في تشيركولو فينيتسيا
كان قد فتَح هذا الشخص ذو المظهر البغيض للغاية، السنيور لويجي فازولي، منذ ما يقرب من ساعةٍ أبواب ما كانت تعدُّ على نحوٍ واضح تمامًا أقذرَ حانةٍ في سوهو، ولكنها مع ذلك أُطلِق عليها الاسم الفخم تشيركولو فينيتسيا.
كان يتألَّف المكان نفسه من بار طويل متَّسخ للغاية يفتح من الشارع، ويُوجَد بجانبه مقعد خشبي مدمج له عدة طاولات أمامه. وعلى الجانب الآخر تُوجَد منضدة، وخلفها براميل ضخمة من أشنع أنواع الشراب الأحمر أو الأبيض الذي يُمكن أن يُباع للناس كنبيذ.
وكانت تُوجَد خلف هذا، ويُدخل إليها من خلال بابَين متأرجحَين، غرفة أخرى كبيرة وقذرة جدًّا تحتوي على طاولة بلياردو وعدد من الطاولات الأصغر التي يَلعب فيها الذين يَرتادُون هذا المكان المُحدَّد ألعاب الورق أو الدومينو أو ألعاب المهارة، أو الحظ، الأخرى، التي تُفضلها الفئة الأصغر سنًّا من الإيطاليين المولودين في لندن.
وقد قُسِّم الزبائن إلى ثلاث فئات مختلفة تمامًا. الأولى هم كبار السن في سوهو من النوع الأكثر إجرامًا، الذين يجلسون أمام البار على المقعد الطويل في الغرفة الأمامية، والذين من بينهم — كما تعلم سكوتلاند يارد جيدًا — عدد من أعضاء تلك الجماعات الرهيبة، التي من بينها مافيا كامورا والمافيا الصقلية. وهم شخصيات شرِّيرة المظهر، والذين تُروى قصصهم المروعة بين زملائهم في همس.
تتألَّف الفئة الثانية من عدد من الألمان — الذين معظمهم من عمال المطاعم — الذين حُرموا من مكان لقائهم المُعتاد عندما جرت مداهمة إحدى حانات بسمارك كلوب السيئة السمعة وإغلاقها. كان هؤلاء منغلقين بشدة على أنفسهم، وعلى الرغم من التحالف المتذبذب لدول المحور، فلم يحظَوا بشَعبيةٍ كبيرة لدى الزبائن الإيطاليين لتشيركولو فينيتسيا.
وترتاد عمومًا بشدة الفئة الثالثة وهي الأكبر من بين كل الفئات الغرفة الداخلية والأكبر بكثير، التي تعرف بوجه عام باسم «النادي». وهم من النوع المُبهرج من الشباب الإيطاليين المولودين في سوهو والذين، في الغالب، كانوا يَقضُون يومهم في السباقات التي كانت تقام في وقت الحرب نهارًا، ومطاعم وقاعات رقص ويست إند المتدنية المستوى ليلًا. إن هؤلاء المتأنقين المُتملقين الذين يكونون أنذالًا أشرارًا عندما يكونون وسط العصابة، ولكن جبناء تمامًا عندما يكونون بمُفردهم، كانوا هم الذي يُشكِّلون، في واقع الأمر، الجزء الأكبر من زبائن فازولي. وكان هؤلاء يدينون بالولاء الخفي لذلك الشخص الحسَن المظهر للغاية الذي يُدعى فلوريلو ماسكاني والذي يقودهم بطريقةٍ فعالة، وسوقية، ومرصَّعة بالجواهر.
كان هذا الرجل هو مَن دخل بعد الساعة السابعة بقليلٍ من الباب المزدوَج الأمامي لحانة فازولي، وأعطى مالكه القبيح نظرةً قاسية ولكن ذات معنى.
فقال فازولي هامسًا: «لا شيء بعد.» وتابع وهو لا يَكاد يُحرِّك شفتَيه: «لقد جاءت السيدة إلى هنا بعد ظهر اليوم. وهي تقول «إنه» سوف يأتي هنا الليلة، في وقتٍ لاحق، وعليك أن تنتظره. وسوف يتَّصل عبر الهاتف في وقتٍ ما من هذا المساء.»
أومأ ماسكاني. وأجاب بنفسِ الطريقة الهامسة: «حسنًا.»
