الفصل الثالث
المنظر الأول
(رابية عليها علم وبجانبها وليم مفكرًا، ثم يدخل صلاح الدين وعماد
الدين)
الجزء الأول
(صلاح الدين – عماد الدين – وليم)
صلاح الدين
:
لقد شُفي قلب الأسد من دائه تمام الشفاء، وكان شفاؤه على يد الله ويدي
بفعل هذا الدواء، والآن فإني أريد أن أتم نعمتي عليه، وأسعى في إظهار العدل
له ليعلم أنه لقي مني في الحرب بطلًا من أشد الأبطال، كما لقي من مكارمي في
السلم رجلًا من أكرم الرجال، وقد علمت ما نوى عليه ذلك الرجل الآن، وكيف
أنَّه يُريد الشر لهذا الفتى الحارس في هذا المكان فهو يُريد أن يخدعه
ليسرق منه العلم، مؤملًا بذلك أن يغضب عليه قلب الأسد فيورده العدم، وأنا
أحبُّ الآن أن أنصر العدل حتى أخلص قلب الأسد من الظلم، وأخلص هذا الفتى من
القتل.
عماد الدين
:
ولكن ألم تسمع يا مولاي أنه عاشق لأخت قلب الأسد، أَوَلَمْ تخبرني أن أخاها
قد وعدك بها، وأنه لا يزال على ما وعد؛ فكيف تريد الآن أن تخلص عاشقها من
الحمام، وهي عن قريب ستكون قرينتك فيكون بقرانها عقد السلام؟!
صلاح الدين
:
أنا أريد أن أخلص العدل من الظلم، وأنقذ البراءة الطاهرة من تهمة الذنب
والجرم، فإذا كان هذا الفتى عاشقًا هل أتركه يقضي نحبه؟ وهل سمعت بعادل قتل
رجلًا لكونه عاشقًا، وكون العشق ذنبه؟! وفوق ذلك فإنه لا يعلم أنني موعود
بها، وأنا على ثقة أنه لو علم لجهد في أن يخلص من حبها، ولكنني لا أريد أن
يعلم؛ بل أنا أريد أن يسلم، وسأبذل جهدي في أن أزُفَّهُما بعد حين، فقد
طالما سعت الخلفاء قبلي في التنازل عن جواربهم، وإهدائها للعاشقين، أما أمر
السلام بيني وبين أخيها فأقدر أن أتمهُ بنفسي من غير أن أطمع فيها، فإن قلب
الملوك يجبُ أن يكون أرفع من الغرام؛ حتى إذا عقدوا صلحًا كان أساسه الشرف،
أو أثاروا حربًا كان قائمها الحسام، بل أنا أقدر أن أعقد الصلح معه من غير
أن تكون أخته عندي، كما أقدر بعد ذلك أن أثير عليه الحرب، ولو كانت قرينتي
وموضوع مجدي، فقف الآن هنا متسترًا وراقب ما يجري وإياك أن تعارض أحدًا
منهم فيما يجريه.
وليم
:
إن كنت في الجيش أدعى صاحب العلم
فإنني
في هواكم صاحب الألم
يا من تملكتم قلبي فكان لكم
عبدًا وكنت
لهذا العبد كالخدم
أقضي الليالي وحيدًا بعدكم وأنا
أسامر
البدر في داج من الظلم
ينوب لي حسنه عنكم إذا نقصت
فيه الصبابة
من لحظ ومن كلم
أصبحت فيكم نظير البدر منفردًا
وأنتم
الشمس لم تدرك ولم ترم
يا ليتني ما نذرت الكتم من قدم
ولا جرت
لفظة من حلقه بفمي
نذرت إخفاء أصلي عن رجالكمُ
والله يقضي
بحفظ المرء للقسم
لكنني لم أكن أدري بأنكمُ
ستجعلون فؤادي
في لظى الضرم
يا نظرة خلتها في بدئها نعمًا
فأصبحت في
الهوى من أعظم النقم
حلت بقلبي ممن بات يعشقها
فخلتها وردت
عن قوس منتقم
الله حسبي بهذا الحب فهو لقد
أضحى يخيم
فوقي مثل ذا العلم
الجزء الثاني
(وليم – مارتين – عماد الدين (مستترًا))
عماد الدين
:
لقد أقبل الخادم المحتال، وأظن أنَّ الخاتم معه، فلنسكت لنرى ما يكون
منه.
