المفتش يوضح الأمور!
كانت البارونة، في رأي السير ويليام هاينس، في أفضل حالاتها بعد ظهر ذلك اليوم. لم يحدث قط، في المناسَبات العديدة التي كان من دواعي سرور المفوض المساعِد أن تستضيفه خلالها في منزلها، أن بدت جميلةً للغاية، وساحِرة بوجهٍ عام، كما كانت في هذا اليوم. ومهما كانت المفاجأة التي ربما تكون قد غمرتها عندما أُبلِغت عن الزيارة غير المتوقَّعة تمامًا، فهي لم تسمح لأي علامة على ذلك أو، في الواقع، أي اضطراب من أي نوع، بأن يظهر على ملامحها.
لم يستطع السير ويليام أن يُدرك بالضبط ما يخطط له الماكر مكارثي عندما أصر على أن يفاجئها بهذه الطريقة، لكنه كان مُتأكدًا تمامًا من أن هذا الضابط المُلتزم سيَضع نفسه في موقفٍ محرج جدًّا إذا حاول الادِّعاء بأن هذه السيدة تحديدًا لها صِلة بواقعة السرقة التي حدثت في وايتهول. ومن جانبه، أبقى الأمور المهنية بعيدًا عن المحادثة، وفسَّر سبب زيارته من خلال حقيقة أنه كان لدَيه مهمة عمل في منزلٍ آخر في جروفينر سكوير، واغتنم هذه الفرصة. كما لم يذكر اسم المحقِّق المفتش مكارثي، على الرغم من أن البارونة وجَّهت الحوار أكثر من مرة على نحوٍ مُحدد في هذا الاتجاه. بلا شك فإن المفتش الجذَّاب كان مصدر اهتمامٍ كبير لها.
لكنه لاحظ أنها بينما كانت مُضيفة مثالية في كل النواحي، فإنها كانت قَلِقة إلى حدٍّ ما، وتَتنقَّل في الغرفة كثيرًا. وعلى وجه الخصوص، استمرَّت في التحرك نحو النوافذ البارزة الكبيرة في غرفة الاستقبال والتي تَفتح على شُرفة رخامية ومكسوَّة بالفُسيفِساء تطلُّ على الميدان وتعلو مباشرة حديقةً صخرية صغيرة مُصمَّمة على نحوٍ مثير للإعجاب.
على الرغم من حقيقة أن السيدة كانت لطيفةً للغاية، فإنَّ السير ويليام، في ظلِّ هذه الظروف، بدأ يجد صعوبة في إجراء محادثة معها مع مرور الوقت، فلم يكن لديه أي فكرة إلى متى توقَّع مكارثي منه أن يَستمر في هذا الموقف السخيف اللعين. وقد أولى، وفق ما طُلب منه، اهتمامًا كبيرًا لخادم السيدة، أو كبير خدمها، أيًّا كان ما تُفضل مناداته به، عندما قدم لهما هذا الشخص ذو المظهر الكئيب شاي العصر. من المؤكد أنه بدا نموذجًا لهيئة ضابط صف ألماني، وكان هناك شيء واحد مؤكَّد تمامًا، وهو أنه على الرغم من إتقانه أداء دور الخادم، فإن مظهره، بملامحه الضخمة والوحشية، لا يدلُّ على كونه خادمًا على الإطلاق.
لكن السير ويليام قال في نفسه حتى وهو يتحدَّث بمرحٍ مع السيدة إن هذا لا يجعل من سيدته طرفًا في مخطَّط تجسُّس عملاق. إن الكثير من الأشخاص المُحترَمين للغاية مظهرهم غير جذاب، ولم يكن الحكم على رجل من خلال مظهره فقط يومًا جزءًا من نظام العدالة الإنجليزي. لو كان الأمر كذلك فإن عددًا لا بأس به من الضباط المُحترمين بشدة في سكوتلاند يارد نفسها كان يجب سجنهم بناءً على هذا الأساس.
