غريب في سوهو
جلس المفتِّش مكارثي وانتظر في أحد مقاهي منطقة سوهو؛ ذلك المقهى الصغير المريح بنحوٍ يفوق الوصف، الذي تمتلكه وتُديره تلك السيدة الإيطالية الوقورة، سنيورا لوتشيا سبادوجليا.
وكانت قد أعلنت دقات ساعة الحائط المعلَّقة بالقرب منه لتوِّها عن الحادية عشرة من ليلة ربما قد أدَّت مثيلتها إلى بيت الشعر الخالد لهينلي «حالكة السواد مثل الحُفرة من أقصاها إلى أقصاها»؛ لأنها من وجهة نظر المُفتِّش التي يعتدُّ بها، وكذلك بضعة ملايين من البشر الذين يتلمَّسون طريقهم في هذه اللحظة داخل العاصمة وضواحيها، هي حالكة السواد بشدَّة.
فخارج الجدران المُبهجة لواحة السنيورا هذه، كان الظلام كاسحًا، وعلى الرغم من قدوم وميض ضوء خافِت عبر السماء والذي قد يُفيد بعض الشيء في الشوارع الرئيسية الأوسع، فإنه لم يكن موجودًا في الشوارع الضيقة لمنطقة سوهو المُظلِمة الرثَّة. ففي تلك المنطقة المتنوِّعة الجنسيات بالفعل، كان الليل، مِثلما قال القسُّ الطيب أوهارا على نحوٍ مُعبِّر بحق، وهو يتجوَّل مُتأنِّيًا في زياراته الليلية للمَرضى والمتألِّمين، «حالك السواد مثل شياطين الجحيم!»
كان قد نال المفتِّش مكارثي ما اعتبره حصته العادلة من الظلام هذه الليلة. فهو خلال الساعات الثلاث الماضية، وبمُساعدةٍ غير مُجدية من مصباحٍ يدوي خافت، كان قد زار تلك المقاهي الرخيصة، وعلى وجه التحديد محلات الأطعمة الأجنبية الجاهزة، الموجودة في تشارينج كروس رود والشوارع الرئيسية المجاورة، والتي اعتاد اللاجئون النمساويون والألمان ارتيادها. وهم أناس مُسالِمون عانَوا من ظروفٍ بائسة تتخطَّى حدَّ التصديق إلى حدٍّ كبير، كما أنهم كانوا يشعرون بالامتنان الشديد تجاه البلد الذي قدم لهم الملاذ في وقت الشدة. وكان لا يزال مكارثي ذو القلب الرقيق يشعر تجاههم بالشفقة، على الرغم من التحسُّن الواضح في أحوالهم منذ وصولهم إلى هنا.
لكن — وهي «لكن» ضخمة للغاية — كان هناك آخرون؛ تلك الخراف السوداء الصغيرة القبيحة التي تتسلَّل وسط كل قطيع، والتي، في واقع الأمر، تعمل فقط من أجل أغراضِها الخفية الخاصة. إنهم الرجال، ومما يؤسَف لقوله، النساء، الذين يُمكنهم التسبُّب في ضررٍ شديد إن لم يجرِ كشف أنشطتهم بسرعة. ولهذا السبب لاحظ عددًا من عملاء «الفرع الخاص»، الخبراء في اللغات، يختلطون على نحوٍ خفي بزبائن تلك الأماكن.
كان قد تلمَّس طريقه ببهجةٍ شديدة، تُشبه بهجة شخصٍ مُسلم مُخلِص وهو ينظر لأول مرة لجدران مكة، وهو يمرُّ عبر الباب الخافت الإضاءة لمقهى السنيورا سبادوجليا وانبهر بإضاءته الجيدة ودفئه ومُستوى الراحة فيه بوجهٍ عام.
وقد كانت السنيورا، كما كُتب في أماكن أخرى، مشمولة بحماية المفتِّش مكارثي. قبل أن يُستخدَم المكان كمَقهى، كان عبارة عن صالة لألعاب البينبول، والتي كانت المكان الذي تَلتقي فيه أعتى العصابات في سوهو. وقد أدارها في ذلك الوقت مجموعة من اليهود — الذين جمعوا بين عملهم في بيرويك ستريت القريب، وإدارة سباقات الخيول — وعلاوةً على ذلك، ووَفق ما أثبته المُفتِّش المُحقِّق مكارثي فيما بعد، نشاط فرعي في أعمال مَخفية على نحوٍ رائع ومجزية للغاية متعلِّقة ﺑ «التجارة في المسروقات».