مارتين
:
أُبَشِّرك يا سيدي؛ فإن سيدتي جوليا قد أرسلتني أستدعيك الآن إليها، وأقول
لك إنها مشتاقة لأن تراك.
وليم
:
جوليا أرسلتك إليَّ! يا رب ماذا تريد مني؟!
مارتين
(بنفسه)
:
لنعظم له الأمر حتى يذهب … لا أدري يا سيدي ولكنني رأيتها حزينة كئيبة
تبكي أحيانًا ثم تناديك كأنها تطلب أن تراك.
وليم
:
أفي مثل هذه الساعة، هيهات لا يمكن أن يكون ذلك.
مارتين
:
ما بالك يا سيدي مرتبكًا تحدث نفسك؟
وليم
:
أفي مثل هذه الساعة؟! ويلاه، وفي مثل هذا الموقف، لا، لا، إن ذلك لا يكون، إنك
كاذب أيها الخادم.
مارتين
:
قد حسبت يا سيدي هذا الحساب، وعرفتُ أنك لا تصدقني؛ وذلك لأنني خادم
حقير، ولأنك بطل شريف، ولأنكم معاشر الأمراء لا تعتبرون من غير أمير، عجبًا
كيف يكون لنا مثلكم جسم ونفس ولحم ودم؛ نحس كما تحسون، ونفرح كما تفرحون،
ونحب كما تحبون، ثم يحول بيننا الشرف كل هذه المسافة، حتى كأننا لسنا بناس،
أو كأنكم أرفع من رتبة الناس؟! نعم، إننا لا نقدِرُ أن نُساويكم في بأسكم،
ولا في أموالكم، ولا في نعيمكم، ولا في حروبكم؛ لأننا لا نقدر عليها ولكن
ألا نقدر أن نُساويكم في كلمة نصدق بها، ونماثلكم في أمر لا نكذب فيه، ونحن
قادرون على ذلك؟ والآن فإنَّ الأميرة قد أرسلتني إليك أدعوك إليها وهي في
انتظارك، أفلا تريد أن تصدقني وأنا أتكلم بلسانها وهي شريفة مثلك؟
وليم
:
من يضمن لي أنك صادق؟
مارتين
:
أتعرف هذا الخاتم؟
وليم
:
يا رب، هذا خاتمها هذا الذي رأيته في يدها، ويل لك من أوصله إليك؟
مارتين
:
هي التي أعطتني إياه؛ لأنني علمت أنك لا تصدقني بدونه.
وليم
:
العفو أيها الخادم، إنك صادق أمين، ولكن ألم تخبرك ماذا تريد مني؟ ألم
تبصر حولها ما يدعو إلى وجودي؟ ويلاه ماذا جرى وكيف أقدر أن أذهب؟!
مارتين
:
ما بالك خائفًا يا مولاي؟ أتدعوك حبيبتك إليها وتخاف من لقائها؟ أتكون
عاشقًا، وتكون بطلًا وتجزع من مقابلة النساء؟!
وليم
:
إنه أحب إليَّ أن ألقى الموت هنا الآن، ولا ألقى السعادة في غير هذا
المكان، فأنا أخاف على شرفي أن يضيع مني أو أضيع منه، وهذا شرفي منصوب
لديَّ فكيف تُريد أن أتركه وأذهب عنه؟ نعم إن في ترك هذا العلم ترك حياتي،
ولكن هذا غير صعب عليَّ، ألا تعلم أخت الملك أنني أحرس العلم هنا؟ فكيف تطلب
مني تركه الآن، وتجعلني بين المنية والمنى، ألم تدر أنَّني أمين شريف؟
ويلاه، إنها لا تعرف من أنا!
يا من تعرض مني المجد للخطر
أما كفى
القلب ما لاقى من النظر
كفى بعينيك إني قد سفكت دمي
فلا تضمي
إليه المجد واصطبري
عشقت حسنك فيما مر عن قدر
فكنت بين قضاء
الله والقدر
طوعًا لعينيك في حكم الغرام فلا
تعرضي
شرفي في معرض الخطر
مارتين
:
عجبًا يا سيدي، ما هذا التردد الطويل في غير مكانه؟ أيمكن أن يمنعك علم
إلى الذهاب إلى من تهواها وتهواك؟!
