سنة ست ومايتين وألف
(استهل شهر محرم بيوم الأربعا) وفيه عينوا صالح أغا كتخدا الجاويشية إلى السفر إلى الديار الرومية وصحبته هدية وشربات وأشيا، وصالح أغا هذا هو الذي بعثوه قبل ذلك لإجرا الصلح على يد نعمان أفندي ومحمود بك وكاد أن يتم ذلك، وأفسد ذلك حسن باشا ونُفي نعمان أفندي بذلك السبب، وذلك قبل موت حسن باشا بأربعة أيام، فلما رجعوا إلى مصر في هذه المرة عينوه أيضًا للإرسالية لسابقته ومعرفته بالأوضاع، وكان صالح أغا هذا عندما حضروا إلى مصر سكن ببيت البارودي وتزوج زوجته، فلما كان خامس المحرم ركب الأمرا لوداعه ونزل من مصر القديمة.
وفيه هبط النيل ونزل مرة واحدة وذلك في أيام الصليب ووقف جريان الخليج والترع وشرقت الأراضي فلم يرو منها إلا القليل جدًّا، فارتفعت الغلال من السواحل والرقع وضجت الناس، وأيقنوا بالقحط وأيسوا من رحمة الله وغلا سعر الغلة من ريالين إلى ستة، وضجت الفقرا وعيطوا على الحكام، فصار الأغا يركب إلى الرقع والسواحل ويضرب المتسببين في الغلة ويسمرهم في آذانهم، ثم صار إبراهيم بك يركب إلى بولاق ويقف بالساحل وسعر الغلة أربعة ريال الإردب، ومنعهم من الزيادة على ذلك فلم ينجع، وكذلك مراد كرر الركوب والتحريج على عدم الزيادة فيظهرون الامتثال وقت مرورهم، فإذا التفتوا عنهم باعوا بمرادهم، وذلك مع كثرة ورود الغلال ودخول المراكب وغالبها للأمرا، وينقلونها إلى المخازن والبيوت.
(وفي أوايل صفر) وصل قاصد وعلى يده مرسوم بالعفو والرضا عن الأمرا فعملوا الديوان عند الباشا وقرءوا المرسوم، وصورة ما بنى عليه ذلك أنه لما حضر السيد عمر أفندي (مكرم) بمكاتبتهم السابقة إلى الباشا، ويترجون وساطته في إجراء الصلح أرسل مكاتبة في خصوص ذلك من عنده، وذكر فيها أن من بمصر من الأمرا لا طاقة لهم بهم ولا يقدرون على منعهم ودفعهم، وأنهم واصلون وداخلون على كل حال، فكان هذا المرسوم جوابًا عن ذلك وقبول شفاعة الباشا والإذن لهم بالدخول بشرط التوبة والصلح بينهم وبين إخوانهم، فلما فرغوا من قراءة ذلك ضربوا شنكًا ومدافع.
(وفي يوم الثلاثا ثاني عشر صفر) حضر الشيخ الأمير إلى مصر من الديار الرومية، ومعه مرسومات خطابًا للباشا والأمرا، فركب المشايخ ولاقوه من بولاق وتوجه إلى بيته ولم يأت للسلام عليه أحد من الأمرا، وأنعمت عليه الدولة بألف قرش ومرتب بالضربجانة قرش في كل يوم، وقرا هناك البخاري عند الآثار الشريفة بقصد النصرة.
(وفي شهر ربيع الأول) عمل المولد النبوي بالأزبكية وحضر مراد بك إلى هناك واصطلح مع محمد أفندي البكري، وكان منحرفًا عنه بسبب وديعته التي كان أودعها عنده، وأخذها حسن باشا فلما حضر إلى مصر وضع يده على قرية كان اشتراها الأفندي من حسن جلبي بن علي بك الغزاوي، وطلب من حسن جلبي ثمن القرية الذي قبضه من الشيخ ليستوفي بذلك بعض حقه، وطال النزاع بينهما بسبب ذلك، ثم اصطلحا على قدر قبضه مراد بك منهما وحضر مراد بك إلى الشيخ في المولد، وعمل له وليمة، واستمر عنده حصة من الليل، وخلع على الشيخ فروة سمور.
وفيه عملوا ديوانًا عند الباشا وكتبوا عرضحال بتعطيل الميري بسبب شراقي البلاد.
