عندما تتعمَّق المأساة
على الرغم من هذا التنبُّؤ الكئيب، استقرَّ المفتِّش في السيارة وراقب عن كثبٍ جانبي تشارينج كروس رود. وإذ اعتادَت عيناه على الظلمة، رأى فجأةً الرجل الذي يُريده يسير غربًا عبر أكسفورد ستريت. لكن مكارثي لاحظ أنه على الرغم من سيره على نحوٍ مُتأنٍّ في ذلك الوقت، فلا بدَّ أنه قد سار بسرعةٍ جيدة للوصول إلى هذا المكان في الوقت الذي وصل فيه إليه.
فجأة — كان ذلك بعد أن اجتاز بيرنرز ستريت مباشرة — توقفت طريدته عن السير وتلفَّت حوله بنحوٍ حاد، وأخذ يُحدق في الطريق. لم يكن هناك شيء يُمكِن رؤيته سوى الضوء الخافت لسيارة أُجرة مُتأخِّرة وسيارة الشرطة التي، بناءً على تعليمات مكارثي، أُبقِيَت في منتصف الطريق. أخذ الرجل ينظر نحو الأخيرة باهتمام للحظة.
قال مكارثي كما لو كان يُحدِّث الرجل: «الآن، أتساءل عما إذا كانت عيناك الغريبتان قد رأتا هذه السيارة تأتي إلى الميدان؟» وتابع: «إنهما تبدوان من النوع الذي لا يفوتُه الكثير، رغم أنهما تبدوان مُحدقتَين مثل عينَي جثة. إن كانتا قد رأتها، فليس من الجيد إضاعة وقتي في مراقبتك من داخلها، وعلاوة على ذلك، سوف تُثير الشكَّ فيك، وهذا آخر شيء أريده.»
استأنف الرجل سيره مرة أخرى، وترك مكارثي في مأزق. كان سيُتابع مهمة المراقبة سيرًا على الأقدام، لكن نظرًا لأنه يَرتدي روبًا وخُفًّا منزليًّا، فإنه بالتأكيد لن يذهب بعيدًا دون أن يُدرك الرجل من الذي يَتبعه. وطوال الوقت، كان الشعور العميق والمُقلق يَتزايَد لديه بأنه لا يوجد أي حجَّة يمكن أن يُقدِّمها لتُبرر بأي نحوٍ إضاعة المزيد من الوقت على هذا الرجل المجهول تمامًا.
لكن مكارثي كان رجلًا عنيدًا للغاية، ونظرًا لأنه بدأ في اتِّباع حدسٍ ما؛ فقد كان يكره بالفعل تغيير خطته. ومع ذلك، وفي ظلِّ هذه الظروف، لم يرَ شيئًا آخر يدعو إلى استمرار المُراقبة، وكان على وشك أن يُخبر سائقه أن يَستدير ويعود إلى سوهو سكوير وإلى اتباع الروتين المعتاد عندما لاحظَتْ عيناه شخصًا غامضًا يتسلَّل من أكسفورد ستريت إلى زقاقٍ يؤدِّي إلى خلف صفٍّ مُعين من المحلات. في لحظة اخترقت عينا مكارثي الشبيهتان بعينَي النَّسر الظُّلمة بدرجة كافية لتحديد الشكل غير المُحدَّد. وحتى في ظلِّ هذه الظروف الصعبة، ما كانت لتُخطئ عيناه أنه واحد من «عملائه» المعتادين. وهنا بالفعل كانت المساعَدة المرسَلة من السماء.
فهمهمَ مُبتهجًا لنفسه: «آه، صديقي العزيز غير الموقر، «داني ذا ديب» (أي: «داني النشال»). إنه في رحلة البحث عن مكانٍ ما نسيَ أصحابه مشكورين وضع القفل على الباب الخلفي!» ثم أمر السائق بحدة: «توقف هنا»، وفي لحظةٍ خرج من السيارة إلى ظُلمة الزقاق. وبعد لحظة كان قد وضع يدَه على كتف اللص. وقال ناصحًا بلطف: «تعالَ، يا دانيال.» وتابع: «أنا شرطي طيب!»
كان السيد دانيال ريجان يعرف هذا الصوت جيدًا — في واقع الأمر، على نحو أفضل بكثير في الوقت الحاضر — مثلَما يعرف نبرات صوت والدته.
فقال شاكيًا: «أنا لم أفعل شيئًا، أيها المفتش.» وتابع: «لقد كنت أبحث فقط عن مكان للنوم. فأنا مُفلس تمامًا!»
