سنة أربع وتسعين ومائة وألف (١٧٨٠م)
فيها في يوم الخميس حادي عشر صَفَر دخل الحجاج إلى مصر وأمير الحاج مراد بك، ووقف لهم العربان في الصفرة والجديدة وحصروا الحجاج بين الجبال وحاربوهم نحو عشر ساعات، ومات كثير من الناس والغز والأجناد ونهبت بضايع وأحمال كثيرة، وكذلك من الجمال والدواب والعرب بأعلى الجبال والحج أسفل كل ذلك والحج ساير.
(وفي يوم الخميس ثالث شهر رجب) اجتمع الأمرا وأرسلوا إلى الباشا أرباب العكاكيز وأمروه بالنزول من القلعة معزولًا، فركب في الحال ونزل إلى مصر العتيقة ونقلوا عزاله ومتاعه في ذلك اليوم واستلموا منه الضربخانة، وعمل إبراهيم بك قايمقام مصر، فكانت مدة ولاية إسماعيل باشا في هذه المرة ثمانية أشهر تنقص ثلاثة أيام، وكان أصله ريس الكتاب بإسلامبول من أرباب الأقلام، وكان مراد بك هذا أصله من مماليكه فباعه لبعض التجار في معاوضة وحضر إلى مصر ولم يزل حتى صار أميرها، وحضر سيده هذا في أيام إمارته، وهو الذي عزله من ولايته، ولكن كان يتأدب معه ويهابه كثيرًا ويذكر سيادته عليه، وكان هذا الباشا أعوج العنق للغاية، وكان قد خرج له خراج فعالجه بالقطع فعجزت العروق وقصرت فاعوج عنقه وصارت لحيته عند صدره ولا يقدر على الالتفات إلا بكليته، إلا أنه كان ريسًا عاقلًا صاحب طبيبة ويحب الموانسة والمسامرة، ولما حضر إلى مصر وسمع بأوصاف شيخنا الشيخ محمود الكردي فأحبه واعتقده وأرسل له هدية وأخذ عليه العهد بواسطة صديقنا نعمان أفندي وكان به آنسًا، وقلده أمين الضربخانة، ولما أخذ العهد على الشيخ فأقلع عن استعمال البرش وألقاه بظروفه، وقلل من استعمال الدخان، وكان يقول: لو كنت أقدر على تركه لتركته. وكان عنده أصناف الطيور المليحة الأصوات، وعمل بستانًا لطيفًا في الفسحة التي كانت بداخل السراية زرع بها أصناف الزهور والغراس والورد والياسمين والفل وبوسطه قبة على أعمدة من الرخام وحولها حاجز من السلك النحاس الرفيع الأصفر وبداخلها كثير من عصافير القنارية، وعمل لهم أوكارًا يأوون إليها ويطيرون صاعدين هابطين بداخل القبة، ويطرب لأصواتهم اللطيفة وأنغامهم العذبة وذلك خلاف ما في الأقفاص المعلقة في المجالس، وتلك الأقفاص كلها بديعة الشكل والصنعة، ولما أنزلوه على هذه الصورة انتهب الخدم تلك الطيور والأقفاص، وصاروا يبيعونها في أسواق المدينة على الناس.
وفي يوم الجمعة عاشر شعبان الموافق لسابع مسرى القبطي أوفى النيل المبارك وكسر السد في صبحها يوم السبت بحضرة إبراهيم بك قايمقام مصر والأمرا.
وفي أواخر شعبان شرع الأمرا في تجهيز تجريدة، وسفرها إلى جهة قبلي لاستفحال أمر حسن بك ورضوان بك، وأنه انضم إليهم كثير من الأجناد وغيرهم، وذهب إليهم جماعة إسماعيل بك وهم: إبراهيم بك قشطة وعلي بك الجوخدار وحسين بك وسليم بك من خلف الجبل، فعندما تحققوا ذلك أخذوا في تجهيز تجريدة وأميرها مراد بك وصحبته سليمان بك أبو نبوت وعثمان بك الأشقر ولاجين بك ويحيى بك وطلبوا الاحتياجات واللوازم وحصل منهم الضرر، وطلب مراد بك الأموال من التجار وغيرهم مصادرة، وجمعوا المراكب وعطلوا الأسباب وبرزوا بخيامهم إلى جهة البساتين.
