ويذرز يُقدِّم بعض المعلومات المُثيرة للاهتمام
جلس مكارثي في غرفته ليتأمَّل أحداث هذه القضية، وليُرتبها ترتيبًا زمنيًّا بنحوٍ ما يَمنحه أساسًا قويًّا يبدأ العمل منه. إنَّ الأحداث المروِّعة التي حدثت في الليلة الماضية، التي قد وصَلَت إلى قِمَّتها بمَقتل الشرطي هاربر، بلا شك قد بدأت بالجريمة الوحشية لمَقتل العجوز صاحب عربة القهوة، جو أنسيلمي. وبدا أن التخطيط المُسبق لارتكاب تلك الجريمة من قبل عقلٍ ماكر على أساس أنها الطريقة الوحيدة لنقل جثة الضحية المقصودة خارج سوهو سكوير حقيقة مؤكَّدة.
وبخصوص الجريمة الثانية، قد يُوجَد شك قليل أو لا يُوجَد شك على الإطلاق في أن القاتل قد حصل على معلومة بأنَّ مدام رونر المزيفة تلك ستَذهب إلى مبنى المكاتب هذا في سوهو سكوير في موعدٍ محدَّد في الليلة الماضية، أو على وجه الدقة، في وقتٍ مُبكِّر من هذا الصباح. إذن الإمكانية، أو الاحتمالية في واقع الأمر، هي أن رونر قد استُدرجَت إلى هناك عبر رسالة ما لها علاقة بالخطط المسروقة من وايتهول بعد ظُهر ذلك اليوم.
وأشار هذا، مرةً أخرى، إلى أن القاتل، ومَن هم على صِلة به، قد علِم ليس فقط بوجود تلك الخطط وأن رونر سرقتْها، ولكن أيضًا أن اللصَّ يَحملُها معه، على الأرجح، استعدادًا لهروب سريع من البلاد وهي بحَوزته. ويبدو أن هذا يُشير بما لا يدع مجالًا للشك إلى أن اللصَّ هو عميل مُخابراتي لإحدى الدول، بينما القاتل عميل مُخابراتي لدولةٍ أخرى.
وبدا، بالحُكم من خلال الإخلاء التام لمكتب مدام رونر، أن تلك الشخصية الغامضة قد دخلت أولًا إلى المبنى وعمدت إلى تدمير أيِّ أثرٍ يدلُّ على الهوية أو العمل الخاص بها (أو على وجه الدقة «الخاص به») قبل التواصُل مع الشخص أو، ربما، الأشخاص، الذين سعوا ليس فقط لقتله، ولكن للحصول على ما يَعرفون أنه يحمِله. ومن ناحية أخرى، ربما حدث الإخلاء في وقتٍ مُبكر من المساء بعد الغارة الناجِحة على الخزنة في وايتهول. وأيًّا كانت الفرضية الصحيحة، فليس هناك فارق في النتيجة. كان مكارثي متأكدًا تمامًا من شيءٍ واحد؛ وهو أن القاتل ليس هو من أخلى المكتب بعد إخراج جثَّة الضحية من سوهو سكوير في عربة القهوة الخاصة بأنسيلمي؛ إذ إن الوقت المُنقضي بين الصرخة واكتشاف جثة هاربر لم يكن كافيًا ليسمح بفعل ذلك.
وبتتبُّع الأحداث وَفق ترتيبها الزمني، فإن أول شخصٍ استرعى انتباهه في الميدان كان هو ذلك الشخص الغريب وذا المظهَر الذي يُنبئ بالشر بلا شك؛ الرجل ذا العينَين ذواتَي اللون الأزرق الثلجي. وهذه، بالطبع، قد تكون مُصادَفة بحتة ولا علاقة لها بأي نحوٍ بالجريمة. لكن، على نحوٍ ما، فإن ذلك «الحدس» الذي تتبَّعه في وقت الجريمة ما زال يُراوده بشدة الآن مثلما كان آنذاك؛ وفي الواقع، على ضوء ما حدث لداني ريجان، فقد ارتقى هذا الحدس من كونه فقط واحدًا من تلك الشطحات الغريبة لعقله والتي تقودُه غالبًا إلى الاتجاه الصحيح، إلى أمرٍ ملموس للغاية.