وليم
:
أعدائي كثيرون أيها الرَّفيق، وأخشى أن يسرقوا العلم مني؛ فيكون بذلك
ضياع مجدي، إنك لا تعرف منزلة العلم ومقامه، بل ينبغي لك أن تكون جنديًّا،
وأن تخرج من بلادك من طرق وجبال غير طرقك وجبالك، وأن تبتعد عن أهلك وعن
وطنك؛ وأن يكون الحسام إلى جانبك وتحت يدك، وأن تعلم أنه لم يبق لديك من
دولتك إلا هذه الراية الخافقة أمامك تخوض المعارك، وتلتقي الحتوف وتمزقها
سهام العدى، وهي واقفة ثابتة تذهب من دونها أرواح الرجال على شفرات البوارق
والسيوف، ولا يذهب عن نسيجها مثقال ذرة، وأنْ تَعْرِف أنَّ في ثناياها حين
تخفق فوقك شرف أمة ومجد مملكة وقوام جيش وعز رجال وفخر عساكر أبطال، وأن
في ألوانها سطورًا خطتها يد المجد، وكتبتها أنامل النصر، ورقمها مداد العز
والشرف، وهي كلها مجموعة في كلمة واحدة «الوطن»، وأن في فقدها عارًا دائمًا
وعزًّا ساقطًا ومروءة ذاهبة ونصرًا ضائعًا وعيبًا خالدًا لا يمحى ولا يزول،
وتلك هي الراية أيها الرفيق؛ فكيف تريد أن أتركها وهذا هو شرف الأمة! فكيف
تطلب مني أن أتخلى عنه! ويلاه يا مليكة قلبي، أفي مثل هذه الساعة تطلبين
عبدك!
مارتين
:
إذن أنا راجع يا سيدي فماذا أقول لها؟
وليم
:
قف لا تذهب اصبر قليلًا لأرى. ويلاه كيف العمل؟
مارتين
:
أذكر أن خاتمها لا يزال في يدك.
وليم
:
نعم وأذكر أن الراية فوق رأسي، وأن الشرف في فؤادي، وأنَّ والمجد جار في
عروقي، وأنني قد وعدت ولا أخلف الوعد، ويلاه، ولكنني أذكر أيضًا أنني أهواها
وأنها أميرة قلبي، وأنها مالكة لي، وأن حياتي في يديها، وأنها في انتظاري
الآن، ولعلها تكون في ضيق وكرب وفي حاجة أن تراني وتكلمني، وتشكو إليَّ
همها ومصابها، ويلاه ضاع رشادي …
مارتين
:
إذن أعطني الخاتم ودعني أرجع إليها.
وليم
:
ترجع إليها وحدك وهي تنتظر أن تراني! لا … إن هذا لا يكون، قف أنت مكاني،
وأنا أمضي إليها ثم أعود في الحال، يا رب، ليكن ما تريد. احرس الراية وأنا
ذاهب، إياك أن يمسها أحد أو يدنو منها إنسان؛ فإنك تموت قبلي، (للراية) آه، ما أمر فراقك وما أحلى
لقاها.
الجزء الثالث
(مارتين – عماد الدين (مستترًا))
مارتين
:
لقد ذهب الحارس وعن قريب يأتي الخاطف، ولا لوم عليَّ لأنَّ حبل الكذب
عندي، ولو قالوا: أنه قصير؛ لقد أخذت من المركيز مالًا كثيرًا، وعن قريب
أكون غنيًّا قادرًا، ومتى صرت غنيًّا أصير حرًّا صادقًا أمينًا، لا أعود
محتاجًا؛ فأصلح السابق باللاحق، وعفا الله عما مضى، أين المركيز الآن؟ فإنه
قد أبطأ (ينظر إلى الراية) ما أجن هذا
العاشق، وكيفَ يحرص على هذه الخرقة، وأنا أستحي أن ألبسها قميصًا تحت
ثيابي، ويلاه ما أمر الشرف، وما أشد هذا الوهم الباطل السائد على عقول
الناس حتى في الخفاء.
