ثم دخلت سنة ثلاث ومايتين وألف (١٧٨٨م)
فكان ابتدا المحرم يوم الخميس، وفيه زاد اجتهاد إسماعيل بك في البناء عند طرا، وأنشأ هناك قلعة بحافة البحر وجعل بها مساكن ومخازن وحواصل، وأنشأ حيطانًا وأبراجًا وكرانك وأبنية ممتدة من القلعة إلى الجبل، وأخرج إليها الجبخانة والذخيرة وغير ذلك.
(وفي تاسعه) سافر عثمان كتخدا عزبان إلى إسلامبول بعرضحال يطلب عسكر وأذن باقتطاع مصاريف من الخزينة.
(وفي رابع عشرينه) سافر إسماعيل باشا الأرنؤد بجماعته ولحقوا بالغلايين، والجماعة القبليون متترسون بناحية الصول وعاملون سبعة متاريس، والمراكب وصلت إلى أول متراس فوجدوهم مالكين مزم الجبل، فوقفوا عند أول متراس ومدافعهم تصيب المراكب ومدافع المراكب لا تصيبهم، وهم متمنعون بأنفسهم إلى فوق، وانخرقت المراكب عدة مرار وطلع مرة من أهل المراكب جماعة أرادوا الكبس على المتراس الأول، فخرج عليهم كمين من خلف مزرعة الذرة المزروع فقتل من طايفة المغاربة جماعة وهرب الباقون، ونصبت روس القتلى على مزاريق ليراها أهل المراكب.
(وفي سادس عشرينه) سافر أيضًا عثمان بك الحسني وامتنع ذهاب السفار وإيابهم إلى الجهة القبلية، وانقطع الوارد وشطح سعر الغلة وبلغ النيل غايته في الزيادة، واستمر على الأراضي من غير نقص إلى آخر شهر بابة القبطي وروى جميع الأراضي.
(وفي سابع عشرينه) حضر سراج من عند القبليين وعلى يده مكاتبات بطلب صلح، وعلى أنهم يرجعون إلى البلاد التي عينها لهم حسن باشا ويقومون بدفع المال والغلال للميري، ويطلقون السبل للمسافرين والتجار فإنهم سئموا من طول المدة ولهم مدة شهور منتظرين اللقا مع أخصامهم، فلم يخرجوا إليهم فلا يكونون سببًا لقطع أرزاق الفقرا والمساكين، فكتبوا لهم أجوبة للإجابة لمطلوبهم بشرط إرسال رهاين، وهم: عثمان بك الشرقاوي وإبراهيم بك الوالي ومحمد بك الألفي ومصطفى بك الكبير، ورجع الرسول بالجواب وصحبته واحد بشلي من طرف الباشا.
شهر صفر
في غرته حضر جماعة مجاريح.
(وفي ثانيه) حضر المرسال الذي توجه بالرسالة وصحبته سليمان كاشف من جماعة القبليين والبشلي وآخر من طرف إسماعيل باشا الأرنؤدي، وأخبروا أن الجماعة لم يرضوا بإرسال رهاين، ثم أرسلوا لهم علي كاشف الجيزة، وصحبته رضوان كتخدا باب التفكجية وتلطفوا معهم على أن يرسلوا عثمان بك الشرقاوي وأيوب بك فامتنعوا من ذلك، وقالوا من جملة كلامهم: لعلكم تظنون أن طلبنا في الصلح عجز أو أننا محصورون وتقولون بينكم في مصر إنهم يريدون بطلب الصلح التحيل على التعدية إلى البر الغربي حتى يملكوا الاتساع، وإذا قصدنا ذلك أي شي يمنعنا في أي وقت شئنا، وحيث كان الأمر كذلك فنحن لا نرضى إلا من حد أسيوط ولا نرسل رهاين ولا نتجاوز محلنا، فلما رجع الجواب بذلك في سابعه أرسل الباشا فرمانًا إلى إسماعيل باشا بمحاربتهم، فبرز إليهم بعساكره وجميع العسكر التي بالمراكب وحملوا عليهم حملة واحدة، وذلك يوم الجمعة ثامنه فأخلوا لهم وملكوا منهم متراسين؛ فخرج عليهم كمين بعد أن أظهروا الهزيمة فقتل من العسكر جملة كبيرة، ثم وقع الحرب بينهم يوم السبت ويوم الأحد واستمرت المدافع تضرب بينهم من الجهتين والحرب قايم بينهم سجالًا، وكل من الفريقين يعمل الحيل وينصب الشباك على الآخر ويكمن ليلًا، فيجد الرصد ولم ينفصل بينهم الحرب على شي.
(وفي منتصفه) شرع إسماعيل بك في عمل تفريدة على البلاد، فقرروا الأعلى عشرين ألف فضة والأوسط خمسة عشر والأدنى خمسة آلاف، وذلك خلاف حق الطرق وما يتبعها من الكلف، وعمل ديوان ذلك في بيت علي بك الدفتردار بحضرة الوجاقلية وكتبت دفاترها وأوراقها في مدة ثلاثة أيام.