وبينما كان يُمعن النظر في الأمر، نهض واتَّصل بالمشرَحة عبر الهاتف. لم يكن الطبيب الشرعي موجودًا هناك، لكنه ترَك له رسالة مع موظَّف المشرحة. إن الدم المكشوط من ثياب ريجان، هو بلا أدنى شك، دم الجثة التي ألقي فوقها ذلك النشال على أرضية السيارة التي أخذته إلى هامبستيد هيث. قُضي الأمر في هذا الشأن. وبخصوص نقل تلك الجثة من سوهو سكوير، لقد استرعى انتباه المُفتش كيف لعب الحظ دورًا كبيرًا في لعبته الخاصة. فلولا اندلاع الحريق الذي أضاء سوهو سكوير المُعتم بالكامل، لكان احتمال مشاهدة عربة القهوة الخاصة بجو أنسيلمي وهي تُغادر الميدان هو واحد في الألف، ولم يكن الربط بين جريمة قتل الرجل العجوز وقضية سوهو سكوير ليَحدث أبدًا على الإطلاق. وحينها، كانت تلك الجريمة وطريقة إخراج الجثة من سوهو سكوير ستُسجَّلان على الأرجح في السجلات على أنهما «لغزان بلا حل».
وبدا أن هناك القليل من الشك — وإن كان معدومًا في عقل مكارثي، رغم أنه لا يَمتلك أدنى دليل ليدعم هذا — في أنَّ الرجل ذا العينين ذواتَي اللون الأزرق الثلجي قد تواصَل مع بعض أعوانه عبر كشك الهاتف في مارلبورو لين، وأعطاهم معلومة أنه يجري تتبُّعه، وأعطاهم موعدًا كي يُقلوه في بارك لين، ومن ثم حلَّت المشاكل على رأس ريجان.
وبعد ذلك وفوق كل هذا جاءت تلك المقابلة المثيرة للدهشة مع البارونة لينا إيبرهارت هذا الصباح! وهي، بالفعل، مُصادفة استثنائية إذا كانت قد حدثت له واحدة من قبل خلال حياته المهنية المُتنوِّعة بغَرابة، وقد أتت عبر شخصٍ له أهميته مثل المفوض المُساعد. إن أول اسم، تقريبًا، نُطِق عبر شفتَي هذه الأرستقراطية النمساوية هو اسم امرأة ليست بامرأة، بل بكل تأكيد عميل مخابراتي جسور، وبارع على نحوٍ استثنائي. وهذا أمر يلفُّه الغموض على أيِّ حال، وقد ثبت ذلك بما لا يدع مجالًا للشك.
وكذلك فإنَّ اللامبالاة الشديدة التي قُدم بها الاسم، مع اقترانها بحقيقة أن البارونة أقرَّت بأنها قد تواصلَت هذا الصباح مع الشخص الذي في نفس الوقت يرقد على طاولة التشريح في المشرحة، تركت مكارثي وسط دوَّامة من الشكوك. هل من المُمكن أن يكون هناك شخص آخر له نفس الاسم، مُستبصِر، أو قارئ لكريستالة الطالع، أو قارئ للكف، مُحترف موجود في لندن؟ لم تذكر المرأة أي عنوان أو حتى منطقة، لكنها قالت تحديدًا إنها قد كلَّمتها عبر الهاتف، ولا يمكن التغاضي عن حقيقة أن هناك مدام رونر واحدة فقط مسجلة بسجل الهاتف، وهي التي يقع مكتبها في سوهو سكوير.