ومع ذلك، بينما هو يُشاهد الهيئة الرائعة لمُضيفتِه وهي تتحرَّك برشاقة في غرفة الاستقبال، كانت هناك حالة من عدم الارتياح في ذهن السير ويليام. إذ لم يكن مكارثي من النوع الذي قد يرتكب خطأ فظيعًا في حق أشخاصٍ ذوي مكانة اجتماعية، ومالية، وهو يعلم أن هذا الخطأ قد يوقع إدارة سكوتلاند يارد، وهو نفسُه على وجه الخصوص، في مأزقٍ رهيب إذا كان الاتهام غير صحيح.
وبينما هو يتذكَّر السرعة غير العادية التي ربط بها المفتِّش الذي لا يَعرف الكلل بين عملية السطو في وايتهول وجريمة القتل في سوهو سكوير، وكذلك، لاحقًا، جريمة قتْل ماسكاني وأيضًا الرجل العجوز صاحب عربة القهوة، لم يكن هناك شيء كان يُمكنه فعله لزعزعة الشك الذي أصر على البقاء في ذهنه. بدا أمرًا لا يُصدَّق أن هناك أدنى صلة بين هذه السيدة وتلك الأحداث المروعة، ولم يكن بإمكانه إلا أن يأمُل عندما يَنتهي مكارثي من تحقيقاته أن يكتشف أنه كان يتتبع مسارًا خاطئًا بخصوصها. على أي حال، كان ينوي منح المفتش خمس دقائق أخرى كمهلة، ثم يستأذنها في المغادرة في الوقت الحالي.
ولكن لم تمر أكثر من دقيقتَين من تلك الدقائق عندما تلقَّى ما كان من المُحتمَل جدًّا أن يكون أكبر صدمةٍ له في حياته المهنية؛ لأن الباب القابل للطيِّ في غرفة الاستقبال انفتح فجأة، وبدلًا من ظهور هاينريش ذي المظهر الكئيب ليُعلن عن وصول ضيوف آخرين، هناك على العتبة وقف مكارثي نفسه، بينما وقف خلفه «بيج بيل» ويذرز بجسده الضخم، ومفتاح الربط في قبضة يده اليُمنى الضخمة.
كان واضحًا للغاية أن مكارثي قد مرَّ بوقتٍ عصيب منذ أن رآه آخر مرة. إذ بدت على وجهه علامات معركة وقعت منذ وقتٍ قصير، والتي بالتأكيد لن تندمِل بسرعة. بالإضافة إلى ذلك، بدت البدلة القديمة التي كان يرتديها مغمورة بغبار الفحم على الرغم من أن وجهه المُصاب بكدمات عديدة كان خاليًا إلى حدٍّ ما من تلك المادة. ولكن أكثر ما أزعج هاينس، عندما تغلب على صدمة هذا الظهور غير المتوقَّع، كان مظهر الانتصار الهادئ الذي أشرق في عينَي المفتش اللطيفتَين ذواتَي المظهر الإيطالي؛ وهي نظرة قد رآها كثيرًا ولا يُمكن أن يُخطئها. وأيًّا كان ما يمكن أن يُنبئ عنه ظهوره، وهذا الزي الذي كان يَرتديه وتلك الحالة التي كان عليها، فلم يكن هناك شك في ذهنِ المفوض المساعد أن مكارثي قد أتمَّ مهمَّته بنجاحٍ مرَّة أخرى.
ربما لمدة خمس ثوانٍ سادَ صمتٌ تامٌّ في الغرفة، بخلاف صيحة التعجُّب تلك التي صدرت عن هاينس عند ظهور هذين الرجُلين المُتباينَين في الشكل على نحو غريب. وقد كُسر الصمت أولًا من قبل البارونة إيبرهارت، التي وقفت تُحدق في مكارثي، المختلف تمامًا عن ذلك الذي التقت به في مطعم فيري، كما لو كانت تُحدِّق في شبح خرج من القبر.
