ما بداخل المنزل
إنَّ القول بأن المُفتِّش المُحقِّق مكارثي قد فقد رباطة جأشِه وثباته المُعتادَين بسبب هذا الاكتشاف المُروِّع يُعتبَر تقليلًا تامًّا من مدى قُدرة هذا الضابط على التحكُّم في مشاعره، عندما أدرك الموقف على نحوٍ كامل. لقد احتاج الأمر إلى فحصٍ لمجرَّد لحظة على ضوء مِصباح السيرجنت اليدوي ليُقرِّر على نحوٍ قاطع أنَّ الشرطي المسكين لم يُقصِّر بأي حالٍ من الأحوال في أداء واجباته. بل على العكس، فقد طُعِنَ بلا شكٍّ ولقيَ مصرعه على الفور من قِبَل شخص لا بدَّ أنه تسلَّل بهدوء مُطلق خلفه، وعلى ما يبدو من الباب الخلفي للمنزل. في الواقع، لو لم يكن الشرطي هاربر قد ركز عقله بالكامل على الزقاق الذي أُمِرَ على وجه التحديد بمراقبته، لكان من المُحتمَل أن يَلتقِط صوت القاتل وهو يتسلَّل خلفه.
من الأشياء غير العادية في ذلك الحادث أنه لم يقَع على الأرض عندما اخترق النصلُ قلبَه، كما كان حدث بلا شكٍّ على الفور، ولكن، بطريقة غريبة، وغير واضحة في الحال، لا بد أن كامل وزن جسدِه قد ارتكن على نحوٍ جيد مُقابل عمود البوابة الصلب، الذي دعمه في وضع رأسي.
كما أنه لا جدال على الإطلاق في طريقة قتله؛ حيث أوضحتْها النظرة الأولى على ظهره بما لا يدع مجالًا للشك. إذ يُوجَد ثقب صغير على شكل مُثلَّث في ظهره العريض، مباشرة خلف قلبه، والذي لا يزال الدم ينزف منه ببطء، وكثافة. لا بدَّ أنه مات على الفور بدون أن تَرتعِش منه عضلة، ولم يظهر على وجهه، الذي تحوَّل إلى اللون الرمادي بفعل الموت؛ أي مظاهر للألم.
صدرت تنهيدة حزن من شفتَي مكارثي.
وقال: «يا لي من أحمق ملعون لأني لم أُدرك احتمالية استخدام ذلك الباب الأمامي كمهرب.» وأضاف: «لكن مظهرُه جعَلني واثقًا من أنه لم يكن كذلك. كان ينبغي أن يُصبِح أول تصرُّف لي هو إرسال رجُلين لحراسة الباب الخلفي والتأكُّد من عدم اختباء أيِّ شخصٍ داخل المنزل.» تابع بحزن: «لو كنتُ قد فعلت ذلك، لما فقد هذا الرجل المسكين حياته.»
قال السيرجنت، بصوتٍ هامس بعض الشيء: «يبدو الأمر تقريبًا كما لو أنَّ جثة الشخص المقتول قد سُحِبَت إلى الداخل في نهاية الأمر. ليس بإمكاني إدراك أي طريقةٍ أخرى للتخلُّص منها في الوقت الذي أُتيح للقاتل.»
قال مكارثي: «يبدو الأمر كذلك بالتأكيد.»
ومن ثم أخرج مُسدَّسه الآلي من جيبِه وسحب صمام الأمان، ثم وجَّه المصباح اليدوي نحو الباب الخلفي. لقد كان الباب مُواربًا.
وغمغم قائلًا: «بناء على المعلومات المُتوفِّرة، ليس هناك الكثير من الشكِّ حول كيفية هروب القاتل.» وتابع: «منذ متى بالتحديد أرسلتَ هذا الرجل المسكين إلى هنا، أيها السيرجنت؟»
رد السيرجنت: «بعد ما يقلُّ عن دقيقة واحدة من انطلاقك في سيارة الشرطة، يا سيدي.» وأضاف: «كنتُ أعلم أن هذا هو ما كنتَ ستفعله بنفسك إذا … إذا لم يكن لديك شيء آخر يدور في ذهنِك في تلك اللحظة تحديدًا.»
