مكارثي يكاد يُصيب مديره بالشلل من الدهشة
رن جرس هاتف السير ويليام هاينس بشدة عند فترة منتصف النهار، وعندما رفع السماعة وجد أن مُحدثه هو الرجل الذي تصادَف أنه يُفكِّر فيه في هذه اللحظة؛ المفتش المُحقِّق مكارثي.
ومن ثم صاح قائلًا: «غير معقول يا ماك.» وتابع: «يبدو أن الأحداث قد ازدادت سخونة في سوهو الليلة الماضية. هل تعلم أن هناك جريمةً ثالثة قد ارتُكبت هناك بعد منتصف الليل؟»
سأل مكارثي بصوتٍ يُوحي بأن الأمر لا يَعنيه مطلقًا: «حقًّا؟ مَن القتيل هذه المرة؟»
قال المفوض المساعد، بحماس تقريبًا: «لن يُمكنك التخمين ولو بعد مائة سنة.»
قال المفتش بهدوء: «أنا لا أحاول.» وأضاف: «إذا كنتَ تعني فلوريلو ماسكاني، لكان يُمكنني إخبارك بذلك بعد ربع ساعة من وقتِ وقوع الجريمة. ودعني أُصحِّح لك معلومةً أخرى يا بيل. إن جريمة قتل العجوز جو أنسيلمي، والتي أظنُّ أنها واحدة من الجرائم الثلاثة التي ذكرتها، قد ارتُكبت قبل منتصف الليل، وليس «بعده». ليس قبله بفترة طويلة، ربما بعشر دقائق أو نحو ذلك، لكن المهمَّة الأولى للمفوض المساعد في إدارة الشرطة هي الحصول على معلوماته بنحوٍ دقيق.»
سأل المفوض المساعد، على نحوٍ سريع إلى حدٍّ ما: «إذن فقد كنتَ تعرف خبر مقتل ماسكاني أليس كذلك؟»
«بيني وبينك يا بيل، لقد كنتُ أنا أول من عرف أي شيءٍ عن مقتل ذلك الرجل، ولكي أكون أكثر دقة، أنا مَن اكتشف الجثة وأبلغ الشرطة، بعد أن انتهيتُ من فحصها.»
«أنت من اكتشف …»
كرَّر مكارثي: «أنا من اكتشف الجثة وأبلغ الشرطة.» وأضاف: «وكان مشهدًا بشعًا. ولا يمكن مقارنته ببشاعة مقتل «السيدة» في سوهو سكوير، بالطبع، لكنك لا ترى مثل تلك المشاهد البشِعة كل يوم، حمدًا لله.»
سأل السير ويليام باهتمام: «هل هناك جديد في هذا الاتجاه، يا ماك؟»
أجاب مكارثي بهدوء: «هناك عدة أشياء، على الرغم من أنها ليست جاهزة بعدُ لتُوضَع في تقرير رسمي كامل. وعندما تجهز أظنُّ أنها ستُصبح مادةً مُشوقة للقراءة من أجل صحف الأحد.»
سأل المفوض المساعد: «من أين تتحدَّث الآن؟»
قال مكارثي: «من كشكِ هاتفٍ بالقُرب من أكسفورد ستريت.» وتابع: «لقد كنتُ أُجري بعض التحريات لقليلٍ من الوقت هذا الصباح يا بيل، قبل أن تستيقظ بكثير، حسبما أظن. بالمناسبة لقد ظهر الطبيب الشرعي العجوز بحماسٍ غير معتاد في المشرحة بعد أن اتصلتَ أنت به هاتفيًّا. لا بد أنك قد تملَّقته للغاية يا بيل؛ لقد كان نشيطًا على نحو غريب.»
