سنة ثمان ومايتين وألف
فيها أوفى النيل أذرعه في سادس عشر المحرم الموافق لثامن عشر مسرى القبطي وأول برج السنبلة، وفيها انحلت الأسعار وبورك في رمي الغلال حتى أن الفدان الواحد زكا بقدر خمسة أفدنة، وبلغ النيل إلى الزيادة المتوسطة وثبت إلى أول بابَه، وشمل الماء غالب الأرض بسبب التفات الناس لسد المجاري وحفر الترع وإصلاح الجسور.
(وفي أوايل شهر صفر) وصل قابجي من الديار الرومية بطلب مال المصالحة والحلوان، فأنزلوه في دار وهادوه ورتبوا له مصروفًا.
(ومن الحوادث) أن الناس انتظروا جاويش الحاج وتشوقوا لحضوره، ولم يذهب إليهم في هذه السنة ملاقاة بالوش ولا بالأزلم، وأرسل إبراهيم بك هجانًا يستخبر عن الحجاج فذهب ورجع ليلة الثالث والعشرين من شهر صفر، وأخبر أن العرب تجمعوا على الحج من ساير النواحي عند مغاير شعيب، ونهبوا الحجاج وكسروا المحمل وأحرقوه، وقتلوا غالب الحجاج والمغاربة معهم، وأخذوا أحمالهم ودوابهم ونهبوا أثقالهم وانجرح أمير الحج وأصابه ثلاث رصاصات، وغاب خبره ثلاثة أيام ثم أحضره العرب وهو عريان في أسوأ حال، وأخذوا النسا بإجمالهن، والذي تبقى منهم أدخلوه إلى قلعة العقبة وتركهم الهجان بها من غير ماء ولا زاد، فنزل بالناس من الغم والحزن تلك الليلة ما لا مزيد عليه، ثم إنهم عينوا محمد بك الألفي وعثمان بك الأشقر ليسافرا بسبب ذلك، فخرجا في يوم الخميس سابع عشرين صفر وخطف أتباعهم في ذلك اليوم ما صادفوه من الجمال والبغال والكعك والعيش من الباعة، وفي يوم خروجهم وصل جماعة من الحجاج ودخلوا في أسوأ حال من العري والجوع والتعب، فلما وصلوا إلى نخل تلاقوا مع باقي الحجاج على مثل ذلك، ووجدوا أمير الحاج وذهب إلى غزة وصحبته جماعة من الحجاج وأرسل يطلب الأمان، ولم يزوروا المدينة في هذه السنة وأرسل من صرة المدينة اثنين وثلاثين ألف ريال مع عرب حرب، وضاع في هذه الحادثة من الأموال والمحزوم شي كثير جدًّا، وأخبروا أن موسم هذا العام كان من أعظم المواسم لم يتفق مثله من مدة مديدة.
(وفي يوم الاثنين غرة ربيع الأول) دخل باقي الحجاج على مثل حالة من وصل منهم قبل ذلك.
(وفي صبحها يوم الثلاثا) عملوا الديوان بالقلعة واجتمع الأمرا والوجاقلية والمشايخ وقري المرسوم الذي حضر بصحبة الأغا، فكان مضمونه طلب الحلوان والخزينة، وقدر ذلك تسعة آلاف وأربعماية كيس وعشرة آلاف وخمسة وأربعون نصفًا فضة تسلم ليد الأغا المعين من غير تأخير.
وفيه عملوا على زوجات أمير الحاج ثلاثين ألف ريال، وأرسلوا إلى بيت حسن كاشف المعمار فأخذوا ما فيه من الغلال وغيرها؛ لأنه قتل في معركة العرب مع الحجاج، وألبسوا زوجته الخاتم قهرًا عنها ليزوجوها لمملوك من مماليك مراد بك، وهي بنت علي أغا المعمار، ووجدت على زوجها وجدًا عظيمًا، وأرسلت جماعة لإحضار رمته من قبره الذي دفن فيه في صندوق على هيئة تابوت.
وفيه شرع الأمرا في عمل تفريدة على البلاد بسبب الأموال المطلوبة وقرروها: «عالٍ وهو أربعماية ريال ووسط ثلثماية والدون ماية وخمسون»، وكتبوا أوراقها على الملتزمين ليحصلوها منهم.
(وفي يوم الخميس) سافر حسن كتخدا أيوب بك بأمان لعثمان بك ليحضره من غزة، ووصل المتسفرون بجثة حسن كاشف المعمار.
(وفي عشرين جمادى الأولى) وصل عثمان بك طبل الإسماعيلي أمير الحاج إلى مصر مكسوف البال ودخل إلى بيته.