قال المفتش: «إنها جريمة أن تكون مُفلسًا، يا دان، إنها واحدة من أسوأ الجرائم!» وأضاف: «لذلك أخشى أنه لا يُمكنك الخروج من الأمر بهذه الطريقة.» وأضاف وهو يدفع الجسد النحيف تجاه أكسفورد ستريت: «لكنِّي ربما أتغاضى عنه هذه المرة إذا وافقت على أداء مهمة صغيرة من أجلي.»
فردَّ على الفور: «سأفعل أي شيء، أيها المفتش!» وتابع: «لا أريد أن أعود للسجن مرةً أخرى - ليس الآن. لقد أخبرني القاضي في محكمة الشرطة في مارلبورا ستريت أنه في المرة القادمة التي سيراني فيها، سوف يُحكَم عليَّ «بعقوبة مضاعفة» وأنا لم أفعل شيئًا! حقًّا، لم أفعل! ما الذي تُريد منِّي فعله، يا سيدي؟»
قال مكارثي، مُشيرًا في اتجاه الشخص الذي يَسير أمامهما الآن على بُعدٍ كبير: «هل ترى ذلك السيد هناك؟» وتابع: «لا يُمكنُك، أنا أعلم، لكنه يُوجَد هناك رغم ذلك.»
«إذا كان هناك فسأَجدُه، يا سيدي. لا تَقلق بشأن ذلك. سأتبع صوت قدمَيه. يُمكنُني سماع صوت القطة وهي تسير في الظلام؛ فقد اعتدتُ على ذلك بسبب عملي.»
«أريد منك أن تُراقبه مثل ظلِّه حتى يذهب إلى المكان الذي يبيت فيه يا دانيال، وأريد إنجاز المهمة بنحو صحيح، وألا تتركه بمجرد دخوله إلى أيِّ مبنًى قد يَخرُج منه مرةً أخرى بعد خمس دقائق، عندما يَعتقِد أنه قد تملَّص منك. وما لم أكن مخطئًا كثيرًا، فأنت تُراقب رجلًا مُخادعًا للغاية، شخصًا سيتملَّص منك في الفرصة الأولى التي ستَسمَح له فيها بذلك. والآن، عليك أداء هذه المهمَّة من أجْلي وإتمامها بنجاح، ثم تُحضر لي تقريرك، أو الأفضل من ذلك، أبلغني به عبر الهاتف في وقتٍ مُبكِّر من صباح الغد وسوف أغفر خطاياك، في الماضي والحاضر، وليس هذا فقط لكنك ستَحصُل على عشرة شلنات أيضًا.» وأضاف على نحو مُشجِّع: «وربما أجعلها جنيهًا كاملًا إذا قمتَ بعملك على أكمل وجه.»
قال «داني ذا ديب» مُلتمِّسًا بتضرُّع: «هل يُمكنني أن أحصل على شلنَين كي أبدأ المهمة، أيها المفتش؟» وتابع: «فقط لشراء كوب من القهوة إذا سنَحَت فرصة أثناء المهمة؟ فأنا أتضوَّر جوعًا لدرجة أن أحشائي اللعينة تبدو وقد هبَطَت نحو ركبتيَّ؛ إنها تُؤلِمني بشدة.»
اقترض مكارثي من سائق سيارة الشرطة الشلنَين اللذَين قدَّمهما لصاحب المعدة الخاوية الذي انتزعهما بلهفة؛ وقد أظهرت النظرة الجائعة في عينَيه لمكارثي أن «داني ذا ديب» المخادع لم يكن يتلاعب به، لكنه كان بالفعل «مُفلسًا».
صاح مكارثي بسرعة، بينما بدأ الرجل الجائع يقتفي أثر الشخص الذي يسير بمفرده في مكانٍ ما على الجانب الآخر من الطريق: «هل تعرف رقم الهاتف؟» وتابع: «أعني، رقم هاتفي؟»
«لا أظن، أيها المفتِّش. أنا أعرف رقم هاتف سكوتلاند يارد.»
أعطاه مكارثي رقم هاتفه الخاص بسرعة، ثم غاب «داني ذا ديب» بعيدًا عن الأنظار في الظلام. تنفَّس مكارثي الصعداء عندما عاد إلى السيارة وأمر السائق بالعودة إلى الميدان عبر سوهو ستريت.
ثم قال في أسًى: «وها هو جنيه قد ضاع من راتبي الذي أكسبُه بشقِّ الأنفس! لماذا أفعل هذا بحق الجحيم لهو أكثر مما يمكن أن أُخبرك به.»
قال السائق مواسيًا: «حسنًا، يا سيدي، ليس عليك إعطاؤه هذا المال إذا لم يجلب لك شيئًا يستحقُّ عليه المكافأة.»