وفيه سافر محمد بك الألفي إلى جهة شرقية بلبيس.
وفيه حضر إبراهيم بك إلى مسجد أستاذه للكشف عليه وعلى الخزانة وعلى ما فيها من الكتب، ولازم الحضور إليه ثلاثة أيام، وأخذ مفتاح الخزانة من محمد أفندي حافظ وسلمه لنديمه محمد الجراحي، وأعاد لها بعض وقفها المرصد عليها بعد أن كانت آلت إلى الخراب، ولم يبق بها غير البواب أمام الباب.
(وفي شهر ربيع الثاني) قرروا تفريدة على تجار الغورية وطيلون وخان الخليلي، وقبضوا على أنفار أنزلوهم إلى التكية ببولاق ليلًا في المشاعل ثم ردوهم، ووزع كبار التجار ما تقرر عليهم على فقرايهم بقوايم وناكد بعضهم بعضًا وهرب كثير منهم، فسمروا دورهم وحوانيتهم وكذلك فعلوا بكثير من مساتير الناس والوجاقلية وضج الخلايق من ذلك.
(وفي مستهل جمادى الأولى) كتبوا فرمانًا بقبض مال الشراقي ونودي به في النواحي، وانقضى شهر كيهك القبطي، ولم ينزل من السماء قطرة ماء فحرثوا المزروع ببعض الأراضي التي طشها الماء، وتولدت فيها الدودة وكثرت الفيران جدًّا حتى أكلت الثمار من أعلى الأشجار، والذي سلم من الدودة من الزرع أكله الفار، ولم يحصل في هذه السنة ربيع للبهايم إلا في النادر جدًّا، ورضي الناس بالعليق فلم يجدوا التبن وبلغ حمل الحمار من قصل التبن الأصفر الشبيه بالكناسة الذي يساوي خمسة أنصاف قبل ذلك ماية نصف، ثم انقطع مرور الفلاحين بالكلية بسبب خطف السواس وأتباع الأجناد، فصار يباع عند العلافين من خلف الضبة كل حفان بنصفين إلى غير ذلك.
وفيه حضر صالح أغا من الديار الرومية.
(وفي شهر شوال) سافر أيضًا بهدية ومكاتبات إلى الدولة ورجالها.
(وفي شهر القعدة) وردت الأخبار بعزل الصدر الأعظم يوسف باشا وتولية محمد باشا ملكًا، وكان صالح أغا قد وصل إلى الإسكندرية فغيروا المكاتبات وأرسلوها إليه.
وفيه حضر أغا بتقرير لوالي مصر محمد عزت باشا على السنة الجديدة، وطلع بموكب إلى القلعة وعملوا له شنكًا.
وفي أواخر شهر الحجة شرع إبراهيم بك في زواج ابنته عديلة هانم للأمير إبراهيم بك المعروف بالوالي أمير الحج سابقًا، وعمر لها بيتًا مخصوصًا بجوار بيت الشيخ السادات، وتغلو في عمل الجهاز والحلي والجواهر وغير ذلك من الأواني والفضيات والذهبيات، وشرعوا في عمل الفرح ببركة الفيل، ونصبوا صواري أمام البيوت الكبار، وعلقوا فيها القناديل ونصبوا الملاعيب والملاهي وأرباب الملاعيب وفردت التفاريد على البلاد، وحضرت الهدايا والتقادم من الأمرا والأكابر والتجار، ودعا إبراهيم بك الباشا، فنزل من القلعة وحضر صحبته خلع وفراو ومصاغ للعروس من جوهر، وقدم له إبراهيم بك تسعة عشر من الخيل منها عشرة معددة، وسبحة لؤلؤ وأقمشة هندية وشبقات دخان مجوهرة، وعملوا الزفة في رابع المحرم يوم الخميس، وخرجت من بيت أبيها في عربة غريبة الشكل صناعة الإفرنج في هيئة كمال من غير ملاعيب ولا خزعبلات، والأمرا والكشاف وأعيان التجار مشاة أمامها.
وفيه حضر عثمان بك الشرقاوي وصحبته رهاين حسن بك الجداوي وهم شاهين بك وسكن في مكان صغير وآخرون.