تأوَّه مكارثي قائلًا: «ذلك الحدس اللعين الذي دفَعَني لمراقبة ذلك الرجل.» وتابع: «في هذه الحالة، أيها السيرجنت، أيًّا كان مَن قتَل هاربر لا بدَّ أنه قد غادر المنزل، وارتكب الجرم وسار بهدوء عبر ذلك الزقاق إلى سوهو سكوير، بينما كان المدير بورمان، وكبير المفتشين وأنت تتشاورون عند الباب الأمامي. أظنُّ أنه لم يَمضِ على قتل هاربر عدة دقائق؛ إن يدَيه ليستا باردتَين حقًّا بعد.»
قال السيرجنت مُوافقًا: «لا بدَّ أن هذه هي المدة بالفعل.»
ومَضَ خاطر في ذهن مكارثي على الفور، وهو: أنه أيًّا كان من ارتكب جريمة القتل الثانية هذه، فمن المؤكَّد أنه ليس الرجل ذا العينَين ذواتي اللون الأزرق الثلجي. في الواقع، إنَّ سبب ارتباطه بالقضية بأيِّ نحوٍ أو هيئة، لَهوَ أمر يَصعُب على المفتش للغاية شرحه لأي شخص. ومع ذلك، فمن المؤكد تمامًا أنه ليس له صِلة بهذا الجزء الثاني المروِّع منها.
فقال: «علينا تفتيش المكان كله، أيها السيرجنت.» وتابع: «هذا على الرغم من أنني أخشى أننا لن نجد شيئًا.»
قال السيرجنت بعناد: «هناك احتمال كبير للغاية بأن نجد الجثَّة الأخرى في مكانٍ ما خلف ذلك الباب الأمامي.» وتابع: «على الأقل، أعتقد أن هذا الاحتمال موجود.»
قال مكارثي، مع قليل من الضجر: «ربما أنت على حق.» وأضاف: «لقد كنتُ مخطئًا بشأن فتح الباب؛ ربما أكون مخطئًا في ذلك أيضًا.»
ومن ثم، تقدم الطريق عبر ساحة صغيرة مرصوفة نحو ذلك الباب المُوارِب، وفتحه على مصراعيه ووجه المصباح اليدوي إليه. وبسبب شكله، كان من المستحيل الرؤية عبره حتى الباب الأمامي مباشرة، على الرغم من عُرضه؛ لأن السُّلَّم المؤدي من الردهة كان عريضًا على نحوٍ خاص ومحفورًا على نحوٍ رائع، وكذلك كان أيضًا الجزء الهابط منه نزولًا إلى قبو. وعبر الردهة كان هناك أيضًا عمودان يدعمان قوسَين مما ساعد كذلك على حجب الرؤية.
قال السيرجنت بينما يخطوان إلى الجزء الخلفي من الردهة: «ستُلاحظ، يا سيدي، أن هذا الباب الخلفي له قفل زنبركي.»
قال مكارثي: «هذا أفضل بكثير.» وتابع: «أغلِقه من بعدك. إذا كان هناك أي شخصٍ مُختبئ في القبو، بأيِّ حالٍ من الأحوال، سيُعيقه ذلك بعض الشيء عن الإفلات منا. على أي حال، سنبحث فيه أولًا، بعد أن نتأكد من وجودِ أو عدم وجود، حسبما قد يُحتمَل، جثةٍ في الردهة.»
