سنة خمس وتسعين وماية وألف (١٧٨٠م)
في منتصف المحرم قبض إبراهيم بك على إبراهيم أغا بيت المال المعروف بالمسلماني وضربه بالنبابيت حتى مات، وأمر بإلقاه في بحر النيل فألقوه وأخرجه عياله بعد أيام من عند شبرا، فأتوا به إلى بيته وغسلوه وكفنوه ودفنوه، ولم يعلم لذلك سبب.
وفي يوم السبت سادس عشر صفر نزل الحجاج ودخلوا إلى مصر صحبة المحمل، وأمير الحاج مصطفى بك في يوم الثلاثاء تاسع عشره.
وفيه جاءت الأخبار بأن إسماعيل بك وصل من الديار الرومية إلى أدرنه، وطلع من هناك ولم يزل يتحيل حتى خلص إلى الصعيد، وانضم إلى حسن بك ورضوان بك وباقي الجماعة.
وفي أواخر شهر صفر وصلت الأخبار من ناحية قبلي بأن مراد بك خنق إبراهيم بك أوده باشا، قيل إنه اتهمه بمكاتبات إلى إسماعيل بك وحبس جماعة آخرين خلافه.
وفيه وصلت الأخبار بورود باشا إلى ثغر سكندرية واليًا على مصر، وهو محمد باشا ملك.
وفي سادس جمادى الأولى وصل مراد بك ومن معه إلى مصر وصحبته إبراهيم بك قشطة صهر إسماعيل بك، أحد صناجق إسماعيل بك بعدما عقد الصلح بينه وبينهم، وأحضر هؤلاء صحبته رهاين، وأعطى لإسماعيل بك إخميم وأعمالها، وحسن بك قنا وقوص وأعمالها، ورضوان بك إسنا، ولما تم الصلح بينه وبينهم على ذلك أرسل لهم هدايا وتقادم وأحضر صحبته من ذكر، فكانت مدة غيابه ثمانية أشهر وأيامًا، ولم يقع بينهم مناوشات ولا حرب، بل كانوا يتقدمون بتقدمه ويتأخرون بتأخره حتى تم ما تم.
وفي منتصف شهر جمادى الأولى سافر علي أغا كتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة والترجمان وباقي أرباب الخدم لملاقاة الباشا في بر إمبابة.
وفي غرة شهر رجب وصل الباشا إلى بر إنبابة وبات هناك، وعدت الأمرا في صبحها للسلام عليه، ثم ركب إلى العادلية.
وفي يوم الاثنين ركب الباشا بالموكب من العادلية، ودخل من باب النصر، وشق من وسط المدينة، وطلع إلى القلعة، وضربوا له المدافع من باب الينكجرية، وكان وجيهًا جليلًا منور الوجه والشيبة.
وفي يوم الخميس عملوا الديوان، وحضر الأمرا والمشايخ وقري التقليد بحضرتهم وخلع على الجميع الخلع المعتادة.
وفي يوم الأحد المبارك ليلة النصف من شعبان الموافق لأول مسرى القبطي كان وفا النيل المبارك، ونزل الباشا وكسروا السد بحضرته على العادة صبح يوم الاثنين.
ذكر من مات في هذه السنة من الأيمة والأعيان
توفي شيخنا الإمام العارف كعبة كل ناسك عمدة الواصلين وقدوة السالكين صاحب الكرامات الظاهرة والإشارات الباهرة، شيخنا وأستاذنا الشيخ محمود الكردي الخلوتي، حضر إلى مصر متجردًا مجاهدًا مجتهدًا في الوصول إلى مولاه زاهدًا كل ما سواه، فأخذ العهد وتلقن الذكر من الأستاذ شمس الدين الحفني، وقطع الأسما وتنزلت عليه الأسرار وسطعت على غرته الأنوار، وأفيض على نفسه القدسية أنواع العلوم اللدنية.