وقالت دون أي علامة على الاضطراب: «هذا مصدر سرور غير متوقع تمامًا أيها المفتش»، لكن مكارثي لاحظ أن الابتسامة التي ظهرت على شفتَيها كانت ثابتةً وجامدة، وبطريقة ما أعطت تعبيرًا مختلفًا تمامًا لوجهها.
فقال بسلاسة: «حسنًا، الآن، أشك في ذلك. في ظل هذه الظروف ربما سأتفاجأ أنا نفسي. لكن، بطريقةٍ أو بأخرى، شعرتُ عندما تركتك في مطعم فيري أنه لن يمرَّ وقت طويل قبل أن نلتقي مرة أخرى.»
قالت: «هذا أمر مُثير للاهتمام.» ثم التفتت إلى السير ويليام. وأضافت: «هل كانت لديك أي فكرة أن المفتش مكارثي ينوي أن يزورَني هذه … الزيارة غير التقليدية؟»
انتفض السير ويليام هاينس، ثم نظر إلى سبب شعوره بالإحراج. وأجاب بسرعة: «لم يكن لدي أدنى فكرة.» ثم عدل كلامه بسرعة قائلًا: «بالرغم من ذلك، بطريقةٍ ما، كان لديَّ فكرة أنه … سيكون في مكان ما في … في هذه الأنحاء.»
أومأت البارونة. ثم قالت بتمعُّن: «فهمت.» وتابعت: «هل يعدُّ سبب هذه الزيارة من الأسرار الرسمية أم من المُمكن أن تُخبرني به أيها المفتش؟ فهناك دافع ما وراء زيارتك، بكل تأكيد.»
«حسنًا، في البداية، على نحوٍ ما، هذا هو نتيجة تتبُّع «حدسي» في البداية. لا أعرف ما إذا كانت الكلمة مألوفة لك يا بارونة أم لا، إنها كلمة تعني فعل شيء بدون أدنى منطق أو سبب أو أي شيء آخر يمكن أن يُبرره: إنني أفعل هذا النوع من الأشياء، مثلما يمكن أن يخبرك السير ويليام هنا، ويكون هذا مصدر إزعاج جهنمي أصنعه لنفسي بوجهٍ عام أثناء تتبعي له. وكان ذلك الحدس هو ما جعلني أُراقب صديقكِ البارون هيلنر — أعتقد أن هذا هو الاسم — وأتتبعه خارج سوهو سكوير بعد جريمة قتل المدعوَّة مدام رونر.»
قالت باستخفاف: «أه، جريمة قتل سوهو سكوير.» وأضافت: «لكن أولًا يجب أن أُصحح لك نقطة واحدة. أنا ليس لديَّ صديق بهذا الاسم.»
قال مكارثي بسلاسة: «ربما ليس هذا هو الاسم الصحيح.» وتابع: «لكنه سيفي بالغرض في الوقت الحاضر. أما بالنسبة إلى كونه ليس صديقًا لكِ فأنا أعترف أنني لا أفهم ذلك. فقد خطرت لي الفكرة من خلال زيارته لكِ هنا الليلة الماضية، بعد جريمة قتل ماسكاني.»
تمتمت: «ماسكاني.»
«بالضبط، فلوريلو ماسكاني. الرجل الذي قتلت عصابته، بتحريض من هيلنر، رجلًا مسنًّا مُسالمًا يُدعى أنسيلمي للاستيلاء على عربة القهوة الخاصة به واستخدامها كوسيلة لإخراج جثة مدام رونر المزعومة من سوهو سكوير.»
تمتمت بنفس الطريقة الغامضة: «مدام رونر.»