قال بقلق: «الأمر المُهم هو إن كان قد توصَّل إلى أي معلوماتٍ مفيدة من خلال قيامه بالتشريح. هل هناك أي شيءٍ يُساعدنا في منع خروج تلك الخطط خارج البلاد يا ماك؟»
قال مكارثي مُطَمْئنًا: «سنفعل ذلك، بكل تأكيد.» وأضاف: «وأنا أريدك أن تساعد في ذلك بدون أن تسأل أي أسئلة يا بيل. هناك جُحرٌ قذِر في حانة تُسمَّى تشيركولو فينيتسيا أريد أن تَجري مراقبته. وعندما أقول مراقبته، فأنا لا أعني أنني أريد ثمانية أطنانٍ من اللحم البشري لتنتشِر خارج وحول المكان بحيث يُدرك الجميع من هم، وماذا يفعلون. إنما أريد شبابًا بارِعين يتولَّون المهمة؛ شبابًا لا يبدو عليهم أنهم من رجال الشرطة، ولا يتصرَّفون مثلهم، هل هذا واضح؟»
«تمامًا. ألن تُعطيَني تلميحًا لما أنت مُقدِم عليه؟»
«يمكنني أن أُخبرك بما يلي يا بيل. لقد نُقلت تلك الخطط إلى حانة فازولي بالأمس، وفي رأيي أن هناك شخصًا واحدًا له علاقة بذلك وهو فلوريلو ماسكاني. وما إذا كان قد قُتل بسببها، هذا ما لا أعرفه؛ لكنني متأكد تمامًا من أمرٍ واحد، وهو أنه قد استُدرِج إلى مكان قتله، بكل تأكيد. هناك زاوية أخرى لهذه الجريمة تتكشَّف بشدة، وهي تبدو لي كحدس قوي، حدس غامض تمامًا لديَّ وسيُؤدِّي إلى نهاية سعيدة. على أي حال، تولَّ أنت أمر الجزء الخاص بحانة فازولي، وإذا بدأ أي من المسئولين الكبار في وزارة الداخلية أو وزارة الحرب في إزعاجك حول تلك الخطط، أخبرهم أن لدَيك سببًا للاعتقاد أنها سوف تُسترجَع إلى حوزتهم رسميًّا قبل نهاية اليوم.»
قال هاينس بقلق: «سيضعني هذا في موقفٍ لا أُحسَد عليه إذا لم تُسترجَع، يا ماك.»
قال مكارثي بمرح: «انسَ ذلك، ودع ذهنك يتخيل المجد الذي ستناله عندما تُعيدها إليهم.»
ودون سابق إنذار، أدار دفة الحديث في اتجاهٍ آخر مثلما اعتاد على نحوٍ مفاجئ ومُربك.
وقال: «بالمناسبة يا بيل، هل ذهبتَ إلى منزل البارونة لينا إيبرهارت مؤخرًا؟ ربما ينبغي أن أسأل كم مضى منذ أن زُرتَها آخر مرَّة؟»
سأل السير ويليام بحدة: «ما علاقة هذا بالقضية؟»
قال مكارثي بسخرية: «إن مهمَّة المُستجوَب هي الإجابة على الأسئلة على نحو مُباشر وبسيط قدْر الإمكان، وليس توجيه الأسئلة في المقابل، والتي تكون إجابات مراوغة.»
«أنت تَنتقِل من موضوع إلى آخر مثل اﻟ… اﻟ…»
قال مكارثي: «الذبابة.» وأضاف: «أنا أُكرر السؤال، يا بيل، كم مضى منذ أن زرتَ منزل البارونة لينا إيبرهارت آخر مرة؟»
«على الرغم من أنني ما زلتُ لا أرى صِلةً بين هذا السؤال وهذه القضية، فسأجيبك. أظن أنه قد مرَّ شهران تقريبًا منذ أن تناولتُ معها شاي المساء هناك.»
قال مكارثي بلُطف: «انظر إلى ذلك، الآن!» وأضاف: «إن المفوض المساعد يَتناول شاي المساء مع البارونة الجميلة داخل منزلها في جروفينر سكوير.» وتابع: «وأظنُّ أنه خلال تلك الزيارة، أو أي زيارات سابقة قمتَ بها، من المحتمل أنك قد قابلت بعضًا من أصدقائها.»
«بالطبع، لقد قابلتُ بعضًا من أصدقائها، الكثير منهم. إن البارونة امرأة معروفة وذات شعبية في المجتمع، ومن الصعب أن تَذهب إلى أي مكانٍ دون أن تُقابل معارف لها.»
قال المفتش رافضًا: «أوه، ها أنت تُراوغ مرةً أخرى، يا بيل.» وتابع: «أنا لم أكن أتحدث عن معارفها على المستوى الاجتماعي. أنا أقصد أصدقاءها المُقربين، هؤلاء الذين تُقابلهم في منزلها.»
قال المفوض المساعد، مع نبرة ارتباك في صوته: «لقد قابلتُ بعضًا ممن يمكن أن نُطلِق عليهم أصدقاءها المقربين بالفعل.» وتابع: «وقد قابلتهم في منزلها.»
