مكارثي يتبع «حدسه»
بحلول الوقت الذي توصَّل فيه المُفتش إلى هذه الاكتشافات المروِّعة، تدافع سيل حقيقي من الناس، الذي اجتذبه الحريق بقدر ما اجتذبتْه الشائعة المثيرة والسريعة الانتشار الخاصة بجريمة القتل، أو على الأرجح المزيج المُسلِّي للغاية لكِلا الاثنَين، وتوافَدُوا على الميدان من كل حدَبٍ وصوب. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها رجال الشرطة، والتي عُززت الآن بقوة، فقد توجَّب عليهم القيام بجهدٍ كبير لإبعاد الفضوليِّين بنحوٍ مرَضيٍّ عن تتبُّع حتى مكارثي نفسه. وقد نادى مكارثي على السيرجنت.
وقال له بهدوء: «لا تجعلهم ينشغلون للغاية بذلك، أيها السيرجنت.» وتابع: «ليس من المُستبعد أن يكون الشخص المسئول عن هذا وسط تلك المجموعة. ليست هذه هي المرة الأولى التي يختلط فيها الشخص الذي ارتكب عملًا من هذا النوع مع الجمهور لمشاهَدة الأحداث. فقط أَبعِدهم عن نطاق عملي وهذا سيَفي بالغرض. فأنا أُراقب ما حولي بحذَرٍ شديد.»
لكن مع وجود كل الأدلة الواضحة للعيان على وقوع جريمةٍ مروِّعة، كان هناك شيء واحد بدا غامضًا للغاية أمام مكارثي. هنا على السُّلَّم والباب الفِعلي لهذا المنزل العتيق، والذي قُسِّم الآن، بالمناسبة، إلى مجموعاتٍ من المكاتب، يَستخدمها في الغالب مُحامون ووكلاء أعمال للمستوردين الأجانب، تُوجَد كل الآثار التي تدلُّ على وقوع جريمةٍ فظيعة. ولكن هذه الآثار توقفت عند هذه النقطة؛ فعلى الرصيف نفسه لم تكن هناك قطرة دمٍ واحدة.
همس السيرجنت قائلًا: «يبدو الأمر تقريبًا، يا سيدي، كما لو أنَّ من ارتكب جريمة القتل قد فتح الباب وسحب الجثة إلى الداخل.»
فقال مكارثي: «أنت لن تُمانع إن ذكرتُ حقيقة أننا «نفترض مُقدمًا» حدوث قتل، أيها السيرجنت.» وتابع: «كي نؤكِّد حدوث جريمة قتلٍ حقيقية، يجب أن تُوجَد لدينا جثَّة؛ يجب أن تظهر الجثة في أي مراحل لاحِقة، وحتى الآن لا تُوجَد علامة على وجود جثة.»
قال السيرجنت على نحوٍ قاطِع: «هناك كل العلامات التي قد أحتاجها.» وتابع: «هذا بالإضافة إلى تلك الصرخة.»
قال مكارثي: «وما الذي يُدريك، فربما أن أحد المُتوحِّشين الأشرار قد استبدَّت به رغبة القسوة وقطع عنق كلبٍ فنتَج عن ذلك كل هذا القدْر من الدماء، ثم وضعه في حقيبةٍ وحمله بعيدًا؟»
جادل السيرجنت بعناد: «أحد الأسباب أن الكلب لا يصرخ مثل رُوحٍ مُعذبة، ولا يستخدم مناديل دانتيل باهِظة الثمن مثل ذلك الذي وجدتُه على هذا السلك.»
أومأ مكارثي برأسه. ثم قال: «صحيح، صحيح. مثل هذه الأدلة التي أمامنا تُوحي بوجود امرأةٍ في القضية. وهكذا الحال، حسبما تعتقد، بالنسبة لتلك الصرخة. أنا لستُ متأكدًا من ذلك. لكني ما زلتُ أؤكد لك أنه حتى نَعثُر على جثة فنحن نفترض مُقدمًا وقوع جريمة قتل. رغم ذلك، مرة أخرى، أنا على استعدادٍ لأن أعترف بأن مثل هذه الأدلة التي لدَينا هي كلها لصالح الفكرة التي تقولها.»
