صرخة أثناء فترة التعتيم
اختلفت الآراء في ذلك الجزء المُحدَّد من سوهو الذي ارتُكبَت فيه الجريمة حول النوعية الدقيقة للصرخة الرهيبة التي انطلقت عند الساعة الواحدة وخمس دقائق، على وجه التحديد. حيث أكد الشرطي الذي رقم طَوقه ١٢٨٥ والتابع للقسم «سي»، الذي يعمل في دورية سوهو، والذي أجبره جزء منها على السير في الظلام من أكسفورد ستريت بطول دين ستريت إلى شافتسبري أفينو، أن الصرخة كان مصدرها امرأة؛ وعلى أي حال، جعلته يتجمَّد في مكانه. ولكي تجعل صرخة في الساعات الأولى من الصباح في سوهو، حتى وإن كان مصدرها أُنثى، شرطيًّا مخضرمًا مثله يتجمَّد في مكانه وهو الذي يعمل منذ سنوات في هذا الحي الذي يجمع أعراقًا مختلفة، لا بد أن تكون خارجة عن المألوف تمامًا، مثلما، في الواقع، كانت هذه الصرخة!
كان يمر عبر المدخل القصير المؤدي إلى سوهو سكوير في ذلك الوقت، وجاء الصوت من يساره؛ وهذا يعني من اتجاه الميدان نفسه. وسواء كان مصدرها ذكرًا أو أنثى، فقد خرجت الصرخة بلا شكٍّ من حَلق شخص في حالة رُعب مُميت، وبالحكم من خلال النبرة الغامضة التي انتهت بها، فقد كُتم صوت الصرخة من قِبَل شخصٍ آخر غير الذي أطلقها.
من ناحية أخرى، كان متأكدًا بشدةٍ المُحقِّق المفتش مكارثي، لكن بعد ساعة أو نحو ذلك من تركه السير ويليام هاينس، وفي اللحظة التي كان يُطفئ فيها نور غرفته قبل أن يخطو إلى الفراش، من أن الصرخة كان مصدرَها رجل. قد يُعتقد أن تلك الصرخة ليست مسألةً ذات أهمية كبرى، ولكن إذا كانت تلك الصرخة التي اخترقت ذلك الظلام السيميري تُنذر بجريمة قتل، كما بدت بالتأكيد، فقد يكون لها عواقب كبيرة.
فتح المفتِّش على الفور نافذة غرفة نومِه التي تطلُّ على دين ستريت، وألقى نظرةً في الاتجاه الذي بدا له أن الصوت قادم منه. لكنه لم يتمكَّن من رؤية أي شيء، تمامًا كما لو أنه قد أطفأ مصباح الغرفة ونظر تحت سريره.
ومن ثم ارتدى روبًا فوق ملابس النوم ووضع مسدسًا آليًّا على عجَلٍ في جيبه، وتلمَّس طريقه إلى الطابق السفلي وخرج إلى الشارع الرئيسي وهو يَرتدي في قدمَيه خفًّا منزليًّا قبل أن تَختفي أصداء ذلك الصوت المُروِّع تقريبًا. بالنسبة له، أيضًا، بدا أن الاتجاه الذي أتت منه الصرخة هو سوهو سكوير، فتلمَّس طريقه نحوه بأقصى سرعة يَستطيع أن يسير بها، وهو يسحب صمام الأمان في مسدسه الآلي بينما يتقدم. لكن الشيء الذي نسي إحضاره هو الشيء الأكثر ضرورة على الإطلاق – مصباحه اليدوي.
وفي هذه الأثناء فُتحت نوافذ الشقق والمساكن الأخرى الواقعة فوق المحلات التجارية في دين ستريت بسرعة، وكانت تخرج منها رءوس أصحابها الذين لم يعتادوا الانزعاج في الغالب من مثل هذه الأصوات. لا يعني ذلك أنهم كانوا يستطيعون رؤية أي شيء، أكثر مما يُمكن لأي شخصٍ رؤيته، ولكن من المفترض أنهم حصلوا على قدر مُعيَّن من الرضا من جهودهم غير المُجدية لاختراق ما لا يُمكن اختراقه. وهو ما أكَّد أكثر على النوعية الرهيبة لتلك الصرخة عندما، حتى في حي مثل هذا ليس من الغريب فيه سماع صرخات في منتصف الليل، اعتُبرت هذه الصرخة بدون تردُّد كمرافقة، وربما تكون مقدمة هي أفضل كلمة، لجريمة قتل.
تذكَّر في هذه اللحظة بجدية كم مرة خلال مسيرته المهنية تفاخر مكارثي بأنه يستطيع اجتياز سوهو في أي ساعة من النهار أو الليل معصوب العينَين، أو وسط أعنف ضباب. الضباب كان أمره مُختلفًا، وهو سيِّئ بما يكفي في شوارع سوهو المزدحمة لإثارة اضطرابٍ أي شخص. لكن أمر هذا التعتيم اللعين أصاب الحياة في الليل بالشَّلل! لكنه كان ضروريًّا من أجل سلامة الناس، حسبما افترض؛ ومن ثم لا بد من تحمُّله، لكن كيف من المفترض أن يذهب أي رجل بسرعة ليتتبَّع مسار جريمة مُرتَكَبة في ظلِّه، كان شيئًا لم يكن مُستعدًّا للإجابة عليه.