قال الآخر بصوت عالٍ: «ستجد بعضًا من الشباب بالداخل.» وأضاف: «لقد عادوا للتوِّ من تشلتنهام.»
وبينما كان يمرُّ إلى الغُرفة الداخلية، أشار ماسكاني إلى رجلٍ ضخم يلعب البلياردو، ذي وجه مشوَّه بضربة سكين كانت آثارها بادية عليه بأكمله. فوضع على الفور عصاه وجاء إلى الطاولة الصغيرة التي جلس عليها ماسكاني.
وأخرج من جيبٍ داخليٍّ في ملابسه لفافة سميكة من المال، وقدمها إلى ماسكاني.
وقال بفظاظة: ««أموال الحماية».» وتابع: «إنها ليست جيدة للغاية؛ المراهنات تراجعَت بشدة في السباقات الثلاثة الأولى.»
بدت عينا ماسكاني الإيطاليتَين الناعمتَين جامدتَين مثل قطعتَين من العقيق عندما أخذ النقود وعدَّها بسرعة بفضل الممارسة الطويلة، ثم أطلق لعنة بهدوء باللغة الإيطالية.
قال: «اللعنة!» وتابع: «يجب أن أزيد قدْر الغش في ذلك السباق.»
ومن ثم أخذ عشر أوراق نقدية من فئة الجنيه الواحد، ودفعها لرفيقه عبر الطاولة، ووضع الباقي في جيب صدر بدلته.
وسأل بحدة: «وماذا أيضًا؟»
من حقيبة جلد شامواه، سكب الآخر على المنضدة مجموعة من المجوهرات، مُعظمها من دبابيس رابطات العنق ذات تصميم سيئ بعض الشيء على الرغم من أن الأحجار الموجودة فيها كانت جيدة بما فيه الكفاية، وثلاث ساعات وسلاسل ذهبية ثقيلة.
وقال له: «هذه هي حصيلة اليوم، يا فلو.»
ففرزها ماسكاني بإصبعه، ثم أومأ برأسه إلى تابعه ليُعيدها إلى الحقيبة.
وقال باقتضاب: «أنت تعرف إلى أين ستأخُذُها.» وتابع: «ولا تدع ذلك الخنزير العجوز يخدعك بالطريقة التي فعلها مع المجموعة الأخيرة. إذا حاول ذلك، أخبره أننا سنحرق بيته، وسنختار وقتًا نعلم فيه أنه في السرير! هيا اذهب وابدأ تنفيذ ما قلته لك!»
ثم أشار إلى أربعة من الحاضِرين كي يأتوا إليه، ومرَّر لكلٍّ منهم بعض النقود من اللفافة. وكان هؤلاء هم أفراد العصابة التي كانت في حلبة سباق الخيل من أجل «جباية» الأموال بعد ظهر ذلك اليوم.
وبعد الانتهاء من هذا الأمر، جلَس ماسكاني في تفكيرٍ عميق لفترة من الوقت. كان من الواضِح للغاية أنه غير مرتاح، وفي الواقع، عصبي بشدة. وبعد فترة قرع جرسًا كان موجودًا على المنضدة، فجاءه فازولي على عجَل.
أمره بفظاظة قائلًا: «أحضر شرابًا للشباب، ولي أيضًا. لكن ليس ذلك الفاسد الذي تبيعه هناك.» ثم سأله بسرعة، وبنفس الهمس الذي استفسر به في البداية: «ألا تُوجَد أخبار بعد؟»
هز فازولي رأسه الأشعث بالنفي.
وقال بنفس النبرة: «ليس بعد.» وتابع: «أنا أتوقَّع حضوره في أي لحظة.»
سأل ماسكاني، بينما ارتفعت ثرثرة مُحادثة سريعة ومتحمِّسة في البار الخارجي: «هل كل شيء على ما يرام في الخارج؟»
هز فازولي كتفَيه.
وقال: «كل شيء على ما يرام.» وتابع: «إنه فقط ذلك الكلب الملعون، فانادي، لقد جاء. وهو دائمًا ما يُحدث ضوضاء عندما يأتي.»
زمجر ماسكاني قائلًا: «أنت تعرف جيدًا أنه سيبدأ شجارًا وسيَأتي رجال الشرطة إلى هنا.» وأضاف: «لماذا تقبل بوجوده هنا من الأساس؟ إنه يحضر إلى هنا مرة واحدة فقط كل ستة أشهر، وتأتي الشرطة في كل مرة يأتي فيها.»