وله رسالة في الحكم ذكر أن سبب تأليفه لها أنه رأى الشيخ محيي الدين العربي — رضي الله عنه — في المنام أعطاه مفتاحًا وقال له: افتح الخزانة، فاستيقظ وهي تدور على لسانه ويرد على قلبه أنه يكتبها. قال: فكنت كلما صرفت الوارد عني عاد إلي فعلمت أنه أمر إلهي، فكتبتها في لمحة يسيرة من غير تكلف كأنما هي تملى على لساني من قلبي، وقد شرحها خليفته شيخ الإسلام والمسلمين سيدي الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر شرحًا لطيفًا جامعًا مانعًا، استخرج به من كنوز معانيها ما أخفاها فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وشرحها أيضًا أحد خلفايه الأستاذ العلامة السيد عبد القادر بن عبد اللطيف الرافعي البياري العمري الحنفي الطرابلسي — شكر الله صنيعهما — ذكر في أولها ترجمة الأستاذ كما سمعه من لفظه أن مولده ببلدة صاقص من بلاد كوران، ونشأ في المجاهدة وهو ابن خمس عشرة سنة صايم الدهر محيي الليل كله في مسجد ببلدته معروف حتى اشتهر أمره وقصده الناس بالزيارة، فهجر ذلك المكان وصار يأوي الخراب خارج بلدته بحيث لا يشعر به أحد.
وأخبرني غير مرة أنه كان لا يغمه بالليل إلا سماع صوت الديكة لإنذارها بطلوع النهار لما يجده في ليله من المواهب والأسرار.
وكان جل نومه في النهار، وكثيرًا ما كان يجتمع بالخضر — عليه السلام — فيراه بمجرد ما ينام فيذكر الله معه حتى يستيقظ، وكان لا يفتر عن ذكر الله لا نومًا ولا يقظة.
وقال مرة: جميع ما في كتب إحياء العلوم للغزالي عملت به قبل أن أطالعه، فلما طالعته حمدت الله تعالى على توفيقه إياي وتوليته تعليمي من غير معلم.
وكان كثير التقشف من الدنيا يأكل خبز الشعير وفي بيته يصنع خبز خاص من دقيق البر، وكثيرًا ما كان يلومه أخوه على ذلك وكان أخوه الكبير كثير اللوم له على ما يفعله من مجاهداته وتقشفاته.
ولما مات والده ترك ما يخصه من إرثه لهم، وكان والده كثير المال والخير، وعليق دوابه في كل ليلة أكثر من نصف غرارة من الشعير.
ولما صار عمره ثماني عشرة سنة رأى في منامه الشيخ محمد الحفناوي فقيل له: هذا شيخك، فتعلق قلبه به وقصده بالرحلة حتى قدم مصر واجتمع به وأخذ عنه الطريق الخلوتية، وسلك على يديه بعد أن كان على طريقة القصيري — رضي الله عنه.
وقال له في مبدأ أمره: يا سيدي إني أسلك على يديك ولكن لا أقدر على ترك أوراد الشيخ القصيري فأقرأ أوراده وأسلك طريقتك؟
فأجابه الشيخ إلى ذلك ولم يشدد عليه في ترك أوراد الشيخ القصيري لما عرفه من صدقه مع المذكور، فلازمه مدة طويلة ولقنه أسماء الطريقة السبعة في قطع مقاماتها، وكتب له إجازة عظيمة شهد له فيها بالكمال والترقي في مقامات الرجال، وأذن له بالإرشاد وتربية المريدين.
فكان الشيخ في آخر أمره إذا أراد أحد أن يأخذ عنه الطريق يرسله إلى الشيخ محمود، ويقول لغالب جماعته: عليكم بالشيخ محمود فإني لولا أعلم من نفوسكم ما أعلم لأمرتكم كلكم بالأخذ عنه والانقياد إليه.
ولما قدم شيخ شيخه السيد مصطفى البكري لازمه وأخذ عنه كثيرًا من علم الحقايق، وكان كثير الحب فيه، فلما رآه لا يقرأ أوراد الطريقة الخلوتية ويقتصر على أوراد القصيري عاتبه في ذلك، وقال له: أيليق بك أن تسلك على أيدينا وتقرا أوراد غيرنا؟ إما أن تقرأ أورادنا وإما أن تتركنا.
فقال: يا سيدي أنتم جعلكم الله رحمة للعالمين وأنا أخاف من الشيخ القصيري إن تركت أوراده، وشي لازمته في صغري لا أحب أن أتركه في كبري.
فقال له السيد البكري: استخر الله وانظر ماذا ترى لعل الله يشرح صدرك.
