلى وأوسط وأدنى، الأعلى خمسة وعشرون ألف نصف فضة، والأوسط سبعة عشر ألفًا، والأدنى تسعة آلاف، وذلك خلاف ما يتبعها من الكلف وحق الطرق.
وفيه رفعوا خفارة البحرين عن ابن حبيب، وكذلك الموارد والتزم بها رضوان بك على خمسين كيسًا يقوم بها في كل سنة لطرف الميري، وسبب ذلك منافسة وقعت بينه وبين ابن حبيب، فإنه لما تولى المنوفية ومر على دجوة أرسل له ابن حبيب تقدمة فاستقلها، ثم أرسل إليه بعد ارتحاله من الناحية يطلب منه جمالًا وأشيا، فامتنع ابن حبيب فأرسل يطلبه ليقابله فلم يذهب إليه واعتذر، ولما رجع نزل إليه ابنه علي بالضيافة فعاتبه على امتناع أبيه من مقابلته، وأضمر له في نفسه وتكلم معه حسن باشا في رفع ذلك عنهم والتزم بالقدر المذكور، وطريقة العثمانية الميل إلى الدنيا بأي وجه كان، فأخرج فرمانًا بذلك.
شهر شوال
(وفي ثانيه) برزت الأمرا المعينون لجمع الفردة، وهم: سليم بك الإسماعيلي للغربية، وشاهين بك الحسيني لإقليم المنصورة، وعلي بك الحسيني لإقليم المنوفية، ومحمد بك كشكش للشرقية، وعثمان بك الحسيني للبحيرة، وعثمان كاشف الإسماعيلي للفيوم، ويوسف كاشف الإسماعيلي للبهنسا، وأحمد كاشف للجيزة.
(وفي ثامنه) حضر سلحدار الباشا وسليمان كاشف قنبور المسافران بالجوابات إلى الأمرا القبليين، وذلك أنهم أرسلوا بطلب بلاد أخرى زيادة على ما عينوا لهم، وقالوا: إن هذه البلاد لا تكفينا، فأمر لهم حسن باشا بخمسة بلاد أخرى، فقال إسماعيل بك: اطلبوا منهم حلوانها، فقال إسماعيل كاشف قنبور: اجعلوا ما أخذ من بيوتهم في نظير الحلوان، فقال: كذلك.
وفي عاشره حضر قاصد من الحجاز بمراسلة من الشريف سرور يخبر فيها بعصيان عرب حرب وغيرهم، وقعودهم على الطريق ومنعهم السبيل، ويحتاج أن أمير الحاج يكون في قوة واستعداد، وأن الحرب قايمة بينهم وبين الشريف، وخرج إليهم في نحو خمسة عشر ألفًا.
(وفي منتصفه) كمل عمارة التكية المجاورة لقصر العيني المعروفة بتكية البكتاشية، وخبرها أن هذه التكية موقوفة على طايفة من الأعجام المعروفين بالبكتاشية، وكانت قد تلاشى أمرها وآلت إلى الخراب، وصارت في غاية من القذارة، ومات شيخها وتنازع مشيختها رجل أصله من سراجين مراد بك، وغلام يدعي أنه من ذرية مشايخها المقبورين، فغلب على الغلام ذلك الرجل لانتسابه إلى الأمرا، سافر إلى إسكندرية فصادف مجيء حسن باشا واجتمع به، وهو بهيئة الدراويش، وهم يميلون لذلك النوع، وصار من أخصايه لكونه من أهل عقيدته، وحضر صحبته إلى مصر وصار له ذكر وشهرة، ويقال له الدرويش صالح، فشرع في تعمير التكية المذكورة من رشوات مناصب المكوس التي توسط لأربابها مع حسن باشا، فعمرها وبنى أسوارها وأسوار الغيطان الموقوفة عليها المحيطة بها، وأنشأ بها صهريجًا في فسحة القبة.
ورتب لها تراتيب ومطبخًا وأنشا خارجها مصلى باسم حسن باشا، فلما تم ذلك عمل وليمة، ودعا جميع الأمرا، فحصل عندهم وسوسة، واعتدوا وركبوا بعد العصر بجميع مماليكهم وأتباعهم وهم بالأسلحة متحذرين، فمد لهم سماطًا وجلسوا عليه، وأوهموا الأكل لظنهم الطعام مسمومًا، وقاموا وتفرقوا في خارج القصر والمراكب، وعمل شنك وحرقة نفوط وبارود، ظنوا غرابته ثم ركبوا في حصة من الليل وذهبوا إلى بيوتهم.