ألقى السيرجنت نظرة سريعة عليه. فعلى الرغم من أنه كان يعرف المحقِّق المفتش مكارثي فعليًّا منذ أن ترك الخدمة في قوة الشرطة من أجل العمل كمُحقق في سكوتلاند يارد، فإنه لم يعمل معه عن قُرب أبدًا في قضيةٍ ما. وتقول الشائعات إن المفتش، على الرغم من براعته الشديدة وترشُّحه للترقِّي على نحوٍ سريع خلال الفترة القادِمة، لم يكن غريب الأطوار بشدة فحسب، بل مُعتادًا على المزاح تحت أيِّ ظرفٍ من الظروف. ومع وجود الأدلة الدامغة على وقوع جريمة قتل بوضوح أمام عينَيه، ناهيك عن تلك الصرخة التي لا تزال ترنُّ في أُذنَيه، وجد السيرجنت نفسه يتساءل عما إذا كان ذلك الحسُّ الفكاهي المُعتاد الذي سمع عنه قد عاد للعمل مرةً أخرى، وقد وقع هو ضحيته.
ولكن ما تمكَّن من رؤيته على وجه المفتش الذي لم يكن واضحًا للغاية في ظل تلك الظروف لم يُظهِر أي علاماتٍ على أي شيءٍ سوى الحيرة العابسة؛ بالتأكيد لم يكن هناك شيء من الفكاهة باديًا عليه في تلك اللحظة على وجه التحديد.
تابع المفتش مكارثي بتأمُّل: «ونحن أيضًا نعتبر على نحوٍ مسلَّم به أن القاتل هو رجل، وذلك أساسًا لأنه في هذا الجزء المبهِج من العالَم عند ارتكاب أي جريمة قتل، يُصبح الرجال بنحو عام هم من ارتكبوها والنساء عادةً هنَّ الضحايا. مرة أخرى، إن دليل المنديل هذا هو بالكامل لصالح هذا الاستنتاج. ومع ذلك فقد يُضلِّلنا تمامًا.»
سأل السيرجنت: «كيف يُمكن أن يفعل ذلك، أيها المفتش؟» وتابع: «هناك المنديل والخنجر …»
صحح مكارثي الكلمة قائلًا: «الخنجر المُدبَّب.» وأضاف: «إنه ليس سلاحًا شائعًا في سوهو. إن السكاكين هي الشائعة بوفرة، وهو أمر ليس لديَّ أدنى شكٍّ أنك وبقية الرجال في القسم «سي» تَعلمونه مثلما أعلمه. وأنا لا أشك في أنك قد اضطُررتَ للتدخُّل في عدد لا بأس به من المشاجرات بالسكاكين أثناء خدمتك.»
أجاب السيرجنت على الفور: «كثيرًا.» وتابع: «وهي مهمَّة بغيضة أيضًا، عندما تغلي الدماء في عروقهم ويأخذون الأمر بجدية شديدة.»
أومأ مكارثي برأسِه موافقًا؛ فقد حاز على نصيبه العادل من تلك التسلية غير اللطيفة أيضًا.
وتابع: «لكنِّي أشكُّ كثيرًا إذا كنتَ قد رأيتَ سلاحًا من النوع الذي وجدته هنا في أيدي أي منهم، أيها السيرجنت، أليس كذلك؟»
«نعم، لا أستطيع أن أقول ذلك. يبدو الأمر غريبًا بالنسبة لي.»
قال المفتش: «إن الأمر هكذا بالفعل.» ثم أضاف: «خنجر مُدبَّب من هذا النوع، صغير، ثلاثي الحواف ومُستدق الرأس، هو بلا شك نوع السلاح الذي تُخفيه السيدات في صدور ثيابهن. وهذا لا بأس به طالَما أنهن لم يطعنَّ به شخصًا آخر، وهو ما يحتمل أن يفعلنَهُ بنفس القدر، إذا ما غضبن بنحوٍ كافٍ بسبب علاقة غرامية اتَّخذت مسارًا سيئًا، أو غَيْرة مسعورة أو أيٍّ من الأمور التي تجرح الروح من هذا النوع. إنه نوع السلاح الذي يُمكنهن الاحتفاظ به بسهولة في صدرياتهن أو بلوزاتهن أو أيًّا كان ما يُسمُّونها. لقد عرفت حتى قبل زمن طويل أنهن يخرجنه بنحوٍ مفاجئ من أربطة جواربهن.»