وجَّه المُفتِّش المصباح اليدوي نحو الأرضية، بينما أخذت عيناه تبحثان عن بُقَع دم على المشمَّع القديم والبالي، وتقدم الطريق نحو الباب الأمامي العريض للغاية. لم يكن هناك أي علامة يمكن رؤيتها لأي شيءٍ خارج عن المألوف، وبالتأكيد لا شيء كان يُشير إلى أن ضحية أي مأساة قد تكون قد وقعت في الخارج، قد أُدخِلَت إلى داخل المنزل. لم تكن هناك قطرة دم واحدة يمكن رؤيتها، إلا في مكان واحد: على الحافة الخارجية من مِمسَحة الباب الغائرة، التي تمتدُّ أمام الباب وتحته قليلًا. من الواضح أن ذلك الدم قد نزل من الجانب الخارجي للباب وشقَّ طريقَه تحته.
سأل مكارثي بهدوء: «حسنًا، هل أنت راضٍ الآن عن فرضية إدخال الجثة إلى الداخل؟»
على ضوء المصباح اليدوي، حدَّق السيرجنت وهو غير قادر على الرد في ممسحة الباب العريضة، وفي ذلك الجزء من الردهة الذي يقع بينها وبين السُّلَّم. كانت الأدلة التي رأتها عيناه لا تقبل الجدل؛ بالتأكيد لم يدخل أي شيء، أو أي شخصٍ كان ينزف، كما لا بد أنه كان عليه الحال، من خلال هذا الباب.
قال مكارثي، لكن بدون صلف: «أرأيت، أيها السيرجنت، فليكن درسًا لك ألا تجزم أبدًا بوقوع أي شيءٍ دون أن تراه بعينَيك، عندما يتعلق الأمر بجريمة قتل. لقد كنتُ متأكدًا من أن الباب لم يُفتح أبدًا، على الرغم من أن سبب تأكُّدي كان أكبر مما يُمكنني أن أُخبرك به في الوقت الحالي. لكنني كنتُ متأكدًا، وكنتُ مخطئًا. وأنت كنتَ متأكِّدًا تمامًا من أن الجثة قد أدخلت من خلاله؛ وأنت، أيضًا، كنتَ مخطئًا. يُمكنك أن ترى بنفسك كيف كان من المستحيل تمامًا فعل ذلك دون ترك، على الأقل، بُقعة دم أو علامة تدلُّ على ما حدث أو ما شابه.»
ثم أولى اهتمامه للقفل الصندوقي العتيق الضخم للباب؛ الذي بدا مِن حَجمِه وثقلِه، بنحو عام، أنه ربما هو القفل الأصلي الذي جرى تركيبُه عندما بُني المنزل. لا بد أن مفتاحه كان ضخمًا، لكن لم يكن هناك أي أثر له على الرغم من أن الباب كان مغلقًا. كما ثُبِّت الباب بمزلاجَين حديديَّين كبيرَين، الأول بالأعلى والآخر بالأسفل، وكلاهما كانا مُغلقَين. كان هناك قفل زنبركي مُثبَّت فوق القفل القديم.
علق المفتش قائلًا: «كنا سنَجِد صعوبةً في اقتحام المكان هنا.»
قال السيرجنت مُوافقًا: «كنا سنجد بالفعل صعوبة، وهذه حقيقة، وكان سيتحتَّم علينا الدخول عن طريق إحدى النوافذ.» ثم قال مُصحِّحًا لنفسه: «رغم أنه، بالطبع، سيكون هناك الباب من تلك المنطقة حيث وجدت السكين والمنديل.»