أجاب فازولي: «إنه يُنفق هنا أموالًا كثيرة.» وتابع: «إنه يُنفق في ساعتَين، أو ثلاث ساعات، أكثر من كل الزبائن مجتمعِين.»
قال ماسكاني: «إنه سوف يُفقدك رخصتك يومًا ما.» وأضاف: «على أي حال، أبقِه خارج هذه الغرفة. لقد جرح أحد رجالي بشدة في المرة الأخيرة لدرجة أنه ظلَّ في المُستشفى ثلاثة أسابيع. إنه سيَنال ما يستحقُّ في إحدى هذه الليالي.»
ألقى فازولي نظرة سريعة باتجاه البار، كما لو كان خائفًا من أن يَسمع الزبون المعنيُّ ويَبدأ على الفور شيئًا لن ينتهي بسرعة.
كان السنيور باولو فانادي، دون شك، الشخص الأكثر مُشاكسة الذي يأتي في زيارات عرضية، وإن كانت مُنتظِمة إلى حدٍّ ما، إلى سوهو، من أجل شرب كمياتٍ كبيرة من نبيذ وطنِه الأم. من أين أتى لا أحد يعرف بالفعل، على الرغم من أن البعض قال من شمال إنجلترا، حيث يفترض أنه يعمل في تجارة الآيس كريم بالجملة. لكن خلال هذه الزيارات، كان يُنفق المال ببذخ، نسبيًّا، ويَشرب حتى يَسكر ويصل لحالة من الضراوة الكئيبة التي تَنفجِر عاجلًا أم آجلًا مثل البركان. لقد كان مقاتلًا عنيدًا، وعلاوة على ذلك، كان بإمكانه المضي قدمًا في ذلك مثل الملاكم المحترف.
في أكثر من مناسبة، تشاجر مع أفراد من عصابة ماسكاني، وما فعله بهؤلاء الذين تعاملوا معه منهم على نحوٍ جماعي ومُنفرد كان يَقترب من حدِّ الجريمة.
قال فازولي بقلق: «لا تتحدَّث بهذه الطريقة، يا فلو.» وأضاف: «إن فانادي أحد رجال مافيا كامورا. إنك لا يُمكنك أن تحتكَّ بهم. اعبث معهم، وستتعرَّض للكثير من المتاعب.»
كان واضحًا تمامًا في التعبير الذي ارتسم على وجه ماسكاني الزيتوني اللون أن مجرَّد ذكر تلك العصابة له معنى عميق ومُهم للغاية بالنسبة إليه.
قال: «لا أريد أي مشاكل معه.» وتابع: «كل ما أريدك أن تفعله هو إبعاده عن هنا.»
ربما، بعد خمس دقائق، والتي خلالها كانت الأصوات التي تدل على أن السنيور فانادي كان في طريقه للوصول إلى حالته المعتادة من السُّكْر العُدواني تتزايد، مرَّر فازولي رأسه عبر الباب وأعطى لرجل العصابات نظرة ذات مغزى. على الفور نهض ماسكاني وتحرَّك نحو باب آخر والذي يَعرف كل من يتردد على المكان أنه يُؤدي إلى شقة فازولي الخاصة في الطابق العلوي.
ولم يكد يَلتفِت نحوه حتى فتح الباب المزدوج واندفع فانادي الذي تحدَّثا عنه قدمًا أو اثنتين داخل الغُرفة ووقف محدقًا حوله بازدراء صريح.
ثم قال بالإيطالية مع ابتسامة ملتوية على فمه: «ها نحن جميعًا هنا.» وتابع: «كل الجرذان الصغيرة في المجاري الخاصة بها! في يوم من الأيام سيأتي مواطن صالح ويُنظف المكان من كل هؤلاء الأوساخ!»
لم تصدُر أي كلمة عن أي من أفراد العصابة الموجودين حول طاولة البلياردو.
حيَّاه ماسكاني بأكبر قدْر ممكن من الود في محاولة لدرء المشاكل قائلًا: «مرحبًا يا فانادي.»
قال الرجل داعيًا إلى مشاجرة: «ها قد تحدَّث ملك الجرذان»، وأخذ يبحث عن اللحظة التي عليه فيها التحرُّك في اتجاه ماسكاني.