وليس هناك أي شك في أنها كانت تعلم أنه الضابط المسئول عن قضية سوهو سكوير؛ وما إذا كان بيل هاينس قد تطوَّع بإخبارها بالمعلومة دون أن يُدرك، أو أنها قد استخلصتها منه ببراعة فهذا لا يُشكِّل فارقًا؛ فالمُهم أنها عرفتها. إن الأمر الذي كان يشغل ذهنه هو: هل ذُكر ذلك الاسم بكل براءة، أم، كما اشتبه هو، في مطعم فيري، وُضِع ببساطة كطُعم لاستخلاص معلومات منه لم تكن ببساطة تستطيع أن تسأل عنها، دون أن تُورِّط نفسها، إلا إذا سألت بأكثر طريقة غير مُباشِرة؟ إنه نوع من المراوغة، هكذا قال لنفسه، وعند النظر إليه من أي زاوية فإن ذكر ذلك الاسم فتح المجال لمزيدٍ من التحقيق. وهذا ما كان سيَحدُث! فمن الممكن، إذا أجْرَت المرأة أي لقاءات بعد مغادرة مطعم فيري، لويذرز أن يَلتقِط من خلالها أي خيطٍ قد يثبت نفعه.
لكن الخيط الشخصي الوحيد الذي لدَيه هي محاولة صدمه عندما كان في طريق عودته من المشرحة هذا الصباح؛ المحاوَلة المُتعمَّدة من قائد السيارة لصدمه، في نهاية الأمر، على بُعد يقلُّ عن مائتي ياردة من عتبة داره. لا بدَّ أن تلك السيارة قد تتبَّعته، ببراعة، من عند باب المشرحة وظلَّت متوارية عن الأنظار حتى حانت الفرصة لصدمه. لماذا؟ وها هو مرة أخرى لغز مُحيِّر، في ضوء أنه كان بصُحبة داني ريجان، هل كان المقصود هو قتل دانيال؟ من المُمكن أن يكون الأمر كذلك على الرغم من أنه، في رأيه، ليس من المُحتمَل كثيرًا، خاصة في ظلِّ هذه الظروف.
إن حقيقة تنفيذ أفراد العالم الإجرامي لعمليات انتقام بطريقةٍ مُتعطِّشة للدم، والتي لا تتوقَّف عند التسبُّب في إعاقة، أو التشويه التام، أو حتى القتل، لهي أمر ليس بجديد بالنسبة له، لكن أن يصل الأمر، مهما بلغ حجم الثأر، إلى تنفيذ المحاولة على الملأ، وأيضًا أمام عينَي أحد رجال سكوتلاند يارد الذي يحترمه الجميع بشدَّة في سوهو، لهو أمر لا يستطيع أن يُصدِّقه. إن كان داني ريجان قد عُثر عليه مقتولًا بسكين في صدره، أو، وهو أمر مُحتمل أكثر، صدمته سيارة من الخلف، فهذا شيء يُمكن تفهُّمه بالقدْر الكافي، ولكن أن تجري محاولة لصدمه، ليس فقط في وضح النهار وفي وجود شهود، وإنما أيضًا وهو برفقة المفتِّش المحقِّق مكارثي، فهذا ما لا يمكن تصديقه مطلقًا. كلا، لم يكن داني هو المقصود أن يجري التخلُّص منه.
ونأتي الآن لزعيم العصابة فلو. لقد كان ماسكاني مُتورطًا في المحاولة! إن ماسكاني هذا، على الرغم من حقيقة أنه كان يَبيع معلومات عن زملائه من وقتٍ إلى آخر (وربما «بسبب» هذه الحقيقة بالذات)، كان سيُصبح سعيدًا للغاية بمَقتل مكارثي، ولا يشكُّ المفتش في ذلك للحظة. لكن، وهذا ما كان مكارثي يَعرفه جيدًا على نحوٍ مُساوٍ، لم يكن ماسكاني ليُشارك في تلك المهمة، شخصيًّا، ولو مُقابل ألف جنيه، لو لم يكن مُجبرًا. ومع ذلك، وعلى الرغم من بذل قصارى جهده حتى لا يراه أحد، شارك ماسكاني في المهمة، وجرى التعرُّف عليه من قبل الرجال الذين عرفوه وليس من المُحتمل أن يُخطئوا في ذلك، وهذا أنبأ مكارثي بأن ماسكاني واقع تحت ضغط بكل تأكيد، ومرعوب من شخصٍ أقوى منه بشدة. فمن هو؟
إن ماسكاني هو طرف الخيط الذي يجب تتبُّعُه، هذا صحيح بالقدر الكافي، ولكن، من خلال طريقة مخادعة للغاية لن يشك بها الإيطالي المخادع أبدًا. فهو مثل معظم أبناء فئتِه، ماكر مثل الجرذ، وعلى الرغم من حقيقة أنه جبان مثل أي رجل عصابات آخر عندما يجري التعامُل معه بمُفرده، فإن مكارثي يعلم أنه حتى لو احتجزه في قسم الشرطة للاستجواب فلن يخرج منه بأي معلومة. إن قانون العالم الإجرامي غير المكتوب هو عدم الإفصاح عن المعلومات، وويل لمن يُخالف هذا القانون! إذ إن كل ما يُمكن للشرطة فعله به لا يقارن بما سيَحدُث له لاحقًا، على أيدي زملائه.