وفيه وصلت الأخبار بأن علي بك انفصل من حسن بك ومن معه، وسافر على جهة القصير وذهب إلى جدة.
وأما من مات في هذه السنة
مات الإمام الذي لمعت من أفق الفضل بوارقه، وسقاه من مورده النمير عذبه ورايقه، لا يدرك بحر وصفه الإغراق، ولا تلحقه حركات الأفكار ولو كان لها في مضمار الفضل السباق، العالم النحرير واللوذعي الشهير شيخنا العلامة أبو العرفان الشيخ محمد بن علي الصبان الشافعي، ولد بمصر وحفظ القرآن والمتون واجتهد في طلب العلم.
وحضر أشياخ عصره وجهابذة مصره وشيوخه، كما ذكر في برنامج أشياخه، فحضر على الشيخ الملوي شرحه الصغير على السلم، وشرح الشيخ عبد السلام على جوهرة التوحيد، وشرح المكودي على الألفية، وشرح الشيخ خالد على قواعد الإعراب، وحضر على الشيخ حسن المدابغي صحيح البخاري بقراءته لكثير منه، وعلى الشيخ محمد العشماوي الشفا للقاضي عياض وجامع الترمذي وسنن أبي داود، وعلى الشيخ أحمد الجوهري شرح أم البراهين لمصنفها بقراءته لكثير منها، وعلى الشيخ السيد البليدي صحيح مسلم، وشرح العقايد النسفية للسعد التفازاني وتفسير البيضاوي وشرح رسالة الوضع للسمرقندي، وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي تفسير البيضاوي وتفسير الجلالين وشرح الجوهرة للشيخ عبد السلام، وعلى الشيخ محمد الحفناوي صحيح البخاري، والجامع الصغير وشرح المنهج والشنشوري على الرحبية ومعراج النجم الغيطي، وشرح الخزرجية لشيخ الإسلام، وعلى الشيخ حسن الجبرتي التصريح على التوضيح والمطول ومتن الجغميني في علم الهيئة، وشرح الشريف الحسيني على هداية الحكمة، قال: وقد أخذت عنه في الميقات وما يتعلق به وقرأت فيه رسايل عديدة وحضرت عليه في كتب مذهب الحنفية كالدر المختار على تنوير الأبصار وشرح ملامسكين على الكنز، وعلى الشيخ عطية الأجهوري شرح المنهج مرتين بقراءته لأكثره، وشرح جمع الجوامع للمحلي، وشرح التلخيص الصغير للسعد، وشرح الأشموني على الألفية، وشرح السلم للشيخ الملوي وشرح الجزرية لشيخ الإسلام والعصام على السمرقندية، وشرح أم البراهين للحفصي، وشرح الأجرومية لريحان أغا، وعلى الشيخ علي العدوي مختصر السعد على التلخيص، وشرح القطب على الشمسية، وشرح شيخ الإسلام على ألفية المصطلح بقراءته لأكثره، وشرح ابن عبد الحق على البسملة لشيخ الإسلام، ومتن الحكم لابن عطا الله، رحمهم الله تعالى أجمعين.
قال: وتلقيت طريق القوم وتلقين الذكر على منهج السادة الشاذلية على الأستاذ عبد الوهاب العفيفي المرزوقي، وقد لازمته المدة الطويلة، وانتفعت بمدده ظاهرًا وباطنًا.
قال: وتلقيت طريق ساداتنا آل وفا سقانا الله من رحيق شرابهم كوس الصفا عن ثمرة رياض خلفهم، ونتيجة أنوار شرفهم على الأكابر والأصاغر، ومطمح أنظار أولي الأبصار والبصاير أبي الأنوار محمد السادات ابن وفا، نفحنا الله وإياه بنفحات جده المصطفى، وهو الذي كناني على طريقة أسلافه بأبي العرفان، وكتب لي سنده عن خاله السيد شمس الدين أبي الإشراق عن عمه السيد أبي الخير عبد الخالق عن أخيه السيد أبي الإرشاد يوسف عن والده الشيخ أبي التخصيص عبد الوهاب عن ولد عمه السيد يحيى أبي اللطف إلى آخر السند.