كان ماسكاني يَلعنُه داخليًّا بمرارة، على الرغم من أنه لم يبدُ عليه ظاهريًّا سوى الابتسامة، ثم سارع إلى الباب وغادَر من خلاله. ومِن ثمَّ وقف فانادي لمدة دقيقة كاملة ونظر إلى الآخرين في دعوة لا لبس فيها ليبدءوا مُشاجرة. ولكن نظرًا لعدم تحرُّك أيٍّ منهم قيد أنملة، بصق على الأرض بازدراء وتمايل خارجًا إلى البار الأمامي مرة أخرى.
بعد أن أسرع ماسكاني نحو الطابق العلوي، التقط سماعة الهاتف التي ترَكَها فازولي له، لكنه تأكد أولًا أن بابي الغرفة مُغلقَين بإحكام.
قال بصوت خفيض جدًّا: «مرحبًا.»
سأله مُحدثه بحدة: «ماسكاني؟»
فقال بسرعة: «هذا أنا أيها الرئيس.»
قال الصوت بنفس الطريقة الحادة، بإنجليزية طلقة مع لمسة بسيطة للغاية من اللهجة الألمانية الشمالية: «تلك الأوراق التي سُلمت إليك في سوهو سكوير الليلة الماضية. هل هي معك؟»
أجاب ماسكاني على الفور: «كلَّا.» وتابع: «بعد ما حدث في الميدان الليلة الماضية، اعتقدت أنه من الأكثر أمانًا ألا أحملها معي. لقد جعلتُ لويجي يُخفيها في … أنت تعرف أين. إذا علم رجال الشرطة ما هي وانطلقوا يبحثون عنها، فأنا لا أريد أن يُعثَر عليها «معي»، إذا حدث خطأ ما.»
تساءل الآخر، وفي صوته نبرة ازدراء صريح: «وما هو الخطأ الذي يظنُّ عقلك العظيم أنه قد يحدث، فيما يخصُّك من الأمر؟»
جزَّ ماسكاني على أسنانه في غضبٍ صامت؛ واستغرق الأمر منه وقتًا لإبعاد هذا الشعور عن صوته. ثم أجاب: «ما يلي.» وتابع: «كيف أعرف أنه لم يرَني أحد عندما حاولتَ أنت دهس مكارثي في هذا الصباح؟ لا أعتقد أن هناك من رآني، لكن لا يُمكنك أن تفهم أبدًا كيف يعمل؛ إنه يعمل باستخدام بعض الطرق الغريبة، ونحن نعلم ذلك جيدًا في سوهو. لكن افترض أنه رآني وخلال ساعة أو ساعتَين أُلقي القبض عليَّ من قبل الشرطة. هل كان كل شيء سيكون على ما يرام إذا كنتُ أحمل تلك الأشياء التي أخذتَها أنت من المرأة في الميدان الليلة الماضية؟»
صاح الآخر في حنَق بالألمانية: «يا إلهي!» وأضاف: «هل أنت أحمق إلى هذه الدرجة كي تتحدث هكذا عبر الهاتف؟! أنت تعلم أنه لن يكون الأمر كذلك.» واعترف، وإن كان على نحو فظ: «ربما أنت مُحق في عدم حملها معك. أخبِر فازولي أنني سآتي لآخُذَ الأوراق الليلة في حوالي الساعة الحادية عشرة.»
زمجر ماسكاني قائلًا: «لقد أردتَ منِّي أن أنتظر حتى أتلقى الأوامر منك، أليس كذلك؟»
جاءت الإجابة الحادة: «أجل، ولا زلت.» وتابع: «رغم أنه، بخصوص هذا الأمر، يُمكنني أن أعطيها لك الآن. أريدك …»
قاطعه ماسكاني: «انتظر لحظة.» ثم تابع: «لديَّ موعد هذه الليلة، موعد مُهم. ألا يستطيع شخص آخر تولي هذه المُهمة؟ لديَّ الكثير من الرجال الجيدين هنا الذين يُمكن الوثوق بهم …»
قال الآخر بنبرة باردة: «بلا شك بنفس القدْر الذي يُمكِن به الوثوق بك.» ثم أضاف: «لكني أريدك أنت أن تُؤدِّي هذه المهمَّة يا ماسكاني؛ «أنت»، وأنت وحدك.» لقد تحوَّلت النبرة الباردة إلى نبرة آمِرة. ثم أردف: «هذه هي أوامري، هل تفهم؟ «أوامري»! وأنا لا أسمح بأي جدال بشأنها.»
تصاعَدَت الحمرة إلى بشرة ماسكاني الزيتونية بشدة من الغضب والحنق، لكنه كبح جماح نفسه.