قال مكارثي: «كنا سنجدُه مُغلقًا بإحكام مثل هذا، بلا شك.» وتابع: «على أي حال، نظرًا لأننا هنا، فمن الأفضل أن تُنادي من خلال ثقبِ المفتاح على الشرطي المناوب بالخارج، وتجعله يطلُب إرسال الطبيب الشرعي وعربة الإسعاف لنقل جثة هاربر إلى المشرحة. من الأفضل أن يطلُب من مفتِّشك إرسال المزيد من الرجال إلى هنا في نفس الوقت. أخبره أن يأمرهم بأن يحضروا إلى الباب الخلفي بأقل قدْر مُمكن من الجلبة — وأن يؤكِّد عليهم، أنه لا يجب على أيٍّ منهم، تحت أيِّ ظرفٍ من الظروف أن تطأ قدَمه داخل تلك البوابة الخلفية حتى تُتاح لي الفرصة أن أفحص هذه الأرضية في وضح النهار.» وأضاف بسُرعة بينما كان السيرجنت ينحني ليفتح غطاء فتحة بريد كبيرة إلى حدٍّ ما لاستخدامها في نقل تعليماته: «وعلاوة على ذلك، ومن أجل الرب، أخبره بأن يُبقي يدَيه بعيدًا عن الباب، وأن يَحرص على عدم السماح لأي شخصٍ آخر بلمسه. فقد يُنبئ فحصه أيضًا عن شيءٍ عندما تسنَح لي الفرصة لذلك في وضح النهار.»
وبعد أن نقل هذه التعليمات بدقَّة، وفي الواقع بلهجة قتالية تقريبًا، عبر الصراخ من خلال ثقب المفتاح للرجل في الخارج، استدار السيرجنت مرةً أخرى إلى مكارثي.
وسأل: «ماذا بعد يا سيدي؟»
كان المُفتش يولِي اهتمامه لقفل ييل الحديث تمامًا الموجود في الجزء العلوي من الباب.
وقال: «كان هذا هو طريقة الدخول، بالطبع.» وتابع: «إنَّ القفل الكبير، في جميع الاحتمالات، لا يُستخدم على الإطلاق؛ إنه أداة خرقاء، وعتيقة تمامًا.» وأضاف: «على الرغم، بالطبع، من أن هناك احتمالًا أن يقفل كنوع من الحماية الإضافية كآخِر شيء في المساء من قبل عامِلتَي النظافة عند مغادرتهما. وربما تخرجان من ذلك الباب الخلفي، والشاب الذي تحدثت عنه يدخل من نفس الباب.»
لكن السيرجنت هزَّ رأسه نافيًا.
وقال، وهو مُتأكد للغاية: «كلَّا، يا سيدي، كلتا الخادمتين تُغادران من الباب الأمامي لأنني رأيتهما، ورأيتُ أيضًا الشاب يدخل من الباب الأمامي في الصباح.»
قال مكارثي بتأمُّل: «حسنًا، في هذه الحالة، ليس من المحتمَل استخدام هذا القفل الكبير وهذَين المزلاجَين على الإطلاق. لذا يبدو أن الوضع، في ظاهره، هو كالآتي. إذا مرَّ الرجل الذي ارتكب الجريمة في الخارج من هذا الباب، فلا بد أنه دخل بواسطة مفتاح القفل، ثم استخدم هذا المفتاح في فتح القفل الكبير، وأغلق المزلاجَين. والسبب في ذلك واضح وهو لكسب الوقت إذا حاولَتِ الشرطة، عند وصولها بسرعة فور سماع الصرخة، الدخول إلى هنا بالقوة. وعندما وجد أنها لم تصِل، وأن لدَيه الوقت للتصرُّف على نحوٍ هادئ، ظلَّ هادئًا في مكانه، حتى ظن أنه من الآمِن الخروج والهروب من الباب الخلفي ثم عبر ذلك الزقاق.
إن الاحتمالات هي أنه كان هناك سبب آخر جعلَه يَنتظِر قليلًا قبل أن يغامر بالخروج. ففي ذلك الوقت، كان الوهَج من النار في ذُروته وربما ظنَّ أنه من الحكمة أكثر أن يَختفيَ لبعض الوقت كي لا يتعرَّف عليه أحد في الوهَج. وعندما وجد أخيرًا الفرصة سانحة للهروب، اكتشف وجود هاربر في الخدمة عند البوابة الخلفية. ولكي يخرج تَوجَّب عليه أن يقتله؛ وهو أمر ليس صعبًا للغاية بالنِّسبة لرجلٍ ماهر في استخدام السكين، مثلما تُظهِر الأدلة أنه كان كذلك. بعد ذلك يُصبح من السهل نسبيًّا الابتعاد عن هذا المكان، أو حتى الاختلاط بالحشود ومشاهدة الأحداث.»