أومأ مكارثي برأسه. وقال: «بالضبط.» وتابع: «وكان هذا هو السبب الثاني الذي أحضرني إلى هنا اليوم. إذا لم تذكري في مطعم فيري حقيقة أنك قد ذهبتِ في ذلك الصباح لاستشارة الوسيط الرُّوحي، أو المستبصر، أو أيًّا كان المصطلح الصحيح، الخاص بكِ، وعلاوةً على ذلك، أبلغتني أنا والسير ويليام بأنك قد حدَّدت الموعد عبر الهاتف، فربما لم أكن لأشكَّ بك أبدًا للحظة، بخصوص جريمة القتل وسرقة تلك الخطط من وايتهول، بالطبع.»
وجهت البارونة نظرَها باستفسار بعيدًا عنه نحو هاينس، الذي كان يُحدق في السقف متسائلًا عما سيأتي بعد ذلك، ثم نظرت مرةً أخرى إلى مكارثي. كان وجهها حالة مثالية للخلوِّ التام من التعبير.
قالت: «أخشى أن …» عندما قاطعها مكارثي بإشارة من يده.
«سوف نأتي إلى ذلك لاحقًا. يكفي ذكرُ أنني قد علمت بالصدفة أن البارون هيلنر قد سلم الأوراق المسروقة إليك الليلة الماضية وتأكَّد من أن هاينريش سيُخرجها من إنجلترا اليوم.»
سألت: «تأكد ممَّن أيها المفتِّش؟»
قال لها: «منكِ، أيتها البارونة.» وتابع: «إن ذاكرتك بالتأكيد ليسَت سيئة لدرجة أنك نسيت ذلك. لقد أحضرها إليك على الفور بعد أن حصل عليها من حانة صغيرة قَذِرة في سوهو، تُعرف باسم تشيركولو فينيتسيا، يُديرها شخص يُدعى فازولي، وهو بالمناسبة، مكان مألوف لك تمامًا، حيث ذهبت إلى هناك بلا شك البارحة بعد الظهر. وبعد أن ترك هيلنر ذلك المكان، قتل صديقنا الصغير البغيض، لودفيج، ماسكاني، أيضًا بتحريض من هيلنر.» استمر المفتش في حديثه مع ابتسامته الجميلة: «لسوء الحظ، لقد أثار سوء أخلاقه المؤسِف تجاه من يعتبرهم أقلَّ شأنًا منه في الحياة غضب صديق مُعين لي، والذي تبِعه إلى جروفينر سكوير، وبكل فِطنة، استمع إلى المحادثة التي أجريتِها مع هيلنر على باب منزلكِ. إنه خطأ كبير، أيتها البارونة؛ إنه لأمر مُدهِش كيف تَنتقِل الأصوات في سكون التعتيم.»
لم تقل السيدة شيئًا؛ كانت ابتسامتها ثابتة كما هي دائمًا، لكن مكارثي رأى عينيها تنظران باتجاه حبل جرسٍ قديم الطراز بجانب إحدى النوافذ الناتئة الكبيرة التي تَنفتِح على الميدان. فتحرك بتكاسل ليضع نفسه بينها وبينه.
«لن يجدي نفعًا على الإطلاق، أيتها البارونة، أن تَطلُبي المساعدة أو … أو أي شيء آخر قد يكون في ذهنك أن تفعليه. إن جميع خدمِكِ مُحتَجَزون، حيث لن يتمكنوا من الخروج على عجل، مع وجود رجل قوي للغاية يحرسُهم مع مجرافه. وهاينريش في وضعٍ سيِّئ بنفس القدر، وبالتأكيد هو ليس في حالة تسمح له بالرد على أي استدعاء قد توجهينه إليه.»
صاحت بحدة: «هل احتجزتَ هاينريش؟»
«حسنًا … تقريبًا. فقد كان من دواعي سروري، من دواعي سروري الشديد في رأيي، أن أُفقِد ذلك الرجل وعيه قبل أن أصعد إلى هنا.» ثم صحح كلامه على عجل: «أو على وجه الدقة، صديقي، السيد ويذرز الموجود هنا معي، هو مَن ساهم بهذه المساهمة القيمة للغاية في هذه المداهمة، وما يفعله في هذا الصدد، يفعله على أتمِّ وجه، يُمكنني أن أؤكد لك هذا.»