عاد ذهن مكارثي مرةً أخرى للتفكير في تلك المخلوقة الجميلة للغاية، تيسا دومينيكو. إذن هي وفلوريلو الشرير ما يزال أحدهما برفقة الثاني، وفقًا لبيل ويذرز؛ وهي المعلومة التي فاجأته إلى حدٍّ ما؛ لأنه عندما رأى تيسا ذات المظهر الرائع آخر مرة، كانت مع رفقةٍ أفضل، رغم أنها سيئة السمعة أيضًا. كانت «مع مَن يملك أموالًا أكثر»، وهو تعبير غير مقصور تمامًا على أهل العالم الإجرامي.
وبالتأكيد في المكان الذي رآها فيه — وهو نادي رقص راقٍ للغاية، إن لم يكن حصريًّا تمامًا — كانت موضع اهتمام جميع الأنظار، وقد أقرَّ تمامًا أنها تستحق تمامًا الاهتمام الذي نالته.
كانت طويلة، بُنِّية الشَّعر، ذات بشرة زيتونية، مع اللون الناعم المخملي المميز للعِرق الإيطالي، وملامحها كانت خالية من العيوب تمامًا؛ فهي تُمثِّل الكمال في حدِّ ذاته. وكانت ترتدي ملابس من شأنها أن تجعل أُمَّها وأباها يُحدِّقان غير مُصدقَين تمامًا. فهي ملابس غير رخيصة ومبهرجة، من محلات مُتدنِّية المستوى، ولكنها من إبداعات فنان مُتخصِّص في تصميم الملابس.
لو أن أحدهم أخبر ذوَّاقة الكمال الأنثوي الذي أثار على الفور الإعجاب غير المحدود لدى جميع الرجال الحاضرين، وكذلك الحسد غير المحدود للنساء، أنَّ المرأة التي انبهرت عيونهم بجمالها هي فتاة خرجت من أزقَّة سوهو وخطيبة أحد رجال العصابات الغلاظ، لكانوا سيقولون، على الأرجح، دون تردُّد أنه مجنون؛ إذ إن مثل هذا الجمال لا يُمكن إلا أن يرتبط بأصلٍ عريق بشدة. ومع ذلك، وفقًا لما قاله ويذرز، فإن هذا صحيح بالقدر الكافي، وقد كان كذلك بالتأكيد، بحسب معرفة مكارثي الخاصة.
لقد كانت علاقات الحب في سوهو كتابًا مفتوحًا بالنِّسبة إليه، حتى لو كان ذلك لسبب بسيط للغاية وهو أن الجزء الأكبر من جرائمها نابع منها مُباشِرة. وجد نفسه يَتساءل بسخرية عن مقدار الحب من جانب الفتاة في هذه العلاقة، ومقدار الخوف من الشفرة الفولاذية الشبيهة بالموس، أو من المسدَّس الآلي، الذي سيَستخدمه فلوريلو ماسكاني بسرعة شديدة ضد أي منافس دائم على عواطفها، وربما شخصها أيضًا. لقد كان هذا سؤالًا مهمًّا.