(وفي يوم السبت تاسع عشره) وصل باشة جدة إلى بولاق، وركب حسن باشا والأمرا وذهبوا للسلام عليه.
وفيه حضرت بشارة من شريف مكة بنصرته على العرب وهزيمتهم، وأنه قتل منهم نحو الثلاثة آلاف، فاطمأن الناس.
وفيه مرض عابدي باشا.
(وفي يوم الخميس رابع عشرينه) خرج المحمل وأمير الحاج غيطاس بك في موكب محتقر بدون الينكجرية والعزب، مثل العام الماضي، فخرجوا إلى الحصوة، وأقاموا هناك ولم يذهبوا إلى البركة.
(وفي يوم الثلاثا غايته) ارتحل الحجاج من الحصوة إلى البركة بعد العصر، وارتحلوا في ضحوة يوم الأربعا غرة شهر القعدة.
شهر القعدة
في ثالثه يوم الجمعة الموافق لثالث عشر مسرى القبطي، أوفى النيل المبارك أذرعه ونودي بذلك وعمل الشنك، وركب حسن باشا في صبحها، وكسروا السد بحضرته وجرى الماء في الخليج، ولم يحضر عابدي باشا لمرضه.
(وفي سادسه) نودي على المماليك أن لا يخرجوا من بيوت أسيادهم، ولا يركبوا على انفرادهم ويمشوا بالمدينة، وكان من السنن السابقة في آداب المماليك أن لا يركبوا من بيوت أسيادهم منفردين أبدًا، فترك ذلك في جملة المتروكات، وتزوج المماليك وصار لهم بيوت وخدم، ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون الدخان، وهم راكبون في الشارع الأعظم، وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق، ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور، فإذا مات بعض الأعيان بادر أحد المماليك إلى سيده الأمير صاحب الشوكة وقبل يده، وطلب منه أن ينعم عليه بزوجة الميت، فيجيبه إلى ذلك، فيركب في الوقت والساعة ويذهب إلى بيت المتوفى، ولو قبل خروج جنازته، ونزل في البيت وجلس فيه وتصرف في تعلقاته وحازه وملكه بما فيه، وأقام بمجلس الرجال ينتظر انقضاء العدة، ويأمر وينهى ويطلب الغدا والعشا والفطور والقهوة والشربات من الحريم ويتصرف تصرف الملاك، وربما وافق ذلك غرض المرأة، فإذا رأته شابًا مليحًا قويًّا وكان زوجها المقبور بخلاف ذلك أظهرت له المخبآت والمدخرات، فيصبح أميرًا من غير تأمر، وتتعدد عنده الخيول والخدام والفراشون والأصحاب، ويركب ويذهب ويجي إلى بيت سيده وفي حاجاته وغير ذلك، فجرى يومًا بمجلس حسن باشا ذكر ركوب المماليك على انفرادهم في الأسواق بحضرة بعض الاختيارية.
فقالوا: إنه قلة أدب وخلاف العادة القديمة التي رأيناها، وتربينا عليها، فقال الباشا: اكتبوا فرمانًا بمنع ذلك ففعلوا ذلك، ونادوا به من قبيل الشغل الفارغ.
(وفي سابعه) ثقل عابدي باشا في المرض وأشيع موته.
(وفي حادي عشره) حضر حسين بك المعروف بشفت من قبلي في جملة الرهاين وقابل الباشا وأقام بمصر.
(وفي منتصفه) عوفي عابدي باشا من مرضه وشرعوا في طلب المال الشتوي، فضج الملتزمون وتكلم الوجاقلية في الديوان، وقالوا: من أين لنا ما ندفعه؟ وما صدقنا بخلاص المظالم والصيفي والفردة ولم يبق عندنا ولا عند الفلاحين شي، أعطونا الجامكية، ثم ندفعها لكم في المال الشتوي، فانحط الرأي على كتابة رجع الجامكية، وفرح الناس بذلك، ثم تبين أن لا أحد يأخذ رجعة إلا بقدر ما عليه من الميري، وإن زاد له شي يبقى له وديعة بالدفتر، وإن لم يكن له جامكية يدفع ما عليه نقدًا، فصار بعض الملتزمين يأتي بأسما برانية وينسبها لنفسه لأجل غلاق المطلوب منه، فانفضح ذلك أيضًا بالنسبة له ومراجعة الدفتر، ثم منعوا كتابة الرجع، وصار الأفندية يكشفون على الدفاتر ويملون ويسددون بأنفسهم، فمن زاد له شي تبقى بالدفتر، ومن زاد عليه شي طلب منه.
