مكارثي يُستبعَد من القضية!
وصل المفتش مكارثي مرةً أخرى إلى المنزل في سوهو سكوير قبل نصف ساعة من وصول أي أحدٍ آخر، عدا الرجال المُكلفون بالحراسة، في الأمام والخلف، هناك. وقد وجد أن رجال الشرطة ذوي الزي الرسمي قد استُبدِل بهم رجال من قسم شرطة فاين ستريت في زيٍّ عادي، والذين اتخذوا مواقع محدَّدة في الميدان يستطيعون منها مُراقبة المنزل دون أن يَلحظهم أحد بأي نحو. وقد جرى تنظيف الباب نفسه بعناية بناءً على تعليماته بعد أن أنهى خبراء رفع البصمات عملهم عليه، لذا لم يَعُد هناك، باستثناء بُقَع الدماء الحمراء العميقة التي تغلغلت داخل درجات السلَّم الحجرية والمنطقة، أي علامات خارجية على الجريمة المُروِّعة التي وقعت أمامه.
اتجه أولًا إلى الخلف، وخطا بحِرص على الأرضية على أمل أن يَعثُر على آثار أقدام، لكنه لم يجد أيًّا منها ووجد فقط شيئًا واحدًا بدا أن له قيمة، وهو أن الرجل الذي مرَّ عبر المنزل — القاتل المزدوَج المُحتمَل — قد ارتدى حذاء ذا نعلٍ خفيف للغاية. وفي رأيه أنه كان حذاء سهرة. ولم ينتج عن البحث الدقيق في الردهة نفسها أي نتائج على الإطلاق. فقد كانت تُغطَّى بمشمَّع اللينوليم، والذي، إذا لُمِّع يوميًّا، ربما يُظهِر آثارًا مفصَّلة أكثر، لكن من الواضح أنه كان يُغسَل يوميًّا، لذا لم يَعُد سطحه يُظهِر الآثار.
تمثَّلت مهمته الأولى في فتح مزلاجَي الباب الأمامي، اللذَين من الواضح أنهما أُغلِقا من قِبَل القاتل عندما دخل إلى المنزل. وإلى أن يتم ذلك، ما كان لأحدٍ أن يتمكَّن من الدخول.
وقد أفاد خبراء البصمات في تقريرهم أنهم بعد فحص الردهة، ودرابزين السلالم، والأبواب الأمامية والخلفية، لم يجدُوا عليها أي بصماتٍ قد تُفيد القضية على أي نحو.
كان على وشك إنهاء فحصِه عندما وضَع أول ساعي بريد مجموعةً من المراسلات عبر صندوق البريد السِّلكي المُثبت خلف فتحة الخطابات في الباب الأمامي. وبعد أن أخرجها، فحَص بعناية أسماء المُرسَل إليهم وقارنَها باللوحة التي تحتوي على قائمةٍ بأسماء مُستأجري المكاتب والتي ثُبِّتت على جدار الردهة.
كان هؤلاء، في الغالب، وكلاء إلى حدٍّ ما لأشكالٍ متنوِّعة من المُستلزمات الصناعية، ووكالة صغيرة للنَّسخ والكتابة على الآلة الكاتبة، وشركة واحدة ليس هناك إشارة لنشاطها على الإطلاق. وتلك الشركة كانت تتبع سيدةً تُسمَّى مدام رونر، ويُشير الاسم بقوة إلى أصول ألمانية، على الرغم من أن كلمة «مدام» تُشير إلى صلة بفرنسا. لكن المراسَلة الوحيدة للسيدة — والتي جاءت في ظرفٍ مفتوح يحمل طابعًا بنصف بنس — تُبين أنها مُرسَلة من شركة لم يَسمع بها مكارثي من قبل، وذُكِر فيها أن البضائع المطلوبة قد أُرسِلت بالفعل ويُفترَض أن تُستلَم بحلول وقت تسلُّم هذه الرسالة. ولم تَرِد أي إشارةٍ لما قد تكون تلك البضائع.
قاطع صوت مفتاح يدور في قفل ييل المثبت في الباب الأمامي فحصَ مكارثي لهذه المُراسَلة المُحدَّدة. وفي اللحظة التالية فُتح الباب ودخل منه شاب، هو، بلا شك، ذلك الذي تحدَّث عنه السيرجنت. وقد كانت دهشتُه عميقة، عندما وجد المُفتِّش يجلس على الدرجة السُّفلية من السلم، وبجواره المُراسَلات الصباحية؛ ولم يُقلِّل منها معرفته بالجريمة التي ارتُكبت في المكان بعد مغادرته في الليلة الماضية.