قال: فاستخرت الله العظيم ونمت فرأيت النبي ﷺ والقصيري عن يمينه والسيد البكري عن يساره وأنا تجاههم، فقال القصيري للرسول ﷺ: يا رسول الله أليست طريقتي على طريقتك؟ أليست أورادي مقتبسة من أنوارك؟ فلِم يأمر السيد البكري هذا بترك أورادي؟ فقال السيد البكري: يا رسول الله رجل سلك على أيدينا وتولينا تربيته أيحسن منه أن يقرأ أوراد غيرنا ويهجر أورادنا؟ فقال الرسول — عليه السلام — لهما: أعمِلا فيه القرعة، واستيقظ الشيخ من منامه فأخبر السيد البكري، فقال له السيد: معنى القرعة انشراح صدرك انظره واعمل به، قال الشيخ — رضي الله عنه: ثم بعد ليلة أو أكثر رأيت سيدي أبا بكر الصديق — رضي الله عنه — في المنام، وهو يقول لي: يا محمود خليك مع ولدي السيد مصطفى، ورأى ورد السحر الذي ألفه المذكور مكتوبًا بين السماء والأرض بالنور المجسم كل حرف منه مثل الجبل، فشرح الله بعد ذلك صدره ولازم أوراد السيد البكري وأخذ من أوراد القصيري ما استطاع.
وأخبر — رضي الله عنه — أنه رأى حضرة الرسول ﷺ في بعض المرائي وكان جمع الفقرا في ليلة مباركة وذكر الله تعالى بهم إلى الفجر، وكان معه شي قليل من الدنيا فورد على قلبه وارد زهد ففرق ما كان معه على المذكورين، وفي أثناء ذلك صرخ من بين الجماعة صارخ يقول: الله بحال قوي، فلما فرغوا قال للشيخ: يا سيدي سمعت هاتفًا يقول: يا شيخ محمود ليلتك قبلت عند الله تعالى، قال: ثم إني بعد ما صليت الفجر نمت فرأيت رسول الله ﷺ قال لي: يا شيخ محمود ليلتك قبلت عند الله تعالى وهات يدك حتى أجازيك، فأخذ ﷺ بيد الشيخ والسيد البكري حاضر بالمجلس فأخذ يده ووضع يده الشريفة بين يديهما، وقال أريد أن أخاوي بينك وبين السيد البكري، وأتخاوى معكما، الناجي منا يأخذ بيد أخيه، فاستيقظ فرحًا بذلك، فلم يلبث إلا يسيرًا ورسول السيد البكري يطلبه فتوضأ وذهب إلى زيارته، وكان من عادته أنه يزوره كل يوم ولا يدخل عليه إلا على طهارة، فلما رآه قال له: ما أبطاك اليوم عن زيارتنا؟
فقال له: يا سيدي سهرنا البارحة الليل كله فنمت وتأخرت عنكم.
فقال له السيد: هل من بشارة أو إشارة؟
فقلت: يا سيدي البشارة عندكم.
فقال: قل ما رأيت.
قال: فتعجبت من ذلك، وقلت: يا سيدي رأيت كذا وكذا.
فقال: يا ملا محمود منامك حق وهذه مبشرة لنا ولك، فإنه ﷺ ناج قطعًا ونحن ببركته ناجون، ومناقبه — رضي الله عنه — كثيرة لا تحصر.
وكان كثير المرأى لرسول الله ﷺ، قل ما تمر به ليلة إلا ويراه فيها، وكثيرًا ما يرى رب العزة في المنام، ورآه مرة يقول له: يا محمود إني أحبك وأحب من يحبك، فكان — رضي الله عنه — يقول: من أحبني دخل الجنة، وقد أُذن لي أن أتكلم بذلك.
وأما مجاهداته فالديمة المدرار كما قالت عائشة — رضي الله عنها — في جنابه ﷺ: «كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع عمل رسول الله ﷺ».
وبلغ من مجاهداته — رضي الله عنه — أنه لما ضعف عن القيام في الصلاة لعدم تماسكه بنفسه صنع له خشبة قايمة يستند عليها ولم يدع صلاة النفل قايمًا فضلًا عن الفرض، ولم يدع صلاة الليل والوظايف التي عليه مرتبة في حال من الأحوال، وكان لا ينام من الليل إلا قليلًا، وكان ربما يمضي عليه الليل وهو يبكي، وربما تمر عليه الليلة كلها وهو يردد آية من كتاب الله تعالى.