(وفي عشرينه) ذهب الأمرا إلى حسن باشا، وهم: إسماعيل بك وحسن بك وعلي بك وباقي الأمرا، فتكلم معهم بسبب الأموال التي جعلها عليهم والميري المطلوب منهم ومن أتباعهم.
وقال لهم: أنا مسافر بعد الأضحى ولا بد من تشهيل المطلوبات، فاعتذروا وطلبوا المهلة، فشنع عليهم ووبخهم بالكلام التركي، ومن جملة ما قاله لهم: أنتم وجوهكم مثل الحيط وأمثال ذلك.
فخرجوا من عنده وهم في غاية من القهر، وكان ذلك بإغراء إسماعيل بك، ولما ذهب إسماعيل بك إلى بيته طلب أمراه وشنع عليهم كما شنع عليه الباشا، وحلف أن كل من تبقى عليه شيء، ولو ألف درهم، سلمه للباشا يقطع رأسه.
(وفي يوم الخميس غايته) طلعوا عند عابدي باشا فطالبهم بالميري أيضًا وشنع عليهم، وخصوصًا قاسم بك أبو سيف، وحلف أنه يحبسهم حتى يدفعوا ما عليهم.
واستهل شهر ذي الحجة الحرام بيوم الجمعة
وفيه حضر الأغا وعلى يده مقرر لعابدي باشا على السنة الجديدة.
وفيه أيضًا قوي عزم حسن باشا على السفر إلى بلاد الروم، وأعطى إسماعيل بك جملة مدافع وقنابر وآلات حرب، وصنع له قليونًا صغيرًا، وقرر ألفًا وخمسماية عسكري يقيمون بمصر.
(وفي يوم الخميس رابع عشره) عمل حسن باشا ديوانًا بالقصر، وحضر عنده عابدي باشا والمشايخ وساير الأمرا بسبب قراة مراسيم حضرت من الدولة، فقروا منها ثلاثة، وفيها طلب حسن باشا إلى الديار الرومية بسبب حركة إلى الجهاد وأن المسقو زحفوا على البلاد، واستولوا على ما بقي من بلاد القرم وغيرها، والثاني فيه ذكر العفو عن إبراهيم بك ومراد بك من القتل، وأن يقيم إبراهيم بك بقنا ومراد بك بإسنا ولا إذن لهم في دخول مصر جملة كافية.
وفيه نودي على صرف الريال الفرانسة بماية نصف فضة، وكان وصل إلى ماية وعشرة، فتضرر الناس من ذلك.
(وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه) ركب الأمرا بأسرهم لوداع حسن باشا، وكان في عزمه النزول في المراكب بعد صلاة الجمعة، فلما تكاملوا عنده قبض على الرهاين، وهم: عثمان بك المرادي المعروف بالطنبرجي، وحسين بك شفت، وعبد الرحمن بك الإبراهيمي.
ثم أمر بالقبض على حسن كتخدا الجربان وسليمان كاشف قنبور، فهرب حسن كتخدا وساق جواده، فتبعه جماعة من العسكر فلم يزل رامحًا وهم خلفه حتى دخل بيت حسن بك الجداوي، ودخل إلى باب الحريم، وكان حسن بك بالقصر؛ فرجع العسكر وأخبروا الباشا بحضرة إسماعيل بك، فطلب حسن بك وسأله إسماعيل بك فقال: إن كان في بيتي خذوه، فأرسلوا وأحضروه ووضعوه صحبة المقيدين.
وفيه عزلوا عثمان أغا مستخفظان، وقلدوا محمد كاشف المعروف بالمتيم كتخذا إسماعيل بك أغات مستحفظان عوضه.
