«داني ذا ديب» يظهر
بدأ المفتش مكارثي، دون الاستعانة بالمصباح اليدوي الخاص بالسيرجنت، تَلمَّس طريقه عائدًا في اتجاه منزله. وقد أُطفئ بفضل جهود رجال الإطفاء أي أثر لنيران الحريق كان من الممكن أن يسترشد به. ولم يكن قد ابتعد كثيرًا جدًّا عندما ارتطم بجسدٍ بشري صلب للغاية والذي، بعد الاستفسار المتبادل، تبيَّن أنه الشرطي الذي رقم طوقه ١٢٨٥ والتابع للقسم «سي»، والذي عاد مرة أُخرى إلى دوريته.
ونظرًا لأن الشرطي كان بحوزته مصباح يدوي، والذي، بالمناسبة، لا تسمح له اللوائح باستخدامه إلا في وقت الطوارئ فقط، فقد استعاره المُفتِّش منه، وواصل الاثنان طريقهما جنبًا إلى جنبٍ باتجاه وسط جريك ستريت إلى أن اضطرَّ المُفتِّش إلى تغيير اتجاهه من هذا الشارع الرئيسي.
وقال الشرطي بعد لحظة: «إنها قضية غريبة تلك التي وقعت الليلة، يا سيدي.»
أجاب مكارثي على نحوٍ دمث: «إنها غريبة على نحوٍ استثنائي.» وتابع: «إنَّ قضايا مثل هذه هي التي تُبقِينا مُستنفَرين، وبالتبعية» — وكتم تثاؤبه — «خارج أسرتنا.»
قال الشرطي: «لقد تمكنت من اكتشاف أن هناك مركبةً واحدة قد خرجت من سوهو سكوير، ولا بد أنها قد مرَّت به في نفس وقت انطلاق الصرخة تقريبًا.» وتابع في شك: «هذا إذا كان بإمكاننا أن نُطلِق عليها كلمة مركبة.»
سأل مكارثي بسُرعة: «وماذا كانت؟»
قال الشرطي: «عربة القهوة الخاصة بالعجوز جو أنسيلمي.» وتابع: «إنه أمر مُعتاد، على الرغم من أنه، بصفةٍ عامَّة، يمرُّ بها عبر الميدان مع اثنين من المُساعِدين عند حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف. لكنه، هذه الليلة، تأخَّر لسببٍ أو لآخَر، أظنُّ أن الشابَّين اللذَين يُساعِدانه عادةً في جرِّ العربة إلى منزله لم يأتيا ولا بدَّ أنه قد انتظر حتى قبل الساعة الواحدة، وعندئذٍ اضطُرَّ إلى جرِّها بنفسه، وهي مهمَّة صعبة على رجل عجوز.»
أومأ مكارثي برأسه. فقد كان يعرف العجوز جو أنسيلمي جيدًا؛ كان يعرفه منذ أن كان هو نفسه صبيًّا يتجول في أنحاء سوهو. فهو رجل عجوز مُحترَم يعمل بكدٍّ واجتهاد، كما أنه كاثوليكي قوي الإيمان ومُخلص، ومن غير المُحتمَل بالتأكيد أن تكون له صلة بجريمة على أيِّ نحوٍ أو أي صورة كانت.
ومن ثم قال: «من المؤكَّد أنها كانت مهمَّة شاقَّة على الرجل العجوز أن يجر عربةً خشبية مثل هذه بمفرده.» وتابع: «وهل غادر الميدان عند الوقت الذي أشرتَ إليه؟ وأي الطرق سلك؟»
قال الشرطي: «عبر ساتن ستريت إلى تشارينج كروس رود.» وتابع: «إن مكانه المُعتاد، كما أظن أنك تعلم، أيها المفتِّش، عند زاوية بالقُرب من دينمان ستريت.»
قال مكارثي: «أعلم ذلك.» فقد توقف في العديد من المرات أثناء جولاته الليلية عند عربة العجوز لتناوُل فنجانٍ من القهوة والثرثرة حول الأيام الخوالي في سوهو. وعلى نحو مؤكَّد فإن العربة المُتنقِّلة الثقيلة هذه من غير المفترَض أن تكون لها صلة بأي نحو بالجريمة التي وقعت في سوهو سكوير.
