سنة ست وتسعين وماية وألف (١٧٨١م)
فيها في صفر نزل مراد بك وسرح بالأقاليم البحرية وطاف البلاد بالشرقية، وطلب منهم أموالًا وفرد عليهم مقادير من المال عظيمة وكلفا، وحق طرق معينين وغير ذلك ما لا يوصف، ثم نزل إلى الغربية وفعل بها كذلك ثم إلى المنوفية.
وفي منتصف شعبان ورد أغا بطلب محمد باشا ملك إلى الباب ليتولى الصدارة فنزل من القلعة إلى قصر العيني وأقام بقية شهر شعبان ونزل في غرة رمضان وسافر إلى سكندرية، فكانت مدة ولايته ثلاثة عشر شهرًا ونصفًا، وهاداه الأمرا ولم يحاسبوه على شي، ونزل في غاية الإعزاز والإكرام.
وكان من أفاضل العلما متضلعًا من ساير الفنون، ويحب المذاكرة والمباحثة والمسامرة وأخبار التواريخ وحكايات الصالحين وكلام القوم، وكان طاعنا في السن منور الشيبة متواضعًا، وحضر الباشا الجديد في أواسط رمضان ونزل إليه الملاقاة وحضر إلى مصر في عاشر شوال وطلعوه قصر العيني فبات به، وركب بالموكب في صبحها ومر من جهة الصليبية وطلع إلى القلعة وذلك على خلاف العادة.
وفيه جاءت الأخبار على أيدي السفار الواصلين من إسلامبول بأنه وقع بها حريق عظيم لم يسمع بمثله واحترق منها نحو الثلاثة أرباع، واحترق خلق كثير في ضمن الحريق وكان أمرًا مهولًا، وبعد ذلك حصل بها فتنة أيضًا ونفوا الوزير عزت محمد باشا، وبعض رجال الدولة.
وفي ليلة السبت ثامن عشر القعدة هرب سليم بك وإبراهيم بك قشطة، وتبعهم جماعة كثيرة نحو الثمانين وخرجوا ليلًا على الهجن وجرايد الخيل وذهبوا إلى الصعيد وأصبح الخبر شايعًا بذلك، فارتبك إبراهيم بك ومراد بك ونادى الأغا والوالي بترك الناس المشي من بعد العشا.
ذكر من مات في هذه السنة
وأما من توفي في هذه السنة من الأعيان:
توفي الأستاذ الوجيه العظيم السيد محمد أفندي البكري الصديقي نقيب السادة الأشراف بالديار المصرية، كان وجيهًا مبجلًا محشتمًا، سار في نقابة الأشراف سيرًا حسنًا مع الإمارة وسلوك الإنصاف وعدم الاعتساف، ولما توفي ابن عمه الشيخ أحمد شيخ السجاد البكرية تولاها بعده بإجماع الخاص والعام مضافة لنقابة الأشراف، فحاز المنصبين وكمل له الشرفان، ولم يقم في ذلك إلا نحو سنة ونصف.
وتوفي يوم السبت عاشر شعبان فحضر مراد بك إلى منزله، وخلع على ولده السيد محمد أفندي ما كان على والده من مشيخة السجاد البكرية ونقابة الأشراف وجهز وكفن وخرجوا بجنازته من بيتهم بالأزبكية، وصلوا عليه بالجامع الأزهر في مشهد حافل ودفن بمشهد أجداده بالقرافة.
ومات الشريف العفيف الوفي الصديق محمد بن زين باحسن جمل الليل الحسيني باعلوي التريمي الأصل نزيل الحرمين، سكن بهما مدة واتصل بخدمة الشيخ القطب السيد الشيخ باعبود فلوحظ بأنظاره، وكان يحترمه ويعترف بمقامه. ويحكي عن بعض مكاشفاته ووارداته وصحب كلًّا من القطب السيد عبد الله مدهر، وعارفة وقتها الشريفة فاطمة العلوية والشيخ محمد بن عبد الكريم السمان، والشيخ عبد الله ميرغني وجماعة كثيرين من السادة والواردين على الحرمين من الأفاضل، وله محاورة لطيفة ولديه محفوظة، ومعرفة بدقايق علم الطب وسليقة في التصوف، ورد إلى مصر سنة إحدى وثمانين وماية وألف وهو عايد من الروم واجتمع بأفاضلها وعاشر شيخنا السيد محمد مرتضى وأفاده وأرشده إلى أمور مهمة، وسافر صحبته لزيارة الشهدا بدمياط، ولاقاه أهلها بالاحترام.
ثم توجه إلى الحرمين الشريفين، وأقام هناك واجتمع به الشيخ محمد الجوهري وآخاه في الصحبة، وكان مع ما أعطي من الفضايل يتجر بالبضايع الهندية، ويتعلل بما يتحصل منها وبآخره سافر إلى الديار الهندية وبها توفي في هذه السنة.
ومات العمدة الفاضل واللوذعي الكامل الرحلة الداركة بقية السلف الورع الصالح الزاهد الشيخ موسى بن داود الشيخوني الحنفي إمام جامع شيخون وخطيبه وخازن كتبه، وكان إنسانًا حسنًا عظيم النفس منور الشيبة ضخم البدن فقيهًا مستحضرًا للمناسبات مهذب النفس لين الجانب تقيًّا معتقدًا، ولما وقف الأمير أحمد باشجاويش كتبه التي جمعها وضعها بخزانة كتب الوقف تحت يد المترجم لاعتقاده فيه الديانة والصيانة، رحمهما الله تعالى.