هكذا نقلته من خط المترجم رحمه الله تعالى، ولم يزل المترجم يخدم العلم ويدأب في تحصيله حتى تمهر في العلوم العقلية والنقلية، وقرا الكتب المعتبرة في حياة أشياخه، وربى التلاميذ واشتهر بالتحقيق والتدقيق والمناظرة والجدل، وشاع ذكره وفضله بين العلما بمصر والشام، وكان خصيصًا بالمرحوم الشيخ الوالد، اجتمع به من سنة سبعين وماية وألف ولم يزل ملازمًا له مع الجماعة ليلًا ونهارًا، واكتسب من أخلاقه ولطايفه، وكذلك بعد وفاته لم يزل على حبه ومودته مع الحقير، وانضوى إلى أستاذنا السيد أبي الأنوار بن وفا ولازمه ملازمة كلية، وأشرقت عليه أنواره ولاحت عليه مكارمه وأسراره.
ومن تآليفه حاشيته على الأشموني التي سارت بها الركبان، وشهد بدقتها أهل الفضايل والعرفان، وحاشية على شرح العصام على السمرقندية، وحاشية على شرح الملوي على السلم، ورسالة في علم البيان، ورسالة عظيمة في آل البيت، ومنظومة في علم العروض وشرحها، ونظم أسما أهل بدر، وحاشية على آداب البحث، ومنظومة في مصطلح الحديث ستماية بيت، ومثلثات في اللغة، ورسالة في الهيئة، وحاشية على السعد في المعاني والبيان ورسالتان على البسملة صغرى وكبرى، ورسالة في مفعل ومنظومة في ضبط رواة البخاري ومسلم، وله في النثر كعبٌ عليٌ، وفي الشعر كاس ملي، فمن نظمه في مدح الأستاذ أبي الأنوار بن وفا ويستعطف خاطره عليه لتقصير وانقطاع وقعا منه قوله:
وله قصيدة فريدة مدح في الأستاذ الوالد تقدم ذكرها في ترجمته، وغير ذلك تهنيات بأعياد ومواسم ومراث بعد وفاته، وله ولد فيه تهنية بمولود سنة أربع وسبعين.
وله أيضًا قصايد غرا في مدايح الأستاذ أبي الأنوار بن وفا مذكورة في المدايح الأنوارية.
ومن كلامه تهنية للأجل الشيح أبي الفوز إبراهيم السندوبي تابع السيد المشار إليه بقدومه من سفره.
وله في ديباجه سلام:
وله أيضًا:
وله متغزلًا:
وله أيضًا:
وله غير ذلك كثير وفضله شهير.
وكان في مبدا أمره وعنفوان عمره معانقًا للخمول والإملاق متكلًا على مولاه الرزاق، يستجدي مع العفة ويستدر من غير كلفة، وتنزل أيامًا في وظيفة التوقيت بالصلاحية بضريح الإمام الشافعي — رضي الله عنه — عندما جدده عبد الرحمن كتخدا، وسكن هناك مدة ثم ترك ذلك، ولما بنى محمد بك أبو الدهب مسجده تجاه الأزهر تنزل المترجم أيضًا في وظيفة توقيتها وعمر له مكانًا بسطحها سكن فيه بعياله، فلما اضمحل أمر وقفه تركه واشترى له منزلًا صغيرًا بحارة الشنواني وسكن به، ولما حضر عبد الله أفندي القاضي المعروف بططر زاده، وكان متضلعًا من العلوم والمعارف وسمع بالمترجم، والشيخ محمد الجناجي واجتمعا به أعجب بهما وشهد بفضلهما وأكرمهما، وكذلك سليمان أفندي الريس، فعند ذلك راج أمر المترجم وأثرى حاله وتزين بالملابس وركب البغال، وتعرف أيضًا بإسماعيل كتخدا حسن باشا وتردد إليه قبل ولايته، فلما أتته الولاية بمصر زاد في إكرامه وأولاه بره ورتب له كفايته في كل يوم بالضربخانة والجزية، وخرجا من كلاره من لحم وسمن وأرز وخبز وغير ذلك، وأعطاه كساوي وفراء، وأقبلت عليه الدنيا وازداد وجاهة وشهرة، وعمل فرحًا وزوج ابنه سيدي علي فأقبل عليه الناس بالهدايا وسمعوا لدعوته، وأنعم عليه الباشا بدراهم لها صورة، وألبس ابنه فروة يوم الزفاف، وكذا أرسل إليه طبلخانته وجاويشيته وسعاته فزفوا العروس، وكان ذلك في مبادي ظهور الطاعون في العام الماضي، وتوعك الشيخ المترجم بعد ذلك بالسعال وقصبة الرئة حتى دعاه داعي الأنام، وفجأه الحمام ليلة الثلاثا من شهر جمادي الأولي من السنة، وصُلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بالبستان تغمده الله بالرحمة والرضوان، وخلف ولده الفاضل الصالح الشيخ علي بارك الله فيه.
