الدافع
داخل تلك الغرفة المُبهجة التي تطل على منطقة إمبانكمنت والتي يؤدي فيها المفوض المساعد مهام عمله، أخذ ذلك المسئول المُجتهد يخطو ذهابًا وإيابًا بطريقةٍ أوحت لمكارثي بخطوات نمر، حُبِس حديثًا داخل قفص.
قال مكارثي بعصبية لم يَعهدها فيه صديقه أبدًا: «إنه أمر غريب للغاية، يا بيل، كيف بحق الجحيم يمكن أن يحدُث شيء مثل هذا؟ اللعنة، لا تُخبرني أن ذلك الضابط العالي الرتبة الذي عهد إليه بتلك الأشياء قد تركها بالخارج على حافة الرصيف في سيارته المفتوحة ودخل إلى حانته ليتناول شرابًا! هذا هو نوع الأمور الذي تَقرأ عنه في الصحف كل يوم. كان آخِرها على ما أتذكر له علاقة بكتابٍ للشَّفرات البحرية.»
قال السير ويليام بسرعة: «لم يَنطَوِ ذلك على ولو نصف نفس قدْر غباء مثل هذا النوع من التصرفات، يا ماك.» وتابع: «لقد سرقت خُطط الدفاع المضادة للطائرات هذه — ولا تنس أنها تحتوي على كامل النظام الخاص ببريطانيا العُظمى وهي لا تُقدَّر بثمن عند العدو — من داخل مبنى الحكومة في وايتهول، ولسوء الحظ ليس هناك شك في أنها قد سُرِقت مباشرة من هناك. لقد روجعت الخطط بدقة من قبل السير الجنرال ماركوس بيتنجيل، وهو المسئول عن المهمة كلها، ثم أغلق عليها جيدًا في الخزنة الموجودة داخل غرفته في وايتهول، والتي لم يُغادرها سوى لحضور مؤتمر في غرفةٍ مواجِهة لها عبر الرواق. ولم يَغِب سوى أقل من نصف ساعة ثم ظلَّ في غرفته طوال فترة بعد الظهر. وعند حوالي الساعة الخامسة والنصف أراد أن يُراجِع الخطط مرةً أخرى، فأعاد فتح الخزنة، التي بكل تأكيدٍ لم يمسَّها أحد من المسئولين، وتبيَّن له اختفاؤها.
منذ تلك اللحظة حتى الآن، لم يتمكَّنوا من العثور على أي أثرٍ لها. وجرى التحقيق مع جميع من يُحتمَل وجودهم بالقُرب من هذا الجزء من المبنى، لكن دون التوصُّل إلى أي نتيجة. وهذا يعني أنه ما لم نتمكَّن من منع خروجها من بريطانيا، لا بد من تغييرها ووضع خطط أخرى بديلة، والتي من الواضح أنها ليست جيدة وإلا لكان قد جرى اختيارها من البداية، وستضيع أشهر عديدة من العمل التحضيري هباءً.»
قال مكارثي بتمعُّن: «أجل، هذا أمر واضح تمامًا.» وتابع: «اللعنة، يا بيل، إنها عملية تجسُّس جيدة من طرفهم، أليس كذلك؟»
في عقل المُفتِّش أخذ سؤالٌ ما يتبلور؛ ترى هل من الممكن أن تكون هناك أي صِلة بين جريمة قتل تلك السيدة الغامضة «مدام رونر» وتلك الخطط المسروقة؟ إذ إنه كان مُقتنعًا تمامًا بأن الرجل المُتخفِّي قد جاء إلى هنا من أجل التجسُّس. وعلى الرغم من ذلك، فقد احتفظ بأفكاره لنفسه في الوقت الراهن. فهناك الكثير من الوقت الكافي كي يُعلِن عن شكوكه عندما يعلم المزيد من المعلومات عما حدث في وايتهول.
ومن ثم سأل: «هل تُرك باب غرفة الجنرال مفتوحًا أثناء تواجُده في هذا المؤتمر؟»
هزَّ هاينس رأسَه بالنَّفي. وقال لمكارثي: «إنه مزوَّد بقفل تلقائي والذي بالطبع، يعمل من لحظة غلق الباب.» وتابع: «يجب أن يفتح بعد ذلك بمفتاح موجود مع الجنرال نفسه. وهو المفتاح الوحيد للغرفة، باستثناء المفتاح الرئيسي الذي بحوزة موظَّفٍ موثوق منه للغاية والذي يكون موجودًا دائمًا خلال فتح الغرفة من أجل التنظيف.»