قال السيرجنت، بنبرةٍ ضعيفة: «لم أُفكِّر في ذلك قط.» وتابع: «وقد خطر بذهني الآن أنه سلاح مُناسِب للمرأة أكثر منه للرجل.»
تابع مكارثي: «نأتي بعد ذلك إلى الدليل الثاني، وهو المنديل. لماذا لا يكون ملكًا للقاتل وليس للمقتول؟ إنَّ الاحتمالات متساوية، خمسين خمسين، مع وجود احتمالٍ أكبر قليلًا لصالح أنه يخصُّ القاتل؛ القاتلة في هذه الحالة، بالطبع.»
نخر السيرجنت قائلًا: «اللعنة عليَّ إذا كان بإمكاني فهم ذلك.» إذ إن استنتاجات المفتش كانت تزداد غموضًا بعض الشيء بالنسبة له.
«ببساطة لأن تسعةً وتسعين من أصل مائة جريمة قتْل ترتكبها امرأة، تكون جريمة عاطفية، والمرأة، أثناء ارتكابها للجريمة، يَفقد عقلها التركيز في أي شيءٍ آخر. ومن المُرجَّح أكثر بكثير أن تترك وراءها أدلةً دامغة على جريرتها أكثر من أيِّ رجل. فهو بصرف النظر عما قد يكون الدافع وراء ارتكابه للقتل، يُفكر في نفسه أولًا، وأخيرًا، وطوال الوقت؛ وهو بنحوٍ عام يُدان بعد العثور على خطأ غبيٍّ من خلال بحثٍ وتحقيق مُستفيضَين. ومع ذلك، أنا لا أسعى لتقديم محاضَرة عن ذلك؛ أنا ببساطةٍ أوضِّح لك أنه حتى نعثر على الجثة، فكل الاحتمالات واردة.»
لم يُبدِ السيرجنت أي رد، لكنه أدرك أنه ليس هناك الكثير من «غرابة الأطوار» التي تُشاع عنه والتي يُمكن ملاحظتها على المُفتِّش وهو يُفسِّر استنتاجًا.
استعار مكارثي المصباح اليدوي الخاص بالسيرجنت مرةً أخرى، ووجهه نحو مقبض الباب.
«ستُلاحظ، أيها السيرجنت، أنه لا تُوجَد علامة على مقبض هذا الباب تُشير إلى أن أي شخصٍ اشترك في هذا الأمر المُخيف قد فتحه؟»
قال السيرجنت مُقترحًا: «ربما جرى تنظيفه.»
هزَّ مكارثي رأسه نافيًا. وقال: «لو وقعت عليه قطرة من الدم وجرى مسحُها، كانت سيظلُّ لها أثر، لكن في الواقع، إنه نظيف تمامًا؛ إنه باهت قليلًا فقط نتيجةً للاستخدام اليومي. ومع ذلك، لن نُجازف، فقد تُوجَد عليه «بُقَع دقيقة» عندما يُفحص بنحوٍ جيد.»
ومن ثم أخرج منديله، ولفَّه حول المقبض وحاول فتح الباب. لكنه كان مقفلًا.
«أعتقد أنني على صوابٍ عندما أقول إنه لا يُوجَد حارس لهذه المجموعة من المكاتب على وجه التحديد؟»
قال السيرجنت: «أجل، لا يُوجَد.» وتابع: «هناك امرأتان عجوزان تأتيان في حوالي الساعة السادسة مساءً وتُنظفان المكان. وتُغلقان الباب من بعدهما. وهناك شابٌّ يصلُ إلى هنا في حوالي الساعة الثامنة صباحًا، ليفتح المكان، ويضع البريد في أماكنه المناسِبة قبل وصول الآخرين. وبقدْر ما أعرف، هؤلاء هم كل العاملين الموجودين هنا.»
وجه مكارثي المصباح اليدوي على ثُقب المفتاح وتفحَّصه باهتمام.