ومات السيد السند الإمام الفهامة المعتمد فريد عصره ووحيد شامه ومصره الوارد من زلال المعارف على معينها، المؤيد بأحكام شريعة جده حتى أبان صبح يقينها، السيد العلامة أبي المودة محمد خليل بن السيد العارف المرحوم علي بن السيد محمد بن القطب العارف بالله تعالى السيد محمد مراد بن علي الحسيني الحنفي الدمشقي، أعاد الله علينا من بركات علومهم في الدنيا والآخرة، من بيت العلم والجلالة والسيادة والعز والرياسة والسعادة.
والمترجم وإن لم نره لكن سمعنا خبره ووردت علينا منه مكاتبات ووشى طروسه المحبرات، وتناقل إلينا أوصافه الجميلة ومكارم أخلاقه الجليلة، كان شامة الشام وغرة الليالي والأيام، أورق عوده بالشام وأثمر ونشأ بها في حجر والده والدهر أبيض أزهر، وقرا القرآن على الشيخ سليمان الدبركي المصري، وطالع في العلوم والأدبيات واللغة التركية، والإنشا والتوقيع، ومهر وأنجب واجتمعت فيه المحاسن الحسية والمزايا المعنوية مع لطف خلق يسعى اللطف لينظر إليه، ورقيق محاسن يقف الكمال متحيرًا لديه، وأنا وإن لم يقع لي عليه نظر بالعين فسماع الأخبار إحدى الروايتين، ولما توفي والده المرحوم تنصب مكانه مفتي الحنفية بالديار الشامية، ونقيب الأشراف بإجماع الخاص والعام، وسار فيها أحسن سير، وزين بمآثره العلوم النقلية، وملك بنقد ذهنه جواهرها السنية، فكانت تتيه به على ساير البقاع بقاع الشام، ويفتخر به عصره على جميع الليالي والأيام، فلا تزال تصدح وُرْق الفصاحة في ناديها، وتسير الركبان بما فيه من المحاسن رائحها وغاديها، ونور فضله باد وموائده ممدودة لكل حاضر وباد، كما قيل:
وكان — رحمه الله — مغرمًا بصيد الشوارد وقيد الأوابد، واستعلام الأخبار وجمع الآثار، وتراجم العصريين على طريق المؤرخين، وراسل فضلا البلدان البعيدة، ووصلهم بالهدايا والرغايب العديدة، والتمس من كل جمع تراجم أهل بلاده، وأخبار أعيان أهل القرن الثاني عشر بحسب وسع همته واجتهاده، وكان هو السبب الأعظم، الداعي لجمع هذا التاريخ على هذا النسق، فإنه كان راسل شيخنا السيد محمد مرتضى والتمس منه نحو ذلك فأجابه لطلبته ووعده بأمنيته، فعند ذلك تابعه بالمراسلات وأتحفه بالصلات المترادفات، وشرع شيخنا المرحوم في جميع المطلوب بمعونة الفقير، ولم يذكر السبب الحامل على ذلك، وجمع الحقير أيضًا ما تيسر جمعه، وذهبت به يومًا وعنده بعض الشاميين، فأطلعته عليه فسر بذلك كثيرًا وطارحني وطارحته في نحو ذلك بمسمع من المجالس، ولم يلبث السيد إلا قليلًا وأجاب الداعي وتُنوسي هذا الأمر شهورًا، ووصل نعي السيد إلى المترجم والصورة الواقعة وكانت أوراق السيد مختومًا عليها، فعند ذلك أرسل إلي كتابًا وقرنه بهدية على يد السيد محمد التاجر القباقيبي يستدعي تحصيل ما جمعه السيد من أوراقه وضم ما جمعه الفقير وما تيسر ضمه أيضًا وإرساله، ويقول فيه: وهذا الأمر ما حررنا بخصوصه لأحد من العلما ولا من التجار واعتمدنا على الجناب بذلك اعتمادًا على المحبة الموروثة، ولعلمنا أن جنابكم أولى بذلك من كل أحد، ولا سيما ما بلغنا من أن السيد ترجمكم، وقال في ضمنها: وهو الذي أعانني على ذلك ثم نخبر الجناب أن سعيكم هذا من أعظم المساعي عندنا لكون محبكم في غاية الاشتياق إلى ذلك، فنرجو إرسال ذلك أصلًا أو استكتابًا قبل بيوم وأنا أمتن بذلك، وأسر وأروم إرساله من غير عذر يوجب التأخير ويفضي إلى التكدير؛ لأن بوروده الارتياح وببقايه الالتياح، وهذه همة لا تجحد ولا تنكر ومن الله التسهيل، ومنكم الاهتمام، ولا زلتم بخير وسرور وعافية وحبور، وصحة لا نفاد لغايتها، ومنحة لا غاية لنهايتها، إلى آخر ما قال.