وتابع الصوت مُهدِّدًا ببرود: «لا تنس، يا صديقي، أنك مُتورِّط فيما حدث الليلة الماضية بنفس قدْر تورُّط أي شخصٍ آخر. لقد أزلتَ أنت ورجالك العقبة الأولى في طريقنا، وجلبتم عربة القهوة تلك بينما كان يَجري القضاء على العقبة الثانية. أنت أيضًا كنتَ مَن أخذ شيئًا مُعينًا وأيضًا ذلك الأحمق الذي تبِعني إلى المكان الذي وُجدا هما الاثنان فيه. لهذا السبب أصررتُ أن تُوجَد أنت، شخصيًّا، في السيارة هذا الصباح عندما جرَت محاوَلة مُعيَّنة لإزالة عقبة أخرى. ضع ذلك في ذهنك يا ماسكاني، وأيضًا شيئًا آخر: أنه في اللحظة الأولى التي تُقدِم فيها على أي خطوة خاطئة، أو تَعصي أي أمر أتصوَّر أنه ضروري لنجاح خُططي، ستُصبح هناك تصفية أخرى، وعلى نحوٍ سريع للغاية. وسأتركك لتُخمِّن من سيكون ضحية تلك التصفية.»
كانت النبرة التي قيلت بها هذه الكلمات مُنذِرة بالشر بشدة لدرجة أنه مهما كان الدافع لدى زعيم العصابة لإعلان التحدِّي فقد تلاشى بسرعة، ليُفسح المجال لشيءٍ يُشبه الخوف بنحو ملحوظ. فبقدْر ما هو عديم الرحمة تمامًا تجاه أولئك الذين قد يتسبَّبون في استيائه بين أفراد عالمه الإجرامي؛ فقد رأى ما يكفي من أساليب الرجل الذي يأمُرُه الآن وكأنه كلب يملكه ليَغرس فيه الرعب الشديد من إنفاذ غضبه عليه هو شخصيًّا. إن المشهد الذي شاهَدَه في سوهو سكوير لم يكن هينًا؛ ولم تكن لديه رغبة في تكرار المشهد، مع كونه أحد المُمثلَين الاثنَين الرئيسيَّين فيه.
فقال بسرعة: «أوه، حسنًا، حسنًا.» وتابع: «دعني أحصل على الأوامر. يُمكنني تأجيل الموعد.»
قال بنبرة هادئة على نحو مذهل: «يجب أن أفعل.» وأضاف: «منذ أن قابلتك هذا الصباح، وصلتني معلومات مُعيَّنة تفيد بأن مكارثي هذا يبذل قصارى جهده لكشف غموض جريمة قتل سوهو سكوير. ولا يُمكنني معرفة ما إذا كان يعلم سبب هذا الموت المؤسِف؛ وهو الأوراق، التي سنقول إنك تعرف أمرها فقط. كما أنني لا أعرف على وجه التحديد ما إذا كانت هوية ذلك الشخص قد اكتُشفت أم لا. وهذه مسألة ذات أهمية كبيرة بالنسبة لي، وأريدك أن تخرج في الحال، وتلتقط مسار مكارثي وتُراقب تحركاته عن كثب. فقد تكشف بعض تصرُّفاته عما أريد أن أعرفه. اشرع في هذه المهمَّة على الفور وقد تتمكَّن من التوصُّل إلى شيءٍ مُفيد لي وإعلامي به عند الساعة الحادية عشرة. هذا كل شيء.»
احتج ماسكاني قائلًا: «لكن ليس لديَّ أدنى فكرة عن مكان وجود مكارثي.» وتابع: «إنه مثل دمية نطاطة لَعِينة؛ إذ تجده هنا وهناك وفي كل مكان.»
قال له الآخر ببرود: «هذا شأنك.» وأضاف: «ستجده بأسرع ما تستطيع إذا كنتَ حكيمًا. أمامك حتى الساعة الحادية عشرة.»
لم يكن هناك المزيد من الكلام. سمع فلو ماسكاني الرجل الآخر وهو يضع سماعة هاتفه، ثم انقطع الخط. وبعد أن عاد إلى غُرفة النادي، اختار ثلاثةً من الرجال الأكبر سنًّا والأكثر قوة في عصابته، والذين، كما كان يعلم، يُمكن الاعتماد عليهم ليس فقط لدهائهم، ولكن أيضًا لقدرتهم على خوض معركة حقيقية، إذا لزم الأمر.