سأل مكارثي: «ما هو شكل الخزنة؟»
قال هاينس: «سوف تَراها بنفسك.» وأضاف: «يُمكنني أن أقول لك إنها واحدة من أحدث الخزائن التي مِن نوع تشب.» وأشار نحو خزنة متينة للغاية في ركن غرفته وقال: «إنَّ تلك التي هناك ضعيفة للغاية بالمقارنة بها.»
نهض مكارثي على نحوٍ مُنتبه.
وقال بجدية: «هذا يُثبِت المستوى الاحترافي لتنفيذ العملية، يا بيل.» وتابع: «إنَّ الدخول إلى المكان من الأساس، والتمكُّن من دخول تلك الغرفة، وفتح الخزنة، والحصول على تلك الخطط ثم الخروج مرةً أخرى خلال أقل من نصف ساعة يدلُّ على أمرَين. الأول، لا بدَّ أن مُنفِّذ العملية قد حصل على معلوماتٍ دقيقة وحديثة حول مكان وجود ما يبحث عنه. وبالنسبة للثاني، لا بد أنه أحد رجالهم المُحترفين للغاية والذي باستطاعته التعامُل مع تلك الخزنة بالطريقة التي فعلها؛ لن يتمكَّن جاسوس عادي المُستوى من إتمام مهمَّة من هذا النوع.»
قال هاينس في أسًى: «هذا أمر واضِح للغاية.» وتابع: «ومن هنا تَنبع ضرورة التصرُّف السريع. إذا كان الجاسوس الذي نتكلَّم عنه بارعًا بالقدْر الكافي بحيث حصل عليها خلال ذلك الوقت القصير، فلن يَعجز عن استخدام مصادره وقدراته للتوصُّل لطريقةٍ لإخراجها من البلاد.»
قال مكارثي: «هذا صحيح بالفعل.» وأضاف: «لستُ في حاجةٍ للسؤال عما إذا كان رجال الفرع الخاص قد استنفروا كل طاقتهم من أجل هذه المهمَّة.»
كرر هاينس: «استنفروا!» وأضاف: «يا صديقي العزيز، لم تمضِ سوى فترة قصيرة منذ تركت مديرهم، وقد كلَّف كل رجل متاح منهم بالعمل على هذه المهمَّة بعد مرور ربع ساعة من اكتشاف السرقة. ومن ثم فإن كل ألماني أو ألمانية غير مسجونين بالفعل أو مُشتبه بهم بأدنى قدْر ممكن من الشك، قد جرى جمعهم واستجوابهم، ولكن حتى الآن، لدى كل منهم حُجة غياب قوية للغاية. كلَّا، لم يُهدَر أي وقت، أؤكد لك هذا.» ثم أضاف بنبرة مختلفة: «ويُمكنني أن أُخبرك أن عليك الفخر بأنه، حتى في لحظة اليأس، قد قرَّر القائمون على الفرع الخاص أن يَطلبوا من إدارتنا الاستعانة بخدماتك.»
قال مكارثي مع ابتسامةٍ ساخرة: «هذا أمر لطيف للغاية منهم، لكنَّني أُفضِّل أن … لكن لا تشغل بالك بهذا الأمر. أظنُّ أن الغرفة ذات الصِّلة ما زالت على حالها منذ اكتشاف فقدان الخطط لم تُنظَّف، أو تتعرَّض لأيِّ إجراءاتٍ روتينية حمقاء من هذا النوع!»
«يا إلهي، كلَّا، يا رجل! إنَّ المكان، بعد رفع البصمات عنه، قد أُغلق بإحكامٍ شديد في الحال: لقد وُضع حارس على الباب، وحتى خارج النوافذ. ستجدها على حالها بالضبط.»
قال مكارثي بحماس: «حمدًا لله على ذلك»، وتابع بسخرية: «إنها اللعبة الجيدة القديمة: غلق الإسطبل بعد فرار الحصان. إذا كنتَ مُستعدًّا، فلنذهب إلى هناك على الفور.»