اعترض السيرجنت قائلًا: «لكن … لكن هاربر لم يَمُت قبل أكثر من دقيقتَين أو ثلاث دقائق من عثورنا عليه.»
قال مكارثي: «تقريبًا، لكن رجلًا في عجلةٍ شديدة من أمره يُمكنه أن يبتعِد لمسافة طويلة خلال هذه الفترة. من الوارد تمامًا أنه تسلَّق السياج على الجانب الآخر من الزقاق، وهرب بهذه الطريقة.»
قال السيرجنت، وهو يتصوَّر خريطة الحي في ذهنه: «هذا ممكن.» وتابع: «إن بإمكانه النزول والذهاب إلى تشابل ستريت إذا كان على دراية بالمكان.»
قال مكارثي: «أظن أننا يُمكن أن نُسلِّم بأنه قد فعل هذا.» وتابع: «سوف نتفحَّص المكان.»
لقد وجدا الغُرَف في الطابق الأول كلها مُغلقة، وذلك وفق ما توقَّع مكارثي؛ وبدا أن الغرفة التي على يمين الداخل من الباب الأمامي مباشَرةً هي غرفة إدارة المكان. وهذه، أيضًا، كانت مغلقة.
قال مكارثي: «وأظنُّ أننا سنجد جميع الغُرَف في كل الأدوار التالية مُغلقة كذلك.» وتابع: «إذا كانت هناك لوحة للاحتفاظ بنُسَخٍ احتياطية من مفاتيح المكاتب، أو حتى مفتاح رئيسي، فستكون في هذا المكتب، وما لم نكسر جميع الأبواب، وهو ما لا أقترح فعله، فليس أمامنا المزيد لفعله، بخصوص هذه المكاتب.» وأضاف، مع الْتماعةٍ في عينَيه: «لسوء الحظ، لم أُحضِر معي طفاشتي الصغيرة.»
قال السيرجنت، على نحوٍ غير واثق: «يُمكننا كسر باب هذا المكتب ونرى ما إذا كان هناك مفتاح رئيسي.»
قال مكارثي على نحوٍ حاد: «نكسر باب مكانٍ بدون الحصول على إذن رسمي!» وتابع: «أنا مُندهِش من قولك هذا، أيها السيرجنت! ومُندهِش أكثر من أنك تتحدَّث عن مكانٍ لا تبدو عليه علامة واحدة بأن جريمة قد ارتُكِبت فيه. هل ترى أي بُقَع من الدماء، أو ثقوب رصاصات عبر الباب أو أي شيء آخر يُبرِّر القيام بمثل هذا التصرف؟»
رد السيرجنت في إحراج: «كلَّا، يا سيدي.»
هز مكارثي رأسه، كما لو كان حزينًا للغاية من مجرَّد التفكير في مثل هذا الانتهاك.
وقال مُحذرًا: «عليك أن تكون حريصًا في تصرُّفاتك، أيها السيرجنت.» ثم أضاف: «بعد واحدة أو اثنتَين من هذه الهفوات الصغيرة، ستسوء سُمعتك مثلما ساءت سُمعتي لدى رؤسائك. سنجرب تفتيش القبو؛ لا أظن أنه سيكون مُغلَقًا بإحكام.»