وبعد أن ألقى المُفتِّش القبض على هؤلاء وقادهم بنجاح، في البداية للمثول أمام محكمة الشرطة في مارلبورا ستريت، ثم محكمة الجنايات المركزية «أولد بيلي» التي حكمت عليهم بالسجن لفترةٍ طويلة، أُغلق المكان وظلَّ لفترة طويلة موطنًا للعناكب كي تنسج فيه شباكها. وقد بدا ذلك أمرًا مؤسفًا، نظرًا لموقع المكان على ناصية شارعَين مُزدحمَين والذي يُعد بلا شك مناسبًا بشدة للنشاط التجاري.
وبعد أن ظلَّ على هذه الحال لعدة شهور، طرأت فكرة عظيمة للسنيورا سبادوجليا، التي نالت أطباقها الإيطالية المسائية من الإسباجيتي، والمكرونة، ومأكولات أخرى مصنوعة من الحبوب، شهرة واسعة من سوهو إلى كليركنويل، والتي أطلعت عليها المُفتش مكارثي المولود بالأساس في سوهو.
لقد أخبرته أنها امرأة مُقتصِدة، احتياجاتها الشخصية قليلة. وقالت له إنها تُفكِّر في تغيير ديكورات صالة البينبول هذه وفق طراز سوهو، وافتتاحها كمَقهًى من أجل التجَّار المُحترمين في هذا الحي، حيث تقدم أفضل الأطباق، وأجود الخمور، بأسعارٍ تُناسِب ميزانيات جيرانها.
رحَّب مكارثي بالفكرة بكل حماس، وقابل مالك المكان بالنيابة عن السنيورا، وخفض قيمة الإيجار بمقدار النصف تقريبًا، بعد توضيحٍ مطوَّل بعض الشيء للرجل كيف أنه سيُصبح أمرًا رائعًا بالنسبة له أن يُدرك أنه يمتلك مكانًا واحدًا على الأقل ستُصنِّفه الشرطة بكل تأكيد على أنه شديد الاحترام. وهو ما كان يختلف للغاية عن أملاكه الأخرى في هذه المنطقة، والتي صنَّفتها السلطات تصنيفًا مختلفًا تمامًا، ويُمكن أن تتعرَّض بسهولة وفي أيِّ لحظة للمُداهَمة من الشرطة دون سابق إنذار.
كان لمُحاجَّة المفتِّش مفعول السحر. وفي خلال أقل من شهر بعد تلك المحادثة، اختفى أي أثر لصالة البينبول السيئة السُّمعة وفتح «مقهى ميلانو» (شركة لوتشيا سبادوجليا المحدودة) أبوابه بترحاب للزبائن.
لكن كان هناك أمر واحد يُعكِّر صفو مقهى السنيورا، على الرغم من أن المفتش المخضرم قد توقعه؛ فقد وجد الزبائنُ السابقون لصالة البينبول في مقهى السنيورا فرصةً رائعةً للحصول على وجبات مجانية دون حدود. لقد اعتبروا أن هذا المقهى بمنزلة هديةٍ لهم من السماء! فصاحبتُه امرأة، ولا يُوجَد حتى حارس واحد على الباب عليهم تخطيه، على الرغم من أنه كان سيَلقى معاملة قاسية جدًّا لو قام بأيِّ محاولة لمنعهم.
وفي ليلة الافتتاح جاء هؤلاء «الأشرار» بكثافة وسرعان ما كانوا سيبدءون في التحرُّك. أما الزبائن المحترمون الذين حضروا لمباركة الأمر، فقد راحوا ينظرون في تشكُّك؛ وانسلَّ بعضهم في هدوء وانصرفوا قبل بدء المشاكل. وقد واجهت السنيورا، على نحوٍ يُلائم امرأة تتَّسِم بالشجاعة وتحمُّل المسئولية، كل هذا بمُنتهى الثبات.
ثم وصلَت فجأةً مجموعة مكوَّنة من ستة عشر فردًا كي يتناوَلُوا العشاء، على رأسهم الزبون رقم واحد للمقهى، المُفتِّش المُحقِّق مكارثي. ولم يكن ضيوفه الذين اصطحبهم معه سوى مجموعة من أفراد شرطة نيو سكوتلاند يارد الذين بدا مظهرُهم صلبًا، وبالِغ القوة. ساد الصمت المُطبق حتى يكاد صوت ارتطام دبوس بالأرض يُسمَع بعد أن جلس المُفتِّش ومجموعته على مقاعدهم أمام طاولتَين حُجزتا لهم بجوار طاولة الحساب التي تَجلِس أمامها السنيورا.