وافق مكارثي على ذلك قائلًا: «أنا ليس عليَّ ذلك، لكنني أعلم جيدًا أنني سأفعل ذلك! فأنا رجل طيب القلب.» واختتم كلامه بهدوء: «أتعْلَم، أنا أعرف جيدًا ما يَعنيه أن تجد نفسك مُفلسًا، وجائعًا.»
عندما عاد المفتش إلى سوهو سكوير وجده قد أخلي فعليًّا من الجماهير؛ إن الأساليب الاستبدادية، ولن نقول القمعية، للمُدير بالإضافة إلى ثقل وجود دزينة آخرين أو نحو ذلك من رجال الشرطة الذين يَرتدون الزي الرسمي، أقنعا بسرعة المجموعة الكبيرة للغاية أنه كلما ابتعدوا عن الطريق في أقرب وقت، كان ذلك أفضل بالنسبة لهم.
بالنسبة لأولئك الذين كان يرى مكارثي أنهم أشخاص مُنخرطُون في مَساعٍ، على أقل تقدير، مشبوهة، فإن نظرةً واحدة نحوهم من عينَي المدير بورمان الباردتَين والرماديتَين كانت تُعتبَر كافية للغاية. لقد انصرفوا في اتجاه الجحور التي يَسكنونها، قبل أن يُقرِّر أنه يُلقي باللائمة عليهم فيما يتعلق بشيء أو آخَر؛ والذي ربما كان شيئًا ما منذ فترة طويلة، وبالنسبة إليهم، كاد أن يُنسى. كان حكمُ مجرمي سوهو على بورمان هو أنه يبدو أنه لا ينسى أي شيء أبدًا؛ لا يُمكنك أن تأمن جانبه أبدًا.
حتى الجمهور في النوافذ العلوية قرَّر على ما يبدو أنه لن يحدُث أي شيءٍ آخر يُثير الاهتمام في تلك الليلة. كل ما استطاع مكارثي أن يراه بنحوٍ خافِت على ما تبقى من توهُّج النار عندما خرج من سيارة الشرطة، كان نصف دزينة أو نحو ذلك من المُتفرِّجين المُثابِرين الأكثر تصميمًا على معرفة ما يَحدُث في الأركان البعيدة للميدان، والمدير (الذي كان غاضبًا نظرًا لبقائه في انتظار سيارته)، وكبير المُفتِّشين، والسيرجنت واثنين من رجال الشرطة كانا سيَبقيان في الخدمة في موقع الجريمة أثناء الليل.
ومن ثم زمجر المدير قائلًا: «لقد تأخَّرتَ وقتًا طويلًا جدًّا، يا ماك.» وتابع: «ماذا كنتَ تفعل؟»
قال مكارثي برزانة: «ليس بالقدْر الذي كنتُ أتوقَّعُه»، ولم يُعلق على السؤال الذي وُجه إليه بعصبيةٍ نوعًا ما، ولكن له ما يُبرِّره تمامًا. فقد اكتشف منذ فترة طويلة أنه كلما تهرَّبتَ من أسئلته، قلَّ احتمالُ أن يسألك.
فاستطرد بورمان: «لا أرى أن هناك الكثير مما يُمكنُك القيام به هنا قبل حلول الصباح.» وأضاف: «سيَبقى هذان الرجلان في الخدمة طوال الليل ليتأكَّدا أنه لا يُوجَد أي تدخُّل في مسرح الجريمة. إنه لأمرٌ غريب بالنسبة لي كيف جرى التخلُّص من الجثة في الوقت الذي مر بين سماع تلك الصرخة ووصول الشرطة إلى هنا.»
وافق مكارثي على ذلك بقوله: «إنه أمرٌ غريب بالتأكيد.» وتابع: «لقد كنتُ أنا وشرطيُّ الدورية في مكان الحادث خلال دقيقتَين من وقوعه؛ حيث وصلنا في نفس الوقت تقريبًا. وهو تحرك سريع جدًّا عندما تأخُذ في اعتبارك عملية التعتيم وأنني كنتُ على وشك الخلود إلى النوم عندما انطلقت الصرخة. وبخصوص فعل أي شيءٍ هنا خلال هذه الليلة، أو، على وجه الدقة، تلك الساعات الأولى من الصباح، فأنا أتَّفق معك في أنه لا يُوجَد الكثير مما هو ممكن فعله. ومع ذلك، سأُلقي فقط نظرة للتأكُّد. على أيِّ حال، سآتي هنا قبل وقتٍ طويل من ظهور أيٍّ من شاغلي هذه المكاتب، وبالمناسبة فإن إلقاء نظرة فاحصة عليهم لن يُسبِّب أي ضرر.» ثم أضاف بسرعة موجهًا حديثه للسيرجنت: «بالمناسبة، هل وُضِع أيُّ شخصٍ للحراسة على المدخل الخلفي لهذا المكان؟»
قال له ذلك الضابط الكفء: «لقد فعلتُ ذلك، يا سيدي.» وتابع: «لقد وضعت رجلًا هناك لديه أوامر بالالتزام بمهمَّته تمامًا حتى يحلَّ وقت راحته ويُستبدَل آخَرُ به.»