وبعد نزول السُّلَّم وجدا مجموعة من الغُرَف والتي لا بدَّ أنها فيما مضى كانت تُستخدَم كمطبخ وغيره من غرف الخدمات المنزلية للمنزل العتيق. ومن خلال المنظر الذي بدَت عليه لا بد أنها كانت جُحورًا مظلمة في أفضل الأوقات، أما في اللحظة الحالية فهي تبدو كزنزانات سجن. لقد كانت كل أبوابها مفتوحة على مصاريعها ولم تكن تحتاج سوى إلى نظرة سريعة لإدراك أنها تمتلئ بأشياء مُهملة من كل نوع، والتي غطاها التراب عبر السنين. وفي رأي مكارثي لم يكن بها ما قد يُفيد البحث في هذه القضية، لكن، قبل أن يصعد السُّلَّم للأعلى مرة أخرى، تفحَّص الأرضيات التي بجانب الأبواب بعناية، فوجدها أيضًا مُغطَّاةً بطبقةٍ سميكة من الأتربة لدرجة أنَّ أي خطوةٍ حديثة عليها كانت ستبدو واضِحةً للغاية كما لو أنها قد حفرت فيها.
ومن ثم قال على نحوٍ توجيهي: «لم يدخل أحد إلى أيِّ هذه الغُرَف في هذه الليلة، أيها السيرجنت.»
في تلك اللحظة صدرت صافرة شرطة عند الجهة الخلفية من المنزل، وهي الإشارة التي اتَّفق عليها السيرجنت لإعلامهما بوصول الطبيب الشرعي وسيارة الإسعاف.
قال السيرجنت بثقةٍ تامة، وبلُغة ركيكة: «ها هم.»
فأسرع مكارثي صاعدًا السُّلَّم، ثلاث درجات في كل خطوة.
وهو يقول بحدة: «أسرِع في فتح الباب الخلفي، قبل أن يبدءوا في مسح كل آثار الخطوات بين الباب والبوابة الخلفية بأحذيتهم الثقيلة!» وأضاف: «وعندما تخرج، احرِص على السير على جانبٍ واحدٍ من المسار ولا تترك أي آثار أقدام.»
ألقى الطبيب الشرعي نظرة واحدة على ذلك الجزء من ظهر القتيل هاربر الذي أُضيء بضوء المصباح اليدوي.
وقال: «أنا لا أعلم ما المُفترَض بي بحقِّ الجحيم أن أفعل هنا»، عندما قاطعه مكارثي.
وقال بنبرة ساخرة: «الآن، أيها الطبيب، يا عزيزي، لا تبدأ في التذمُّر بمجرَّد وصولك إلى هنا.» وتابع: «أعلم أنه الامتياز الحصري الخاص بمِهنة الطب والذي يَقضي بأن تُستدعى من فراشك الوثير الدافئ، ولكن كبدايةٍ هناك نقطة أو اثنتَين أريد أن أستوضحهما منك.»
قال الطبيب الذي جرَت تهدئتُه بعض الشيء: «لعَنَني الله إذا أدركتُ ما هما، فحسبما فهمت الأمر، أنت وجدتَ الرجل خلال دقائق قليلة من قتله؛ ومن ثم أنت تعرف وقت الوفاة جيدًا مثلما أعرفه أنا. ومن الواضح تمامًا أنه قد طُعن، ويُمكن لأي رجل تحقيقات جنائية أن يُدرك ذلك.»
قال مكارثي: «آه، ولكن بماذا، أيها الطبيب؟ هذه هي النقطة.»
- «ماذا تظن أن تكون الأداة التي قد طُعن بها، شفرة آلة حلاقة؟»
قال مكارثي، دون أن يلاحظ السخرية: «إذا ألقيتَ نظرة فاحصة وليس لمحةً سريعة على ما يمكن رؤيته من هذا الجرح، فستُلاحظ أنه ثلاثي الزوايا، وهذا يظهر بوضوحٍ شديد على القطع الحادث في القماش الثقيل لزي الشرطة.»
قال الطبيب، وهو ما زال مُعاندًا: «أستطيع رؤية ذلك.» وتابع: «ماذا عنه؟»
«أريد أن أعرف نوع السلاح، في رأيك، الذي قُتل به الرجل المسكين.»
أخرج الطبيب من جيبه عدسةً مكبِّرة وتفحَّص الجرح عن قرب.
ثم قال مؤكدًا: «خنجر ثلاثي الحواف، بلا شك.» وأضاف: «هذا واضح للغاية. وفي رأيي أن له سنًّا حادَّة، اخترقت القلب وسبَّبتِ الموت على الفور.»