قال مكارثي بلطف: «أه!» وأضاف: «الآن سنَصل إلى ما نريد. وهل كان أيٌّ منهم نمساويًّا، مثلها، يا بيل؟ أقصد ممَّن كانوا محظوظين للغاية في الفرار قبل الاتحاد المهيب للنمسا مع هتلر، أو حتى بعده؟»
توقف السير ويليام للحظة قبل أن يجيب.
«كان البعض منهم كذلك يا ماك. اسمع، ماذا وراء كل هذا الاستجواب؟»
قال المفتش ببساطة: «أعطني الإجابات يا بيل، واترك لي ما هو وراء هذا الاستجواب.» وتابع: «صدقني أنا لن أُضيِّع وقتي بلا فائدة.» وتابع: «هل أنت متأكد تمامًا من أنهم «كانوا» نمساويين، وليسوا ألمانًا، بأي حال من الأحوال؟ أعتقد أنني أعرف الأوروبيين جيدًا إلى حدٍّ ما، ولكن هناك أوقاتًا يُصبح فيها معرفة الفارق بينهم صعبًا.»
ظهرت النبرة المضطربة في صوت المفوض المساعد مرة أخرى.
وقال باندفاع: «بقدْر ما أستطيع أن أقول لك يا ماك، كانوا نمساويِّين، لكن ربما أكون مخطئًا، بالطبع. لقد قدَّمَتهم لي بالتأكيد على أنهم نمساويُّون، ومعظمهم من الطبقة التي نتحدَّث عنها. ليس لديَّ سبب للشك في البارونة. هل لديك أنت؟»
«أنا؟ حاشا لله أن أسمح لنفسي بمثل هذا الأمر! ماذا عن خدمها؟ هل استرعى انتباهك أن أيًّا منهم ربما يكون مِن الألمان؟»
مرة أخرى توقف هاينس قبل أن يجيب.
ثم أجاب بنبرة تفكير طويلة الأمد: «كلا.» وتابع: «لا أستطيع أن أقول إن أي شخصٍ قابلته قد استرعى انتباهي لكونه كذلك.»
سأل مكارثي: «ماذا عن هاينريش؟» وتابع: «هل تعرفه؟»
كرر هاينس: «هاينريش؛ هاينريش.» وقال: «أجل، لقد تصادف أن عرفت ذلك الشخص بالتحديد. إنه كبير خدمِها، خادم خاصٌّ أحضرَتْه معها من فيينا.»
قال مكارثي مرةً أخرى، بتلك الطريقة الناعِمة والغامضة التي يتَّسم بها: «انظر إلى ذلك، الآن.» ثم أضاف: «وهل هناك أي شيءٍ بخصوص هاينريش قد يقودُك إلى الاعتقاد بأنه من أصلٍ ألماني؟»
أجاب هاينس بتمعُّن: «حسنًا.» وتابع: «بخصوص ذلك، يا ماك، بالنسبة للبِنية والمظهر العام، فمن المؤكَّد أنه «يُمكن» أن يكون ألمانيًّا، من النوع القديم لضبَّاط الصف الذي اعتدْنا بشدة عليه في الحرب.» ثم أضاف على عجل: «لكن، بالطبع هذا لا يَعني أنه ألماني للحظة. لا أستطيع أن أُصدِّق أن السيدة التي تَكره النازيِّين وجميع أعمالهم بقدْر ما تفعل ستَستعين بألماني ليعمل لدَيها ككبيرٍ للخدم؛ لأنه حسبما فهمت هذه عمليًّا هي وظيفة الرجل هناك.»
قال مكارثي بلُطفٍ، بل في الواقع بكثير من اللطف إلى حدٍّ أضاف المزيد من الارتباك إلى عقل رئيسه: «لا يبدو ذلك مُرجَّحًا للغاية، أليس كذلك؟»
فصاح قائلًا: «اسمع يا ماك.» وتابع: «دعْنا نَنتهي من كل هذا. أكره أن أقول ذلك، لكن بصفتي رئيسك المباشر أُطالب بمعرفة ما وراء كل هذه الأسئلة. لديك شيء ما في ذهنك، ومن صميم عملي معرفة ما هو. ما الذي تُحاول قوله بخصوص البارونة لينا إيبرهارت؟»
عاتبه مكارثي قائلًا: «اهدأ، اهدأ.» وتابع: «إن التوتُّر العصبي يا بيل، لا يُفيد أي شخص، وعلى وجه الخصوص، يُشوِّش على أحكام أولئك الذين يَشغلون المناصب الرفيعة، مثلك. إن السؤال الذي يَشغل بالي حقًّا هو متى من المُحتمَل أن تَتناول الشاي مع السيدة مرةً أخرى؟ اهدأ ولا تفقد أعصابك؛ فقط أعطِ السؤال اهتمامك اللطيف والسائل إجابةً لطيفة.»
