أقمار صناعية … ومهمات تجسُّس!
رانَ الصمتُ العميقُ على قاعة العرض السينمائي بالكهفِ السريِّ للشياطين … وكانت هناك موسيقى هادئة تنبعث من مكان ما بالقاعة الصغيرة، كما كانت الإضاءةُ خفيفةً شاحبة تُعطي جوًّا من الرومانسية والاسترخاء …
ولكن هذا لم يكن حالَ الشياطين الأربعة الجالسين في القاعة بأيِّ حال … فبرغم أن الاستدعاء الذي جاءهم منذ وقتٍ قليل لم يكن ملحًّا وعاجلًا، إلا أنهم فضَّلوا تنفيذَه على الفور … وفي قاعة العرض السينمائي اكتشف «أحمد» و«عثمان» و«إلهام» و«رشيد» أنهم فقط الذين تلقَّوا الاستدعاء … مما يقطع بأن المغامرة أو المهمة القادمة ستقتصر عليهم هم الأربعة فقط، وهو عكس ما كان يفعله رقم «صفر» دومًا، بأن يستدعيَ الشياطين اﻟ «١٣» بأكملهم ثم يُكلِّف بعضَهم بالمهمة القادمة.
كان الشياطين الأربعة يتساءلون في تلك اللحظة، تُرى ما الذي غيَّر ذلك النظام القديم؟! … وهل لدواعي السرية الشديدة علاقة بالمهمة القادمة؟
هكذا كان يفكر الشياطين الأربعة الجالسون في صمتٍ ينتظرون إظلامَ القاعة وحضورَ رقم «صفر»، وكان من الواضح أن نظام الإضاءة الخافتة والموسيقى الهادئة كان مقصودًا به تهدئة الشياطين الأربعة وطرْد الانفعال عنهم، ولكنها أدَّت إلى النتيجة العكسية تمامًا.
تُرى هل كان هذا ما يقصده رقم «صفر» بالضبط؟
واقتربَت خطواتُ رقم «صفر» إلى داخل القاعة مقترنةً بالظلام التام الذي سادها … وساد السكوتُ لحظةً قصيرة قبل أن تُضاءَ شاشةُ العرض السينمائي إضاءةً خافتة، وجاء صوتُ رقم «صفر» مختصرًا قصيرًا: مرحبًا!
ردَّ الشياطين التحيةَ القصيرة والتي أوحَت لهم لهجتُها بأن هناك أمرًا خطيرًا ينتظرون سماعه … ربما أخطر ما واجههم في حياتهم العملية الحافلة بالمغامرات والمهام القتالية الرهيبة …
ودار سؤالٌ في ذهن «أحمد»: تُرى هل تتعلق المهمة القادمة بكيان الشياطين أنفسهم، وببقائهم فوق رقعة الوطن العربي يمارسون من خلال عملهم التصدِّي لأيِّ محاولات للنَّيل منه؟
وقطع حبلَ أفكار «أحمد» صورةُ الكرة الأرضية التي ظهرَت فوق شاشة العرض السينمائي ضخمة كبيرة متألقة بقاراتها وبحارها وجبالها ووديانها … وقد ظهرَت بعضُ الكواكب والأقمار البعيدة ضئيلةً صغيرة شاحبةَ الإضاءة.
وجاء صوتُ رقم «صفر» يقول: هذا هو مكان مغامرتكم القادمة … الكرة الأرضية وما حولها! قال «عثمان» ضاحكًا: لقد ظننتُ من جوِّ «الإثارة» المحيط بنا، أن مهمَّتَنا القادمة ستكون فوق القمر لا في الأرض!
وعلى الفور أجاب رقم «صفر»: هذه هي الحقيقة بالضبط!
وقبل أن يكبح «رشيد» من ردِّ فعله، صاح: ماذا؟!
وتبادل الشياطين الأربعة نظرةً متسائلة تحمل أقصى معاني الاندهاش، تُرى ما الذي قصده رقم «صفر» بأن مهمتهم ستكون فوق القمر؟! … هل يقصد أيَّ مكان على الأرض يُطلق عليه هذا الاسم ويتلاعب بالألفاظ بقصد إثارتهم؟!