واستهل شهر ربيع الأول
والحال على ما هو عليه وحضر مرسول من القبليين بطلب الصلح ويطلبون من حد أسيوط إلى فوق شرقًا وغربًا ولا يرسلون رهاين، ووصل ساعي من ثغر إسكندرية بالبشارة لإسماعيل كتخدا حسن باشا بولاية مصر وأن اليراق والداقم وصل، والقبجي والكتخدا وأرباب المناصب وصلوا إلى الثغر فردهم الريح عندما قربوا من المرساة إلى جهة قبرص، فشرع عابدي باشا في نقل متاعه من القلعة، ولما حضر المرسول بطلب الصلح رضي المصرلية بذلك، وأعادوه بالجواب.
(وفي رابعه) حضر أحمد أغا أغات الجملية المعروف بشويكار لتقرير ذلك، فعمل عابدي باشا ديوانًا اجتمع فيه الأمرا والمشايخ والاختيارية، وتكلم أحمد أغا وقال: نأخذ من أسيوط إلى قبلي شرقًا وغربًا بشرط أن ندفع ميري البلاد من المال والغلال، ونطلق سراح المراكب والمسافرين بالغلال والأسباب، وكذلك أنتم لا تمنعون عنا الواردين بالاحتياجات إلا ما كان من آلة الحرب فلكم منعه، وبعد أن يتقرر بيننا وبينكم الصلح نكتب عرض محضر منا ومنكم إلى الدولة، وننظر ما يكون الجواب، فإن حضر الجواب بالعفو لنا أو تعيين أماكن لنا لا نخالف ذلك ولا نتعدى الأوامر السلطانية، بشرط أن ترسلوا لنا الفرمان الذي يأتي بعينه نطلع عليه. فأجيبوا إلى ذلك كله، ورجع أحمد أغا بالجواب صبيحة ذلك اليوم صحبة عبد الله جاويش وشهر حوالة والشيخ بدوي من طرف المشايخ، وحضر في أثر ذلك مراكب غلال وانحلت الأسعار وتواجدت الغلال بالرقع وكثرت بعد انقشاعها، ثم وصلت الأخبار بأن القبليين شرعوا في عمل جسر على البحر من مراكب مرصوصة ممتدة من البر الشرقي إلى البر الغربي، وثبتوه وسمروه بمسامير وبراطات وثقلوه بمراس وأحجار مركوزة بقرار البحر، وأظهروا أن ذلك لأجل التعدية، ورجعت المراكب وصحبتها العسكر المحاربون وإسماعيل باشا الأرنؤدي وعثمان بك الحسني والقليونجية وغيرهم، وأشيع تقرير الصلح وصحته.
(وفي عاشره) أخبر بعض الناس قاضي العسكر أن بمدفن السلطان الغوري بداخل خزانة في القبة آثار النبي ﷺ وهي قطعة من قميصه وقطعة عصا وميل، فأحضر مباشر الوقف وطلب منه إحضار تلك الآثار وعمل لها صندوقًا ووضعها في داخل بقجة وضمخها بالطيب، ووضعها على كرسي ورفعها على راس بعض الأتباع وركب القاضي والنايب، وصحبته بعض المتعممين مشاة بين يديه يجهرون بالصلاة على النبي حتى وصلوا بها إلى المدفن، ووضعها في داخل الصندوق ورفعوها في مكانها بالخزانة.
(وفي يوم الاثنين سابع عشره) حضر شهر حوالة وعبد الله جاويش وأخبروا بأنهم لما وصلوا إلى الجماعة تركوهم ستة أيام حتى تمموا شغل الجسر وعدوا عليه إلى البر الغربي، ثم طلبوهم فعدوا إليهم وتكلموا معهم، وقالوا لهم: إن عابدي باشا قرر معنا الصلح على هذه الصورة، وتكفل لنا بكامل الأمور، ولكن بلغنا في هذه الأيام أنه معزول من الولاية، وكيف يكون معزولًا ونعقد معه صلحًا؟ هذا لا يكون إلا إذا حضر إليه مقرر أو تولى غيره يكون الكلام معه، وكتبوا له جوابًا بذلك، ورجع به الجماعة المرسلون، وأشيع عدم التمام فاضطربت الأمور وارتفعت الغلال ثانيًا وغلا سعرها وشح الخبز من الأسواق.