وكثيرًا ما كان يقتصر على الخبز والزيت، ويُوكل في بيته خواص الأطعمة، وكان غالب أكله الرز بالزيت وتارة بالسمن البقري، وقل ما تراه في خلوته أو مع أصحابه إلا وهو مشغول في وظايف أوراد.
وقال لي مرة: ربما أكون مع أولادي ألاعبهم وأضاحكهم وقلبي في العالم العلوي في السماء الدنيا أو الثانية أو الثالثة أو العرش، وكثيرًا ما كان تفيض على قلبه معرفة الحق — سبحانه وتعالى — فيجعل يبكي ولا يشعر به جليسه.
وقلت يومًا للعارف بالله تعالى خليفته سيدي محمد بدير القدسي من كرامات الأستاذ أنه لا يسمع شيًّا من العلم إلا حفظه ولا يزول من ذهنه ولو بعد حين، فقال لي — رضي الله عنه: بل الذي يعد من كرامات الشيخ أنه لا يسمع شيئًا من العلم النافع إلا ويعمل به في نفسه ويداوم عليه، فقلت: صدقت هذا والله حاله.
وكنت مرة أسمعته رياض الرياحين لليافعي فلما أكملته قال لي بمحضر من أصحابه: هل يوجد الآن مثل هؤلاء الرجال المذكورين في هذا الكتاب تكون لهم الكرامات؟ فقال له بعض الحاضرين: الخير موجود يا سيدي في أمة الرسول — عليه الصلاة والسلام — فقال الشيخ: قد وقع لي في الطريق أبلغ من ذلك، وأحكي لكم عما وقع لي في ليلتي هذه، كنت قاعدًا أقرا في أورادي فعطشت وكان الزمن صيفًا والوقت حارًّا وأم الأولاد نايمة فكرهت أن أوقظها شفقة عليها فما استتم هذا الخاطر حتى رأيت الهوا قد تجسم لي ما، حتى صرت كأني في غدير من الما، وما زال يعلو حتى وصل إلى فمي، فشربت ما لم أشرب مثله، ثم إنه هبط حتى لم يبق قطرة ما ولم يبتل مني شي، وبردت ليلة في ليالي الشتا بردًا شديدًا، وأنا قاعدًا أقرا في وردي وقد سقط عني حرامي الذي أتغطى به — وكان إذا سقط عنه غطاه لا يستطيع أن يرفعه بيده لضعف يده — قال: فأردت أن أوقظ أم الأولاد فأخذتني الشفقة عليها، فما تم هذا الخاطر حتى رأيت كانونًا عظيمًا ملآنًا من الجمر وضع بين يدي، وبقي عندي حتى دفي بدني وغلب وهجُ النار عليَّ، فقلت في سري: هذه النار حسية أم هي خيال؟ فقربت أصبعي منها فلذعتني، فعلمت أنها كرامة من الله تعالى ثم رفعت.
والحاصل أن مناقبه — رضي الله عنه — لا تكاد تنحصر، وكان لكلامه وقع في النفوس عظيم إذا تكلم كأنما كلماته خرزات نظمن في جيد حسناء، لا ينطق إلا بحكمة أو موعظة أو مسايل دينية أو حكاية تتضمن جوابًا عن سؤال يسأله بعض الحاضرين بقلبه، ولا تكاد تسمع في مجلسه ذكر أحد بسو، وكان كثير الشفقة والرحمة على خلق الله لا سيما أرباب الذنوب والمعاصي، كثير التواضع كثير الإحسان للفقرا والمساكين لا يمسك من الدنيا شيًّا، جميع ما يأتيه ينفقه في طاعة الله.
ما أمسك بيده درهمًا ولا دينارًا قط آخذًا بالورع في جميع أموره، ليس له هم إلا أمور الآخرة لا يهتم لشأن الدنيا أقبلت أو أدبرت، كفاه الله مئونة الدنيا، عنده خادم يقبض ما يأتي له من الدنيا، ويصرف عليه فلا يزيد ذلك على حاجته ولا ينقص شيًّا.