عبر الخط، سمع مكارثي المفوض المساعد وهو يبلع شيئًا بصعوبة. ثم قال بحدة وبجُهد واضح: «إن لديَّ دعوة لزيارة البارونة في أيِّ وقتٍ أرغب فيه.»
سأل مكارثي: «لقد جُدِّدت لك الدعوة مرة أخرى بالأمس، على الأرجح، أليس كذلك؟»
أجاب هاينس على نحو لاذع: «إذا كان هذا له أي صلة بعملك، فقد حدَث ذلك بالفعل.»
قال له المفتِّش: «إنه من صميم عملي يا بيل.» وتابع: «وما هو أكثر من ذلك أنك لا تحتاج إلى التعامُل مع الأمر بتكبُّر وعنجهية. إذا كنت ستَفعل ما أريدك أن تفعله، فستذهب لتتناول معها كوب شاي دون إخطار مُسبق بعد ظهر هذا اليوم، مع مراعاة الاقتراح الذي قدَّمته لك بشأن هاينريش، كبير خدم السيدة، أو خادمها الخاص، أو أي شيء آخر تُحب أن تُطلقه عليه.»
كاد الشعور بالدهشة من الطلب أن يُصيب المفوض المساعِد بالشلل وهو ما بدا واضحًا للغاية من النبرة التي أجاب بها.
فسأل وهو غير مصدق: «هل أنت جادٌّ في هذا؟» وتابع: «هذا ليس بعض …»
قال مكارثي بجدية: «هذا ليس أي شيء سوى الملاحَقة المناسبة للمهمة التي كلفتَني بها.» وأضاف: «لديَّ أسبابي الخاصة، وهي وجيهة للغاية، كي أرغب في شخص لدَيه عين رسمية أن يتفحص أمر هذا الرجل بالذات، ويحصل على فرصةٍ لتقييمه. ولا يُوجد أي شخص آخر في سكوتلاند يارد يُمكنه فعل ذلك، دون إثارة الشك، وهذا في الوقت الحالي هو آخر شيء أريده. الأمر متروك لك بالطبع. أنت الرجل صاحب القرار، وليس أنا.»
كشفت نبرة معينة في صوت المفتِّش للمفوض المساعد أنه، مهما كان هناك ما يُسميه مكارثي «حب الدعابة» في تركيبته المعتادة، فهو في الوقت الحالي جادٌّ للغاية.
فقال، على مضض: «حسنًا، يا ماك.» وتابع: «بما أنك تَعتقِد أن الأمر ضروري، سأذهب. هذا على الرغم من أني لا أعلم ما ستظن السيدة حيال زيارتي لها بهذه الطريقة. سأضطر إلى اختراع عُذر ما مثل مروري بالقُرب من منزلها، ومحاوَلة جعل ذلك يبدو معقولًا.» واختتم حديثه بتجهُّم: «لكن يُمكنني أن أقول لك هذا؛ إنه إذا …»
قاطعه مكارثي: «إذا لم تكن النتيجة جيدة بنسبة مائة في المائة، فليَرحم الله الرحيم باتريك ألويشوس مكارثي برحمتِه؛ إذ إن أي شخصٍ آخر في سكوتلاند يارد لن يفعل هذا. سأغامر بهذا الأمر. توجه إلى هناك، يا بيل، ومن أجل الرب»، وتابع بعناد: «لا تنس أيًّا من الحِيَل الصغيرة التي علَّمتْك إياها والدتُك وأنت تجلس على رُكبتها في ردهة منزلكم. دعم جهازك، وسيُصبح جهازك داعمًا لك. واعلم كذلك أنه قد يكون هناك ضيوف مميزون آخرون قد تجدُهم في صحبتك. لا يُمكنك الجزم بهذا الشأن، كما يقول السيد برنارد شو.»
وقبل أن يتمكَّن المُفوَّض المساعد من العثور على أي ردٍّ مناسِب على هذا المزاح، كان مكارثي قد أنهى المكالمة، تاركًا السير ويليام هاينس يستخدِم لغة غير مناسبة تمامًا لضابط سابق ورجل نبيل، ناهيك عن كونه أحد كبار المُديرين في إدارة نيو سكوتلاند يارد.