ونظرًا لأن هؤلاء الأشرار في ذلك الوقت كانوا تحت قيادة الرجل المشهور والمُهاب عن استحقاقٍ مو إبرشتاين، فقد دعاه المفتِّش إلى غرفةٍ مُجاوِرة كي يتبادل معه بعض الحديث. ولم يكشف أي من الطرفَين حتى الآن عما دار في ذلك الحديث على وجه الدقة، لكن مظهر زعيم العصابة أوحى بأنه لم يتَّفق في الرأي مع المفتش. لقد تورَّمت عيناه بشدَّة وكانت تظهر فيهما بسرعةٍ كل ألوان الطيف بينما كان يقوده المفتش نحو الباب كي يُغادر، أما بقية ملامحه التي لم تكن في واقع الأمر لطيفة، فكانت غير مُميزة تمامًا.
وقبل حلول منتصف الليل انتشر خبر عبر سوهو مفادُه أن أيَّ فردٍ من أفراد العصابات تصل به الحماقة لأن يكون أمام مقهى ميلانو، ناهيك عن الوجود داخله، يجب أن يستعدَّ للدخول في مشكلة شخصية مع المُفتش المُحقق مكارثي، والتي سيُعاني على إثرها على نحوٍ كبير ومُتزايد. وقد كان ذلك كافيًا للغاية؛ فمنذ تلك الليلة لم يُواجه مشروع السنيورا أبدًا أي مشكلات.
ظلَّ المفتش جالسًا لما يُقارب عشرين دقيقة الآن في انتظار وصول الشخص الذي لديه موعد معه لتناول العشاء، وقد أمضى هذه الفترة في تفحُّص الزبائن، سواء المُنتظمين أو العابرين منهم. وقد كان عدد الزبائن المُنتظمِين أقل من المعتاد، نظرًا، لأنه في تلك الأيام، لم تكن الأعمال مُزدهِرةً في سوهو مثلما كانت في الماضي، كما دفع الميل إلى تعتيم الأضواء أولئك الذين يُقيمون في الضواحي إلى العودة إلى منازلهم في وقتٍ مُبكِّر قدر ما يستطيعون.
وكذلك تأثَّرت التجارة غير المنتظِمة بسبب التعتيم الضروري؛ فالسير عبر شوارع سوهو سواء من أكسفورد ستريت أو شافتسبري أفينو إلى مقهى ميلانو الذي نال قدرًا جيدًا من الدعاية، والذي يقع في منتصف الطريق تقريبًا بينهما، كان أمرًا، في هذه الليالي، يجعل حتى أقوى القلوب يجفل.
كان بالمقهى، مثلما في أغلب الأماكن من هذا النوع، عدد قليل من أولئك اللاجئين، الذين معظمهم من النمساويين، الذين يَشربون القهوة المُغطَّاة بطبقةٍ لا بأس بها من الكريمة المخفوقة والتي يحبُّها أهل فيينا بشدة، كما كان على طاولتَين أو ثلاثٍ مجموعة من التجار الإيطاليين الذين يَشربون نبيذ كيانتي من قوارير مع وجبتهم المتواضِعة، والذين، حسبما تطرَّق إلى سمعه، كانوا يُناقشون بارتياح عميق حيادية الحكومة الإيطالية في الحرب.
وكان هناك أيضًا مجموعات قليلة من الألمان الذين بدا عليهم الحزن، وهم أناس يعرف هو على نحوٍ شخصي أنهم يُقيمون منذ فترة طويلة في هذا البلد، وقد أصبحوا إلى حدٍّ كبير مثل أبناء البلد الأصليين، كما أن تعاطُفَهم مع أهداف ومُعتقَدات ألمانيا النازية منعدمٌ تمامًا.
وبعد ذلك وقعت عيناه على رجل يجلس بمُفرده على إحدى الطاولات، وأمامه مشروبٌ كحولي هو، بالنظر إلى مشهد طاولته، آخر جزء من إحدى أفخم وجبات العشاء التي تُقدمها السنيورا.
لقد بدا مظهره كخليطٍ متفرِّد نوعًا ما من الألوان؛ فهو ذو بشرة زيتونية اللون أكثر منها داكنة، وشعر أسود لامع بدا كما لو أنه مُغطًّى بدهان مُلمع، وأسنان بيضاء على نحوٍ لافت والتي يظهرها بنحو دائم من خلال ابتسامة مُتعالية نوعًا ما. لم تكن أي من هذه الصفات الجسدية غير مُعتادة بأي حال من الأحوال في سوهو. ومهما بلغ مدى تميُّزها، فإن باستطاعة مكارثي أن يجد مئات مثلها خلال جولة مُدَّتها خمس دقائق. إذ لم يكن فيها شيء يجذب الانتباه. لكن عينَي الرجل كانتا أمرًا مختلفًا للغاية. فدرجة لونهما، بلا استثناء، كانت أخفَّ درجة من اللون الأزرق رآها المفتش حسبما يتذكر؛ كانتا تقريبًا بلون أزرق ثلجي، وقد بدتا من خلال الزاوية التي ينظر نحوهما منها أن بهما لمسة مخضرة.