أحمد الله على كل حال في حالتي المقام والترحال، وأصلي على نبيه وآله الطاهرين وأصحابه السامين بالفضايل والفواضل والظاهرين، وأهدي السلام العاطر الذي هو كنفح الروض باكره السحاب الماطر، والتحايا المتأرجة النفحات الساطعة اللمحات، النافحة الشميم، الناشية من خالص صميم، وأبدي الشوق الكامن وأبثه، وأسوق ركب الغرام وأحثه إلى الحضرة التي هي مهب نسايم العرفان والتحقيق ومصب مزن الإتقان والتدقيق، ومطلع شمس الإفادة والتحرير، ومنبع مياه البلاغة والتقرير، وموئل العايذ ومطمح اللايذ، وكعبة الطايف ومنتدى التحف واللطايف، ومجمع مجرى العمل والعلم، وملتقى أنهر الملاطفة والرأفة والحلم، وروض المكارم والوريق الوارف، وحوض العوارف والمعارف، المنهل الصافي، والظل السابغ الضافي، صانها الله من البوايق وحماها وحرس من الخطب الفادح حماها، ولا برح السعد مخيمًا في رباعها، واليمن والأمن مقيمين في بقاعها.
هذا وإن عطف مولانا الأستاذ عنان الاستفسار والاستخبار عن حليف آثاره وأليف نظامه ونثاره، وسمير تذكاره في ليله ونهاره، والمشتاق لمرآه والواله بهواه، والمقيم على عهده والمتمسك بوثيق وده، والمتمسك بعرف نده، والصايغ عقود تمداحه في مسايه وصباحه، فهو بمنه تعالى رهين صحة وعافية، وقرين نعم وآلاء وافية، يستأنس بأخبارك ويتوقع ورود رسايلك وآثارك، وقد مضت مدة ولم يجر بين البين ماء محاورة ومراسلة، وأدى هذا الجدب لقحط غلال المواصلة، وعلى كل حال فالقصور من الجانبين، واعتقاد ذلك يحسم مادة العتاب بين المحبين، ثم الباعث لتحرير الأسطار وتنميقة الاعتذار وإجراء فيض النفس المدرار تفقد الأحوال، واستدعا المراسلة ببليغ تلك الأقوال، وللشغل الشاغل الذي ما تحته طايل اقتضى تأخير المراسلة لهذا الحين، والتقصي من الجواب عن استنشاق أوراد رياحين، والله يشهد أن غالب الأوقات ذكراك نقل وأقوات، وقلبك شاهد على ما أقول، وحجة المحبة ثابتة بأقوى دليل ونُقول.
ولقد كنت حرضت الأستاذ لأبرح وجوده للسايل نفعًا وللدهر لما يقول مجيبًا سمعًا لجمع تراجم المصريين والحجازيين، ومن للأستاذ الوقوف على ترجمته وحاله من أهل الأمصار من أبناء القرن الثاني عشر، ووعد — حفظه الله — بالإنجاز ولسبب الشواغل الطارئة في هذه السنين الموجبة لتكدير الأفكار، ورخص أسعار الأشعار وإخلاق برد الفضايل وذاك الشعار أوجب قطع المراسلة وتأخير المطلوب والمأمول، ولم يفز المحب بمرام من ذلك ومسول، ولما كنت في الروم قبل ذلك العام جرى ذكر الأستاذ لدى حضرة أحد رؤسايها الأجلة الصناديد القروم، فأطال بالمدح وأطنب ثم جرى ذكر التاريخ وفقدانه في هذا الوقت وعدم الرغبة إليه من أبناء الدهر مع أنه هو المادة العظمى في الفنون كلها فتأوه تأوه حزين.