وفيه حضر الصدر الأعظم يوسف باشا إلى الاسكندرية؛ ليتوجه إلى الحجاز فاعتنى الأمرا بشأنه وأرسلوا له ملاقاة وتقادم وهدايا وفرشوا له قصر العيني، ووصل إلى مصر وطلع من المراكب إلى قصر العيني وأرسلوا له تقادم وضيافات ثم حضروا للسلام عليه في زحمة وكبكبة، فخلع على إبراهيم بك ومراد بك خلعًا ثمينة، وقدم لهما حصانين بسرجين مرختين، ثم نزل له الباشا المتولي محمد عزت باشا بعد يومين وسلم عليه ورجع القلعة، وأقاموا لخفارته عبد الرحمن بك الإبراهيمي، جلس بالقصر المواجه لقصر العيني وقد تخيلوا من حضوره وظنوا ظنونًا.
(وفي يوم الأحد ثالث جمادى الثانية) طلع يوسف باشا إلى القلعة باستدعاء من الباشا المتولي، فجلس عنده إلى بعد الظهر ونزل في موكب حافل إلى محله بقصر العيني، وأرسل له إبراهيم بك ومراد بك مع كتخدايهم هدية وهي: خمسماية إردب قمح وماية إردب أرز وتعبيات أقمشة هندي وغير ذلك، وأقام بالقصر أيامًا وقضوا أشغاله وهيئوا له اللوازم والمراكب بالسويس، وركب في أواسط جمادى الثانية وذهب إلى السويس ليسافر إلى جدة من القلزم، وانقضت هذه السنة وحوادثها واستهلت الأخرى.
وأما من مات فيها من الأعيان ومن سارت بذكرهم الركبان
فمات نادرة الدهر وغرة وجه العصر، إنسان عين الأقاليم فريد عقد المجد النظيم، جامع الفضايل والمحاسن، ومظهر اسم الظاهر والباطن، من لبس رداء النجابة في صباه، ولاح عنوان المكارم على صحايف علاه، ولم تقصر عليه أثواب مجده التي ورثها عن أبيه وجده، فعلى جبينه نور النسب يخبر أن خلف الدخان لهب، شعر:
الحسيب النسيب والنجيب الأريب السيد محمد أفندي البكري الصديقي، شيخ سجادة السادة البكرية ونقيب السادة الأشراف بمصر المحمية، تقلد بعد والده المنصبين وورث عنه السيادتين، فسار فيهما سيرة الملوك ونثر فرايد المكارم من أسلاك السلوك، فجوده حدث عن البحر ولا حرج، وبراعة منطقه تنتج سلب الألباب والمهج، مع حسن منظر تتزاحم عليه وفود الأبصار، وفيض نوال تضطرب لغيرتها منه البحار، وقد اجتمع فيه من الكمال ما تضرب به الأمثال، وأخباره غنية عن البيان مسطرة في صحف الإمكان، زمانه كأنه عروس الفلك، فكم قال له الدهر: أما الكمال فلك، ولم يزل كذلك إلى أن آذنت شمسه بالزوال وغربت بعدما طلعت من مشرق الإقبال، وقطفت زهرة شبابه وقد سقتها دموع أحبابه، ورثاه الألمعي الفاضل السيد عبد الله المرازيقي وأرخه بقوله:
وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر ربيع الثاني، وخرجوا بجنازته من بيتهم بالأزبكية، وصُلي عليه بالأزهر في مشهد حافل، ودفن عند أجداده بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبالجملة فهو كان مسك الختام، قلما تسمح بمثله الأيام، ولما مات تولى سجادة الخلافة البكرية ابن خاله سيدي الشيخ خليل أفندي، وتقلد النقابة السيد عمر أفندي الأسيوطي، شعر.
ومات علامة العلوم والمعارف، وروضة الآداب الوريقة، وظلها الوارف جامع المزايا والمناقب شهاب الفضل الثاقب الإمام العلامة الشيخ أحمد بن موسى بن داود أبو الصلاح العروسي الشافعي الأزهري، ولد سنة ثلاث وثلاثين وماية وألف، وقدم الأزهر فسمع على الشيخ أحمد الملوي الصحيح بالمشهد الحسيني، وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي الصحيح والبيضاوي والجلالين، وعلى السيد البليدي البيضاوي في الأشرفية، وعلى الشمس الحفني الصحيح مع شرحه للقسطلاني ومختصر ابن أبي جمرة والشمايل وابن حجر على الأربعين والجامع الصغير.
وتفقه على كل من الشبراوي والعزيزي والحفني والشيخ علي قايتباي الأطفيحي والشيخ حسن المدابغي والشيخ سابق والشيخ عيسى البراوي والشيخ عطية الأجهوري.