(وفي يوم السبت ثالث عشرينه) سافر حسن باشا من مصر وأخذ معه الرهاين، وسافر صحبته إبراهيم بك قشطة ليشيعه إلى رشيد، وزار في طريقه سيدي أحمد البدوي بطندتا، ولم يحصل من مجيه إلى مصر وذهابه إلا الضرر ولم يبطل بدعة، ولم يرفع مظلمة بل تقررت به المظالم والحوادث؛ فإنهم كانوا يفعلونها قبل ذلك مثل السرقة، ويخافون من إشاعتها وبلوغ خبرها إلى الدولة فينكرون عليهم ذلك، وخابت فيه الآمال والظنون، وهلك بقدومه البهايم التي عليها مدار نظام العالم، وزاد في المظالم التحرير؛ لأنه كان عندما قدم أبطل رفع المظالم، ثم أعاده بإشارة إسماعيل بك وسماه التحرير، فجعله مظلمة زايدة وبقي يقال رفع المظالم والتحرير فصار يقبض من البلاد خلاف أموال الخراج عدة أقلام منها: المضاف والبراني وعوايد الكشوفية والفرد المتعددة ورفع المظالم والتحرير ومال الجهات وغير ذلك، ولو مات حسن باشا بالإسكندرية أو رشيد لهلك عليه أهل الإقليم أسفًا، وبنوا على قبره مزارًا وقبة وضريحًا يقصد للزيارة.
ذكر من مات في هذه السنة من الأعيان
توفي الإمام العالم العلامة أوحد وقته في الفنون العقلية والنقلية شيخ أهل الإسلام وبركة الأنام الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي حامد العدوي المالكي الأزهري الخلوتي الشهير بالدردير، ولد ببني عدي كما أخبر عن نفسه سنة سبع وعشرين وماية وألف، وحفظ القرآن وجوده وحبب إليه طلب العلم، فورد الجامع الأزهر وحضر دروس العلما، وسمع الأولية عن الشيخ محمد الدفري بشرطه والحديث على كل من الشيخ أحمد الصباغ وشمس الدين الحفني وبه تخرج في طريق القوم، وتفقه على الشيخ علي الصعيدي ولازمه في جل دروسه حتى أنجب، وتلقن الذكر وطريق الخلوتية من الشيخ الحفني، وصار من أكبر خلفايه كما تقدم، وأفتى في حياة شيوخه، مع كمال الصيانة والزهد والعفة والديانة، وحضر بعض دروس الشيخين الملوي والجوهري وغيرهما، ولكن جل اعتماده وانتسابه على الشيخين الحفني والصعيدي، وكان سليم الباطن مذهب النفس كريم الأخلاق، وذكر لنا عن لقبه أن قبيلة من العرب نزلت ببلدة كبيرهم يدعى بهذا اللقب فولد جده عند ذلك، فلقب بلقبه تفاؤلًا لشهرته، وله مؤلفات منها شرح مختصر خليل أورد فيه خلاصة ما ذكره الأجهوري والزرقاني واقتصر فيه على الراجح من الأقوال، ومتن في فقه المذهب سماه أقرب المسالك لمذهب مالك، ورسالة في متشابهات القرآن، ونظم الخريدة السنية في التوحيد وشرحها، وتحفة الإخوان في آداب أهل العرفان في التصوف، وله شرح على ورد الشيخ كريم الدين الخلوتي، وشرح مقدمة نظم التوحيد للسيد محمد كمال الدين البكري، ورسالة في المعاني والبيان، ورسالة أفرد فيها طريقة حفص، ورسالة في المولد الشريف، ورسالة في شرح قول الوفائية: يا مولاي يا واحد يا مولاي يا دائم يا علي يا حكيم.
وشرح على مسايل كل صلاة بطلت على الإمام والأصل للشيخ البيلي، وشرح على رسالة في التوحيد من كلام دمرداش، ورسالة في الاستعارات الثلاث، وشرح على آداب البحث، ورسالة في شرح صلاة السيد أحمد البدوي، وشرح على الشمايل لم يكمل، ورسالة في صلوات شريفة اسمها المورد البارق في الصلاة على أفضل الخلايق، والتوجه الأسنى بنظم الأسما الحسنى.
ومجموع ذكر فيه أسانيد الشيوخ، ورسالة جعلها شرحًا على رسالة قاضي مصر عبد الله أفندي المعروف بططر زاده في قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ الآية، وله غير ذلك.