وبينما هما يسيران عبر شارع كانون رو باتجاه وايتهول، سرد مكارثي مُلخصًا سريعًا للمفوض المساعد عن أحداث جريمة سوهو سكوير منذ انطلاق تلك الصرخة، وحتى آخِر التطوُّرات غير العادية للقضية.
واختتم حديثه قائلًا: «قد أكون مخطئًا تمامًا، يا بيل، لكنَّني لا أستطيع التخلُّص من ذلك الحدس الذي طرأ على ذهني منذ اللحظة التي وقعت فيها عيناي مرة ثانية في الميدان على الرجل الذي رأيناه في مقهى سنيورا سبادوجليا. أنا واثق بطريقة أو أخرى أن له صِلة بهذه الجرائم، إن لم يكن هو نفسه القاتل الفِعلي فيها. إن ما حدث لريجان، واكتشاف الجثة يُؤكِّدان فقط ذلك.»
قال السير ويليام مُعلقًا: «إنها قضية غريبة للغاية.» وتابع: «لكن ما يزال ليس هناك دليل فِعلي على صِلته بالاعتداء على ريجان. فمن المؤكَّد أنه لم يكن في السيارة.»
قال مكارثي بجدية: «هذا صحيح، لكني أعتقِد أنه طلب تلك السيارة عبر مكالَمة الهاتف التي أجراها من شارع مارليبون لين. وعندي حدس آخر، يا بيل، وهو أن … لكني سأُؤجِّله لبعض الوقت. على أيِّ حال إلى أن أُلقي نظرةً على هذه الغرفة.»
لم ينطق بكلمة أخرى إلى أن دخلا بوابة المبنى المُقتحَم حيث قادهما موظف رفيع المكانة إلى باب تلك الغرفة التي اقتُحمت على نحوٍ غامض في وقتٍ سابق من فترة بعد الظهر. تنحَّى حارس الغرفة خطوةً إلى الجانب وكان الموظف المسئول على وشك وضع المفتاح في القفل عندما أوقفه مكارثي.
وقال بهدوء: «إذا لم تُمانع، أودُّ أن أكون أول من يَدخل هذه الغرفة. ففي بعض الأحيان يدلُّ مظهر الأشياء مثلما تُركَت على بعض المعلومات.»
وبعد أن فتح الباب دخل إلى الغرفة. وبمجرَّد أن فعل، لمس وجهه نسيم من الهواء الثقيل من داخل الغرفة المُغلَقة. فبدت نظرة غريبة من الرضا على عينَيه، ونطق كلمة «أوه!» التي جعلت المفوض المساعد يخطو باتجاهه سريعًا.
وسأله بحدة: «ما الأمر، يا ماك؟» وتابع: «هل رأيتَ شيئًا يقودنا إلى أي خيط؟»
قال مكارثي بهدوء: «كلَّا، لم أره، بل شممتُه. قبل وقت قصير من الآن، تولَّدت في ذهني فكرة أنني أعلم مَن فعل هذه العملية، والآن أنا مُتأكِّد منها.» وتابع ببطء: «وأنا أعلم الآن الدافع وراء جريمة القتل؛ أعلم الآن «لماذا» قُتل.»
اعترض المفوض المساعد بانفعال قائلًا: «قُتل؟ من هذا الذي قُتل؟ أنت تتحدَّث بغموض يا ماك؟»
رد مكارثي: «بالنِّسبة إليك، ربما.» وتابع: «أما بالنسبة إليَّ فكلَّا. «مدام رونر» هي من قامت بهذه العملية، وهذا هو سبب «قتلها».»
كان الشيء الذي جذب انتباهه عندما دخل الغرفة، وجعله يتصلَّب في مكانه، هو العبير المبهِج لنفس العطر الذي اجتاح أنفه على عتبة مدخل المنزل في سوهو سكوير، ومرة أخرى في المشرحة. وقد تجمَّعت رائحته النفَّاذة وتضاعفت من خلال حقيقة أن الغرفة، وكلًّا من نوافذها وأبوابها، ظلت مُغلَقةً بإحكام منذ أن كانت السيدة المزيفة التي سرقتها موجودة في المكان. وقد كانت بنفس القوة في ذلك المكتب العلوي بسوهو.
ومن ثم قال: «دعنا نذهب، لقد انتهَيتُ من الفحص هنا في الوقت الراهن. إنَّ عملي يكمن في مكانٍ آخر.»