عماد الدين
:
ويل له ما أشد مكره، ها قد أقبل صاحبه فلنصبر لنرى ما يكون.
الجزء الرابع
(مارتين (جالس يتأمل العلم) – المركيز – عماد الدين)
المركيز
(في آخر المسرح)
:
هذا العلم، وهذا الخادم، إنه لم يرني، ولا أدري ما الذي يشغل أفكاره؛ لقد
نجحتُ بحمد الله وستُقْتَلُ أيها العاشق الذي يزاحمني على غرامي … ولكن لا …
ينبغي أن أقتل الخادم أيضًا؛ فإني أخاف منه، وأخشى أن يفضح الأمر فيكون
نصيبي الدمار، إنه لا يزال غافلًا فلأقتله الآن بحيث لا يدري ولا يشهد
عليَّ أحد.
عماد الدين
(على حدة)
:
الله يشهد وأنا شاهد أيها القاتل؛ فبئست عقبى الغادرين.
يتقدم المركيز نحو مارتين ويطعنه بالخنجر فيسقط قتيلًا، ثم يخطف العلم ويفر
هاربًا.
مارتين: آه قتلتني يا قاتل؟
(يتقدم عماد الدين يُريد اتباع المركيز بخنجره، فيعترضه صلاح الدين من الجهة الأخرى.)
صلاح الدين: مكانك يا عماد، وكن شاهدًا لا سيافًا، فأنا أشهد أيضًا معك.
عماد الدين: أنت يا مولاي أنت، تراقب أعمال الظالمين؟
صلاح الدين: ويل لهم من عذاب الدنيا قبل عذاب الدين، اتبعني قبل أن يرانا أحد، فإني
أريد أن ترى العدالة عندي وعند قلب الأسد.
المنظر الثاني
(خيمة واسعة، ثم تدخل جوليا وحدها)
الجزء الخامس
جوليا
:
يا رب ما أشد حضور الناس عليَّ، وما أسمج الدنيا في عينيَّ، إنني قد هربت
من مجلس الملكة؛ لأخلو وحيدة في مخدعي، وأناجي قلبي بغرامي؛ لأنَّ حبيبي ليس
معي، ولكن هيهات أن تفيدني هذه النجوى، وهيهات أن تخفف وحدتي مصابي بل إنها
تزيد البلوى، ويلاه ما هذا الشرف الذي يحول بيني وبين من أهواه، هذا الوهم
الباطل الذي يبعدني عن حبه، ولا يجعلني أراه، أيها العرش العالي الذي
أجلسني عليه القدر، ألا تزول من أمامي، وأنتَ أيُّها الملك السامي الذرى، ألا
تقدر أن تبرح من سبيل غرامي.
وأنت أيها التاج الذي يزيِّن رأسي، ألا تنكسر على أقدامي، انكسر انكسر فإنك نقمة عليَّ، وإن حب حبيبي أحسن منك عندي، وأجمل منك لديَّ، واهبط أيها العرش من مقامك؛ فإنك لا خير فيك عندي، وانتزع أيها اللقب عن اسمي؛ فإنك تزيد مصائبي، ولا تزيد مجدي، وانخفضي أيتها الدرجات من أمامي كما انكسر هذا التاج على أقدامي، وانزلي أيتها الكرامة عن أقدامي؛ فإنك ذل وإهانة عليَّ؛ عساني بذلك أن أصل إلى حبيبي، ويصل حبيبي إليَّ، ماذا يُفيدني أن أكون أميرة في كل بلد؟ ماذا يفيدني أن أكون بنت ملك إنكلترا وأخت قلب الأسد؟ ما هذا البلاء الذي لم يذقه قبلي أحد، ولا يفرجه عني أحد.