ومما سمعت من إنشاده:
ولما توفي الشيخ علي الصعيدي تعين المترجم شيخًا على المالكية، ومفتيًا وناظرًا على وقف الصعايدة، وشيخًا على طايفة الرواق بل شيخًا على أهل مصر بأسرها في وقته حسًّا ومعنًى.
فإنه كان — رحمه الله — يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويصدع بالحق ولا يأخذه في الله لومة لايم، وله في السعي على الخير يد بيضا، تعلل أيامًا ولزم الفراش مدة، حتى توفي في سادس شهر ربيع الأول من هذه السنة، وصلي عليه بالأزهر بمشهد عظيم حافل، ودفن بزاويته التي أنشاها بخط الكعكيين بجوار ضريح سيدي يحيى بن عقب، وعندما أسسها أرسل إليَّ وطلب مني أن أحرر له حايط المحراب على القبلة فكان كذلك، وسبب إنشايه للزاوية أن مولاي محمد سلطان المغرب كان له صلات يرسلها لعلما الأزهر وخدمة الأضرحة وأهل الحرمين في بعض السنين، وتكرر منه ذلك فأرسل على عادته في سنة ثمان وتسعين مبلغًا، وللشيخ المترجم قدرًا معينًا له صورة، وكان لمولاي محمد ولد تخلف بعد الحج وأقام بمصر مدة حتى نفد ما عنده من النفقة، فلما وصلت تلك الصلة أراد أخذها ممن هي في يده فامتنع عليه، وشاع خبر ذلك في الناس وأرباب الصلات وذهبوا إلى الشيخ بحصته، فسأل عن قضية ابن السلطان، فأخبروه عنها وعن قصده وأنه لم يتمكن من ذلك، فقال: والله هذا لا يجوز، وكيف أننا نتفكه في مال الرجل ونحن أجانب وولده يتلظى من العدم، هو أولى مني وأحق أعطوه قسمي، فأعطاه ذلك.
ولما رجع رسول أبيه فأخبر السلطان والده بما فعل الشيخ الدردير، فشكره على فعله وأثنى عليه واعتقد صلاحه، وأرسل له في ثاني عام عشرة أمثال الصلة المتقدمة مجازاة للحسنة، فقبلها الأستاذ وحج منها، ولما رجع من الحج بنى هذه الزاوية مما بقي، ودفن بها — رحمه الله — فإنه لم يخلف بعده مثله.
ومات الشيخ الإمام العلامة المتفنن المتقن المعمر الضرير الشيخ محمد المصيلحي الشافعي أحد العلما، أدرك الطبقة الأولى وأخذ عن شيوخ الوقت، وأدرك الشيخ محمد شنن المالكي وأخذ عنه، وأجازه الشيخ مصطفى العزيزي والشيخ عبد ربه الديوي، والشيخ أحمد الملوي، والحفني والدفري، والشيخ علي قايتباي والشيخ حسن المدابغي، وناضل ودرس وأفاد وأقرأ وانتفع عليه الطلبة.
ولما مات الشيخ أحمد الدمنهوري وانقرض أشياخ الطبقة الأولى نوه بذكره واشتهر صيته وحف به تلامذته وغيرهم ونصبوه شبكة لصيدهم وآلة لاقتناصهم، وأخذوه إلى بيوت الأمرا في حاجاتهم وعارضوا به المتصدرين من الأشياخ في الرياسة، ويرى أحقيته لها لسنه وأقدميته، ولما مات الشيخ أحمد الدمنهوري، وتقدم الشيخ أحمد العروسي في مشيخة الأزهر، كان المترجم غائبًا في الحج، فلما رجع وكان الأمر قد تم للعروسي أخذته حمية المعاصرة وأكثرها من إغرا من حوله، فيحركونه للمناقضة والمناكدة، حتى أنه تعدى على تدريس الصلاحية بجوار مقام الإمام الشافعي المشروطة لشيخ الأزهر بعد صلاة الجمعة، فلم ينازعه الشيخ أحمد العروسي، وتركها له حسمًا للشر، وخوفًا من ثوران الفتن، والتزم له على الإغضا والمسامحة في غالب الأطوار، ولم يظهر الالتفات لما يعانوه أصلًا حتى غلب عليهم بحلمه وحسن مسايرته، حتى أنه لما توفي المترجم ورجع إليه تدريس الصلاحية لم يباشر التصدر في الوظيفة، بل قرر فيها تلميذه العلامة الشيخ مصطفى الصاوي وأجلسه وحضر افتتاحه فيها، وذلك من حسن الرأي وجودة السياسة، توفي المترجم ثاني عشر شوال من هذه السنة وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بالمجاورين.