فسألت بحدة: «أين البارون هيلنر الآن؟»
«إن هذا الرجل المحترَم، الذي، بالمناسبة، أنتِ لا تعرفينه، يَقبع في الوقت الحالي مُستريحًا في زنزانة في قسم الشرطة الموجود في فاين ستريت أو كانون رو، وذلك إذا سارَت الأمور وفقًا لتعليماتي، وهو مما لا شكَّ فيه. ومعه، أو في مكان قريب منه، تلك السيدة الشابة الجميلة للغاية، والتي يؤسِفني أن أقول غير المحظوظة، السنيورا تيسا دومينيكو، التي بمُساعدتها استُدرج ماسكاني كي يَلقى مصرعه. في الوقت الحالي، كل شخص شارك في هذه الجريمة، وجريمة قتل سوهو سكوير، هو قيد الاعتقال، مع استثناءَين ملحوظين، لودفيج وأنتِ. وهذا ما نحن بصدد تصحيحه في أقرب وقت.»
وبينما هو يتحدَّث، ألقى نظرة خاطفة عبر النافذة ليرى سيارةً تدخُل ببطء إلى الميدان وهي السيارة التي كانت تُقلُّ تيسا دومينيكو وأغراضها من داوتي ستريت إلى بارك لين. وقد جلَس القزم، لودفيج، أمام عجلة القيادة بأسلوبه المُعتاد، مثل جاك في الصندوق.
فقال بهدوء: «ويذرز، إذا نزلت إلى البدروم؛ فمِن المُحتمَل أن تُقابل الشخص الذي كنتُ أتحدث عنه للتوِّ. القزم الذي رأيناه يُوصل تيسا دومينيكو إلى بارك لين هذا الصباح. لا تتردَّد بشأنه، وتأكَّد من اعتراضه قبل أن يتمكَّن من الوصول إلى المطبخ حيث احتجزنا الآخرين. لا أريد أن أجد صديقنا القويَّ رئيس عمال الفحم مطعونًا بسكين في ظهره، الأمر الذي سيُصبح على الأرجح نهايته إذا علم هذا المأجور ذو الوجه البشع طبيعة المهمَّة التي يؤديها.»
قال «بيج بيل» بتجهُّم: «اترك لي هذه المهمَّة، أيها الرئيس»، وغادر بسرعة ونزَل السلم. وفي الحال واجه مكارثي البارونة، وبدَت عليه كل علامات الصرامة.
وقال بتجهم: «سأحصل على تلك الأوراق المسروقة أيتها البارونة إيبرهارت.» وتابع: «إن إنكارك لأيِّ معرفة بها أمر لا طائل من ورائه. لقد وُضِعت بين يديك الليلة الماضية كي تُهرَّب خارج إنجلترا بواسطة خادمك هاينريش. على أيِّ حال، من واجبي إبلاغك بأنك رهنَ الاعتقال بتُهمة التجسُّس، وعلاوة على ذلك، التورُّط في ثلاث جرائم قتل والتواطؤ بشأنها قبل حدوثها وبعده. كما أنه مِن واجبي إبلاغك بأن أيَّ شيء قد تضطرِّين إلى قوله سيُدوَّن ويُستخدَم كدليل ضدك.»
فقط مَن سيُؤدِّي عملية «التدوين» هذه، هذا ما لم يكن باستطاعة مكارثي تحديده في الوقت الحالي، ما لم يكن، بالطبع، السير ويليام هاينس. وقد جلَس ذلك الرجل المحترم يُحدق من أحدهما إلى الآخر كما لو كان عقله في متاهةٍ تامَّة، ولم تصدر عنه أيُّ حركة على الإطلاق تُشير إلى أنه على وشك أن يُصبح الكاتب المساعد لمكارثي في هذه القضية الصعبة.