(وفي يوم الأربعا تاسع عشره) عمل الباشا ديوانًا جمع فيه الأمرا والمشايخ والاختيارية والقاضي فتكلم الباشا وقال: انظروا يا ناس هؤلاء الجماعة ما عرفنا لهم حالًا ولا دينًا ولا عقادة ولا عهدًا ولا عقدًا، إنا رأينا النصارى إذا تعاقدوا على شي لا ينقضوه، ولا يختل عنه بدقيقة، وهولا الجماعة كل يوم لهم صلح ونقض وتلاعب، وإننا أجبناهم إلى ما طلبوا، وأعطيناهم هذه المملكة العظيمة وهي من ابتدا أسيوط إلى منتهى النيل شرقًا وغربًا، ثم إنهم نكثوا ذلك، وأرسلوا يحتجون بحجة باردة وإذا كنت أنا معزولًا فإن الذي يتولى بعدي لا ينقض فعلي ولا يبطله، ويقولون في جوابهم: نحن عصاة وقطاع طريق. وحيث أقروا على أنفسهم بذلك وجب قتالهم أم لا؟ فقال القاضي والمشايخ: يجب قتالهم بمجرد عصيانهم وخروجهم عن طاعة السلطان. فقال: إذا كان الأمر كذلك فإني أكتب لهم مكاتبة وأقول لهم: إما أن ترجعوا تستقروا على ما وقع عليه الصلح، وإما أن أجهز لكم عساكر وأنفق عليهم من أموالكم ولا أحد يعارضني فيما أفعله، وإلا تركت لكم بلدتكم وسافرت منها ولو من غير أمر الدولة، فقالوا جميعًا: نحن لا نخالف الأمر، فقال: أضع القبض على نساهم وأولادهم ودورهم، وأسكن نساهم وحريمهم في الوكايل، وأبيع تعلقاتهم وبلادهم وما تملكه نساهم، وأجمع ذلك جميعها وأنفقه على العسكر، وإن لم يكف ذلك تممته من مالي، فقالوا: سمعنا وأطعنا، وكتبوا مكاتبة خطابًا لهم بذلك وختم عليها الباشا والأمرا وأرسلوها.
(وفي يوم الأحد ثالث عشرينه) نزل الأغا ونادى في الأسواق بأن كل من كان عنده وديعة للأمرا القبليين يردها لأربابها، فإن ظهر بعد ثلاثة أيام عند أحد شي استحق العقوبة وكل ذلك تدبير إسماعيل بك.
(وفي يوم الثلاثا) حضر هجان وباش سراجين إبراهيم بك وأخبر أن الجماعة عزموا على الارتحال والرجوع وفك الجسر، فعمل الباشا ديوانًا في صبحها وذكروا المراسلة وضمن الباشا غايلتهم وضمن المشايخ غايلة إسماعيل بك وكتبوا محضرًا بذلك، وختموا عليه وأرسلوه صحبة مصطفى كتخذا باش اختيار عزبان، وتحقق رفع الجسر ووردت بعض المراكب وانحلت الأسعار قليلًا.
واستهل شهر ربيع الثاني
فيه حضر شيخ السادات إلى بيته الذي عمره بجوار المشهد الحسيني وشرع في عمل المولد واعتنى بذلك، ونادوا على الناس بفتح الحوانيت بالليل ووقود القناديل من باب زويلة إلى بين القصرين، وأحدثوا سيارات وأشاير ومواكب وأحمال قناديل ومشاعل وطبولًا وزمورًا واستمر ذلك خمسة عشر يومًا وليلة.
(وفي يوم الجمعة) حضر عابدي باشا باستدعا الشيخ له فتغدى ببيت الشيخ، وصلى الجمعة بالمسجد وخلع على الشيخ وعلى الخطيب ثم ركب إلى قصر العيني.
(وفي ذلك اليوم) وصل ططري من الديار الرومية وعلى يده مرسومات فعملوا في صبحها ديوانًا بقصر العيني وقريت المرسومات، وكان مضمون أحدها تقريرًا لعابدي باشا على ولاية مصر.
والثاني: الأمر والحث على حرب الأمرا القبليين وإبعادهم من القطر المصري.
والثالث: بطلب الإفرنجي المرهون إلى الديار الرومية.
فلما قري ذلك عمل عابدي باشا شنكًا ومدافع من القصر والمراكب والقلعة وانكسف بال إسماعيل كتخدا بعد أن حضر إليه المبشر بالمنصب، وأظهر البشر والعظمة وأنفذ المبشرين ليلًا إلى الأعيان ولم يصبر إلى طلوع النهار، حتى أنه أرسل إلى محمد أفندي البكري المبشر في خامس ساعة من الليل وأعطاه ماية دينار، وحضر إليه الأمرا والعلما في صبحها للتهنية، وثبت ذلك عند الخاص والعام، ونقل عابدي باشا عزاله وحريمه إلى القلعة.
(وفي يوم الجمعة ثاني عشره) رجع مصطفى كتخدا من ناحية قبلي وبيده جوابات، وأخبر أن إبراهيم بك الكبير ترفع إلى قبلي وصحبته إبراهيم بك الوالي وسليمان بك الأغا وأيوب بك، وملخص والجوابات أنهم طالبون من حد المنية.
(وفي يوم الأحد رابع عشره) عمل الباشا ديوانًا حضره المشايخ والأمرا فلم يحصل سوى سفر الإفرنجي.
(وفي أواخره) حضر سراج باشا إبراهيم بك وبيده جوابات يطلبون من حد منفلوط فأجيبوا إلى ذلك، وكتبت لهم جوابات بذلك وسافر السراج المذكور.
واستهل شهر جمادى الأولى
في غرته قلدوا غيطاس بك إمارة الحج.