كان اصطدامه الأول بعمود إنارة والذي تلقَّى الصدمة دون همهمة؛ أما اصطدامه الثاني فكان بشخصٍ عبر عن سخطه بطريقة لا يُمكن بالتأكيد أن تنطبق عليها كلمة «همهمة».
من خلال الشعور بالشخص الذي اصطدم به، أدرك أنها سيدة إيطالية سمينة للغاية والتي لعنته بطلاقة بألفاظٍ ميَّزها مكارثي على الفور على أنها كانت بلهجة أهل نابولي التي كانت تتحدث بها أمُّه المتوفَّاة. وقد تداخلَت مع العديد من الدعوات إلى السيدة العذراء، والعديد من القديسين الآخرين المعروفين أكثر في وطنها الأم. وبعد أن نطَق بنفس لُغتها بعض الكلمات المهذَّبة المُهدئة التي، كما قيل لنا، تزيل الغضب، والتي تعرفت فيها السيدة على الفور على صوت المفتش المُحقق مكارثي الذي أصابه الذهول، هدأت. فاعتذرت بأدب وتركَت المفتِّش يُواصل طريقه وهو يرى على نحو عابث أن فتيان المافيا أو مافيا كامورا عادوا لنَشاطهم مرة أخرى!
في الزاوية المُؤدية إلى الميدان نفسه، اصطدم مكارثي أيضًا بالشرطي الذي كان رقم طوقه ١٢٨٥ والتابع للقسم «سي» والذي، مع أخذ كل الأشياء في الاعتبار، كان يُظهِر أيضًا تزايدًا معقولًا في السرعة. تعرف على صوت المُفتش على الفور، بمساعَدةِ ربما نوعية بعض الصفات التي كان يستخدمها.
سأل مكارثي بسرعة عندما تعرف، بدوره، على صوت من اصطدم به: «أين مصدر الصرخة؟»
«بدا لي أنها قادمة من الميدان يا سيدي. يا إلهي، لقد كانت صرخة مروعة!»
تحرك الاثنان ببطء، داخل الميدان وحوله، ليجدا نوافذ تلك المساكن التي لا تزال مفتوحة هناك، ومن المُفترَض أنها مليئة بالجمهور المُتعجِّب والمُرتجِف. وبالنسبة لبقية الميدان، فقد بدا كمساحةٍ كبيرة من المخمل الأسود، الذي لا يُمكن رؤية شيء فيه.
في تلك اللحظة حدثت واحدة من تلك الوقائع التي اعتاد المُفتِّش على الإشارة إليها بمصطلح «حظ آل مكارثي». على الرغم من ذلك، في تلك اللحظة ووسط هذه الظروف، ربما بدت له كتجلٍّ للعناية الإلهية الكريمة، لكن بالنِّسبة للأشخاص الآخرين المَعنيين بالأمر، مثل مالك المبنى، والسُّلطات المسئولة عن الاحتياطات ضد الغارات الجوية، وإدارة فرقة الإطفاء، فعلى الأرجح قد بدت لهم من منظورٍ مختلف تمامًا. فهذه الأشياء تعتمد جميعها على الوجهة التي يُنظَر من خلالها إلى الأمور.
على أيِّ حال، وبدون أدنى إنذار، اندلع لسان من اللهب على نحوٍ مفاجئ من سطح إحدى العمارات العتيقة القليلة التي لا تزال موجودة بالقرب من الميدان، رغم أنها تبعد عنه قليلًا. وقد اتضح فيما بعد أن أحد مُستأجِري الغُرَف العلوية بالمنزل، استيقظ من نومه على صوت تلك الصرخة المُفزِعة، ونهض من سريره مرتبكًا بنحوٍ أو بآخر وارتطم بمصباح كيروسين والذي، على الرغم من محاولات إطفائه الحثيثة، أشعل ألسنة اللهب في المكان. وعلى الرغم من أن رجال الإطفاء قد تمكنوا من منع انتشار الحريق إلى المباني المجاورة، فإنَّ النيران قد أتَت على المبنى في نهاية الأمر، وقد أدَّى هذا الحريق إلى إضاءة الميدان، وتمكَّن الذين هُرعوا إليه من رؤية المكان كما لو كان في ضوء النهار. وقد أدهَش المُفتِّش وجود عدة مئات من الناس الذين تمكَّنوا من الوصول إلى الميدان، وحسبما أطلق عليهم الأفراد الذين أطلوا من نَوافِذِهم العلوية المحيطة؛ فقد كانوا بمنزلة فيلق من الجنود.