ومن دون أن تَنبِس ببنت شفة، ولكن مع هزِّ كتفَيها في حزن فيما بدا وكأنه اعترافٌ بالهزيمة، تحرَّكت البارونة ببطء نحو منضدة مزخرفة ومطعمة موضوعة بجوار الباب مباشرة. ووضعت يدها على مقبض أحد أدراجها وفتحته. لكن صلابة معيَّنة مفاجئة في حركة ظهرها وكتفَيها حذَّرت مكارثي من أن هذه المرأة لم تُهزَم بعد. ومع صيحة حادة جعلت هاينس ينتفض واقفًا على قدمَيه، اندفع نحوها عبر الغرفة وأمسك بمعصمها بينما هي تستدير نصفَ استدارة نحوه، وفي يدها مسدس آلي! ورغم حركته السريعة، وجدت الوقت لسحب صمام الأمان ولكن الرصاصة التي كانت ستعثُر بالتأكيد على مثوًى لها في واحد أو آخر منهما طاشت نحو سقف غرفة الاستقبال. كما لم يكن نزعُ سلاحها أمرًا سهلًا؛ لأنها قاوَمت مثل قطةٍ برية، واكتشف أن خفة حركتها كانت مسألة قوَّة عضَلية وليست رشاقة مكتسَبة. استغرق الأمر دقيقة كاملة من المقاومة الشاقة، ساعده خلالها السير ويليام الذي كان لا يزال شِبه مذهول، قبل أن يُجبِرَها على الجلوس فوق كرسي بذراعَين ويُقيِّد أحد معصمَيها بالأصفاد فيه. ومع ذلك، فقد تركت بعض العلامات الجديدة على وجهِه المُصاب بالفعل من قبل.
«ليس هناك طريقة، يا بيل، سوى إحضار فرقة من الشُّرطة إلى هنا كي تُفتِّش هذا المكان من الأقبية إلى العِلية. إن هذه الأوراق موجودة هنا بكل تأكيد، ثق في ذلك.»
في تلك اللحظة ظهر ويذرز، وهو يجرُّ جسد القزم لودفيج الفاقد للوعي عبر السُّلَّم بينما قدماه تصطدمان بكل درجة منه.
وقال في شبه اعتذار: «اضطررتُ أن أُفقِده الوعي، يا سيدي.» وتابع: «ربما هو قصير القامة، إن جاز التعبير، لكن العجيب أنه قويٌّ مثل الغوريلا من الخصر لأعلى.»
أمره مكارثي قائلًا: «قيِّده يا ويذرز، وتأكد من فعل ذلك جيدًا.» وأضاف: «إنه يستحق الإعدام بسبب قتلِه فلو ماسكاني.»
انبعثت صيحة من الشارع. فركض مكارثي نحو النافِذة ورأى الهيئة المُكتنزة لهاينريش تتسلل عبر الميدان بأسرع ما يُمكِن له أن يتحرَّك دون لفت الكثير من الانتباه إليه. وعلى الفور، خطر على ذهن المفتِّش أنه الشخص الذي كان بحوزته تلك الأوراق! وكان جاهزًا تمامًا للفرار وانتظر أن يأتي لودفيج ليأخذَه بالسيارة، حسبما هو مُتفق عليه مسبقًا بلا شك. عرفت البارونة ذلك، ولو أنها تمكَّنت من الحصول على هذا السلاح دون مُضايقة، لكانت احتجزتهم هنا حتى يَبتعِد خادمها بسلام. وقد تمكَّن هاينريش من الهروب بينما كان رئيس عمال الفحم في الطابق العلوي في ذلك المطبخ؛ إنه على الأرجح سمع شجار ويذرز مع القزم، وأدرك أنه إما أن يهرب الآن أو لن يهرب أبدًا، هذا إن أراد أن يتمكَّن من إتمام مهمَّته.