وكان بمجلسه أحد الأفاضل المولعين باقتناص الأخبار فقال: إن الأستاذ أبا الفيض مرتضى — بلغه الله مرامه وقرن بالنجاح آماله وبالسعود أيامه — قد باشر تأليف تاريخ عظيم بإشارة هذا وأشار إلي.
فقلت: نعم، قد كنت حرضت الأستاذ بجمع ذلك، ولا أدري كيف فعل؟ هل أوقد في الطروس تلك المصابيح والشعل أم عاقه الزمن بأحوال؟
قال: لا، بل اجتهد وأحسن وأفاد وأتقن، وقد رأيت شعرًا لطيفًا عربه من شعر الوزير الكبير المقتول إسماعيل باشا الريس، وذكره في ترجمته ثم إنه أطال على الأستاذ في الثنا، وأطال طرف المدح في حلبة ذلك المجلس إلى المسا، فسرني هذا الخبر الطاري من ذلك الرجل الإخباري، وطرت بأجنحة السرور والأماني، وقلت: قد صافاني زماني، ولما عدت بلدتي دمشق دامت معمورة وبالخيرات مغمورة، وقعت بأشراك الشواغل المتبادرة، وتركت من الفنون كل نادرة، وحرصت على تدبير أمورها خوف القال والقيل، وصرفت أوقاتي للإضاعة حتى في المقيل، وأروم من واهب النعم ومسدي الخير ومسدي الكرم أن يهبني لطفًا في مسعاي والأمور، وعونًا في نظام الجمهور إنه خبير بصير، وإليه المصير، وكان هذا الشغل الشاغل سببًا أعظم لتأخير المراسلة والاستخبار من الأستاذ عن إتمام التراجم وتحصيلها، والآن بادرت لنسخ هذه الأسجاع بيد اليراع، وحررته عجلًا ورقمته خجلًا فالمأمول تبييض مسودات التراجم وإرسالها حتى نكمل بها مادة التاريخ، ويحسن توجهاتكم القلبية مع هذه الأشغال الدنيوية، بلغ من التراجم نحو ثلاثة مجلدات ضخام ونحوها وزيادة باقية في المسودات، هذا ما عدا تراجم أبنا العصر وشعرايه الذين في الأحيا ومن نظمتني وإياه الأقدار، وامتدحتني بنظام أو نثار، فتراجمهم وآثارهم مجموعة بمجلد آخر، وعلى كل حال فالأستاذ له الفضل التام في هذا المقام، وإن شا الله تعالى بآثاره يتم الكتاب على أحسن نسق ونظام، وجل القصد أن يكون هذا الأود المحب مشمولًا بالأدعية الصالحة لتنطق بالثنا منه كل جارحة، والمأمول ستر عواره المتبادر، والإغماض عما أظهره الفكر القاصر والذهن الفاتر، وألقته أفواه المحابر على صفحات الدفاتر، ولك الثنا العاطر، والسلام الوافر، والشوق المتكاثر، من القلب والخاطر، ما همى وادق وذر شارق وصدح يمام، وناح حمام، وسح ركام وفاح خزام والسلام.
وتاريخه في أواخر ربيع الثاني سنة مايتين وألف، وما أدري ما فعل الدهر بتاريخه المذكور؛ لأنه انتقل المترجم بعد ذلك لأمور أوجبت رحلته منها إلى حلب الشهبا، كما ذكر لي ذلك في مراسلاته في سنة خمس ومايتين وألف، وهناك عصفت رياح المنية بروضه الخصيب، وهصرت يد الردى يانع غصنه الرطيب، فاحتضر وأحضر بأمر الملك المقتدر، لا زال جدثه روضة من رياض الجنان، ولا برح مجرى لجداول الرحمة والرضوان، وذلك في أواخر صفر من هذه السنة وهو مقتبل الشبيبة، ولم يخلف بعده في الفضايل والمكارم مثله.