وتلقى بقية الفنون عن الشيخ علي الصعيدي لازمه السنين العديدة وكان معيدًا لدروسه، وسمع عليه الصحيح بجامع مرزه ببولاق، وسمع من الشيخ ابن الطيب الشمايل لما ورد مصر متوجهًا إلى الروم، وحضر دروس الشيخ يوسف الحفني والشيخ إبراهيم الحلبي وإبراهيم بن محمد الدلجي، ولازم الشيخ الوالد وأخذ عنه وقرا عليه في الرياضيات والجبر والمقابلة وكتاب الرقايق للسبط وقوللي زاده على المجيب وكفاية القنوع والهداية وقاضي زاده وغير ذلك، وتلقن الذكر والطريقة عن السيد مصطفى البكري ولازمه كثيرًا، واجتمع بعد ذلك على ولي عصره الشيخ أحمد العريان، فأحبه ولازمه واعتنى به الشيخ وزوجه إحدى بناته وبشره بأنه سيسود ويكون شيخ الجامع الأزهر، فظهر ذلك بعد وفاته بمدة لما توفي شيخنا الشيخ أحمد الدمنهوري، واختلفوا في تعيين الشيخ فوقعت الإشارة عليه واجتمعوا بمقام الإمام الشافعي — رضي الله عنه — كما تقدم واختاروه لهذه الخطة العظيمة، فكان كذلك، واستمر شيخ الجامع على الإطلاق وريسهم بالاتفاق يدرس ويعيد ويملي ويفيد، ولم يزل يراعي للحقير حق الصحبة القديمة والمحبة الأكيدة، وسمعت من فوايده كثيرًا ولازمت دروسه في المغني لابن هشام بتمامه، وشرح جمع الجوامع للجلال المحلى، والمطول وعصام على السمرقندية، وشرح رسالة الوضع وشرح الورقات وغير ذلك.
وكان رقيق الطباع مليح الأوضاع لطيفًا مهذبًا إذا تحدث نفث الدر، وإذا لقيته لقيت من لطفه ما ينعش ويسر، وقد مدحه شعرَا عصره بقصايد طنانة، ومن كلامه ما كتبه مقرظًا على رياض الصفا لشيخنا السيد العيدروس هذان البيتان:
وكتب على تنميق السفر له مضمنًا ما نصه:
وكتب على النفحة ما نصه:
وله أيضًا وقد كتب على تنميق الأسفار له:
وله أيضًا عليه:
ومن كلامه يمدح الأستاذ عبد الخالق بن وفا:
وهي طويلة:
ومما ينسب إليه هذا التوشيح:
وهو مشهور غاية الاشتهار في الأغاني والأوتار فلا حاجة إلى ذكره بتمامه، وسمعته مرة يقول: ما زلت أنظم الشعر حتى ظهر الشيخ قاسم الأديب ببلاغته فعند ذلك تركته، ولم تزل كوس فضله على الطلبة مجلوة، حتى ورد موارد الموت فبدلت بالكدر صفوه وأي صفا لا يكدره الدهر؟
ودعاه الله تعالى بجوار الجنان وتلقاه جدثه بروح رحمة ورضوان، وذلك في حادي عشرين شعبان، وصُلي عليه بالأزهر في مشهد حافل، ودفن بمدفن صهره الشيخ العريان تغمدهما الله بالرحمة والرضوان ومن تآليفه شرح على نظم التنوير في إسقاط التدبير للشيخ الملوي، وهو نظم وحاشية على الملوي على السمرقندية وغير ذلك.
وخلف أولاده الأربعة كلهم فضلا أذكيا نبلا، أحدهم الذي تعين بالتدريس في محله بالأزهر العلامة اللوذعي والفهامة الألمعي شمس الدين السيد محمد، وأخوه النبيه الفاضل المتقن شهاب الدين السيد أحمد، وأخوه الذكي اللبيب والفهيم النجيب السيد عبد الرحمن، والنبيه الصالح والمفرد الناجح السيد مصطفى، بارك الله فيهم.