ومع صيحة عالية، فتح مكارثي إحدى النوافذ الطويلة التي تطلُّ على الشرفة، واجتازها، ودون تردُّد، قفز فوق الدرابزين وهبط في الحديقة مما نتَج عنه صوت ارتطام ثقيل. والتقط أنفاسه للحظة، ولكن في اللحظة التالية قفَز فوق السياج واندفع يركض عبر الميدان خلف الألماني بالسرعة التي يَركض بها ثعلب أمام كلاب الصيد. كان على مقربة منه عند زاوية جروفينر ستريت عندما استدار الرجل فجأة وسحب مسدَّسًا من جيبه. ودون تردُّد، اندفع مكارثي نحوه بتهوُّر، وطنَّت رصاصة كانت ستُنهي على الأرجح مسيرته الشاقة بجوار أُذنه بينما هو يُمسك بالرجل. ومن ثم تلقى ضربة شديدة على جانب رأسه بالسلاح الثقيل، مما أصابه بالدوار للحظة.
ولكن من خلال قوة الاندفاع الهائلة وقوة هجومه، دفع الرجل إلى الخلف نحو سور منزلٍ كما كان يظن؛ واتضح أنها البوابة المؤدية إلى المنطقة والتي انفتحت ووقع الرجلان على الدرجات الحجرية. ارتطم رأس الألماني مرتَين بشدة أثناء تدحرُجهما على بعضهما البعض وهما يهبطان، وارتطمت رأس مكارثي مرةً بجانب الجدار بقوة كافية لإصابته بالدوار، لكنه تشبَّث مثل كلب بول تيرير، على الرغم من أنه بعد الجهود المُضنية التي بذَلها في ذلك اليوم وجد قوته تتضاءل.
ولكن تصادف أن المساعدة كانت على مقربة منه؛ حيث إن عاملَي الفحم اللذين تُركا في سيارة أجرة ويذرز، شاهدا كل ما حدَث وكانا في طريقهما إلى المكان الذي اختفى فيه الرجلان بأقصى سرعة بإمكانهما.
في ذلك الوقت، انخرط هاينريش والمفتِّش في عراك عنيف لم تُراعَ فيه أي قواعد من قبل أي منهما، حيث استخدم الألماني قدمَيه وكذلك يدَيه للهروب من المصير الذي كان يعلم أنه من المؤكد سيَتبع القبض عليه. وكانت دقيقتان أُخريان ستشهدان هذا الهروب بالفعل؛ إذ إن مكارثي، على الرغم من التمسُّك بالرجل الأثقل منه مثل أحد الطفيليات، كان يترنَّح أمامه مثل رجل «مُغيَّب» يقف على قدمَيه.
وقد تلقى لتوِّه ركلة قوية كادت أن تُغيبه عن الوعي تمامًا عندما نزل أول عامل عبر الدرجات بسرعةٍ شديدة، ولأنه يؤمن بالمبدأ المنطقي القائل بأن العين بالعين حين يتعلَّق الأمر بالقتال فقد ركَل بحذائه الثقيل، الذي مقاسُه عشرة، بطنَ الألماني بدقَّة وقوة لدرجة أن الرجل انثنى مثل مطواة. وفي اللحظة التالية اشترك معه العامل الثاني وثبَّتا الألماني على الأرض وأبقياه هناك بينما فتَّش مكارثي جيوبه. وفي جيبٍ مَخفي، مخيط أسفل قميص الرجل، وجد الأوراق المُغطَّاة بالمشمع المهمة للغاية.