ومات الإمام العلامة واللوذعي الفهامة لسان المتكلمين وأستاذ المحققين الفقيه النبيه المستحضر الأولي المنطقي الفرضي الحيسوب الشيخ عبد الباسط السنديوني الشافعي، تفقه على أشياخ العصر المتقدمين وأجازه أكابر المحدثين ولازم الشيخ محمد الدفري وبه تخرج في الفقه وغيره، وأنجب ودرس وأفاد وأفتى في حياة شيوخه، وكان حسن الإلقا جيد الحافظة يملي دروسه عن ظهر قلبه وحافظته، عجيب الاستحضار للفروع الفقهية والعقلية والنقلية، ومما شاهدته من استحضاره أنه وردت فتوى في مسألة مشكلة في المناسخة فتصدى لتحريرها.
وقسمتها جماعة من الأفاضل، ومنهم الشيخ محمد الشافعي الجناجي، وناهيك به في هذا الفن وتعبوا فيها يومًا وليلة حتى حرروها على الوجه المرضي، ثم قالوا: دعنا نكتبها في سؤال على بياض، ونرسلها للمتصدرين للإفتاء وننظر ماذا يقولون في الجواب، ولو بالمهلة، ففعلوا ذلك، وأرسلوها للشيخ المترجم مع بعض الناس وهو لا يعلم بشي مما عانوه، فغاب الرسول مدة لطيفة وحضر بالجواب على الوجه الذي تعب فيه الجماعة يومًا وليلة، فقضوا عجبًا من جودة استحضاره وحدة ذهنه وقوة فهمه، إلا أنه كان قليل الورع عن بعض سفاسف الأمور، اتفق أنه تنازع مع عجوز في فدان ونصف طين مدة سنين، وأهين بسببها مرارًا في أيام مشيخة الشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ الحفني، ورأيته مرة يتداعى معها عند شيخنا الشيخ أحمد العروسي، فنهاه الشيخ العروسي عنها ولامه فلم ينته، فاحتد الشيخ وقال: والله لو كان هذا الفدان ونصف لي في الجنة ونازعتني هذه العجوز عليه لتركته لها، ولم يزل ينازعها وتنازعه إلى أن مات، وغير ذلك أمور يُستحيَى من ذكرها في حق مثله، وبذلك قلت وجاهته بين نظرائه، توفي في أول جمادى الآخرة من السنة وصُلي عليه بالأزهر ودفن بتربة المجاورين، رحمه الله وغفر لنا وله.
ومات الشيخ الفاضل الصالح المجذوب صاحب الأحوال محمد بن أبي بكر بن محمد المغربي الطرابلسي الشهير بالأثرم، ولد بقرية أنكوان من أعمال طرابلس في حدود سنة خمس وأربعين، وبها نشأ وتنتسب جدوده إلى خدمة الولي الصالح الشهير سيدي أحمد زروق قدس سره، وغلب عليه الجذب في مبادي أمره، وحفظ جملة من كلام الشيخ المشار إليه ومن كلام غيره، وكان مبدأ أمره فيما أخبرنا أنه توجه إلى تونس برسم التجارة فاجتمع على رجل من الصالحين هناك ولازمه، فلما قربت وفاته أوصى إليه بملبوس بدنه، فلما توفي جمع الحاضرين وأراد بيعه، فأشار إليه بعض أهل الشأن أن يضن به ولا يبيعه، فتنافس فيه الشارون وتزايدوا، فدفع الدراهم من عنده في ثمنه وأبقاه، وكان المتوفى فيما قيل قطب وقته.