ولما توفي المترجم — رحمه الله — رثاه صاحبنا العلامة والعمدة الفهامة السيد إسماعيل الوهبي الشهير بالخشاب بقوله:
ومات الخواجة المعظم والملاذ المفخم جايز رتب الكمال وجامع مزايا الإفضال سيدي الحاج محمود بن محرم، أصل والده من الفيوم واستوطن مصر وتعاطى التجارة وسافر إلى الحجاز مرارًا، واتسعت دنياه وولد له المترجم فتربى في العز والرفاهية، ولما ترعرع وبلغ رشده وخالط الناس وشارك وباع واشترى وأخذ وأعطى وظهرت فيه نجابة وسعادة، حتى كان إذا مسك التراب صار ذهبًا، فانجمع والده وسلم له قياد الأمور، فاشتهر ذكره ونما أمره وشاع خبره بالديار المصرية والحجازية والشامية والرومية، وعرف بالصدق والأمانة والنصح، فأذعنت له الشركا والوكلا ووثقوا بقوله ورأيه، وأحبه الأمرا المصرية وتداخل فيهم بعقل وحشمة وحسن سير وفطانة ومداراة وتؤدة وسياسة ولطف وأدب وحسن تخلص في الأمور الجسيمة، وعمر داره ووسعها وأتحفها وزخرفها وأنشأ بها قاعة عظيمة وأمامها فسحة مليحة الشكل، وحول القاعة بستان بديع المثال، وهي مطلة عليه من الجهتين.
وزوج ولده سيدي أحمد الموجود الآن وعمل له مهمًا عظيمًا دعا إليه الأكابر والأعيان والتجار، وتفاخر فيه إلى الغاية، وعمر مسجدًا بجوار بيته بالقرب من حبس الرحبة، فجاء في غاية الإتقان والحسن والبهجة، ووقف عليه بعض جهات ورتب فيه وظايف وتدريسًا، وبالجملة كان إنسانًا حسنًا وقورًا محتشمًا جميل الطباع مليح الأوضاع، ظاهر العفاف كامل الأوصاف، حج في هذه السنة من القلزم ورجع في البر مع الحجاج في إمارة عثمان بك الشرقاوي على الحج في أحمال مجملة وهيئة زايدة مكملة، فصادفتهم شوبة حر شديد فقضي عليه فيها، ودفن بالخيوف، ولم يخلف في بابه مثله، رحمه الله.
وللعلامة الشيخ مصطفى الصاوي مدايح في المترجم فمن ذلك قوله في التهنئة بالفرح:
وله فيها أيضًا تهنئة بعيد النحر وهو قوله:
وله فيه غير ذلك.
ومات الأمير حسن كاشف المعمار، وأصله مملوك محمود بك وأعطاه لعلي أغا المعمار، أخذه صغيرًا ورباه ودربه في الأمور وزوجه ابنته، وعمل لزواجهما مهمًا وولايم، ولما مات سيده قام مقامه وفتح بيته ووضع يده على تعلقاته وبلاده ونما أمره وانتظم في سلك الأمرا المحمدية لكونه في الأصل مملوك محمد بك وخشداشهم، وكان ريسًا عاقلًا ساكن الجأش جميل الصورة واسع العينين أحورهما، ولما حج في هذه السنة وخرجت عليهم العرب ركب وقاتلهم حتى مات شهيدًا، ودفن بمغاير شعيب ونهب متاعه وأحماله وحزنت عليه زوجته الست حفيظة ابنة علي أغا حزنًا شديدًا، وأرسلت مع العرب ونقلته إلى مصر ودفنته عند أبيها بالقرافة، وزوجته المذكورة هي الآن زوجة لسليمان بك المرادي.
ومات الأمير شاهين بك الحسني، وقد تقدم أنه كان حضر إلى مصر رهينة، وسكن ببيت بالقرب من الموسكي، وهو مملوك حسن بك الجداوي أمَّره أيام حسن باشا، وسكن ببيت مصطفى بك الكبير الذي على بركة الفيل المعروف سابقًا بشكريره، وصار من جملة الأمرا المعدودين، ولما مات إسماعيل بك وحصل ما تقدم من قدوم المحمديين وخروجهم، فحضر المترجم صحبه عثمان بك الشرقاوي رهينة عن سيده وأقام بمصر، وكان سبب موته أن إنسانًا كلمه عن أصول الصبغة التي تنبت بالغيطان ولها ثمر يشبه عنب الذيب في عناقيد يصنع منه الفراشون مياه القناديل في المواسم والأفراح، وإن مَن أكل من أصولها شيًّا أسهله إسهالًا مفرطًا ولم يذكر له المسكن لذلك، ولعله كان يجهله فأرسل من أتى له بشي منها من البستان وأكل منه فحصل له إسهال مفرط حتى غاب عن حسه ومات، وتسكين فعلها إذا بلغت غايتها أن يمتص شيًّا من الليمون المالح، فإنها تسكن في الحال ويفيق الشخص كأن لم يكن به شي.
ومات الأمير أحمد بك الوالي بقبلي وهو أيضًا مملوك حسن بك الجداوي، وقد تقدم ذكره ووقايعه مع أهل الحسينية وغيرهم في أيام زعامته.