كان يَقتاد ثلاثتهم الألماني ويصعدون به عبر السُّلَّم مرةً أخرى عندما اقترب شرطي من الزاوية تقريبًا أعلاهم. لقد كان شابًّا ولكنه أُرسِل حديثًا من الريف، وقد أخذ يُحدق في هذه المجموعة الرباعية المُتنوِّعة بنحوٍ مُثير للفضول كما لو كان لا يكاد يُصدِّق عينَيه. ففي الوقت القصير الذي عرف فيه جروفينر سكوير، من المؤكَّد أنه لم يسبق له أن وقعت عيناه على أي شيءٍ مثل هذه المجموعة الغريبة من قبل.
قال أكثرهم تعرُّضًا للضرب في المجموعة بنبرةٍ آمرة: «أعطني أصفادك»، ومدَّ يدَه من أجل الحصول على تلك الأشياء المهمة للغاية في ذلك الوقت.
قال الشرطي المبتدئ الذي من القسم «سي» بتلويحةٍ هادئة من يده وهو يتحدث بلهجة ويلتشير القوية: «ليس بهذه السرعة؛ ليس بهذه السرعة.» وتابع: «يجب أن أسمع المزيد عن هذا قبل أن أعطيَ أي شخصٍ أي شيء. هذه تبدو لي وكأنها قضية اعتداء عادي.»
نهره المفتش قائلًا: «ستُصبح أكثر قضية غير عادية سمعتَ عنها على الإطلاق إذا لم تُعطني هذه الأصفاد عندما تتلقَّى أمرًا بذلك»، وكانت يدُه لا تزال ممدودة من أجل الأشياء المطلوبة.
ساور الشك ذلك الرجل الريفي. كان هناك شيء ما في نبرة هذا الكائن الذي تعرَّض للضرب بشدة يَشي بأنه صاحب سلطة؛ هذا الرجل بدا وكأنه مُعتاد على الطاعة عندما يُعطي الأوامر.
فسأل الشرطي الذي رقم طوقه ١٦٧٤ ويَنتمي للقسم «سي»، وقد ظهر الشك الذي كان يشعر به بقوة على صوته: «مَن عساك أن تكون؟»
أجاب مكارثي، بشفتَين مجروحتين: «حسنًا، قد أكون أي شخص، ربما أكون رئيس الوزراء، أو، حتى قد يَصل الأمر لأن أكون قداسة البابا مُتنكرًا. يُمكنني حتى أن أكون أحد السلاطين الذين يسافرون في تخفٍّ. لكن تصادَف أنني لستُ كل هؤلاء. إن اسمي مكارثي، وأنا مفتش في إدارة التحقيقات الجنائية. هل تُريد رؤية بطاقة العمل الخاصة بي؟»
أجاب على عجل: «كلَّا، يا سيدي»، ومِن ثم أخرج الأصفاد ووضعها على معصمَي الألماني في غمضة عين.
فنظر مكارثي إلى الشرطي، مع نظرة ساخِرة على جانب فمه.
وسأله بهدوء: «وكيف تَعرف أنني حقًّا المفتش مكارثي؟» وتابع: «لقد سلمتَ أصفادك دون أدنى دليل على أنني من أدَّعي. لقد رأيتُ رجالًا يُسرَّحون من الخدمة بسبب أخطاء أقل من هذا.»
تلعثم الشرطي الذي رقم طوقه ١٦٧٤ والمنتمي إلى القسم «سي» وهو يقول: «أنا … أنا وثقت في كلمتك يا سيدي»، وأخذت نظرة اضطراب تَرتسِم بسرعة على وجهه.
قال مكارثي: «أحسنتَ صنعًا.» وتابع: «أحسنت صنعًا يا فتى. خُذ كل ما يُقال لك في لندن على محمل الصدق تمامًا! إنها المدينة الأكثر صدقًا في العالم. اتبع هذه الفكرة وستُصبح أحد شيئين. إما أنك ستَبحث عن وظيفةٍ أخرى، أو سيجعلونك مفتشًا، وحينها فليَرعَك الله برحمته لأن أحدًا آخر لن يفعل.»