يا بعد عذبت قلبي في محبتهم
يا بعد ليتك
لم تخلق على الناس
أبعدت عني الذي أهواه من قدم
يا ليت لان
كقلبي قلبك القاسي
لا بعد يحجبه عني سوى شرف
توهموا مجده
تاجًا على رأسي
يا ليتهم علموا قدر الهوى قدروا
أن ليس
في الحب من عار ولا باس
إذن لرقوا لما ألقى فوا أسفي
أغدو وحيدة
قومي بين جلاسي
وأنت أيها التاج الذي يزيِّن رأسي، ألا تنكسر على أقدامي، انكسر انكسر فإنك نقمة عليَّ، وإن حب حبيبي أحسن منك عندي، وأجمل منك لديَّ، واهبط أيها العرش من مقامك؛ فإنك لا خير فيك عندي، وانتزع أيها اللقب عن اسمي؛ فإنك تزيد مصائبي، ولا تزيد مجدي، وانخفضي أيتها الدرجات من أمامي كما انكسر هذا التاج على أقدامي، وانزلي أيتها الكرامة عن أقدامي؛ فإنك ذل وإهانة عليَّ؛ عساني بذلك أن أصل إلى حبيبي، ويصل حبيبي إليَّ، ماذا يُفيدني أن أكون أميرة في كل بلد؟ ماذا يفيدني أن أكون بنت ملك إنكلترا وأخت قلب الأسد؟ ما هذا البلاء الذي لم يذقه قبلي أحد، ولا يفرجه عني أحد.
الجزء السادس
(وليم – جوليا)
وليم
:
سيدتي، ما هذا البلاء، ومن أي شيء تشكين؟ لقد قيل لي: إنك في ضيق، وإنك
حزينة تبكين، انظري ها أنا أمامك فمري بما تريدين واحكمي؛ فإن عبدك راكع
لديك وهو لأمرك رهين.
جوليا
:
أنت هنا … أنت أمامي … هل علمت أنني في حاجة لأن أراك وأنني مشتاقة
إليك؟
وليم
:
إذا كنتِ في شوق إليَّ فإنني
أشد
اشتياقًا منك في معرض الحب
وإن الذي تبدينه من محبتي
يزيد على
الأيام حبك في قلبي
فما ملكت أيدي النساء قلوبنا
بأحسن من
حبٍّ وألطف من قرب
يزدنَ بنا حبًّا فنزداد لوعةً
بهن كذاك
الحب ينبت من حب
كذا أنا في حبك أزداد والهوى
يزيدك
حبًّا بي فحسبي الهوى حسبي
جوليا
:
آه يا ملاكي الحبيب! ما ألطف هذه المقابلة، وما أحسن هذه الفجأة، كيف هذا
وما هذه السعادة. أنت عندي وحدك … في وسط الليل … بلا رقيب ولا عذول … نحن
وحدنا كلانا محب ومحبوب … كلانا مشتاق وأنت جميل! ما أجمل الحب، وما أحلى
هذه الساعة.
وليم
:
ألا تعلمين أنني إذا كنت أحبُّ الحياة فلأجل هذه الساعة؟ وإذا كان لي في
الدنيا أمل فهو أن أنالها، أو كنت أحب شيئًا فهو أن أراك فيها، وكنت أشتاق
إلى أمر فهو أن أحصل عليها. يا رب كم أنا سعيد.
جوليا
:
آه ما أحلى اللقاء لو كان يدوم.
وليم
:
بل قولي ما أحلى الغرام لو كان يتناسب فيه المقام، إنني أراك عالية عظيمة
شريفة رفيعة النسب باذخة المجد والأصل، وأرى بيني وبينك الآن مهواة بعيدة،
وفرقًا عظيمًا وبعدًا شاسعًا، ومع ذلك فأنا أحبكِ وأهواكِ، وأجسر على أن
أدنو منك، وأقبِّل يدك وأبوح بغرامي، وأبسط لك قلبي، وأضع عندك آمالي، وأقول
لك أخيرًا: إنني أحبك، كلمة لم أقلها لفتاة سواك، وأكاد لا أتجاسر أن أقولها
لك، لولا أمر واحد يهون الصعاب، ويصغر العظائم وهو الحب؛ وأمر آخر يقرب
البعيد ويرفع الوضيع، ويمكن المستحيل، ويزين وجه الدنيا وهو الأمل، إذن فأنا
بالحب أؤمل بكِ، وبالأمل أحبك وأهواك، فانظري كم أحبك على هذا الأمل، بل
انظري كم أؤمل بك على هذا الحب … ولكن لا، فأنت بعيدة عني وخطر الموت أقرب
إليَّ.
جوليا
:
آه ما أشقاني.