قال السيد شارح الرسالة: خدمته نحو عشر سنوات ما رأيته ارتكب صغيرة قط، وللأستاذ — رضي الله عنه — رسالة سماها السلوك لأبناء الملوك، وهي صورة مكتوب من إملاه أرسله إلى رجل من أعيان المغرب يقال له ابن الظريف وكان الشيخ — رضي الله عنه — أرسل له جوابًا عن مكاتبة أرسلها فأرسل مراسلة أخرى والتمس الجواب ويكون متضمنًا بعض النصايح، فأملى تلك المراسلة فبلغت نحو ست كراريس، وصارت كتابًا عظيم النفع سارت به الركبان وانتفع به القاصي والدانِ، وكتب عليه كثير من العلما منهم مولانا السيد عبد القادر شارح الرسالة تقريظًا، وهي هذه القصيدة الفريدة:
وكتب عليها العلامة الشيخ مصطفى الصاوي قوله:
وكانت وفاة الأستاذ — رضي الله عنه — ثالث المحرم من هذه السنة، وتولى غسله الشيخ سليمان الجمل وصلي عليه بالأزهر، ودفن بالصحرا بجوار شيخه السيد مصطفى البكرى — رضي الله عنهما.
ومات الأديب الماهر واللبيب الشاعر الشيخ علي بن عنتر الرشيدي، كان متضلعًا فصيحًا مفوهًا له موشحات ومقاطيع كثيرة، ونظم البحور الستة عشر كلها بالاقتباس منها قوله في الطويل:
وقال في المديد ومنه الاكتفاء:
وقال في الكامل:
وقال في الرجز:
وقال في الوافر:
وقال في البسيط:
وقال في الرمل:
وقال في الخفيف:
إلى آخر البحور ومن شعره تشطير البيتين من بين المصراعين:
ومن نظمه هذا التشطير:
وله ديوان شعر مشهور، ولم يزل حتى مات بالثغر في ربيع الأول من السنة.
ومات الشيخ الصالح الدين بقية السلف ونتيجة الخلف الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد المنعم بن أبي السرور البكري الشافعي شيخ سجادة البكرية بمصر، كان صاحب همة ومروة وديانة وعفاف ومحبة وإنصاف، وتولى بعد موت أبيه فسار سيرًا وسطًا مع صفاء الباطن، وكان الغالب عليه الجذب والصلاح والسلوك على طريق أهل الفلاح مع أوراد وأذكار يشتغل بها، توفي يوم السبت ثاني عشر ربيع الثاني من السنة وصلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد حافل، ودفن عند أسلافه قرب مقام الإمام الشافعي رضي الله عنه.
ومات الإمام الفصيح المعتقد الشهير الذكر الشيخ إبراهيم بن محمد بن عبد السلام الريس الزمزمي المكي الشافعي موقت حرم الله الأمين، ولد بمكة سنة عشر وماية وألف، وسمع من ابن عقيلة وعمر بن أحمد بن عقيل والشيخ سالم البصري والشيخ عطا الله المصري وابن الطيب، وحضر على الشيخ أحمد الأشبولي الجامع الصغير وغيره، وأخذ عن السيد عبد الله ميرغني ومن الواردين من أطراف البلاد، كالشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ عمر الدعوجي والشيخ أحمد الجوهري، وأجازه شيخنا السيد عبد الرحمن العيدروس بالذكر على طريقة السادة النقشبندية، وألف باسمه رسالة سماها البيان والتعليم لمتبع ملة إبراهيم، ذكر فيها سنده وأجازه السيد مصطفى البكري في الخلوتية، وجعله خليفته في فتح مجالس الذكر وفي ورد السحر، ولازم المرحوم الوالد حسن الجبرتي سنة مجاورته بمكة، وهي سنة خمس وخمسين ملازمة كلية وأخذ عنه علم الفلك والأوفاق والاستخراجات والرسم وغير ذلك ومهر في ذلك، واقتنى كتبًا نفيسة في ساير العلوم بددها أولاده من بعده وباعوها بأبخس الأثمان.