كان لا يزال يفكر في الأمر عندما رن جرس هاتفه. وعندما رفع السماعة داهم أذنه صوت السيد ويليام ويذرز الذي يُشبه صوت الثور.
فقال لمكارثي، دون داعٍ إلى حدٍّ ما: «إنه أنا أيها الرئيس.»
فرد المفتش بحدَّة: «أنا أعلم يا ويذرز، إنك صاحب الصوت الأشبه بالتنهد، وكل ذلك. هل وُفِّقت؟»
سرعان ما ظهرت نبرة شكٍّ في صوت سائق سيارة الأجرة.
وأجاب: «هذا يتوقَّف بالكلية على الطريقة التي تنظر بها إلى الأمر، أيها الرئيس.» وتابع: «على أي حال، إليك ما حدث. لقد غادرَت مطعم فيري هي ومعاليه … أعني أن السير ويليام كان بصحبتها، كما قلت. للحظة ظننتُ أنه رآني وكان سيَستدعيني، لكنه لم يفعل. وبعد ذلك صافحها واتجه عبر ريجنت ستريت نحو بيكاديلي. عبرَتْ هي الطريق إلى زاوية شارع ليبرتي ووقفت تنظر إلى نوافذ المتاجر قليلًا. وراحت تَنظر للخلف باتجاهه بين الحين والآخر، وبعد ذلك أشارت لسيارة أجرة، و…»
«انتظر لحظة يا ويذرز. لقد ظلت تنظر للخلف نحو السير ويليام، أليس كذلك؟ هل استرعى انتباهك، بأي حالٍ من الأحوال، أنها ربما كانت تُراقبه لتتأكَّد أنه بالفعل قد ابتعد عن طريقها؟»
«حسنًا، يا سيدي، على نحوٍ ما، هذا ما ظننتُه بالفعل. على أي حال، لقد ركبت سيارة الأجرة هذه، وانعطفت شرقًا في أكسفورد ستريت حتى وصلت إلى تشارينج كروس رود. ثم اتجهت إلى داخل سوهو سكوير ودارت حوله باتجاه اليمين، على نحوٍ بطيء بعض الشيء، ثم خرجت منه ثانية باتجاه جريك ستريت.»
سأل مكارثي في حيرة: «ألم تتوقَّف في أي مكان على الإطلاق؟»
«كلَّا، أيها الرئيس، لقد توقفَت في مكانٍ ما. فقد سارت عبر جريك ستريت كما قلت، ثم انعطفت إلى دين ستريت. وعند متجرٍ لبيع السجائر، قبل منزلك بقليل وعلى الجانب الآخر من الشارع، توقفت ودخلَت. كان ذلك هو متجر ذلك الرجل الألماني؛ كيرشنر، أظن أن هذا هو اسمه.»
قال مكارثي مشجعًا: «استمر يا ويذرز.» وأضاف: «هذا مُثير للاهتمام للغاية.»
«لا بد أنها اشترت بعض السجائر، أو شيئًا ما من هناك؛ لأنها عندما خرجت كانت تحمل علبة في يدها. وقبل أن تعود إلى سيارة الأجرة، شاهدتُها تنظر نحو منزلك نظرةً سريعة، إن تصادف أنك حينها نظرت من نافذة منزلك، فلا يسعك سوى رؤيتها. ثم اتجهت مرة ثانية نحو جريك ستريت، وهذا هو المكان الذي فقدت أثرها فيه.»
ردد مكارثي: «فقدتَ أثرها.»
«أجل أيها الرئيس، لقد أفلتَت من يدي؛ لا فائدة من قول أي شيء آخر.»