وقال: «لن أجزم على نحو قاطع، لكني متأكد إلى حدٍّ ما من أن هذا لم يُلمَس قط مؤخرًا.» وتابع: «إنَّ الطريقة التي رُفِع بها الشخص، أو أيًّا كان ما قُتل، من الأرض في الفترة الزمنية التي يجب أن تكون قد استغرقتها، تُحيِّرني بشدة. هناك طريقة واحدة فقط يُمكنني التفكير فيها في الوقت الحالي، وهي السيارة.»
هز السيرجنت رأسه نافيًا.
وقال: «أشكُّ في أنه كانت لديهم فرصة لنَقلِ أي شخصٍ من هذا السُّلم إلى سيارة والخروج من الميدان بين وقت سماع تلك الصرخة ووقت وصولنا إليه. ليس هذا مُمكنًا خلال حالة التعتيم ودون أن يُسمَع.» وأضاف: «ولا تنسَ أنَّ الرجال خلال دوريتهم في هذا الجزء بالذات من أكسفورد ستريت، وكذلك تشارينج كروس رود، سمِعوا الصرخة، وكانوا سيكونون في حالةِ ترقُّب لأي شيءٍ يخرج من الميدان. ومع وجود صوتٍ كهذا في آذانهم، كانوا سيُجازفون ويستوقفون أي شيءٍ يسير على عجلات.»
بينما كان يستمع المفتش له، أخذت عيناه تتجوَّلان على نحوٍ عشوائي واضح وسط الحشود التي تجمَّعت والتي أظهرتهم نار الحريق. كان مُعظمُهم من سكان منطقة سوهو، والجزء الأكبر منهم من أصولٍ أجنبية، ولكن كان هناك أيضًا عدد قليل من الرجال العائدين في وقتٍ مُتأخِّر الذين سارعوا إلى الميدان من الطرق الرئيسية لإرضاء فضولهم.
كان مُعظمهم معروفين لدى مكارثي، وكثير منهم أشخاص شُرَفاء، يعملون بجدٍّ، وأغلبهم من موظَّفي المطاعم والفنادق في ويست إند. ولكن هناك أيضًا آخرون تشي نظراتُهم الجامدة والماكرة عن طرق مختلفة جدًّا لكسب العيش؛ كان يعرف أنهم رجال عصابات ولصوص من أشنع الأنواع. وعندما انتبهوا إلى أن عينَيه كانتا عليهم، تحوَّلت نظراتهم بسرعة وابتعدوا عن الأنظار دونما تردُّد.
ولكن، على نحوٍ ما، شعر بأن ليس لهم يدٌ في هذا الحادث. إن جريمة القتل هذه، إذا ثبت أنها كذلك بالفعل، دُبرت بمكرٍ شديد يفوق قدرات أيٍّ منهم. كان الحادث برمَّته غير مُعتاد للغاية، وقد نُفذ بذكاءٍ شديد لدرجةٍ تجعله لا يشكُّ في أنهم من ارتكبوه. إن أساليبهم كانت شريرة للغاية بكل تأكيد، ولكن لم تتَّسم أبدًا بالذكاء. وإلى جانب ذلك، لم يكن هذا الخنجر المُدبَّب شيئًا يمكن الحصول عليه مقابل بضعة شلنات، أو بضعة جنيهات بحيث يمكن استخدامه في مسألة كهذه؛ إنه لن يتفاجأ على الإطلاق إذا اكتشف أنه سلاح قديم ذو قيمة كبيرة جدًّا، بينما إذا لم يُخبره أحد الخبراء في مثل هذه الأمور أن منديل الدانتيل هذا من نوع باهظ الثمن، يفوق ميزانية سيدة عادية من سوهو، فقد جانَبَه الصواب للغاية.
وكان هناك آخرون، أيضًا، ممَّن انجرَفوا إلى الميدان ليس لسبب آخر سوى الحريق والهمس الذي جرى تناقُلُه حول جريمة القتل. لم يكونوا بالتأكيد من سوهو أو من أيٍّ من الفئتين السابق الإشارة إليهما. فهم رجال في ثياب السهرة المُغطَّاة بالمعاطف، وبعضهم برفقة نساء؛ وهم طلاب عائدون على نحوٍ مُتأخِّر من بعض حفلات الشراب الخاصة التي يُحضر معه فيها كل ضيفٍ زجاجة خمر أو على الأرجح، من بعض النوادي الليلية «السرِّية» التي كانت لا تزال مُزدهرة، رغم التعتيم أو الجهود الجادة للسلطات.