وكان عنده من جملة كتبه زيج الراصد الجديد السمرقندي نسخة شريفة بخط العجم في غاية الجودة والصحة والإتقان، وعليها تقييدات وتحريرات وفوايد شريفة لا يسمح الدهر بمثل تلك النسخة، وكنت كثيرًا ما أسمع من المرحوم الوالد ذكرها ومدحها، ويقول: ليس في الدنيا إلا نسختي ونسخة الشيخ إبراهيم الزمزمي ونسخة حسن أفندي قطة مسكين، ولا يعتمد على غيرهم في الصحة؛ لأنهم كتبوا وصححوا في عهد الراصد، ونسخة الوالد مكتوب عليها بخط رسم شاه ما نصه: قد اشترينا هذا الكتاب في دار سلطنة هراة باثني عشر ألف دينار، وتحت ذلك اسمه وختمه.
فلما كان في سنة ست وتسعين ورد علينا بعض الحجاج الجزايرية، وسألني عن كتب يشتريها من جملتها الزيج المذكور، وأرغبني في زيادة الثمن فلم تسمح نفسي بشي من ذلك، ثم سافر إلى الحج ورجع وأتاني ومع خادمه رزمة كبيرة فوضعها بين أيدينا وفتحها، وأخرج منها نسخة الزيج المذكورة وفرجني عليها.
وقال: أيهما أحسن نسختك التي ضننت بها أو هذه؟
وكنت لم أرها قبل ذلك، فرأيتها شقيقتها وتزيد عنها في الحسن صغر حجمها وكثرة التقييدات بهامشها وطيارات كثيرة بداخلها في المسايل المعضلة مثل التسييرات والانتهاءات والثمودرات وغير ذلك، وجميعها بحسن الخط والوضع فرأيتها المخدرة التي كشف عنها القناع، وإنما هي المعشوقة بالسماع، فقلت له: كيف وصلت إلى هذه اليتيمة؟ وما مقدار ما دفعته فيها من المهر والقيمة؟
فأخبرني أنه اشتراها من ابن الشيخ بعشرين ريالًا وكتاب المجسطي وكتاب التبصرة وشرح التذكرة ونسخة البارع في غاية الجودة وزيج ابن الشاطر وغير ذلك من الكتب التي لا توجد في خزاين الملوك، وكلها بمثل ذلك الثمن البخس، فقضيت أسفًا وأخذ الجميع مع ما أخذ وذهب إلى بلاده، وهكذا حال الدنيا.
ولم يزل المترجم على حالة حميدة، واشتهر أمره في الآفاق وعرف بالصلاح والفضل وأتته الهدايا والمراسلات من جميع الأطراف والجهات حتى لحق بربه — عز وجل — في سابع عشر ربيع الأول من السنة.
ومات الشيخ الفاضل الصالح أحمد بن محمد الباقاني الشافعي النابلسي، سمع الأولية من محمد بن محمد الخليلي ورافق الشيخ السفاريني في بعض شيوخه من أهل البلد، وأجازه السيد مصطفى البكري في الورد والطريقة، ورد مصر أيام تولية المرحوم مصطفى باشا طوقان وكان له مذاكرة حسنة وورع وصلاح وعبادة وانتفع به الطلبة في بلاده، ثم عاد إلى بلاده فتوفي في ثالث جمادى الثانية.