وبعد أن وصلا إلى الزاوية التي اتَّجه عندها المفتِّش يَمينًا ليذهب إلى دين ستريت، بينما اتجه الشرطي يسارًا باتجاه فريث ستريت وفق خط دوريته، تفرَّقا.
وقال مكارثي: «تعال إلى مسكني في الصباح من أجل تناول بعض القهوة واستعادة مصباحك اليدوي.» وأضاف: «فمع نوع الحظ الذي يُلازِمني هذه الليلة كان يجب أن تنكسر عنقي بدون مساعدته قبل الآن. طاب مساؤك.»
وبداخل غرفته مرة أخرى خلع الروب واستعدَّ للنوم؛ حيث كان يتوجَّب عليه الخروج في الصباح الباكر وهو صافي الذهن للذهاب إلى موقع الجريمة قبل أن يصِل من يعملون بتلك المكاتب الغريبة إلى هناك. وللحظةٍ دار بذهنه أن يُجريَ مكالمة عبر الهاتف مع بيل هاينس، لكنه عدل عن ذلك. ونظرًا لمعرفته بحماس المفوض المساعد فيما يتعلق بالجرائم الغامضة مثل هذه التي ارتكبت للتو، فمن المُحتمَل أن يقضي كل الوقت المُتبقي له كي يحصل على بعض النوم في الثرثرة عن كل ما حدث خلال تلك الليلة مرةً أخرى.
وبعد أن بدا أنه استغرق في النوم لمدة خمس دقائق فقط رنَّ الهاتف بجواره على نحوٍ أيقظه. ومن ثم انتفض ونهض وأضاء مصباحه، ونظر في ساعة يدِه ليكتشف أن الساعة قد أصبحت الخامسة، فرفع سماعة الهاتف.
وقال بحدة كانت طبيعية في صوته: «ما الأمر الآن؟»
فأُبلِغ أن المتحدث هو المفتش المسئول بمقر القسم «إس»، في منطقة جولدرز جرين.
ردَّد مكارثي: «جولدرز جرين!» وأضاف: «وما الذي، بحق السماء، تريده مني جولدرز جرين، أيها المفتش؟»
جاءه الرد: «هناك حادث غريب وبشِع إلى حدٍّ ما وقع لدَينا أيها المفتش.» وتابع: «لم نكن لنُزعجك لولا حقيقة أن هناك رجلًا يُدعى ريجان مُتورط فيه؛ دان ريجان، والذي نعلم أنه نشَّال من ويست إند.»
قال مكارثي بحدة: «داني ذا ديب!» وأضاف: «ما الأمر بخصوصه؟»
قال الرجل: «إنه يُخبرنا بقصة يصعُب تصديقها بعض الشيء أيها المفتش.» وتابع: «يقول إنه كان يؤدِّي مهمة خاصة من أجلك عندما أُفقِد وعيه في بارك لين. الأمر التالي الذي أدركه عندما أفاق أنه كان يتجوَّل في مُتنزَّه هيث. وهو لم يعلم مكان وجوده، وظنَّ أنه في هايد بارك. وقد عثر عليه أحد رجالي في الدورية يتجوَّل بالقُرب من فيل أوف هيلث، وأحضره إلى القسم. وهو في حالة تشوُّش تام للذهن، وفي رأيي أنه قد أُعطي جرعةً من شيءٍ أو آخر. فهو يبدو غير مُدرِك لما يقوله، لكنه يصرُّ على رواية أنه كان يؤدِّي مهمة من أجلك.»
قال مكارثي: «إنه على حقٍّ تمامًا، أيها المفتش.» وتابع: «لقد تركته في أكسفورد ستريت يؤدي عملية تتبُّع ومُراقبة من أجلي. ألا يُمكنه تقديم أي تفسيرٍ لما حدث له؟»
أجابه الرجل على الفور: «لا شيء مما قد يبدو منطقيًّا.» وأضاف: «وهناك جانب آخر للأمر أيضًا: فهو مُغطًّى بالدماء؛ بقدرٍ يفوق ما قد ينتج عن الجرح الناتج عن الضربة التي تلقَّاها بلا شك على رأسه.»