وبينما هو على وشك الالتفات إلى الباب مرةً أخرى وقعت عيناه على شخصٍ يقف عند زاوية الميدان الفِعلي نفسه؛ شخص أصابَهُ وجوده هناك بصدمةٍ كبيرة، على الرغم من أن السبب وراء ذلك كان أكبر مما يمكن أن يشرحه لنفسه أو لأي شخصٍ آخر. إنه الرجل ذو العينين ذواتَي اللون الأزرق الثَّلجي الذي غادر مقهى ميلانو في نفس اللحظة التي دخل فيها بيل هاينس. وعلى نحوٍ فريد للغاية، بدت هاتان العينان الجذَّابتان بنحوٍ غريب، في التوهُّج المُثير المنبعث من النار، أفتح أكثر من أيِّ وقتٍ مضى؛ لقد برَزَتا عن وجه الرجل الجامد تقريبًا مثل عينَي قطة في الظلام.
وعلاوة على ذلك — ورغم اعترافه بأن ذلك ربما كان مجرَّد تصوُّر خيالي من جانبه — فقد بدا فم الرجل، على الرغم من أن بقية وجهه بدا وكأنه لا يُعبِّر عن أي شيء على الإطلاق، كما لو أن ابتسامةً مُتغطرِسة قد ارتسمت عليه. بدا الأمر كما لو أنه كان يقول لنفسه، وهو يشاهد جهود مكارثي والسيرجنت: «انظر إلى هذَين الأحمقَين الجاهلين؛ ما الذي يعتقدان أنهما سيُنجزانه؟»
رأى بطرف عينه الرجل يقترِب من الشرطي الذي كان يسعى لإبقاء الحشد في الخلف عند زاوية الميدان ويَطرح عليه ما بدا أنه سؤال. واستطاع مكارثي أن يرى أن الشرطيَّ قد أجابه على نحو مهذَّب، وبإيماءة عرفان مُقتضَبة استدار السائل وتحرَّك ببطء، وبمشيته شِبْه الوقحة، في اتجاه تشارينج كروس رود. وهذا كان آخر ما رآه مكارثي منه؛ إذ في تلك اللحظة اندفعَت سيارة شرطة من نفس الاتجاه إلى الميدان ووقفت على بُعد بضعة أقدام منه، فحجبت عنه رؤية الرجل. ونزل منها مدير مكارثي، برفقة كبير المُفتِّشين، وبما أن جرائم القتل في القسم هي من اختصاص الأول، كان مكارثي مُستعدًّا كي يتولَّى مديره التحقيق، في التوِّ واللحظة.
وبإعطاء هذا المسئول المُرهق عرضًا موجزًا ولكن مفصلًا لما حدث، اختتم تقريره بالقول إنه نظرًا لأن المدير سيَرغب بلا شك في تولي القضية، فإنه، شخصيًّا، سوف يعود إلى سريره ويسعى لتعويض هذا الوقت الذي فقَدَه.
لكن المدير بورمان هزَّ رأسه نافيًا. وقال: «لا أعتقد ذلك، يا ماك.» وأضاف: «نظرًا لأنك حضرت القضية منذ البداية، يُمكنك أيضًا تولي التحقيق فيها. على أي حال، سأُغادر لحضور مؤتمر غدًا، ولن أدع هذه القضية أو أي شيءٍ آخر يتعارَض معه. لذلك يُمكنك المضي قدمًا في هذه القضية وأنت مُتيقن من أنك لن تحصل على أي تدخُّل مني.»