«أما بقيتكم فعليهم الخروج من هنا بالضبط عند وقت الإغلاق والاختباء في أماكن يصعب العثور عليكم فيها.»
وقف للحظة أو اثنتَين يُفكر، ثم صعد بسرعةٍ مرة أخرى إلى الطابق العُلوي ليستخدم الهاتف، وطلب رقمًا مُعينًا. فأجابه صوت أنثوي خفيض مُغرٍ.
سألت: «من المتحدِّث؟»
قال لها: «هذا أنا، فلو.» وتابع: «لن يُمكنني اصطحابك للرقص هذه الليلة كما وعدتك، يا تيسا. لقد أسندَ لي مهمةً عَليَّ أن أُؤديها، اللعنة عليه.»
سألت: «عليه؟ من هو؟»، ولكن دون أن تُظهر نبرة خيبة الأمل في صوتها والتي كان يتوقَّع سماعها.
«الرجل العظيم الشأن. الشخص الذي أخبرتُك عنه والذي يَمنحُني المال بسَخاء مُؤخرًا.»
سألت: «الشخص الذي لا تَعرف اسمه؟»
أجاب: «أعرف الاسم الذي يَستخدمه.» وأضاف بشراسة: «لكنه ليس اسمه الحقيقي. إن ذلك الخنزير ألماني. لا تتحدَّثي عنه، يبدو أن لدَيه آذانًا تصلُ إلى كل مكان!»
فقالت: «يبدو أنك لا تُحبه، يا فلو.»
انطلقت ضحكة شريرة من ماسكاني.
«أحبه! أنا أحبه كثيرًا لدرجة أنني إذا رأيتُ سكينًا في حلقه، فسأضحك لمدة أسبوعَين! لكني أريد أمواله يا تيسا، لذا أتحمَّله كدواء مُر. لكن في أحد هذه الأيام سأُريه شيئًا منِّي لن يَنساه بسرعة.»
سألت بإيجاز: «لماذا؟»
ردد: «لماذا؟» وتابع: «لأنه يَعتقِد أنه كل شيء والباقي لا يهمُّون! إنه يُعطي أوامره كأنني كلب لدَيه، ويُصدِر تهديداته في نفس الوقت. أظن أنني يجب أن أطعنه بسكين رغم احتياجي له، ولكن أحد أفضل الأيام التي سأعيشها على الإطلاق هو عندما أراه ميتًا أو مكبَّل اليدَين. وبالنسبة لي فإن الأمرَين مُتماثِلان تمامًا.»
جاءته ضحكة موسيقية خفيضة عبر الخط.
وقالت: «أنت لا تُحبُّه يا فلو.»
أجاب ماسكاني بتجهُّم: «أنا لا أحبه!» وتابع: «وفي يوم من الأيام سيَعرف ذلك. حسنًا، يجب أن أذهب. سأُهاتفك غدًا.»
قالت: «هاتِفني في المساء، يا فلو.» وأضافت: «لن يكون لديَّ مشاغل حينها.»
سأل بغيرة: «ماذا تقصدين بما قُلتِهِ لتوك؟» وأضاف: «ماذا ستفعلين خلال بقية اليوم؟»
لكنه لم يحصل على إجابة، وللمرة الثانية في ذلك المساء سمع السماعة وهي تُغلَق في وجهه. كان لا يزال يتمتم باللعنات عندما انضم إلى الثلاثة الذين اختارهم لمهمة الليلة وغادر تشيركولو فينيتسيا.
وأثناء مروره عبر البار الخارجي، كان السنيور باولو فانادي ذو المظهر الوحشي يُسهب في الحديث بحماس حول موضوع أو آخر. وتوقَّف للحظة لإلقاء نظرة احتقار على المجموعة المكونة من أربعة أشخاص أثناء مرورهم، وأشار بإصبعه تجاهَهم.
وقال على نحو مسموع للجميع: «جرذان!» وتابع: «جرذان على قدمَين بدلًا من أربعة! والفرق الوحيد هو أن ذوي الأرجل الأربعة لديهم المزيد من الشجاعة!»
وعندما لم يتلقَّ أي إجابة من أي نوع على هذه السخرية، بصق متعمدًا على الحذاء الملمع للغاية لرجل العصابة الذي يسير في الخلف، ثم واصل حديثه الحماسي.