وطلب المفتش الاطِّلاع على شيءٍ واحد قبل مغادَرة المبنى، وهو نُسخة من نوع الأوراق التي قد سُرِقت.
حيث قال موضحًا: «أعني نفس مادة الأوراق التي رُسِمت أو طُبِعت عليها الخطط.»
فعرضوا عليه ورقةً من نوع مِن الأوراق ذات الطبقة الزيتية الرقيقة للغاية والتي كانت ذات لونٍ أزرق داكن. وكان حجمُها حوالي قدمَين مُربعَين، وست ورقات منها، وهو العدد المسروق، مطوية معًا بإحكام كان يمكن إخفاؤها في ملابس أي شخصٍ دون أن يتعرَّض لأدنى مخاطرة بأن يُكشَف أمره. تفحَّصها مكارثي للحظة في صمت، ثم، بلَّل طرفَي إبهام وسبابة يده اليُمنى، وفرك السطح برفق، وبعد لحظةٍ أو اثنتَين ظهر أثر أزرق على طرف إبهامه.
وقال على نحوٍ مفاجئ: «هذا كل شيء»، ثم خرج إلى وايتهول مرة أخرى. فتبعَه بسرعة السير ويليام، وهو يَتساءل بينه وبين نفسه عن الفكرة المجنونة التي ستَستحوِذ على مكارثي بعد ذلك.
عند حافة الرصيف، أشار مكارثي لأول سيارة أجرة رآها تَسير نحو بيكاديلي، فتوقَّفت السيارة على الفور. وتصادف أن من يقودها هو شخص يتمتَّع بحماية مكارثي، وهو مالك وسائق سيارة الأجرة «بيج بيل» (أي: «بيل الضخم») ويذرز، الذي حيَّا كِلا السيدَين باحترامٍ شديد. ولكن في واحدة من المرات القلائل، ردَّ مكارثي اللطيف دائمًا على التحية بغمغمة مُقتضَبة، وركب السيارة، وأعطى أوامره بأن يتَّجه الرجل إلى المشرحة، ثم صمت، وأخذ يُحدِّق في أرضية التاكسي بعبوس. كما التزم هاينس أيضًا الصمت، عندما يُصبح مكارثي في تلك الحالة المزاجية، فهو يفكر تحت ضغط شديد، وكلما قلَّت المقاطعة، كان ذلك أفضل.
عند وصوله إلى المبنى الكئيب، اتجه مكارثي إلى مكتب حارس المشرحة وطلب على الفور حزمة الملابس المُغطَّاة بالسيلوفان والمُعلَّمة بعناية والتي أخذت من جثة «مدام رونر» المقتولة. ولم يكد يفك التغليف حتى وصلَت إليه مرةً أخرى نفحة من هذا العطر، حتى فوق رائحة الدم الجاف الكريهة.
فطلب من هاينس باقتضاب قائلًا: «شمَّ هذه الرائحة.» وتابع: «ألم تشمَّ نفس الرائحة بالضبط عندما فُتح باب تلك الغرفة؟»
أجاب المفوض المساعد على الفور: «لقد شممتُها.» وأضاف: «ماذا يعني هذا يا ماك؟»
«هذا يعني أن الرجل الذي قُتل في سوهو سكوير، الشخص الذي تخصُّه هذه الملابس، هو اللص. لكنني آمُل في العثور على آثار مُحدَّدة لشيءٍ آخر والتي ستثبت هذا بما لا يدع مجالًا للشك.»
ومن ثم فحص كل بوصة من الأجزاء العلوية من الملابس الداخلية الحريرية بمساعدة عدسة مُكبرة، ليكافأ بعد برهةٍ بالعثور على بُقعة زرقاء باهتة على أحد الأجزاء تتوافَق تمامًا مع تلك الموجودة على إبهامه. بعد لحظةٍ أو اثنتين وجد قطعة ورق صغيرة من نفس اللون.
فقال: «ها هي القصة كاملة، يا بيل.» وتابع: «لقد سرق الرجل الخطط، وطواها ودفعها إلى مقدمة فستانه. فخفَّف دفء جسده بعض تلك الصبغة وترك أثرًا. لا بد أن القاتل كان لدَيه فكرة جيدة عن المكان الذي سيجد فيه ما يُريد، وعند نزعها بخفة من حيث كانت مُخبأة، قطع هذه القطعة الصغيرة من الحافة البالية من إحدى الأوراق. وللعُثور على تلك الأوراق المهمة، علينا أن نضع أيدينا على قاتل هذا الرجل الذي تنكَّر في لندن باسم «مدام رونر».»