كان هذا، في رأي المُفتِّش مكارثي، خبرًا جيدًا؛ جيدًا جدًّا بكل تأكيد. كان المدير رجلًا محبوبًا ومُهذبًا، لكنه رجل ذو أساليب عتيقة ومتقيد للغاية بالروتين واللوائح. وإذا كان مكارثي هو المُحقق المسئول عن قضية من بداياتها، فستُصبح قضية تتطلَّب شيئًا مختلفًا تمامًا عن الأشياء الروتينية التي يُطبقها المدير بورمان على القضايا ليس بنفسه فحسب، ولكنه يُلزِم، إذا طُلبت مشورته، الضابطَ المسئول بأن يُطبقها هو أيضًا.
لذا سأل بسرعة: «أنا سأتعامل مع هذه القضية بأسلوبي الخاص، أليس كذلك يا سيدي؟»
نظر إليه المدير بشيء من الشك للحظة. وقال: «ضمن الحدود المعقولة، يا مكارثي، أجل، بالطبع.» وأضاف بصرامة: «لكني آمُل ألا تَستخدِم أيًّا من أساليبك المنفردة تلك، والتي، في تسع مرات من أصل عشرة، تكون غير قانونية مثل أي شيء فعله المجرمون الذين تُطاردهم.»
أجاب المفتش بلُطف: «لن أفكر في القيام بأيِّ شيءٍ من هذا القبيل، يا سيدي.»
سأل المدير، متفاجئًا بنحو راضٍ بهذه الإجابة المريحة: «حسنًا، هل هناك أي شيء يمكننا فعله؟»
قال مكارثي بسرعة، بنبرةٍ مختلفة جدًّا في صوته: «أجل!» ثم أضاف: «أصدِر أمرًا بإخلاء هذا الميدان وأَعِرني سيارتك لبضع دقائق.»
قبل أن يكون هناك أيُّ رفض ممكن للطلب الأخير، ركب مكارثي داخل السيارة، وأمر سائقها بأن يتحرك، فسار بها ببطءٍ وصعوبة وسط الزحام في طريقه نحو تشارينج كروس رود.
وقال لسائق سيارة الشرطة: «قُدْ بهدوءٍ وتمهُّل.» وتابع: «هناك رجل معيَّن غادَرَ لتوِّه الميدان وأريد أن أجده وأُراقبه دون أن يشكَّ على الإطلاق في كونه مُراقبًا، هل فهمت مقصدي؟»
سأل السائق بحماس: «هل هو مُشتبه به في هذه القضية، أيها المفتِّش؟» على الرغم من أن عمله الرئيسي كان قيادة تلك السيارة بأيِّ سرعة، سواء كانت قانونية أو غير ذلك، يَطلُبها أي من يركب السيارة معه، فإنه يُصبح مُتحمِّسًا للغاية لمشاركته في تحقيقات جريمة قتل مهمَّة بنفس القدر الذي يكون لدى الرجل الجالس بجانبه الذي يَرتدي الزي الرسمي.
ولكن على الرغم من تحلِّيه في الغالب بروح الدماثة مع الجميع على اختلافهم، ولا سيما من هم دونه في الرتبة الرسمية، لم يُجب المفتش على السؤال، في الواقع، كان يسأل نفسه سؤالًا آخر وثيق الصلة جدًا بالموضوع.
لقد سأل نفسه بحدة: «والآن لماذا بحق الجحيم أتتبَّع هذا الرجل؟» وتابع: «بخلاف أنني قد رأيته مرة واحدة قبل الليلة ولفتَ شكله اهتمامي، أنا لا أعرف شيئًا عنه. وفي نفس اللحظة التي يتطلب فيها واجبي أن أتفحص تلك المنطقة وأحاول التوصُّل لمعلومة مفيدة من خلال الخنجر المُدبب والمنديل اللذَين أحملهما في جيبي، ها أنا أترك كل شيءٍ وأنطلق في هذه المطاردة التي لا طائل منها. هذا أمر غير منطقي؛ إنه مجرَّد «حدس» لعين لا معنى له، والذي ربما سيُؤدِّي إلى أي مكان، وعلى الأرجح لن يؤدي إلى أي مكان. إنه الشيء ذاته الذي حذَّرني رئيسي للتو من فعله، وها أنا ذا أفعله تقريبًا قبل أن يُخرج الكلمات من فمه! إن مثل هذا «الحدس» الجهنمي الذي يتملكني سيتسبَّب في سقوطي.»