أخرج مكارثي من جيب الروب الذي كان يَلبسه بعنايةٍ الخنجر الذي وجده أمام المنزل.
وسأل بهدوء: «هل يُمكن أن يكون هذا هو السلاح، أيها الطبيب؟»
أمسك الطبيب الخنجر المُدبَّب بحِرصٍ من مقبضِه، وتفحَّصه. وقال: «يُمكن أن يكون هو، وأنا أميل إلى أن أقول إنه هو.»
هز مكارثي رأسه. ثم قال: «وفقًا للتسلسُل الزمني للأحداث حسبما وقعت، أيها الطبيب، لا يمكن أن يكون هو السلاح الفعلي.» وتابع: «لقد عثرتُ على هذا قبل نصف ساعة، تقريبًا، من مقتل هاربر مطعونًا، هنا.»
قال الطبيب: «إذن إن لم يكن هذا هو السلاح الفِعلي، فقد قُتل بسلاحٍ مُشابه له كثيرًا.» وأضاف: «بالمناسبة، هل تُريدني أن أجريَ اختبارًا على عينةٍ من الدماء التي على السلاح؟»
قال المفتش: «هذه فكرة جيدة.» وتابع: «سأطلب فحص البصمات التي عليه وأرسله إليك في الحال. لا داعي لأن نَستبقيك هنا لمزيدٍ من الوقت، أيها الطبيب. يُمكنك أخذ الجثة إلى المشرحة بمجرد أن تُصبح مُستعدًّا. هل ستُجري التشريح الليلة، أو بالأحرى هذا الصباح؟»
غمغم الطبيب: «عليَّ فعل ذلك.» وتابع: «أريد أن أنتهي من الأمر، وإن كنت محظوظًا فقد أحصل على القليل من الإفطار في هدوء، حتى لو لم أستطع الحصول على أيِّ قدرٍ من النوم.»
قال مكارثي، بينما كانت تَنصرِف عربة الإسعاف ومن خلفها السيارة الصغيرة ذات المقعدَين الخاصة بالطبيب خارج الزقاق: «حسنًا، أيها السيرجنت، أظن أنني على وشك الانتهاء من العمل هنا الليلة.» وتابع: «ضع اثنَين من الرجال هنا، في الخلف والأمام، وأنا أعني بذلك اثنين عند كل نقطة، والتعليمات هي عدم عبور البوابة هنا عند هذه النقطة أو عدم لمسِ الباب الأمامي عند النقطة الأخرى. سأَحضُر إلى هنا في الصباح الباكر لمقابلة ذلك الشاب الذي يفتح المكان. وعندما أقول اثنَين من الرجال، فأنت تعلم أنني أهدف من ذلك إلى عدم تكرار الحادث الآثم الذي وقع لهاربر.»
سأل السيرجنت بسرعة: «هل تظنُّ أن هناك أي احتمالٍ لحدوث ذلك، أيها المفتِّش؟»
قال مكارثي: «أنا لن أُغامر بترك الأمر عرضةً للظروف.»
تمتم السيرجنت وهو يُفكِّر، بينما يقطعان طريقهما عبر الزقاق عائدَين نحو سوهو سكوير: «إن الأمر يُمثِّل لغزًا بالنسبة إليَّ.» وتابع: «ما الذي حدث لتلك الجثة، تلك التي ذُبحت في الأمام، هذا ما أعنيه؟» وأضاف، مع قليلٍ من الخبث: «حسبما أظن أنك مُقتنع بأن من ذُبح هناك هو إنسان، وليس كلبًا ذُبح بوحشية، أو شيء من هذا القبيل.»
قال مكارثي بثبات: «بكل تأكيد.» وتابع: «كان بإمكاني أن أخبرك آنذاك أن من قُتل هو إنسان، وعلاوة على ذلك، أن وريده الوداجي وربما شرايين رئيسية أخرى قد قُطعت.»