كرر هاينس قائلًا: «رونر … رونر …؟» وأضاف: «يبدو أنني أعرف هذا الاسم من مكانٍ ما قبل ذلك بصرْف النظر عن ذِكرك له.»
لكن مكارثي كان قد ابتعد بالفعل نحو زاويةٍ أخرى. حيث أسرع إلى لوح التشريح الذي وضع عليه القتيل، ورفع الغطاء وفحص أطراف أصابع يدَيه. فوجد آثارًا محدَّدة لنفس البُقعة على يده اليمنى.
فقال: «هذا يحسم الأمر نهائيًّا، يا بيل.» وأضاف: «لقد عثرنا على اللص، وهو أمر جيد بالنِّسبة إلينا.»
سأل السير ويليام بقلق: «ما هي خطوتك التالية، الآن يا ماك؟» وتابع: «ألا يُوجد دليل آخر يمنحك خيطًا من نوع ما لتتبُّعه؟»
قال مكارثي: «منديل دانتيل بدون حتى حرف واحد عليه، وسكين ملطَّخ بالدماء بدون بصمات أو علامات من أيِّ نوع.» وتابع: «لا يُوجَد أي شيء في المكتب الذي في سوهو سكوير سوى كومة من الرماد المُتفحم، وهي تخصُّ الرجل المقتول وبالتأكيد لن تُعطيني فكرة عن الشخص الذي قتله. في رأيي أن أيًّا من هؤلاء المحقِّقين العظماء الذين يَظهرون في الروايات البوليسية كان سيرى عشرات الخيوط فيما لديَّ من وقائع، لكنني للأسف ليس بإمكاني تلمُّس ولو بوصة أمامي.»
تساءل هاينس، بنفس النبرة القلقة في صوته: «مما يَعني أنه ليس لديك حقًّا أي فكرة عن المسار الذي يجب أن تسير فيه الآن يا ماك؟»
توقف مكارثي قبل الرد.
وقال بتأمُّل: «حسنًا، هناك رجل مُحدَّد أريد أن أتحدث معه والذي كان واحدًا من المجموعة التي حاولَتْ دهسي هذا الصباح. ربما كانت تسعى وراء دان ريجان، لكن لديَّ شكوك حول ذلك.»
صاح المفوض المساعد بحماس: «ها! هذه فكرة جيدة.» وتابع: «يُمكنك أن تطلب …»
قاطعه مكارثي: «أطلب … أنا لا أريد شيئًا!» وأضاف: «إذا جعلته يعلم بأنني أعرف أنه واحد منهم، فستكون هذه هي نهاية الأمر. سأُضطرُّ للذهاب والتعامُل معه بطريقةٍ ملتوية.»
«إذن، من أجل السماء، ابدأ به دون إضاعة الوقت. إنك ليست لديك أي فكرة عن الحالة العصبية للقيادات التي تُتابع هذه القضية.»
ابتسم مكارثي. ثم قال: «أستطيع أن أتخيَّل. لقد رأيت حالات التوتُّر الشديد التي تَنتاب من هم في المناصب العليا قبل اليوم.» وتابع: «إن أفضل شيء يمكنك القيام به، هو العودة إليهم وإبهاجهم بالأخبار التي تفيد بأن المُفتش المُحقق الكبير مكارثي قد اكتشف اللصَّ بالفعل ووجده ميتًا، كما هو من المُفترض أن يكون. والخطوة التالية ستكون هي العثور على قاتله. بعد ذلك، «قد» تكون هناك فرصة، بقليل من الحظ، لاستعادة الأوراق المسروقة. هيا اذهب، يا بيل، وأرح قلوبهم. ولا تأخُذ ويذرز؛ فسأحتاج إليه.»
سأل هاينس مُتوسِّلًا تقريبًا: «هل هناك «أي» شيء يمكن أن تقترح عليَّ فعله للمساعدة؟»
مرر مكارثي يدَه على شعره الأسود اللامع للحظة بينما كان يفكر.