فلبسه الوجد في الحال، وظهرت له أمور هناك واشتهر أمره، وأتى إلى الإسكندرية فسكنها مدة ثم ورد مصر في أثناء سنة خمس وثمانين وماية، وحصلت له شهرة تامة، ثم عاد إلى الإسكندرية فقطنها مدة، ثم عاد إلى مصر وهو مع ذلك يتجر في الغنم، وأثري بسبب ذلك وتمول، وكانت الأغنام تجلب من وادي برقة، فيشارك عليها مشايخ عرب أولاد علي وغيرهم، وربما ذبح بنفسه بالثغر فيفرق اللحم على الناس ويأخذ منهم ثمن ذلك، وكان مشهورًا بإطعام الطعام والتوسع فيه في كل وقت، وربما وردت عليه جماعة مستكثرة فيقريهم في الحال وتنقل له في ذلك أمور.
ولما ورد مصر كان على هذا الشأن لا بد للداخل عليه من تقديم مأكول بين يديه، وهادته أكابر الأمرا والتجار بهدايا فاخرة سنية، وكان يلبس أحسن الملابس، وربما لبس الحرير المقصب يقطع منها ثيابًا واسعة الأكمام، فيلبسها ويظهر في كل طور في ملبس آخر غير الذي لبسه أولًا، وربما أحضر بين يديه آلات الشرب وانكبت عليه نسا البلد، فتوجه إليه بمجموع ذلك نوع ملام، إلا أن أهل الفضل كانوا يحترمونه ويقرون بفضله وينقلون عنه أخبارًا حسنة.
وكان فيه فصاحة زايدة، وحفظ لكلام القوم، وذوق للفهم، ومناسبات للمجلس، وله إشراف على الخواطر فيتكلم عليها فيصادف الواقع، ثم عاد إلى الإسكندرية ومكث هناك إلى أن ورد حسن باشا، فقدم معه وصحبته طايفة من عسكر المغاربة، ولما دخل مصر أقبلت عليه الأعيان، وعلت كلمته وزادت وجاهته وأتته الهدايا وكانت شفاعته لا ترد عند الوزرا، ولما كان آخر جمادى الأولى من هذه السنة توجه إلى كرداسة لإيقاع صلح بين العرب وبين جماعة من القافلة المتوجهة إلى طرابلس، فمكث عندهم في العزايم والإكرامات مدة من الأيام ثم رجع، وكان وقتًا شديد الحر فخلع ثيابه، فأخذه البرد والرعدة في الحال، ومرض نحو ثمانية أيام.
حتى توفي نهار الثلاثا ثالث جمادى الثانية، وجهز وكفن وصلي عليه بمشهد حافل بالأزهر، ودفن تحت جدار قبة الإمام الشافعي في مدافن الرزازين، وحزنت عليه الناس كثيرًا، وقد رآه أصحابه بعد موته في منامات عدة تدل على حسن حاله في البرزخ، رحمه الله.
ومات الإمام العلامة والفاضل الفهامة صفوة النبلا، ونتيجة الفضلا الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد السحيمي الحنفي القلعاوي، تفقه على والده وعلى الشيخ أحمد الحماقي، وحضر معنا على شيخنا الشيخ مصطفى الطائي الهداية، وأنجب ودرس في فقه المذهب والمعقول مع الحشمة والديانة ومكارم الأخلاق والصيانة، توفي سادس عشر شوال، ودفن عند والده بباب الوزير.
ومات الأجل العمدة الشريف الصالح السيد عبد الخالق بن أحمد بن عبد اللطيف بن محمد تاج العارفين المنتهي نسبه إلى سيدي عبد القادر الحسني الجيلي المصري، ويعرف بابن بنت الجيزي، وهو أخو السيد محمد الجيزي المتوفى قبل ذلك من بيت الثروة والعز والسيادة، تولى بعد أخيه الكتابة ببيت النقابة ومشيخة القادرية، وأحسن السير والسلوك مع الوقار والحشمة.
وكان إنسانًا حسنًا كثير الحيا، منجمعًا عن الناس مقبلًا عن شانه، وفيه رقة طبع مع الأخلاق المهذبة والتواضع للناس والانكسار، رحمه الله.