ولكن على الرغم من أن المُفتِّش استجوبه على نحوٍ متواصِل لمدة نصف ساعة، لم يحصل منه على أي أقوالٍ تُثير أي شبهاتٍ حول أيٍّ من الأفراد، أو الشركات، المُستأجِرين للمكاتب. فقد بدا أنهم أناس يُمارسون أعمالهم على نحوٍ مُستقيم، وواضح، وليس هناك أدنى احتمال أن تكون لهم صلة بالجريمة بأيِّ نحوٍ أو صورة.
وبعد العودة مرة أخرى إلى الباب الخلفي استدعى مكارثي رجل التحقيقات الجنائية المُرتكز لحراسة البوابة الخلفية.
وأمره قائلًا: «حقِّق مع أي شخص يدخل المبنى.» وتابَعَ: «واسأل عن طبيعة أعماله وعلى وجه الخصوص، مع من يُجريها، وما إذا كانت له أي صِلات أجنبية.» ثم التفَت مرة أخرى نحو الشاب الذي ما يزال مُندهشًا.
أجاب الشابُّ بالنفي عندما سأله: «هل لديك مفتاح رئيسي لهذه المكاتب؟» أخبره أن كل مُستأجِر لدَيه مفتاحه الخاص، الذي مُنحَ له عند إتمام إجراءات الإيجار. وأضاف أنه إذا كان هناك ما يُسمَّى بمفتاح رئيسي فهو لا عِلمَ له بشأنه. وأردف أنه إذا كان هناك واحد بالفعل فهو بحَوزة السيد موريس بافينسكي، مالك المكان. وذكر أن السيد موريس يأتي مرة أسبوعيًّا في صباح السبت ليجمع إيجاراته.
سأل مكارثي: «والآن، ماذا عن تلك السيدة، مدام رونر؟» وتابع: «ما طبيعة أعمالها بالتحديد؟»
ذلك أيضًا لم يَستطِع الشاب، الذي كان اسمه هو هيوبرت ويلكنز، أن يُجيب عليه. فأيًّا كان عملها، فهو يستدعي وجودها بعيدًا عن المكتب كثيرًا، وفي بعض الأحيان تُمضِي أيامًا دون أن تأتي إلى مكتبها.
سأل مكارثي: «هل يأتيها كمٌّ كبير من المراسَلات؟»
أتاه الرد أن مُراسَلات السيدة ليست كثيرة، وفي الغالب يبدو أنها تأتي من أوروبا. إذ كانت تأتيها مراسلات من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلاد أخرى بعيدة. وقد كان ويلكنز متأكدًا من هذا الأمر حيث إنه، كهاوٍ مُتحمِّس لجمع الطوابع، دائمًا ما يطلُب أخذ الطوابع من أظرُف الخطابات.
تابع مكارثي: «الآن، دعْني أستوضِح هذا الأمر. إن كل شخص يستأجر مكتبًا في هذا المبنى يحصل على مفتاح للباب الأمامي، أليس كذلك؟»
«بلى يا سيدي، في حال إذا أراد أن يعود ويعمل في مكتبه بعد وقت الإغلاق.»
«ومن ثم يستطيع أي شخصٍ يحمل هذا المفتاح أن يأتي في أي ساعة يُريدها من النهار أو الليل، أليس كذلك؟»
«بلى يا سيدي.»
«هل هناك أي مفاتيح أخرى موجودة بحسب علمك؛ مفاتيح لم يُعِدْها المستأجرون السابقون، على سبيل المثال؟ ممَّن تركوا مكاتبهم خلال الشهور السابقة، ونسوا أو تجاهلوا إعادتها؟»
لم يكن هناك مثل ذلك الأمر. إذ إن هذا، على ما يبدو، أن السيد بافينسكي كان صارمًا بخصوصه. وكان يتوجَّب على ويلكنز أن يَحصُل على المفتاح قبل مغادرة المستأجِر.
أعطى مكارثي تعليماته لرجل التحقيقات الجنائية بالباب الخلفي قائلًا: «افحص كل هذه المفاتيح، أيضًا.»
وكإجابة على سؤالٍ حول أي نوع من النساء كانت مدام رونر، علِم أنها سيدة جميلة للغاية، دائمة التأنُّق ويبدو عليها سمات الغنى. ومقابل كل خدمةٍ صغيرة تُؤدَّى لها فهي دائمًا ما تمنح بقشيشًا سخيًّا؛ وفي الواقع، في رأي ويلكنز، كان من المُبهج رؤيتها تأتي إلى المكان.