قال مكارثي في أسف: «إنَّ ذلك الشيطان المسكين قد تورَّط في مشكلةٍ كبيرة في مكانٍ أو آخر.» وتابع: «إنه أمر سيئ للغاية؛ سيئ للغاية، على نحوٍ كامل.»
قال الرجل: «هناك أمر أسوأ من ذلك بكثير اكتشفه الشرطي في نفس الوقت.» وتابع: «على مقربة من المكان الذي وجد ريجان يتجوَّل فيه، اكتشف جثة امرأةٍ مقتولة بوحشية. حيث نُحِرت رقبتها على نحوٍ اقتربت معه الرأس من الانفصال عن الجسد، وكان بها كذلك جروح أخرى.»
صرخ مكارثي تقريبًا في سماعة الهاتف: «ما هذا الذي تقول!» وتابع: «كرِّر هذا، أيها المفتش!»
وقد فعل مُفتِّش القسم «إس» ذلك بأكبر قدْرٍ مُمكن من الإيجاز.
سأله مكارثي في نفَسٍ واحد: «من أيِّ أنواع النساء تبدو هي وكم مرَّ على مَقتلها بحسب رأي الطبيب الشرعي لديك؟»
فأخبرَه المفتِّش أنه بقدر ما يُمكنه الحكم من مظهر القتيلة — نوعية ملابسها، وغير ذلك — يبدو عليها، على أيِّ حال، أنها تنتمي إلى الطبقة الغنية. إذ كانت ترتدي فستان سهرة، ومعطفًا باهظ الثمن جدًّا بكل تأكيد، وعلى الرغم من عدم العثور على أيِّ مجوهرات أو أي شيءٍ آخر على الجثة، فهناك أدلة واضحة على اعتيادها ارتداء الخواتم، وقد مُزِّقت حلمة إحدى الأذنين كما لو أن حلقًا قد انتُزِع منها. وأضاف أنه قد استُدعي الطبيب الشرعي الخاص بالقسم، وعلى الرغم من إجرائه فحصًا قصيرًا وسريعًا، فقد قرَّر أن رأيه هو أنها قد قُتلت في فترة منتصف الليل أو بعدَها بقليل، ولكن ليس بعد ما يزيد عن ساعة تقريبًا من منتصَف الليل.
سأل مكارثي بسرعة: «أين الجثة الآن؟»
أبلغه الضابط أنها في المشرحة المحلية، وأن الطبيب الشرعي قرَّر عدم إجراء التشريح إلا في الصباح.
قال مكارثي بسرعة: «اسمع أيها المفتش.» وتابع: «عليك أن تنقل الجثة على الفور — «على الفور» هل تفهمني — إلى المشرحة هنا. وسأستدعي الطبيب الشرعي الخاص بنا وأُخبِره أن يذهب إلى هناك على الفور. فأنا أعتقد أنها جثة شخصٍ قُتل في سوهو سكوير في نحو الساعة الواحدة من هذه الليلة، ونُقلت بعيدًا بطريقةٍ غامضة. والآن نَفِّذ ذلك، كضابطٍ صالح، باعتبارها أوامر واجبة من القيادة العامة.»
شرع المفتش المحلي في إبداء بعض الاعتراض، الذي جال بذهنِه على نحو واضح، فقال: «لكن»، فقاطعه مكارثي.