(وفي ثالثه) وصل ططريون من البر على طريق دمياط بمكاتبات مضمونها ولاية إسماعيل كتخدا حسن باشا على مصر، وأخبروا أن حسن باشا دخل إلى إسلامبول في ربيع الأول ونقض ما أبرمه وكيل عابدي باشا وألبس قابجي كتخدا إسماعيل المذكور بحكم نيابته عنه قفطان المنصب ثالث ربيع الثاني، وتعين قابجي الولاية، وخرج من إسلامبول بعد خروج الططري بيومين، وحضر الططر في مدة ثلاثة وعشرين يومًا، فلما وصل الططر سر إسماعيل كتخدا سرورًا عظيمًا وأنفذ المبشرين إلى بيوت الأعيان.
وفيه ورد الخبر بانتقال الأمرا القبليين إلى المنية، وسافر رضوان بك إلى المنوفية وقاسم بك إلى الشرقية وعلي بك الحسني إلى الغربية.
(وفي عشرينه) جمع إسماعيل بك الأمرا والوجاقلية وقال لهم: يا إخواننا إن حسن باشا أرسل يطلب مني باقي الحلوان، فمن كان عنده بقية فليحضر بها ويدفعها. فأحضروا حسن أفندي شقبون أفندي الديوان وحسبوا الذي طرف إسماعيل بك وجماعته فبلغ ثلثماية وخمسين كيسًا، وطلع على طرف حسن بك وأتباعه نحو أربعماية كيس، وعلى طرف علي بك الدفتردار ماية وستون كيسًا، وكانوا أرسلوا إلى علي بك فلم يأت، فقال لهم حسن بك: أي شي هذا العجب، والأغراض بلاد علي بك فارسكور وبارنبال وسرس الليانة حلوانهم قليل، وزاد اللغط والكلام، فقام من بينهم إسماعيل بك ونزل وركب إلى جزيرة الدهب، وكذلك حسن بك خرج إلى قبة العزب، وعلي بك ذهب إلى قصر الجلفي بالشيخ قمر، وأصبح علي بك ركب إلى الباشا ثم رجع إلى بيته، ثم إن علي بك قال: لا بد من تحرير حسابي وما تعاطيته وما صرفته من أيام حسن باشا إلى وقتنا، وما صرفته على أمير الحج تلك السنة، وادعى أمير الحج الذي هو محمد بك المبدول ببواقي، ووقع على الجداوي واجتمعوا ببيت رضوان كتخدا تابع المجنون وحضر حسن كتخدا علي بك وكيلًا عن مخدومه، ومصطفى أغا الوكيل وكيلًا عن إسماعيل بك، وحرروا الحساب فطلع على طرف علي بك ثلاثة وعشرون كيسًا، وطلع له بواق في البلاد نيف وأربعون كيسًا.
شهر جمادى الآخرة
فيه حضر فرمان من الدولة بنفي أربعة أغوات، وهم: عريف أغا وعلي أغا وإدريس أغا وإسماعيل أغا، فحنق لذلك جوهر أغا دار السعادة وشرع في كتابة مرافعة.
(وفي عاشره) وصل فرمان لإسماعيل كتخدا وخوطب فيه بلفظ الوزارة.
(وفي يوم الأحد) عمل إسماعيل باشا المذكور ديوانًا في بيته بالأزبكية وحضر الأمرا والمشايخ وقروا المكاتبة، وفيها الأمر بحساب عابدي باشا، وبعد انفضاض الديوان أمر الروزنامجي والأفندية بالذهاب إلى عابدي باشا وتحرير حساب الستة أشهر من أول توت إلى برمهات؛ لأنها مدة إسماعيل باشا وما أخذه زيادة عن عوايده، وأخذ منه الضربخانة وسلمها إلى خازنداره، وقطعوا مراتبه من المذبح.
(وفي عصريتها) أرسل إلى الوجاقلية والاختيارية فلما حضروا قال لهم إسماعيل باشا: بلغني أنكم جمعتم ثمانماية كيس فما صنعتم بها؟ فقالوا: دفعناها إلى عابدي باشا وصرفها على العسكر، فقال: لأي شي؟ قالوا: لقتل العدو، قال: والعدو قتل؟ قالوا: لا، قال: حينئذ إذا احتاج الحال ورجع العدو طلب منكم كذلك قدرها، قالوا: ومن أين لنا ذلك؟ قال: إذًا اطلبوها منه واحفظوها عندكم في باب مستحفظان لوقت الاحتياج.
وفيه تواترت الأخبار باستقرار إبراهيم بك بمنفلوط وبنى له بها دارًا وصحبته أيوب بك، وأما مراد بك وبقية الصناجق فإنهم ترفعوا إلى فوق.
(وفي يوم الاثنين) حضر حسن كتخدا الجربان من الروم، وكان إسماعيل بك أرسل يتشفع في حضوره بسعاية محمد أغا البارودي وعلى أنه لم يكن من هذه القبيلة؛ لأنه مملوك حسن بك أبي كرش وحسن بك مملوك سليمان أغا كتخدا الجاويشية، ولما حضر أخبر أن الأمرا الرهاين أرسلوهم إلى شنق قلعة منفيين بسبب مكاتبات وردت من الأمرا القبالي إلى بعض متكلمي الدولة مثل: القزلار وخلافه بالسعي لهم في طلب العفو، فلما حضر حسن باشا وبلغه ذلك فنفاهم وأسقط رواتبهم، وكانوا في منزل أعزاز ولهم رواتب وجامكية لكل شخص خمسماية قرش في الشهر.