ثم سأل مكارثي بعد ذلك عن السيدتَين اللتَين، وَفق ما فهم، تؤديان أعمال التنظيف بعد غلق المكاتب. هل كان مع كل منهما مفتاح؟
بدا أنهما لم يكن معهما أي مفاتيح. إذ كانتا تصِلان قبل موعد إغلاق الباب الأمامي في الليل عند الساعة السادسة، وتُؤديان عملهما ثم تَنصرِفان عبر الباب الخلفي والذي، نظرًا لتثبيت قفل زنبركي به، تُغلِقانه بعد مُغادرتهما. وهما تُنظفان فقط الردهة والسلالم وليست لهما علاقة بتنظيف المكاتب من الداخل ما لم يطلُب منهما المستأجِر ذلك بنفسه. وفي أغلب الأحيان، يجري الأمر دائمًا خلال ساعة الغداء أو أي وقتٍ آخر من النهار يُناسب المُستأجر.
«إذن لو، افترضنا جدلًا، أن مدام رونر سافرت، أو على أي حال لم تحضر إلى المكتب لعدة أيام، مثلما هي مُعتادة حسب أقوالك، فهل من المُمكن لك أو لأي شخصٍ آخر الدخول إلى مكتبها دون اقتحام الباب عنوة؟»
«كلَّا يا سيدي.»
قال مكارثي: «في هذه الحالة، سنَصعد فقط للأعلى إلى مكتبها ونرى إذا كان لا يُمكننا الدخول بدون اقتحام الباب عنوة. ستأتي معي، فقط للتأكُّد من أني لم أعبث بشيء.»
وخارج باب المكتب، الذي علقت عليه لافتة صغيرة تحمل اسم المستأجرة ولا تُشير لنشاطها، أخرج طفاشة من جيبه. وفي لمح البصر، وقبل أن يُدرك السيد ويلكنز كيف حدث الأمر، فتح مكارثي قلب القفل، وأدار المِقبض ودخل المكتب. وأول ما استرعى انتباهه كانت تلك الرائحة التي علقت عند المدخل الخارجي منذ ساعاتٍ مضَت!
صاح ويلكنز في دهشة: «عجبًا، إن … لقد اختفى كل شيء!»
سأل مكارثي: «وماذا تعني بذلك على وجه التحديد؟»
«عجبًا، عندما أحضرتُ الخطابات إلى هنا بعد استلامها في الخامسة مساء الأمس كانت هناك أوراق كثيرة على المنضدة، خطابات وأشياء من هذا القبيل. لقد اختفت كلها!»
أشار مكارثي نحو المدفأة التي لم يكن فيها سوى كومة من رماد أوراق سوداء.
وقال في سخط: «أجل، لقد اختفت، دون شك! اختفت تمامًا ولم يَعُد بإمكاننا استخلاص أي معلومات منها.»
وكشف تفتيش الخزانات في الغرفة، والأدراج في منضَدة المكتب التي كانت «السيدة» تعمل عليها، عن حقيقة أنها خالية. من الواضِح أن السيدة تخلَّصت تمامًا من كل شيءٍ في هذا المكتب، عدا الأثاث والآلة الكاتبة، بين الساعة الخامسة مساءً وحتى هذه اللحظة. بين ذلك الوقت والساعة الواحدة صباحًا، ربما على مكارثي أن يقول، إلا إذا، بالطبع، فعل الأمر أحد بالنيابة عنها.
ومن ثم جلس على رُكبتَيه أمام المدفأة، وقلَّب في الرماد برفق بإصبعه على أمل أن يجد ولو حتى قصاصة واحدة مُتماسكة قد تدلُّ على أي معلومةٍ بخصوص عمل مدام رونر، أو أي شيءٍ آخر متعلق بها. وعلى الرغم من البحث الدقيق فإنه لم يُثمر عن شيء على الإطلاق.
فقال: «إذن لم يتبقَّ أمامنا سوى شيء واحد، يا ويلكنز.» وتابع: «علينا أن نعثر على مدام رونر تلك، ويبدو أنك الوحيد الذي تستطيع مساعدتنا في فعل هذا. أظنُّ أنك شخص قوي الشكيمة — وتذهب إلى السينما وتُشاهد كل أنواع الأفلام المُرعبة والقاسية، أليس كذلك؟»
قال السيد ويلكنز: «من … أنا يا سيدي؟» وفرد قامته النحيلة إلى أن بدت أطول مما كانت بمقدار بوصتَين. وأضاف: «أجل، أنا لا أهاب أي شيء. لقد شاهدتُ فرانكنشتاين ودراكولا و…»
قال مكارثي: «هذا قاسٍ بما يكفي لأن تُواجِه أيَّ شيء»، ومن ثم اصطحبه إلى أسفل، بعد أن أعاد إغلاق الباب بالطفَّاشة التي معه. وأشار لأحد رجال التحقيقات الجنائية من ذوي الزي العادي الذين يُراقبون المنزل من الأمام وأعطاه تعليماتٍ بهدوء. حيث قال بصوت خفيض: «استَقِلَّ أول سيارة أجرة تُقابلها وخُذ هذا الرجل معك إلى المشرحة، لنرى ما إذا كان بإمكانه التعرُّف على الجثة التي وُجِدت في هامبستيد هيث بالأمس على أنها مدام رونر أم لا» ثم أخرج من جيبه مُغلفًا صغيرًا يحتوي على الشَّعر المستعار. وأعطى الرجل تعليمات قائلًا: «تأكَّد من وضع هذا على رأس الجثة قبل أن يُعاينها.» وأضاف: «أبلِغني عبر الهاتف في اللحظة التي يتعرَّف فيها على هوية الجثة، وأحضر لي الشعر المُستعار هنا في أقرب وقتٍ ممكن.»