سأل مكارثي في حيرة: «وأين فقدتَ أثرها بالضبط، يا ويذرز؟» إن الشخص الذي يَستطيع التملُّص من مراقبة «بيج بيل» ويذرز في سوهو لا بد أنه يعرف ذلك الجزء العالمي من المدينة على نحو دقيق؛ فلا يُمكن لأحدٍ أن يقوم بذلك إلا إذا كان على درايةٍ كاملة بأزقَّتها وطرقها المختصرة الكثيرة، على نحوٍ عام. وأضاف: «بالنسبة إلى سيدة تُقيم في جروفينر سكوير وهي واحدة من الصفوة، هذا أمر غير مُعتاد بعض الشيء، أليس كذلك، يا ويذرز؟»
أجاب ذلك المُخلص في أسفٍ إلى حدٍّ ما: «بلى يا سيدي.» وتابع: «كنت لأراهن بمبلغٍ كبير جدًّا أنه لم يكن من الممكن لهذا أن يحدث، لكنه حدث.»
سأل مكارثي مرة أخرى: «أين حدث هذا؟»
قال «بيج بيل»: «بالقرب جدًّا من حانة فازولي.» وتابع: «كان هناك القليل من الازدحام المروري، بسبب إحدى عربات مثلجات جاتي التي سدَّت عليها الطريق عربة خاصة بالبلدية. فتدخل شرطي وبدأ ينظم المرور، وهذا ما أخَّرني لدقيقة. واتجهت سيارة الأجرة التي تستقلها نحو فريث ستريت وبمجرَّد أن تمكنت من متابعة السير ذهبتُ وراءها بأسرع ما يُمكن ولحقتُ بها. وعندئذ وجدتُها خالية. لا بد أنها قد دفعت الأجرة ونزلت بينما كانت عربة المثلجات هذه تحجب عني الرؤية. وتصادف أن من يقود السيارة هو رجل لا أعرفه؛ سائق جديد، ومتعجرف. عندما سألته عن المكان الذي نزلت فيه زبونته، أراد أن يعرف ما شأني بذلك. لولا أني كنتُ في مهمة من أجلك، لعرَّفتُه ذلك بسرعة وقوة. وبصرف النظر عن ذلك، هذا هو ما حدث أيها الرئيس، لقد فقدتُ أثرها، وعلى الرغم من أنني تجوَّلت حول المكان مرتَين أو ثلاثَ مرات، فلم أرها قط مرةً أخرى.»
قال المفتِّش وهو يُفكِّر بعمق: «هذا أمر غريب للغاية، يا ويذرز.» وأضاف: «عند زاوية حانة فازولي، أليس كذلك؟ لا يُمكن أن تكون قد دخلت هناك بأيِّ حال من الأحوال، حسبَما أظن؛ إنها فكرة سخيفة على ما يبدو، أليس كذلك؟»
أجاب السيد ويذرز بجدية: «لا يُمكن أن تكون قد فعلت أيها الرئيس.» وتابع: «كان باب حانة فازولي مغلقًا تمامًا في ذلك الوقت؛ إذ كان المكان خارج ساعات عمله الرسمي في ذلك الوقت، وقد ألقيتُ نظرةً جيدة على كل شيء هناك، ولكن لم يكن هناك أي أثر لها.»
قال مكارثي على نحوٍ فلسفي: «حسنًا، لا يُمكننا فعل شيء حيال الأمر يا ويذرز؛ هذه الهفوات الصغيرة دائمًا ما تحدث. عُد إلى المنزل الآن، وتأهَّب لتلقِّي مكالمة منِّي عند حوالي الساعة التاسعة مساءً الليلة. هذا كل شيء.»
ولكن لبعض الوقت بعد أن أنهى مكارثي المكالمة، راح يسير في غرفته ذهابًا وإيابًا بينما يُفكر بعمق. إذ إن عددًا كبيرًا من الأشياء في تقرير ويذرز أثار فضوله على نحوٍ كبير، ليس أقلَّها الاهتمامُ الذي أولتْه السيدة لمحل إقامته. هذا، وحقيقة أنها تملَّصت بمهارة شديدة من مراقبة ويذرز في قلب سوهو، كانا يَتطلَّبان قدرًا كبيرًا من التفكير، بالنسبة إلى سيدة في مكانتها الاجتماعية. وهكذا الحال بالنِّسبة إلى ذلك النَّقر الغريب على النافذة في مطعم فيري، الذي نقرَتْه بلا شك أصابع السنيور فلوريلو ماسكاني.