(وفي عشرينه) تحرر حساب عابدي باشا فطلع لإسماعيل باشا نحو ستماية كيس، فتجاوز له عن نصفها، ودفع ثلثماية كيس، وطلع عليه لطرف الميري نحوها أخذوا بها عليه وثيقة وسامحها الأمرا من حسابهم معه وهادوه وأكرموه وقدموا له تقادم، وأخذ في أسباب الارتحال والسفر وبرز خيامه إلى بركة الحج.
(وفي أواخره) ورد الخبر مع السعاة بوصول الأطواخ لإسماعيل باشا، واليرق والداقم إلى ثغر الإسكندرية.
شهر رجب استهل بيوم السبت
(في ثالثه يوم الاثنين) سافر عابدي باشا من البر على طريق الشام إلى ديار بكر ليجمع العساكر إلى قتال الموسقو، وذهب من مصر بأموال عظيمة، وسافر صحبته إسماعيل باشا الأرنؤدي وأبقى إسماعيل باشا من عسكر القليونجية والأرنؤدية من اختارهم لخدمته وأضافهم إليه.
(وفي عاشره) وصلت الأطواخ والدقام إلى الباشا فابتهج لذلك وأمر بعمل شنك وحراقة ببركة الأزبكية، وحضر الأمرا إلى هناك، ونصبوا صواري وتعاليق وعملوا حراقة ووقدة ليلتين، ثم ركب الباشا في صبح يوم الجمعة وذهب إلى مقام الإمام الشافعي فزاره، ورجع إلى قبة العزب خارج باب النصر، ونودي في ليلتها على الموكب.
فلما كان صبح يوم السبت خامس عشره خرج الأمرا والوجاقلية والعساكر الرومية والمصرلية، واجتمع الناس للفرجة، وانتظم الموكب أمامه، وركب بالشعار القديم، وعلى رأسه الطلخان والقفطان الأطلس، وأمامه السعاة والجاويشية والملازمون، وخلفه النوبة التركية، وركب أمامه جميع الأمرا بالشعار والبيلشانات بزينتهم ونظامهم القديم المعتاد، وشق القاهرة في موكب عظيم، ولما طلع إلى القلعة ضرب له المدافع من الأبراج وكان ذلك اليوم متراكم الغيوم وسح المطر من وقت ركوبه إلى وقت جلوسه بالقلعة حتى ابتلَّت ملابسه، وملابس الأمرا والعسكر وحوايجهم وهم مستبشرون بذلك، وكان ذلك اليوم خامس برمودة القبطي.
(وفي يوم الثلاثا) عمل الديوان وطلع الأمرا والمشايخ، وطلع الجم الكثير من الفقها ظانِّين وطامعين في الخِلَعِ، فلما قري التقرير في الديوان الداخل خلع على الشيخ العروسي والشيخ البكري والشيخ الحريري والشيخ الأمير والأمرا الكبار فقط، ثم إن إسماعيل بك التفت إلى المشايخ الحاضرين وقال: تفضلوا يا أسيادنا حلَّت البركة فقاموا وخرجوا.
(وفي يوم الخميس عشرينه) أمر الباشا المحتسب بعمل تسعيرة وتنقيص الأسعار فنقصوا سعر اللحم نصف فضة وجعلوا الضاني بستة أنصاف والجاموسي بخمسة، فشح وجوده بالأسواق وصاروا يبيعونه خفية بالزيادة، ونزل سعر الغلة إلى ثلاثة ريال ونصف الإردب بعد تسعة ونصف.
(وفي يوم الخميس ثامن عشرينه) ورد مرسوم من الدولة، فعمل الباشا الديوان في ذلك اليوم وقروه وفيه الأمر بقراءة صحيح البخاري بالأزهر والدعا بالنصر للسلطان على الموسقو، فإنهم تغلبوا واستولوا على قلاع ومدن عظيمة من مدن المسلمين، وكذلك يدعون له بعد الأذان في كل وقت، وأمر الباشا بتقرير عشرة من المشايخ من المذاهب الثلاثة يقرون البخاري في كل يوم ورتب لهم في كل يوم مايتي نصف فضة لكل مدرس عشرون نصفًا من الضربخانة، ووعدهم بتقريرها لهم على الدوام بفرمان.
وفيه شرع الباشا في تبييض حيطان الجامع الأزهر بالنورة والمغرة.
(وفي يوم الأحد) حضر الشيخ العروسي والمشايخ وجلسوا في القبلة القديمة جلوسًا عامًّا، وقروا أجزا من البخاري واستداموا على ذلك بقية الجمعة، قرر إسماعيل بك أيضًا عشرة من الفقهاء كذلك يقرون أيضًا البخاري نظير العشرة الأولى، وحضر الصناع وشرعوا في البياض والدهان وجلا الأعمدة وبطل ذلك الترتيب.