وبعد ذلك بسبع دقائق بالضبط جاءته مكالمة هاتفية من المشرحة. لقد تعرف ويلكنز على الجثة على أنها تخصُّ المستأجرة الغامضة، مدام رونر.
سأل مكارثي: «كيف تعامل مع الأمر؟»
قال رجل التحقيقات الجنائية: «لقد تعرَّف على الجثة، ثم فقد الوعي مباشرة. إنهم يحاولون إفاقته بإعطائه بعض البراندي.»
ابتسم مكارثي على نحوٍ هادئ. وقال: «مدهشة هي قوة الشكيمة التي تكون لدَيهم عندما يشاهدون الدماء فقط على الشاشة. أحضِر لي الشعر المُستعار بسرعة.»
وعند التاسعة وعشر دقائق، اكتشف المُفتش مكارثي عبر البحث في سجلَّات صانع الشعر المستعار ذي الصلة، أن السيد هاينريش الراحل المأسوف عليه قد صنع ذلك الشعر المستعار قبل نحو أربع سنوات مضت، من أجل شخصٍ يُدعى أوسكار شميت، وهو مُمثل جاء من برلين للتمثيل في موسم للمسرحيات الألمانية القصيرة بمسرح ليتل ثيتر. ولم يعُد هذا المُمثل إلى ألمانيا مع بقية أفراد الفرقة الآخرين، نظرًا لإصابته بالالتهاب الرئوي. ثم تُوفِّي بعد فترة قصيرة جدًا من مرضه ودُفن في منطقة كينزال جرين بعد ثلاثة أسابيع من وصوله هنا. وما حدث لذلك الشعر المستعار بعد وفاة صاحبه لم يعرِف عنه أحد شيئًا.
تمتم مكارثي بينما كان يُغادر المتجر: «وهكذا انتهى الأمر!» ثم أضاف: «لقد وصلنا إلى طريق مسدود فيما يتعلق بزاوية البحث هذه.»
ومن ثم أجرى مكالمة هاتفية مع السير ويليام هاينس في منزله في بلومزبري، حيث ردَّ عليها ذلك الشخص الكفؤ للغاية وهو في حالةٍ واضحة من الانفعال الشديد.
وقال آمِرًا بصرامة، وقبل أن ينطق مكارثي بكلمة: «قابِلْني في سكوتلاند يارد بعد نصف ساعة، يا ماك!»
فأخبرَه مكارثي على نحوٍ مباشر: «كنتُ أودُّ بشدة أن أفعل ذلك، لكن لا يُمكنني!» وتابع: «فكما تعلم أنا أتولى التحقيق في قضية القتل هذه التي وقعت بسوهو سكوير منذ الساعة الواحدة صباحًا، وأنا فقط في انتظار …»
قال المفوض المساعد على نحوٍ استبدادي غير مُعتاد: «لا يهمُّ ما أنت بانتظاره.» وتابع: «يمكن للمُدير أن يتولى ذلك.»
قال مكارثي: «لكنه خارج المدينة منذ الصباح، وقد اتَّخذت هذه القضية منحًى خطيرًا …»
قاطعه المفوض المساعد بحدة: «سوف يُستدعى للعودة.» وتابع: «عليك أن تحضر إلى مكتبي خلال نصف ساعة. اعتبر هذا أمرًا صارمًا. لا يُهمني مدى تطوُّر قضية سوهو. إن المهمة التي بانتظارك أكثر أهمية. احضر إليَّ على الفور.»
وضع مكارثي سماعة الهاتف، وهو يُطلِق بعض السباب بصوتٍ مسموع بعض الشيء، ثم استوقف أول سيارة أجرة وجدَها والتي أقلَّته إلى سكوتلاند يارد.