وليم
:
ما هذه الكلمة التي لا أزال أسمعها منك، اتركي الشقاءَ الآن كما تركته
أنا؛ فإنني تركت حياتي أيضًا، ألم ترسلي في طلبي إلا لتقولي لي أنك شقية؛
فأزيد حزنًا على أحزاني، أهذا الذي تريدين أن أسمعه منك بعد هذا
الطلب؟
جوليا
:
أنا أرسلت في طلبك؟! … بالله من قال لك ذلك؛ فإنه قد خدمني من غير أن
أدري.
وليم
:
عجبًا يا سيدتي! ألم تُرسلي خادمكِ في طلبي، ألم تشددي عليه
بحضوري؟
جوليا
:
إنني لا علم لي بشيء مما تقول، ولكن مهما يكن فإن الأمر حسن، وقد أفادني
أن أرسلك إليَّ.
وليم
:
ولقد أفادني أنا أيضًا يا سيدتي؛ لأنَّه أسعد فؤادي ونظري، ولكنه كان
خطرًا وشؤمًا على شرفي وحياتي، ويلاه قد أدركت الحيلة الآن، أليس هذا
الخاتم من يدكِ؟
جوليا
:
هذا الخاتم هو خاتمي، وقد ضاع مني اليوم، وأنا أحسبُ أنَّه سقط من يدي، فمن
أوصله إليك؟ بالله أين وجدته؟
وليم
:
لم أجده بل وصل إليَّ من طريق الحيلة، وسبيل المكر والخداع؛ قلتِ: إنك لم
ترسليه … إذن فكيف وصل إلى الخادم؟ ومن الذي سلمه إياه؟ ويلاه ضاعت الراية
وضاع الشرف.
جوليا
:
بالله ما هذا الكلام الذي لا أفهم منه شيئًا؟ أية راية وأي شرف؟ كيف ضاعت
الراية وضاع الشرف؟ وما هي الحيلة وما هو الخداع … ويلاه ألا ترد
علي؟
وليم
:
عفوًا يا جوليا؛ فإنَّ الأمر خطر والعقبى شديدة هائلة، فلقد كنتُ الآن
أمامك باسمًا مسرورًا أحمد الله على لقاكِ، وأنسى الدنيا بحسن محياك، ولكن
كان ينبغي لي أن أكون باكيًا حزينًا، وكان ينبغي لكِ أن تندبيني وتبكي
عليَّ؛ فإني خئون والناس غدارون محتالون، أمَّا الآن فابكِ عليَّ واندبيني
إذا كان لا يزال في قلبك حب أو كنتِ تتنازلين بعد الآن إلى أن تنظري إليَّ؛
فإني أصبحتُ شَقيًّا تعسًا محكومًا عليَّ بالموت، ولعلي ألقاه بعد ساعة أو
ألقاه الآن.
جوليا
:
يا رب ما هذا … ويلاه ماذا جرى؟
وليم
:
اندبيني فإني هالك قتيل، ولكن لا تندبي ولا تبكي؛ فأنا لا أستحق دمعة من
دموعك، ولا أساوي زفرة من زفراتك، قد كنت أستحق ذلك أمس، بل اليوم بل الليلة بل
الساعة؛ لأنني كنت شريفًا طاهرًا لا عار يلحقني، ولا ذنب عليَّ، أمَّا الآن
فأنا أثيم خائن يتبعني العار، وتوقفني الجرائم والذنوب وكل ذلك في ساعة؟
ويلاه من هذه الساعة!
جوليا
:
سيدي ألا تخبرني بأمرك؟ ألا تعلمني بما جرى لك؟ إنك قد مزقت قلبي بأقوالك
من غير أن أفهم ما تُريد، أتحب أن أركع على قدميك حتى أعلم ما في
صدرك.
وليم
:
انهضي ولا تركعي؛ فأنا الذي يجبُ أن أركع، ولكن أركع ركعة الموت؛ لأستقبل
سيف السياف.
جوليا
:
سيدي، ويلاه! بالله أخبرني.