ومات الأجل المفوه الشريف الفاضل السيد حسين بن شرف الدين بن زين العابدين بن علا الدين بن شرف الدين بن موسى بن يعقوب بن شرف الدين بن يوسف بن شرف الدين بن عبد الله بن أحمد أبي ثور بن عبد الله بن محمد بن عبد الجبار الثوري المقدسي الحنفي، جده الأعلى أحمد بن عبد الله دخل حين فتح بيت المقدس راكبًا على ثور فعرف بأبي ثور، وأقطعه الملك العزيز عثمان بن يوسف بن أيوب دير ماريقوص وبه دفن، وذلك في سنة خمسماية وأربعة وتسعين، وجده الأدنى زين العابدين وأمه الشريفة راضية بنت السيد محب الدين محمد بن كريم الدين عبد الكريم بن داوود بن سليمان بن محمد بن داوود بن عبد الحافظ بن أبي الوفا محمد بن يوسف بن بدران بن يعقوب بن مطر بن السيد زكي الدين سالم الحسيني الوفائي البدري المقدسي، ومن هنا جاء لحفيدة المترجم الشرف، وهي أخت الجد الرابع للسيد علي المقدسي، ويعرف المترجم أيضا بالعسيلي وكأنه من طرف الأمهات، ولد ببيت المقدس وبها نشأ وقرأ شيًّا من المبادي، ثم ارتحل إلى دمشق فحضر دروس الشيخ إسماعيل العجلولي ولازمه وأجازه بمروياته، وجود الخط على مستعد زاده فمهر فيه وكتب بخطه أشيا، ودخل مصر ونزل في رواق الشوام بالأزهر، وأقبل على تحصيل العلم والمعارف فحضر دروس مشايخ الوقت كالشبراوي والحفني والجوهري، ولازم السيد البليدي واستكتب حاشية على البيضاوي، وسافر إلى الحرمين وجاور بهما، وأخذ عن الشيخ محمد حياة والشيخ ابن الطيب ثم قدم مصر وتوجه منها لدار ملك الروم، وأدرك بها بعض ما يروم، وعاشر الأكابر وعرف اللسان التركي، وصار منظورًا إليه عند الأعيان، ثم قدم مصر مع بعض أمرا الدولة في أثناء سنة اثنتين وسبعين وماية وألف، وانضوى إلى الشيخ السيد محمد أبي هادي بن وفا وكان صغير السن فألفه وأحبه وأدبه وصار يذاكره بالعلم واتحد معه حتى صار مشارًا إليه في الأمور معولًا عليه في المهمات.
ولما تولى نقابة السادة الأشراف مضافة إلى خلافة الوفائية كان هو كالكتخدا له في أحواله معتمدًا عليه في أفعاله وأقواله، وداوم على ذلك برهة من الزمان وهو نافذ الكلمة مسموع المقال حسن الحركات والأحوال، إلى أن توفي الشيخ المشار إليه فضاقت مصر عليه فتوجه إلى دار السلطنة وقطنها واتخذها دارًا وسكنها، وأقبل على الإفادة ونشر العلوم بالإعادة.
وبلغني أنه كتب في تلك الأيام شرحًا على بعض متون الفقه في مذهب الإمام، وصار مرجع الخواص والعوام مقبولًا بالشفاعة عند أرباب الدولة حتى وافاه الحمام في هذه السنة — رحمه الله — وكان أودع جملة من كتبه بمصر، فأرسل بوقفها برواق الشوام فوضعوها في خزانة لنفع الطلبة.
ومات الفقيه العلامة الصالح المعمر الشيخ عبد الله بن خزام أبو الطوع الفيومي المالكي، أخذ ببلده عن الشيخ سلامة الفيومي، وغيره، وقدم الجامع الأزهر فأخذ عن فضلا عصره، وهو أحد من يشار إليه في بلده بالفضل، وتولى الإفتا فسار بغاية التحري، وبلغني من تواضعه أنه كان يأتي إليه أحد العوام فيقول له: حاجتي في بلد كذا فقم معي حتى نقضيها. فيطيعه ويذهب معه الميلين والثلاثة، ويقضيها وقد تكرر ذلك منه، وكان له في كل يوم صدقات الخبز على الفقرا والمساكين يفرقها عليهم بيده ولا يشمئز، وكانت له معرفة تامة في علم المذهب وغيره من الفنون الغريبة كالفلك والهيئة والميقات وعنده آلات لذلك، وكان إنسانًا حسنًا جامعًا لأدوات الفضايل.
توفي يوم الجمعة حادي عشر ربيع الثاني من السنة، ولم يخلف بعده مثله.
ومات الفاضل الصالح الشيخ علي بن محمد الحباك الشافعي الشاذلي، تفقه على الشيخ عيسى البراوي وبه تخرج، وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ محمد كشك وإليه انتسب، ولما توفي جعل شيخًا على المريدين وسار فيهم سيرًا مليحًا، وكان يصلي إمامًا بزاوية بقلعة الجبل، وكان شيخًا حسن العشرة لطيف المجاورة طارحًا للنكات متواضعًا، وقد صار له مريدون وأتباع خاصة غير أتباع شيخه، توفي في يوم الاثنين ثالث عشرين شعبان من السنة.
ومات من الأمرا الأمير إبراهيم بك أوده باشه خنقه مراد بك، عفا الله عنه والمسلمين.