في ذلك الوقت أنبأ وقع الأقدام الثقيلة على الأرصفة والصفير المُستمر لصافِرات الشرطة كُلًّا من مكارثي والشرطي عن أن المزيد من المساعَدة الرسمية كانت في طريقها إليهما. وخلال اللحظات القليلة التالية عزَّزت قواتهما بسيرجنت جاء مُسرعًا يلهث وبصُحبته شرطيَّان في زيِّهما الرسمي؛ وشهدت الدقيقة التالية زيادة العدد بالمزيد من القوات في الزي الرسمي أو بملابس مدنية. فتولَّى مكارثي قيادة المجموعة على الفور.
فأصدر أوامره قائلًا: «فتِّشوا الميدان تفتيشًا دقيقًا.» وتابع: «ولا تُضيِّعوا الوقت. فخلال دقيقة أو اثنتَين ستأتي فِرَق الإطفاء إلى هنا وسيَدهسُون في طريقهم كل ما قد يُمثِّل دليلًا في مسرح الجريمة، وما سيُفلت من أقدامهم ستُخفيه مياه خراطيمهم! اقبضوا على أيِّ شخصٍ تشتبِهون فيه ولو قليلًا، واحتجزوه من أجل التحقيق.»
وعلى الرغم من تنفيذ أوامره بخفَّة فائقة وبدقَّة مُتناهية لدرجة أنه لم يُفلِت تقريبًا أي شيء وقع على الرصيف من الملاحظة، وعلاوة على ذلك أن هذا جرى قبل وصول أول سيارة إطفاء إلى الميدان، فإنهم لم يجدُوا أيَّ علامة تدلُّ على وقوع جريمة قتل بأي نحوٍ أو هيئة.
غمغم مكارثي مُحدِّثًا نفسه: «حسنًا، هذا أمر مُحير للغاية.» ثم قال للسيرجنت: «سنُفتِّش مدخل الميدان.» وتابع: «لقد انطلقت الصرخة من هناك، أنا مُتأكِّد من ذلك تمامًا.»
رد الضابط ذو الشعر الرمادي في حيرة: «وأنا أظن ذلك بالفعل.» وتابع: «هذا على الرغم من أنني، دعْني أُذكِّرك أيها المُفتِّش، كنتُ عند تقاطع أكسفورد ستريت مع سوهو ستريت عندما سمعتُها. لكنني قلتُ لنفسي إنها انطلقت من هناك.»
وعلى الضوء المُتوهِّج لألسنة اللهب التي أخذت في التزايُد الآن، فتَّشوا كل المداخل الواقعة على يسارهم، لكنَّهم لم يجدوا شيئًا حتى وصلوا إلى المدخل المُختفي للغاية لآخر المنازل التاريخية المُتبقِّية من زمن كان فيه سوهو سكوير مكانَ إقامة رائجًا مثل بيركلي سكوير اليوم، حيث صادفوا علامات لا لبس فيها لما يسعون إليه.
كانت تُؤدِّي درجتان من سُلَّم عتيق وبالٍ إلى مدخلٍ محفور على نحوٍ رائع ومزوَّد بأعمدة، والذي تُوجَد أعلاه كوَّة مروحية مُزخرَفة، وقد حُفر في منتصفها العام ١٧٠٢. وقد طُليَت العتبات والأعمدة الداعمة لظلَّة الباب باللون الأخضر الداكن، لكن الباب نفسه قد طُلي بالأبيض الناصع، باستثناء الأماكن التي كانت فيها ألواح العتبات والألواح السُّفلية ملطَّخة بشدة بالدم، والذي لا يزال بعضه يسيل لأسفل ببطءٍ على طبقة المينا السميكة التي طُلِي بها الباب الخشبي! وقد بدا الدم على ضوء النار وكأنه حبر أسود، ولكن ليس للعيون الخبيرة التي فحصتْه فحصًا دقيقًا.
تحوَّلت الحفرتان الباليتان الموجودتان في وسط درجتَي السُّلم الحجري العتيق فعليًّا إلى بِركتَين صغيرتَين من الدم الذي تناثر حتى السياج المزخرف، المُواجِه لدرجات سُلَّم حجري والتي تؤدي مرة أخرى إلى قبو. وعندما تفحَّصَها السيرجنت بمصباحه، أطلق مكارثي شهقة، وقبل أن يُدرك أي شخص ما يَنتويه، انطلق إلى أسفل السُّلَّم كي يلتقِط بحذَر شديد خنجرًا مُدببًا طويلًا ذا ثلاث حواف، غطَّت الدماء نصلَه بكثافة!
لقد كان متأكدًا من أن السلاح أجنبي الصُّنع. وبالقُرب منه، انشبكت في قطعة من شبكة سلكية مُعلَّقة فوق جزء من القبو لغرض ما، قطعة صغيرة مُربعة من الكتان، محاطة بدانتيل سميك، ولكنه ناعم للغاية؛ والتي كانت عبارة عن منديلٍ نسائي. تلطَّخ هو، أيضًا بالدماء بشدة. لكن ضحية ما كان من الواضح أنها جريمة مُروِّعة ومُتعطِّشة للدماء لم يكن لها أي أثرٍ على الإطلاق!