أشاد مكارثي بذلك قائلًا: «هذا هو أسلوب العمل المثالي.» وأضاف: «ليس هناك من يُضاهي القسم «سي» في معرفتهم بعملهم، وأدائهم له!»
قال المدير: «حسنًا، سأُغادر المكان.» وتابع: «أَعلِم كبير المُفتِّشين بمجرَّد التوصُّل لأي شيء ملموس. طاب مساؤك.»
قال مكارثي وهو يهزُّ رأسه بغرابةٍ بينما تقلُّ السيارة رؤساءه خارج الميدان: «هذا هو الوضع، أيها السيرجنت.» وتابع: «دع كبير المُفتِّشين يعلم بمجرَّد أن تتوصَّل لأي شيءٍ ملموس في قضية لا يُوجَد فيها حتى يقين مُطلَق بوقوع جريمة قتل! بعبارة أخرى، اكتشف شيئًا مُحددًا، والذي لا يبدو أنه موجود، اسمح لي أن أعرف أي شيءٍ مُفيد وسأُقدِّم لك نصيحتي اللطيفة حول كيفية المُضيِّ قدمًا! تبًّا لهذا! عليك أن تَمتنَّ لكونك شرطيًّا ولستَ مُضطرًّا لأداء المهام التي لا تستهوي رؤساءك، وأن بإمكانك النوم عند الانتهاء من عملك. حسنًا، فقط ألقِ نظرة على رَجُلِك في الخلف. كيف تصلُ إليه؟»
أشار السيرجنت إلى زقاقٍ ضيق أبعدَ قليلًا عبر الميدان والذي يؤدِّي على ما يبدو إلى زقاق آخر، يمتدُّ موازيًا لذلك الجانب من الميدان، ويَستخدمه الكنَّاسون ومن هم على شاكلتِهم. وأثناء مرورهما عبره، رأى مكارثي على ضوء المصباح اليدوي للسيرجنت أن جدارًا مُرتفعًا يمتدُّ على طول جانب المنزل القديم. وهذا، في الزقاق المتقاطع، أدَّى إلى ظهور جدارٍ آخر أقل ارتفاعًا بكثير.
تمتم السيرجنت بغضب: «عجبًا أين هاربر بحقِّ الجحيم؟» وأضاف: «كان يجب أن يسمع خطواتنا ويخرج ليرى من يقترب، وأن يفعل ذلك بسرعة، في مهمةٍ مثل هذه.»
وقد خطرت الفكرة نفسها إلى مكارثي أيضًا. فذكر ذلك الضابط الغاضب قائلًا: «لقد تحركنا بهدوءٍ شديد، أيها السيرجنت.» وتابع: «مِن المُمكن أن الصوت لم يَخترق هذه الجدران السميكة؟»
قال الآخر بحدة: «ليس من المفترض أن يكون خلف الجدران. إن أوامري هي أن يُراقِب البوابة فقط وليس أي مكانٍ آخر. إنه ليس «مُبتدئًا» لا يَفهم الأوامر عندما تُعطى له.» وزمجر قائلًا: «سوف يَسمع منِّي تعنيفًا يخترق جُمجمته السميكة. لقد أكدتُ عليه بنحو خاص أن يُصبح في حالة تأهُّب لأي شيء.» ومن ثم أخذ مصباحه اليدوي وسلَّطه على طول الزقاق، حيث استقرَّ شعاعه على جسد الشرطي المُتكئ على عمود البوابة، وبالحُكم من خلال موقفه، المُستغرق في النوم!
شهق السيرجنت قائلًا: «حسنًا، سوف …!» ثم قال: «إنه «نائم»! سأنهي خدمته من أجل هذا!»
وسارع مُتَّجهًا نحو الجسد الثابت.
وقال باستهجان: «ما هذا بحقِّ الجحيم، يا هاربر؟» وتابع: «أنت تستحقُّ العقاب، من أجل هذا! سأُحطمك …»
قال مكارثي بصوتٍ هادئ: «اهدأ!» وأضاف: «أشكُّ إذا كنتَ سوف تُحطمه أنت أو أي شخصٍ آخر، أيها السيرجنت. انظر إلى وجهه؛ إنه ليس نائمًا. إنه «ميت»!»