وليم
:
قد بلغكِ ولا شك ما حدث بين أخيك وملك النمسا؛ لأنَّه رفع علمه إلى جانب
علمه، وكيف أنَّ أخاك نزع راية النمسا بالرغم عن صاحبها، وأبقى علم إنكلترا
وحده، والآن فاعلمي أنَّ أخاك لما انصرف الجيش دعاني إليه، وقال لي: يا
وليم احرس العلم، واعلم أن رأسك يسقط إذا سمحت لأحد أن يمسه أو يدنو منه،
فأقمتُ أحرسه وحدي، حتى أظلم الليل وطلع ضوء البدر، وإذا بخادمك قد أقبل
إليَّ يدعوني إليك، وأنك في حاجة إليَّ.
جوليا
:
كذب وبهتان ويلاه، يا رب، أتمم بالله.
وليم
:
اسمعي فليس ذلك الأمر: إنني لم أصدقه في بادئ الحديث، وظننته كاذبًا كما
ظهر الآن، ولكنه لم يلبث أن أظهر لي خاتمك هذا، وأنه قادم به علامة منك
إليَّ؛ فصدقته، وأتيت بعد أن أقمته حارسًا مكاني، وقد ظهر لي أنه كاذب خادع
فكيف العمل؟
جوليا
:
قد فقدتك أيها الحبيب فوا أسفاه؛ فإن أخي ظالم قاسٍ لا يرق ولا يرحم، وهو
قد توعدك بالقتل إذا فقدت الراية، ولا شك أنَّ الراية قد فُقدت وأنَّ في
الأمر حيلة لا ندريها؛ فاذهب بالله وانظر، اذهب وعد إليَّ.
وليم
:
إذن ودعيني قبل أن نتفرقا
فليس لنا من
بعد ذا اليوم ملتقى
أسير عن الدنيا لديك إلى الفنا
وأترك
سعدي كي أسير إلى الشقا
فلا تحسبي أني أخاف من الردى
ولكنني
أخشى الفراق بلا لقا
جوليا
:
حبيبي مهلًا لا تسر لا أريد أن
تسير
فكن لي راحمًا مترفقا
إذا سرت سارت مهجتي معك فاصطبر
ولا تخش من شيء
فإني لك الوقا
أصونك من موت وأبذل مهجتي
فداك فما في
العيش بعدك لي بقا
وليم
:
رويدك إن الأمر جل عن الفدى
ولا بد من
موتي فموتي تحققا
جوليا
:
أدافع عنك الموت
وليم
:
… ليس بممكن
فإن مماتي بالحسام
تعلقا
وإن عدوًّا غادرًا خانني وقد
غدا علمي
في كفه متمزقا
ومزق مجدي آه من سوء فعله
… … … …
…
جوليا
:
… … … … …
أنا سبب الأكدار
والحزن والشقا
فأنت لأجلي قد أتيت أنا التي
أموت إذن
…
وليم
:
… … … … …
… ويلاه قلبي
تمزقا
أنا المذنب الجاني دعيني …
… … … …
…
جوليا
:
… كفى فلا
أريد بأن تمضي وأن
نتفرقا
تمهل رويدًا كي ترى الأمر أقبل
الجنود
فقف واسأل لكي نتحققا
الجزء السابع
(وليم – جوليا – جند)
جندي
:
عفوًا يا سيدتي … أنت هنا يا سيدي ونحن نبحث عنك؟
وليم
:
أين الراية؟
جندي
:
الراية مفقودة، وإلى جانبها رجل قتيل، وقد بلغ الأمر الملك فلا تسل عن
غيظه وغضبه؛ وقد أمرنا بأن نبحث عنك.
وليم
:
جوليا، ألم أقل لك إن في الأمر حيلة، وإن الراية قد سرقت؟ ويل لمن أخذها
فإنه يموت، سيروا أمامي.
جوليا
:
اصبروا … أنا الأميرة جوليا، أنا أخت الملك، إنني أنا الآمرة هنا، وأنا
المطاعة فيما أقول، إياكم أن تخبروا أحدًا بأنَّه كان عندي وإلا فرؤوسكم
جميعًا تسقط. ولكن لماذا؟ تعال، أنا أذهب معك.
وليم
:
لا يا سيدتي، يجبُ أن نكتم الأمر وألَّا يدريه أحد، فكيف تسعين في إظهاره؟
لا أريد أن تذهبي، ابقي هنا بالله وأنا أذهب وحدي.