شهر شعبان
(في ثانيه) نودي بإبطال التعامل بالزيوف المغشوشة والذهب الناقص وأن الصيارفة يتخذون لهم مقصات يقطعون بها الدراهم الفضة المنحسة، وكذلك الذهب المغشوش الخارج، وإذا كان الدينار ينقص ثلاثة قراريط يكن بطالًا ولا يتعامل به، وإنما يباع لليهود الموردين بسعر المصاغ إلى دار الضرب ليعاد جديدًا فلم يمتثل الناس لهذا الأمر، ولم يوافقوا عليه واستمروا على التعامل بذلك في المبيعات وغيرها؛ لأن غالب الذهب على هذا النقص وأكثر، وإذا بيع على سعر المصاغ خسروا فيه قريبًا من النصف، فلم يسهل بهم ذلك ومشوا على ما هم عليه مصطلحون فيما بينهم.
(وفي أوايله) أيضًا تواترت الأخبار بموت السلطان عبد الحميد حادي عشر رجب وجلوس ابن أخيه السلطان مصطفى مكانه، وهو السلطان سليم خان وعمره نحو الثلاثين سنة، وورد في إثر الإشاعة صحبة التجار والمسافرين دراهم وعليها اسمه وطرته، ودعي له في الخطبة أول جمعة في شعبان المذكور.
(وفي يوم الثلاثاء تاسعه) حضر علي بك الدفتردار من ناحية دجوة وسبب ذهابه إليها أن أولاد حبيب قتلوا عبدًا لعلي بك بمنية عفيف بسبب حادثة هناك، وكان ذلك العبد موصوفًا بالشجاعة والفروسية فعز ذلك على علي بك؛ فأخذ فرمانًا من الباشا بركوبه على أولاد حبيب وتخريب بلدهم، ونزل إليهم وصحبته باكير بك ومحمد بك المبدول، وعندما علم الحبايبة بذلك وزعوا متاعهم وارتحلوا من البلد وذهبوا إلى الجزيرة، فلما وصل علي بك ومن معه إلى دجوة لم يجدوا أحدًا ووجدوا دورهم خالية، فأمروا بهدمها فهدموا مجالسهم ومقاعدهم، وأوقدوا فيها النار، وعملوا فردة على أهل البلد وما حولها من البلاد، وطلبوا منهم كلفًا وحق طرق، وتفحصوا على ودايعهم وأمانتهم وغلالهم في جيرة البلاد مثل طحلة وغيرها فأخذوها وأحاطوا بزرعهم وما وجدوه بالنواحي من بهايمهم ومواشيهم، ثم تداركوا أمرهم وصالحوه بسعي الوسايط بدراهم ودفعوها، ورجعوا إلى وطنهم ولكن بعد خرابها وهدمها.
وفيه أرسل الباشا سلحداره بخطاب للأمرا القبالي يطلب منهم الغلال والمال الميري حكم الاتفاق.
واستهل شهر رمضان وشوال
في رابعه وصل إلى مصر أغا معين بإجرا السكة والخطبة باسم السلطان سليم شاه، فعمل الباشا ديوانًا وقرا المرسوم الوارد بذلك بحضرة الجمع، والسبب في تأخيره لهذا الوقت الاهتمام بأمر السفر واشتغال رجال الدولة بالعزل والتولية، وورد الخبر أيضًا بعزل حسن باشا من رياسة البحر إلى رياسة البر وتقلد الصدارة، وتولى عوضه قبطان باشا حسين الجردلي، وأخبروا أيضًا بقتل بستنجي باشا.
(وفي أوايله) أيضًا فتحوا ميري سنة خمسة مقدمة معجلة.
(وفي أواخره) حضر عثمان كتخدا عزبان من الديار الرومية وبيده أوامر، وفيها الحث على محاربة الأمرا القبالي والخطاب للوجاقلية وباقي الأمرا، بأن يكونوا مع إسماعيل بك بالمساعدة والإذن لهم بصرف ما يلزم صرفه من الخزينة مع تشهيل الخزينة للدولة.
(وفي عاشره) وصل ططري وعلى يده أوامر منها حسن عيار المعاملة من الذهب والفضة، وأن يكون عيار الذهب المصري تسعة عشر قيراطًا، ويصرف بماية وعشرين نصفًا بنقص أربعة أنصاف عن الواقع في الصرف بين الناس والإسلامبولي بماية وأربعين وبنقص عشرة، والفندقلي بمايتين بنقص خمسة، والريال الفرانسة بماية بنقص خمسة أيضًا، والمغربي بخمسة وتسعين بنقص خمسة أيضًا، وهو المعروف بأبي مدفع والبندقي بمايتين وعشرة بنقص خمسة عشر، فنزل الأغا والوالي ونادى بذلك فخسر الناس حصة من أموالهم.
(وفي غايته) خرج أمير الحاج غيطاس بك بالمحمل وركب الحجاج.