وفيه حضر من الديار الرومية أمير أخور وعلى يده تقرير لإسماعيل باشا على السنة الجديدة فوجده معزولًا وأنزلوه في بيت بسويقة العزى.
وفي يوم الخميس عشرين شوال كان خروج المحمل والحجاج صحبة أمير الحج مصطفى بك الصغير.
وأما من مات في هذه السنة
مات السيد الأجل الوجيه الفاضل السيد محمد بن عثمان بن محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم بن مصطفى بن القطب الكبير سيدي محمد دمرداش الخلوتي، ولد بزاوية جده ونشأ بها، ولما توفي والده السيد عثمان جلس مكانه في خلافتهم وسار سيرًا حسنًا مع الأبهة والوقار وترداد الأفاضل إليه على عادة أسلافه، وكان يعاني طلب العلم مع الرفاهية وبعض الخلاعة، ولازم المرحوم الوالد هو وأولاده السيد عثمان والسيد محمد المتولي الآن في مطالعة الفقه الحنفي وغيره في كل يوم بالمنزل، ويحضرون أيضًا بالأزهر وعلى الأشياخ المترددين عليهم بالزاوية مثل: الشيخ محمد الأمير، والشيخ محمد العروسي، والشيخ محمد بن إسماعيل النفراوي، والشيخ محمد عرفة الدسوقي، وغيرهم، وكان إنسانًا حسن العشرة والمودة، توفي في رابع عشر رمضان من السنة ودفن بزاويتهم عند أسلافهم.
ومات الفقيه النبيه المتقن المتفنن الأصولي النحوي المعقولي الجدلي الشيخ مصطفى المعروف بالريس البولاقي الحنفي، كان في الأصل شافعي المذهب ثم تحنف وتفقه على الشيخ الإسقاطي والسيد سعودي والدلجي، وحضر المعقولات على الشيخ علي الصعيدي والشيخ علي قايتباي والإسكندراني، وكان ملازمًا للسيد سعودي فلما توفي لازم ولده السيد إبراهيم ولم تطل أيامه، فلما مات لازم الشيخ الوالد حسن الجبرتي ملازمة كلية في المدينة وبولاق وكان يحبه لنجابته واستحضاره ونوه بشأنه ولاحظه بأنظاره، وأخذ له تدريس الحنفية بجامع السنانية وجامع الواسطي، وعاونه في أمور من الأحكام العامة ببولاق حتى اشتهر ذكره بها، وعظم شأنه عند أهلها وصار بيته مثل المحكمة في القضايا والدعاوى والمناكحات والخصومات، وكان فيه شهامة وقوة جنان وصلابة، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
ومات الولي الصالح الفاضل الشيخ عبد الله بن محمد بن حسين السندي نزيل المدينة المنورة المشهور بجمعة، وحضر دروس الشيخ محمد حياة السندي وغيره من الواردين، وجاور بالمدينة نحوًا من أربعين سنة وانتفع به طلبة المدينة واشتهرت بركته، فكل من قرأ عليه شيًّا فتح الله عليه وصار من العلما، وكان ذا كرم ومروة وحيا وشفقة توفي في هذه السنة.
ومات الشيخ الصالح الوجيه أحمد بن عبد الله الرومي الأصل المصري المكتب الخطاط الملقب بالشكري، جوَّد الخط على جماعة من المشاهير ومهر فيه حتى برع وأجيز وأجاز على طريقتهم ونسخ بيده عدة مصاحف ودلايل الخيرات وغير ذلك، وانتفع به الناس انتفاعًا عامًّا واشتهر خطه في الآفاق وأجاز لجماعة، وكان وجيهًا منور الشيبة يلوح عليه سيما الصلاح والتقوى نظيف الثياب حسن الأخلاق مهذبًا متواضعًا، توفي عشية يوم الأربعا ثالث جمادى الأولى من السنة، وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافة، رحمه الله تعالى.