ومات الإمام المفوه من غذي بلبان الفضل وليدًا، وعد لبيدٌ إذا قيس بفصاحته بليدًا، من له في المعالي أرومة وفي مغارس الفضل جرثومة، الحسين بن النور علي بن عبد الشكور الحنفي الطايفي الحريري الفقه والإنشا، ويعرف بالمتقي من أولاد الشيخ علي المتقي مبوب الجامع الصغير من أكبر أصحاب الشيخ السيد عبد الله ميرغني، ولد بالطايف وبها نشا وتكمل في الفنون العرفانية وتدرج في المواهب الإحسانية، وأحبه السيد عبد الله وتعلق بأذياله وشرب من صفو زلاله، فنام وهام وقطع ريقه الأوهام، وأخذ بالحرمين من عدة علما كرام، وشارك في العلوم ونافس في المنطوق والمفهوم، إلا أنه غلب عليه التصوف وعرف منه ما فيه الكمال والتصرف، وبينه وبين شيخنا العيدروس مودة أكيدة، ومحبة عتيدة، ومحاورات ومذكرات وملاطفات ومصافاة، وقد ورد علينا مصر في سنة أربع وسبعين وماية وألف، وسكن ببيت الشيخ محسن على الخليج، وكان يأتيه السيد العيدروس والسيد مرتضى وغيرهم، فأعاد روض الأنس نضيرًا وماء المصافاة نميرًا، ودخل الشام وحلب وبها أخذ عن جماعة أشيا، منهم: السيد إسماعيل المواهبي فقد عده من شيوخه، أثنى عليه ودخل بلاد الروم وأنعم بالمروم، وعاد إلى الحرمين وقوض عن الأسفار الخيام.
ثم قطن بالمدينة المنورة وكتب إليه الشيخ السيد العيدروس وهو بالطايف يستدعيه لبستان يسمى الشريعة فقال:
فأعاد المترجم الجواب وقال:
إلى أن قال:
وللسيد العيدروس قصيدة بائية أرسلها له، وهي بليغة مطولة وغير ذلك مطارحات كثيرة.
وللمترجم مؤلفات حسان، وكلها على ذوق أهل العرفان، منها المنظومة التي تعرف بالصلاتية عجيبة، وشرحها مزجًا كأصلها على لسان القوم، ولما حج الشيخ التاودي بن سودة كتبها عنه، ووصل بها المغرب ونوه بشأنها، حتى كتبت منها عدة نسخ، ونوه بشأن صاحبها حتى عين له سلطان المغرب بصرة في كل سنة تصل إليه مع الركب، والناس في المترجم مختلفون.
فمنهم من يصفه بالبراعة والكمال، وأوليك الذين رأوا كلامه فبهرهم نظامه، ومنهم من يصفه بالحلول عن ربقة الانقياد، ويرميه بالحلول والاتحاد، وهو — إن شاء تعالى — يبرأ مما نسب إليه.
ولما اجتمع به العلامة محمد بن يعقوب بن الفاضل الشمشاري ونزل في منزله، فكان أنيسًا له في ساير أحواله وأكيله ونزيله، قال اختبرته حق الاختبار فلم أجد له إلا لسانًا وهو مثار، وبعد أشهر تبرم عن ملازمته واتخذ له حجرة في الحرم، وعزل نفسه عنه فالتزم، وحكى لي من أموره أشيا غريبة، والمترجم معذور فإن ساداتنا المغاربة ليس لهم تحمل في سماع كلام مثل كلامه؛ لأنهم ألفوا ظاهر الشريعة، ولم يدخل على أذهانهم نوادر أهل العرفان، ولا تسوروا حصونها المنيعة، ولأهل الروم فيه اعتقاد جميل ومواهبهم تصل إليه في كل قليل، وكان له ولد يسمى جعفرًا ورد علينا مصر في سنة خمس وثمانين، وأقام معنا برهة يغدو إلينا، ويبيت ويروح لزيارة بعض أحباب أبيه بمصر، ويذهب معنا لبعض المنتزهات إذ ذاك، ولم يزل حتى اخترمته المنية، سامحه الله، لم يخلف بعده مثله.