(وفي منتصف شهر القعدة الموافق لعاشر مسرى القبطي) أوفى النيل المبارك أذرع الوفا ونزل الباشا إلى فم الخليج وكسر السد بحضرته على العادة وانقضى هذا العام بحوادثه، وحصل في هذه السنة الازدلاف وتداخل العام الهلالي في الخراجي، ففتحوا طلب المال الخراجي القابل قبل أوانه لضرورة الاحتياج وضيق الوارد بتعطيل الجهة القبلية واستيلا الأمرا الخارجين عليها، ووجه إسماعيل بك الطلب من أول السنة بباقي الحلوان الذي قرره حسن باشا ثم المال الشتوي ثم الصيفي، وفي أثنا ذلك المطالبة بالفرد المتوالية المقررة على البلاد من الملتزمين، ووجه على الناس قباح الرسل والمعينين من السراجين والدلاة وعسكر القليونجية، فيدهمون الإنسان ويدخلون عليه في بيته مثل التجريدة الخمسة والعشرة بأيديهم البنادق والأسلحة بوجوه عابسة، فيشاغلهم ويلاطفهم ويلين خواطرهم بالإكرام فلا يزدادون إلا قسوة وفظاظة فيعدهم على وقت آخر، فيسمعونه قبيح القول ويشتطون في أجرة طريقهم، وربما لم يجدوا صاحب الدار أو يكون مسافرًا فيدخلون الدار وليس فيها إلا النسا، ويحصل منهم ما لا خير فيه من الهجوم عليهن، وربما نططن من الحيطان أو هربن إلى بيوت الجيران.
وسافر رضوان بك قرابة علي بك الكبير إلى المنوفية وأنزل بها كل بلية، وعسف بالقرى عسفًا عنيفًا قبيحًا يأخذ البلص والتساويف وطلب الكلف الخارجة عن المعقول إلى أن وصل إلى شريد، ثم رجع إلى مولد السيد البدوي بطندتا ثم عاد، وفي كل مرة من مروره يستأنف العسف والجور، وكذلك قاسم بك بالشرقية وعلي بك الحسني بالغربية، وقلد إسماعيل بك مصطفى كاشف المرابط بقلعة طرا، فعسف بالمسافرين الذاهبين والآيبين إلى جهة قبلي فلا تمر عليه سفينة صاعدة أو منحدرة إلا طلبها إليه، وأمر بإخراج ما فيها وتفتيشها بحجة أخذهم الاحتياجات للأمرا القبليين من الثياب وغيرها، أو إرسالهم أشيا أو دراهم لبيوتهم، فإن وَجد بالسفينة شيًّا من ذلك نهب ما فيها من مال المسافرين والمتسببين وأخذه عن آخره، وقبض عليهم وعلى الريس وحبسهم ونكل بهم ولا يطلقهم إلا بمصلحة، وإن لم يجد شيئًا فيه شبهة أخذ من السفينة ما اختاره، وحجزهم فلا يطلقهم إلا بمال يأخذه منهم.
وتحقق الناس فعله فصانعوه ابتدا تقية لشره وحفظًا لمالهم ومتاعهم، فكان الذي يريد السفر إلى قبلي بتجارة أو متاع يذهب إليه ببعض الوسايط، ويصالحه بما يطيب به خاطره ويمر بسلام فلا يتعرض له، وكذلك الواصلون من قبلي يأتون طايعين إلى تحت القلعة ويطلع إليه الريس والمسافرون فيصالحونه، وعلم الناس هذه القاعدة واتبعوها وارتاحوا عليها في الجملة، واستعوضوا الخسار من غلو الأثمان، وكذلك فعل نسا ساير الأمرا القبليين وهادينه وأرشوه عن إرسالهن إلى أزواجهن من الملابس والأمتعة سرًّا، حتى كانوا في الآخر يرسلن إليه ما يردن من إرساله وهو يرسله بمعرفته، وتأتي أجوبتهم على يده إلى بيوتهن خفية واتخذ له يدًا وجميلًا وطوقهم منته بذلك.
وشاع في بلاد الأرنؤد وجبال الروملي رغبة إسماعيل بك في العساكر، فوفدوا عليه بأشكالهم المختلفة وطباعهم المنحرفة وعدم أديانهم وانعكاس أوضاعهم، فأسكن منهم طايفة بالجيزة وطايفة ببولاق وطايفة بمصر العتيقة، وأجرى عليهم النفقات والعلوفات وجلب له الياسيرجية المماليك، فاشترى منهم عدة وافرة وأكثرهم عزق ومشنبون وأجناس غير معهودة واستعملهم من أول وهلة في الفروسية ولم يدربهم في آداب ولا معرفة دين ولا كتاب، كل ذلك حرصًا على مقاومة الأعدا وتكثير الجيش.