شرع السيرجنت في القول: «إذن لماذا»، عندما واصل مكارثي كلامه.
«كل ما حاولت توضيحه لك، أيها السيرجنت، هو أنه ليست هناك «أدلة» مرئية وفعلية على أنها جريمة قتل، وفي واقع الأمر، الأمر لا يختلف الآن. لكن قطع الوريد الوداجي لإنسان، أو على أي حال شريان رئيسي به، كان هو الشيء الوحيد الذي يُمكن أن يتسبَّب، ليس فقط في إراقة كمية الدم التي أريقت، ولكن أيضًا في الطريقة التي تَناثَر الدم بها. وفي هذا الخصوص، لقد تجلَّط الدم وتجمَّع على حافة نصْلٍ من الأنصال الشبيهة بشَفرات الحلاقة الخاصة بالخنجر المُدبَّب هذا وليس على سِنِّه، مثلما كان سيحدُث من خلال طعنة، مثل تلك التي أودَت بحياة هاربر.
وهذا يُظهر أن الضحية قد نُحرت بعُنف، وهو ما يقترح ثانية الضغينة أو ربما الانتقام، كدافع للجريمة، وهو ما ليس مُتوافرًا بالتأكيد في حالة هاربر. وهناك أمر أخير وهو أن جو موقع الجريمة كان يفوح برائحة عطرٍ عندما وصلت إليه، وفي رأيي هو عطر باهظ الثمن. ولم يكن قد مر عليه وقتٌ طويل آنذاك كي يتطاير وتختفي رائحته. وليس من عادة الرجال، حتى الأجانب من الطبقة المتأنِّقة، أن يضعوا العطور في هذه الأيام.»
قال السيرجنت باقتناع: «أعلم أن تلك الصرخة قد صدرَت عن امرأة.»
قال المُفتش بحدة: «لقد أوضحتُ لك مرة قبل ذلك في هذه الليلة أنه من المُحتمل ثبوت أن القاتل هو امرأة. رغم أنني مُلزَم بقول إنه ليس احتمالًا كبيرًا.» وتابع: «حسنًا، لقد حصلنا على الشيء «الملموس» الذي أراده المدير، حتى ولو كان فقط بخصوص جريمة قتل هاربر المسكين. ولكن رغم ذلك لم يذهب كل عملنا هباءً. فالآن بعد أن علِمنا أن الباب الأمامي قد استُخدم في الدخول، أصبح لدينا شيء مُحدَّد نعمل عليه، وهو «شيء» مفيد للغاية بهذا الصدد.»
حاول السيرجنت أن يعلق قائلًا: «أنا فقط لم أفهم»، عندما قاطعه مكارثي.
وقال: «نحن نعلم أن أيًّا كان من هرب من الميدان عبر هذا الباب، كان معه مفتاح القفل الذي مكَّنه من دخول المكان. وهذا يُضيِّق نطاق الاتهام في دائرةٍ صغيرة نسبيًّا من الناس. ووفقًا لكل القواعد، أيها السيرجنت، فإن هذه الحقيقة لا بد أن تضع شخصًا ما في قفص الاتهام نتيجة لارتكابه هذه الجريمة، إن آجلًا أم عاجلًا.»
قال السيرجنت مُقرًّا على نحوٍ سريع: «إنها يجب أن تفعل هذا.» وأضاف: «أنا لم أفكر في هذا على وجه التحديد، أيها المُفتِّش.»
واصل مكارثي الحديث بنفس نبرته الساخرة: «لكن الأمر الذي يُؤسَف له بخصوص جرائم القتل، أيها السيرجنت، أنها لا تُرتكَب أبدًا وفقًا لأي قواعد. فالأمر الذي تظنُّ بكل ثقةٍ أنه سيحدُث هو عمومًا آخِر شيء يَحدُث. وإذا حدث خلافَ هذا في هذه القضية، فهو سيُصبِح الاستثناء الذي يثبت القاعدة.»