وقال: «سأعمل على أن تُرسَل الأوامر مباشرة إليك من المفوض المساعد، خلال عشر دقائق، إذا كنتَ ترى أن ذلك هو الإجراء المناسِب أيها المفتش.» وتابع: «فكِّر في الأمر، ربما تجِده هو الأنسب. إنَّ الروتين قد يُصبح مُعوقًا للغاية للعمل لو تسبَّب في اتخاذ خطوة خاطئة. انتظر مكالمةً من المفوض المساعد خلال الدقائق القليلة القادمة بعد أن أُنهي المكالمة معك، وفي نفس الوقت أَرسِل ريجان إلى المشرحة في أول سيارة تتوفَّر لدَيك. والآن ابدأ في التنفيذ؛ إنَّ الوقت هو أساس العمل في هذه القضية. إلى اللقاء، وشكرًا على المكالمة، على الرغم من أن كيفية حصولك على رقمي تُمثِّل أمرًا غامضًا بالنسبة لي.»
قال له المُفتِّش: «إن ريجان يعرفه.» وأضاف: «وهذا ما جعلنا نظنُّ أنه ربما يكون صادقًا في روايته.»
وبعد إنهاء المكالمة، طلب مكارثي على الفور رقم منزل السير ويليام هاينس في بلومزبري، وبعد لحظة كان يتحدَّث معه على الخط. وعلى نحوٍ سريع ردَّد على مسامع ذلك الرجل المصدوم مُلخصًا موجزًا لما قد حدث منذ أن تركه، وطلب النقل الفوري للجثَّة من جولدرز جرين إلى ويست إند.
واختتم حديثه قائلًا: «إنَّ قسم جولدرز جرين يتمسَّك بطبيعة الحال ببعض الروتين، يا بيل، ولكن كلمة منك مباشرة ستُنجِز الأمر على نحوٍ سريع، وبعد أن تفعل ذلك، ليتك تتَّصل بالطبيب الشرعي لدَينا لتحفزه شخصيًّا كي يُسارع بالذهاب إلى المشرحة دون أيِّ تأخير لا داعي له. لقد كان يشكو ويتذمَّر بسبب استدعائه إلى سوهو سكوير لفحص جثَّة هاربر المسكين، وما سيقوله إذا استدعيتُه مرةً أخرى لن يُصبح صالحًا للنشر. ستتعالى صيحاته إلى السماء! إنه ليس شخصًا سيئًا، ويُتقِن عمله تمامًا، لكنه يُحب الحصول على قسطٍ وافر من النوم.» وأضاف على نحو ساخر: «وكذلك أنا، وإذا كنتَ تتذكَّر فقد وعدتُ نفسي بقدرٍ كبير من النوم الليلة، وها هي النتيجة. تصرف على الفور، يا بيل؛ إن الرجل في جولدرز جرين بانتظار الحصول على موافقتك.»
سأله السير ويليام بحماس: «هل تُريد مني أن أرتدي ملابسي وأذهب إلى المشرحة، يا ماك؟»
أجاب صديقه بسرعةٍ وبإيجاز: «لا أريد ذلك مُطلقًا.» وأضاف بنبرة أكثر تهدئة: «بالقطع، لا! ففي البداية، من المُحتمَل أن تخسر حياتك وأنت في الطريق إلى هناك يا بيل، وكما أخبرتُك ذات مرةٍ قبل الليلة، فإن خسارة سكوتلاند يارد لك هو أمر أكبر من أن أُحدِّد فداحته أنا، أو أي شخص آخر. ستكون الضربة قاصِمة.»
قبل أن يتمكَّن السير ويليام من الرد على هذه الملاحظات الحاسدة نوعًا ما، كان مكارثي قد أنهى المكالَمة، وسارع لارتداء ملابسه.
وبعد خمس دقائق خرج إلى الشارع مرةً أخرى، لكن هذه المرة مُرتديًا ثياب الخروج بالكامل ومعه مصباحه اليدوي. لقد بدأتْ جريمة القتل هذه التي وقعتْ في سوهو سكوير في التكشُّف بطريقةٍ غريبة جدًّا، ولكن ربما كان الجزء الأكثر غرابةً فيها بالنسبة إلى المُفتِّش، والزاوية التي هو مُهتم بها أكثر منها في الوقت الحالي، هو ما حدَث ﻟ «داني ذا ديب» بعد أن تركه في أكسفورد ستريت في أعقاب الرجل ذي العينَين غير الطبيعيتَين ذواتَي اللون الأزرق الثلجي.