ثم قال: «أجل.» وتابع: «حاول تعقُّب المكالمة التي أُجريت من كشك الهاتف في مارليبون لين عند حوالي الساعة الواحدة والثلث هذا الصباح. في الفترات السابقة، كان الأمر سهلًا، لكن منذ تطبيق نظام الاتصال الهاتفي التلقائي، أصبح مهمَّة شِبه مُستحيلة. ولكن ابذل محاولة على أي حال.»
«وإذا فشلت؟»
هز مكارثي كتفَيه.
«فقط اجلس والعب بأصابعك لعبة تبديل الأصابع حتى تصلك أخبار منِّي. هذا كل ما يُمكنك فعله، يا بيل، سواء أعجبك ذلك أم لا.»
نخر هاينس قائلًا: «لا أستطيع أن أقول إنَّني أتخيل احتمال حدوث ذلك.»
«أثناء محاولة فعل ذلك، تأكد تمامًا من أن جميع الموانئ الجوية والبحرية تخضع للمراقبة الصارمة من أجل منع حدوث أي شيء مثل محاولة هروب صديقنا ذي العينين الجامدتَين إلى إحدى الدول المُحايدة المفتوحة للمُسافرين من هنا. إن محاولته إرسال الخطط عبر البريد إلى ألمانيا لهي أمر غير وارد، ولكن لا غضاضة في أن تَطلُب من موظَّفي مكتب البريد أن يُراقبوا أي رسائل تُرسَل إلى أوروبا عن كثب.»
قال هاينس: «إنه أمر رُوتيني في الحالة الأخيرة، وقد جرى ذلك منذ فترة طويلة.» وتابع: «لكنني سأُصدِر أمرًا عاجلًا لجميع المسئولين في الموانئ ليُبقوا أعينهم مفتوحة على أيِّ رجل تتطابق أوصافه مع وصف صديقنا ذي المظهر الأعمى الذي رأيناه الليلة الماضية. أعتقِد أنني أستطيع أن أتذكَّره جيدًا بما يَكفي كي أصِفه بدقَّة إلى حدٍّ ما.» وأضاف: «بعد ذلك، أعتقد أنني سأبتعِد لبعض الوقت، فيما يتعلَّق بتلك القضية العاجلة، بالطبع. فأنا لا أتخيَّل استقبال مُكالَمات محمومة كل خمس دقائق أو نحو ذلك لمعرفة ما هو جديد في القضية.»
قال مكارثي: «أنا لا ألومك.»
قال المفوض المساعد بمكر: «ماذا عن مطعم فيري في ريجنت ستريت عند حوالي الساعة الواحدة لتناوُل الغداء؟» وأضاف: «فقد يُصبح لديك شيء جديد لتُبلغني به بحلول ذلك الوقت.»
قال المفتش مع نظرة سريعة على ساعة يده: «نظرًا لأن الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة تقريبًا، فأنا أشك كثيرًا في ذلك. إن حظ عائلة مكارثي المشهور جيد، لكنه ليس جيدًا بهذا القدْر.» وأضاف بمرح: «على أي حال، لقد أكلتُ مرتَين خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، وهذا يساوي، وأكثر، ما يُمكن لأي رجل تحقيقات جنائية أن يتوقَّعه في هذه الأيام الشاقة والليالي المعتمة. ومع ذلك، نظرًا لأنني أرى أن لدَيك الرغبة في أن تدعوني على وجبة غداء رائعة حقًّا، فلن أرفض العرض تمامًا، ولكن إذا لم أتمكَّن من المجيء إلى مطعم فيري بحلول الواحدة والنصف، فستعرف أنني قد غرقتُ في العمل حتى أنفي على الأرجح في استجواب السنيور فلوريلو ماسكاني.»
صاح هاينس في مُفاجأةٍ كبيرة: «ماسكاني!» وتابع: «إنه الرجل الذي جاء إلى مطعم السنيورا سبادوجليا في الليلة الماضية وأعطاك بعض المعلومات، أليس كذلك؟»
رد مكارثي: «إنه هو.»
«ما علاقته بذلك؟»
أجاب مكارثي بهدوء: «هذا ما أريد أن أعرفه.» وتابع: «هيا اذهب، يا بيل. هيا اذهب. أنت تعرقل عمل القانون!»