وتابع إرسال الهدايا والأموال والتحف إلى الدولة، وأحضر السروجية والصواغ والعقادين، فوضعوا ستة سروج للسلطان وأولاده، وذلك قبل موت السلطان عبد الحميد على طريقة وضع سروج المصريين بعبايات مزركشة وهي مع السرج والقصعة والقربوس مرصعة بالجواهر والبروق والذهب والركابات، واللجامات والبلامات والشماريخ والسلاسل كلها من الذهب البندقي الكسر، والرأس والرشمات كلها من الحرير المصنوع بالمخيش، وسلوك الذهب وشماريخ المرجان والزمرد، وجميع الشراريب من القصب المخيش، وبها تعاليق المرجان والمعادن صناعة بديعة وكلفة ثمينة أقاموا في صناعة ذلك عدة أيام ببيت محمد أغا البارودي، واشترى كثيرًا من الأواني والقدور الصيني الآسكي معدن وملاها بأنواع الشربات المصنوع من السكر المكرر كشراب البنفسج والورد والحماض والصندل المطيب بالمسك والعنبر وماء الورد، والمربيات الهندية مثل: مربى القرنفل وجوزبوا والبسباسة والزنجبيل والكابلي، وأرسل ذلك مع الخزينة بالبحر صحبة عثمان كتخدا عزبان، ومعها عدة خيول من الجياد، وأقمشة هندية وعود وعنبر وطرايف وأرز، وبن، وأفاوية، وما الورد المكرر وغير ذلك، ولم يتفق لأحد فيما تقدم من أمرا مصر أرسل مثل ذلك ولم نسمع به ولم نره في تاريخ، فإن نهاية ما رأينا أن الأشربة يضعونها في ظروف من الفخار التي قيمة الظرف منها خمسة أنصاف أو عشرة، حتى الذي يصنعه شربتلي باشا الذي يأتي من إسلامبول لخصوص السلطان، أما هذه فأقل ما فيها يساوي ماية دينار وأكثر من ذلك.
ذكر من مات في هذا العام
ومات في هذه السنة العلامة الماهر الحيسوب الفلكي أبو الإتقان الشيخ مصطفى الخياط صناعة، أدرك الطبقة الأولى من أرباب الفن مثل: رضوان أفندي ويوسف الكلارجي والشيخ محمد النشيلي والكرتلي والشيخ رمضان الخوانكي والشيخ محمد الغمري والشيخ الوالد حسن الجبرتي، وأخذ عنهم وتلقى منهم، ومهر في الحساب والتقويم وحل الأزياج والتحاويل والحل والتركيب وتحويل السنين وتداخل التواريخ الخمسة، واستخراج بعضها من بعض وتواقيعها وكبايسها وبسايطها ومواسمها ودلايل الأحكام والمناظرات ومظنات الكسوف والخسوف، واستخراج أوقاتها وساعتها ودقايقها مع الضبط والتحرير وصحة الحدس وعدم الخطأ، وأقر له أشياخه ومعاصروه بالإتقان والمعرفة، وانفرد بعد أشياخه ووفد عليه طلاب الفن وتلقوا عنه وأنجبوا، وأجلهم عصرينا وشيخنا العلامة المتقن الشيخ عثمان بن سالم الورداني، أطال الله بقاه ونفع به.
ولازم المترجم المرحوم الوالد مدة مديدة وتلقى عنه وحج معه في سنة ثلاث وخمسين وماية وألف، وسمعته يقول عنه: الشيخ مصطفى فريد عصره في الحسابيات، والشيخ محمد النشيلي في الرسميات، وحسن أفندي قطه مسكين في دلايل الأحكام، وكان يستخرج في كل عام دستور السنة من مقومات السيارة ومواقع التواريخ وتواقيع القبط والمواسم والأهلة، ويعرِّب السنة الشمسية لنفع العامة، وينقل منها نسخًا كثيرة يتناولها الخاص والعام، يعملون منها الأهلة وأوايل الشهور العربية والقبطية والرومية والعبرانية والتواقيع والمواسم، وتحاويل البروج وغير ذلك، والتمس منه الأستاذ سيدي أبو الإمداد أحمد بن وفا تحريك الكواكب الثابتة لغاية سنة ثمانين وماية وألف، فأجابه إلى ذلك واشتغل به أشهرًا، حتى أتم حساب أطوالها وعروضها وجهاتها ودرجات ممرها ومطالع غروبها وشروقها وتوسطها وأبعادها ومواضعها بأفق عرض مصر بغاية التحقيق والتدقيق على أصول الرصد الجديد السمرقندي، وقام له الأستاذ بأوده ومصرفه ولوازم عياله مدة اشتغاله بذلك، وأجازه على ذلك إجازة سنيه، أخبرني من لفظه أنه أقام يصرف من فضل ذلك أشهرًا بعد تمام المطلوب، وله مؤلفات وتحريرات نافعة في هذا الفن منها جداول حل عقود مقومات القمر بطريق الدر اليتيم لابن المجدي، وهو عبارة عن تسهيل ما صنفه العلامة رضوان أفندي في كتابه أسنى المواهب في عشرة كراريس جمع فيه تعديل الخاصة المعدلة بالمركز للوسط، فيجمع مع الوسط في سطر وفي الأصل يجمع في سطرين ولا يخفى ما فيه من سهولة العمل، يعلم ذلك من له دربة بالفن، ولم يزل مشتغلًا بالنفع والحساب والإفادة مع اشتغاله بصناعة الخياطة، وتفصيل الثياب بين يديه وهو جالس في زاوية المكان يكتب ويمارس مع الطلبة والصناع بوسط المكان يفصلون الثياب ويخيطونها ويباشرهم أيضًا فيما يلزم مباشرته، إلى أن توفي في هذه السنة في بيته جهة الرميلة، وقد جاوز التسعين.
ومات سلطان الزمان السلطان عبد الحميد بن أحمد خان وتولى بعده ابن أخيه السلطان سليم بن مصطفى، وفقه الله تعالى، آمين.