ومات الأمير الصالح المبجل أحمد جاويش أرنؤد باش اختيار وجاق التفكجية، وكان من أهل الخير والدين والصلاح، عظيم اللحية، منور الشيبة، مبجلًا عند أعاظم الدولة، يندفع في نصرة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسمعون لقوله وينصتون لكلامه، ويتقونه ويحترمونه لجلالته ونزاهته عن الأغراض، وكان يحب أهل الفضايل، ويحضر دروس العلما ويزورهم ويقتبس من أنوار علومهم، ويذهب كثيرًا إلى سوق الكتبيين ويشتري الكتب، ويوقفها على طلبة العلم، واقتنى كتبًا نفيسة ووقفها جميعها في حال حياته، ووضعها بخزانة الكتب بجامع شيخون العمري بالصليبة تحت يد الشيخ موسى الشيخوني الحنفي، وسمع على شيخنا السيد مرتضى صحيح البخاري ومسلم، وأشياء كثيرة والشمايل والثلاثيات وغير ذلك، وبالجملة فكان من خيار من أدركنا من جنسه، ولم يخلف بعده مثله، توفي في ثامن شوال من السنة وقد ناهز التسعين.
ومات الأمير المبجل أحمد كتخدا المعروف بالمجنون أحد الأمرا المعروفين والقرانصة المشهورين، وهو من مماليك سليمان جاويش القازدعلي، ثم انضوى إلى عبد الرحمن كتخدا وانتسب إليه وعرف به، وأدرك الحوادث والفتن التليدة والطارفة، ونفي مع من نفي في إمارة علي بك الغزاوي في سنة ثلاث وسبعين إلى بحري، ثم إلى الحجاز، وأقام بالمدينة المنورة نحو اثنتي عشرة سنة وقادًا بالحرم المدني، ثم رجع إلى الشام وأحضره محمد بك أبو الدهب إلى مصر وأكرمه ورد إليه بلاده وأحبه، واختص به، وكان يسامره ويأنس بحديثه ونكاته، فإنه كان يخلط الهزل بالجد ويأتي بالمضحكات في خلال المقبضات؛ فلذلك سمي بالمجنون، وكان بلد ترسا بالجيزة جارية في التزامه، وعمر بها قصرًا، وأنشأ بجانبه بستانًا عظيمًا زرع فيه أصناف الأشجار والنخيل والرياحين، ويجلب من ثماره إلى مصر للبيع والهدايا، ويرغب فيها الناس لجودتها وحسنها عن غيرها، وكذلك أنشأ بستانًا بجزيرة المقياس في غاية الحسن، وبنى بجانبه قصرًا يذهب إليه في بعض الأحيان، ولما حضر حسن باشا إلى مصر ورأى هذا البستان أعجبه، فأخذه لنفسه وأضافه إلى أوقافه، وبنى المترجم أيضًا داره التي بالقرب من الموسكي داخل درب سعادة، ودارًا على الخليج المرخم أسكن فيه بعض سراريه، وكان له عزوة ومماليك ومقدمون وأتباع، وإبراهيم بك أوده باشه من مماليكه ورضوان كتخدا الذي تولى بعده كتخدا الباب، وكان مقدمه في المدد السابقة يقال له المقدم فوده له شأن وصولة بمصر، وشهر في القضايا والدعاوى، ولم يزل طول المدد السابقة جاويشًا، فلما كان آخر مدة حسن باشا قلدوه كتخدا مستحفظان، ولم يزل معروفًا مشهورًا في أعيان مصر إلى أن توفى في خامس شعبان من السنة.
ومات الأمير الجليل محمد بك الماوردي، وهو مملوك سليمان أغا كتخدا الجاويشية زوج أم عبد الرحمن كتخدا وخشداشينه حسن بك الأزبكاوي الذي قتل بالمصاطب كما تقدم، وحسن بك المعروف بأبي كرش، فكان الثلاثة أمرا يجلسون بديوان الباشا وسيدهم كتخدا الجاويشية واقف في خدمته على أقدامه، ومرت له محن في تنقلاته ورحلاته إلى البلاد عندما تملك علي بك، وخرج المترجم منفيًّا وهاربًا من مصر مع من خرج، وباشر الحروب بأسيوط وذهب إلى الشام وغيرها، لكن لم أتحقق وقايعه، ولم يزل حتى حضر إلى مصر في أيام أبي الدهب، وقد صار ذا شيبة، وتزوج ببنت الشيخ العناني، وأقام ببيتهم بسوق الخشب خاملًا، حتى مات في هذه السنة، وكان لا بأس به وتقلد في المدد السابقة أغاوية مستحفظان ثم الصنجقية ونظارة الجامع الأزهر.