وبينما كان يجلس الرجل، وهو على ما يبدو يُحدِّق في الحائط مُستغرقًا في التفكير، لم يبد على عينَيه أنهما تَحملان أي تعبير على الإطلاق. واسترعى انتباه المفتش أنهما ثابتتان للغاية، مثل عينَي ثعبان يُحدِّق عبر الزجاج بثباتٍ شديد في اتجاه زائر مُهتمٍّ لبيت الزواحف في حديقة الحيوان. وقد خلت عينا الرجل تمامًا من التعبير، لدرجة أن مكارثي تخيَّل للحظة أن الرجل أعمى.
اتسمت ملابس الرجل بالأناقة، على نحوٍ استثنائي خاصة عند المقارنة مع بقية الموجودين، لكن بالنسبة لرجل يتباهى بدرايته بالمسائل الخاصة بخياطة الملابس، فقد بدت ملابسه غير مشابهة لتفصيلات الملابس الإنجليزية بنحوٍ واضح. إذ بدا فيها ذلك الاختلاف المُتعذِّر التحديد ولكن الواضح جدًّا بين فنِّ أفضل الخياطين الإنجليز وذلك الخاص بنُظرائهم في قارة أوروبا.
التفت مكارثي باتجاه الشخص الساكن تمامًا وقال: «والآن تُرى أي الشياطين تكون.» وتابع: «أنت لستَ من مواطني سوهو، ولا تُقيم هنا بنحوٍ مؤقت حتى. أُراهن بعمري على ذلك.»
ثبت خطأ نظرية أن تلك العينَين، الغريبتَين المُحدقتَين الخاليتَين من التعبير تمامًا، غير مُبصرتين عندما استيقظ صاحبهما على نحوٍ مُفاجئ من حلم اليقظة العميق الذي كان مُستغرقًا فيه، ليستدعيَ واحدةً من النادلتَين الصغيرتَين اللتين أضافتهما السنيورا إلى فريق الخدمة بالمقهى. وأخذ منها الفاتورة، ودفعها مع ما بدا أنه، من خلال تعبير الابتهاج الذي ارتسم على وجه الفتاة، بقشيش سخي. ثم نهض وأخذ معطفًا مُعلَّقًا على الحائط بجوار طاولته، من على مِشجبه.
كان رجلًا طويل القامة، قدَّر مكارثي طوله بستِّ أقدام وهو من دون حذاء، وقد اضطر للانحناء بقدرٍ كبير قبل أن تتمكَّن النادلة من وضع المعطف فوق مَنكبَيه العريضين. كما قدر مكارثي على الفور أيضًا أنه رجل ممشوق القوام، مُتناسق الأعضاء، وبالنسبة لعينَيه الغريبتَين، اللتين لا تتحركان، فهما، وفقًا لحُكمه، يقظتان بشدة.
وقد اتضح من خلال الانحناءة التي منحها للفتاة وهو يأخذ منها قُبعته، وكذلك الانحناءة العسكرية لجسده التي حيَّا بها السنيورا بينما يتَّجه نحو الباب، أنه رجل كريم الأصل. وقد كان هناك شيء في مشيته المتأنية، وهو يسير عبر الممرات المفروشة بالبُسُط بين الطاولات، يشي بالتكبر؛ كما لو كان يبتسِم بينه وبين نفسه بازدراء نحو المكان المُتواضِع الذي وجد نفسه فيه، وكذلك الناس البسطاء بنفس القدْر الذين يرتادونه. وتوقف للحظة فقط عند الباب كي يُخرج من جيب معطفه مصباحًا يدويًّا صغيرًا ويفتحه.
وبينما كانت تتحرَّك يده باتجاه مقبض الباب، انفتح الباب على نحوٍ مُفاجئ كي يدخل منه الشخص الذي كان المُفتِّش مكارثي في انتظاره، مفوض الشرطة المساعد، السير ويليام هاينس. ومن ثم تراجع الرجل ذو العينَين الغريبتَين بأدبٍ لخطوة واحدة إلى أن دخل السير ويليام، ثم خرج كي يحتويَه ظلام الليل.