وأجاب رقم «صفر» على ذلك الخاطر في التوِّ: إنني أقصد القمر الحقيقي … القمر الأرضي … إن مهمتكم القادمة تقع في مكان وسط بين الأرض والقمر … لقد كنت أقصد ما قلته بكل تأكيد … إن مهمتكم القادمة مهمة فضائية … ستدور كلُّ أحداثها بعيدًا عن الأرض بمئات الكيلومترات. وسكت رقم «صفر»، وتعالى صوت أنفاس الشياطين من المفاجأة غير المتوقعة … لقد كان رقم «صفر» رجل المفاجآت حقًّا!
وتساءل «أحمد» قائلًا: أعتقد أن استدعاءَنا نحن الأربعة كان مقصودًا منذ البداية وكان علينا أن نتوقع السبب …
– بالضبط يا «أحمد» … لا تنسَوا أنكم أنتم الأربعة تلقَّيتم في بداية التحاقكم بالشياطين اﻟ «١٣» تدريبًا خاصًّا على أجهزة الفضاء ومراكب الفضاء … لقد كانت تعليقاتكم وقتَها تحمل مزيجًا من الاندهاش والاستخفاف بذلك التدريب الذي رأيتم أنه ضربٌ من الخيال والمستحيل … وها هي اللحظة التي تم تدريبكم لأجلها منذ سنوات … قد أتت … إننا لا نقوم بأي شيء … اعتباطًا … أو صدفةً.
تصاعدَت إثارةُ الشياطين الأربعة بعد كلمات رقم «صفر» حتى وصلَت إلى الذروة، ولو انفجرَت قنبلةٌ خلف رءوسهم ما انتبهوا إليها، بسبب كلمات رقم «صفر» التي شدَّتهم تمامًا واحتاروا في تفسيرها، تُرى أية مهمة تنتظرهم في الفضاء، في تلك المساحة الهائلة التي تفصل كرتَهم الأرضية عن القمر؟
وجاء صوت رقم «صفر» الهادئ يقول: منذ سنوات بعيدة بدأَت محاولةٌ للسيطرة على الفضاء، وبالذات المساحة الفضائية الواقعة حول الأرض، وبعد أن تأكَّدَت القوتان العظميان من استحالةِ تفوُّقِ إحداهما على الأخرى، بفضل تشابُهِ الأسلحة واستحالةِ خروجِ أيِّ منتصر منها في حالة نشوب أية حرب بينهما، خاصة إذا كانت حربًا نووية … منذ ذلك الحين بدأ التفكير في غزو الفضاء وعسكرته … بمعنى أن تحتلَّ قوةٌ ما الفضاءَ المحيطَ بالأرض وتشغله بأسلحتها ليكون منطقةَ نفوذٍ تابعة لها؛ ولذلك حدث نوعٌ من التسابق الزمني الرهيب في غزو الفضاء، فكان الاتحاد السوفييتي هو أول من أطلق سفينةً فضائية خارج الغلاف الجوي للكرة الأرضية في رحلة «جاجارين» الشهيرة، والتي دار فيها حول الأرض خارج نطاقها لأول مرة في التاريخ … فكان ردُّ أمريكا أن أرسلَت سفينة فضائية حملَت أولَ إنسان هبط فوق القمر … ورفع العلَمَ الأمريكي هناك!
وبعد ذلك، أو قبلها بقليل كان هناك سباقٌ من نوع آخر قد بدأ، فأخذَت كلٌّ من الدولتَين العظميَين في إرسال عدد من الأقمار الصناعية لتدور حول الأرض على مدارات مختلفة … وبدا كأن سباقًا محمومًا فيمن يُرسل أكبر الأقمار الصناعية لتدور حول الأرض، ثم ما لبثَت دولٌ أخرى أن لحقَت بتكنولوجيا الفضاء فأرسلَت أقمارًا صناعية هي الأخرى مثل إنجلترا وكندا وفرنسا واليابان والصين … ولكن ظلَّ التفوق في هذا الأمر للقوتَين العظميَين … أمريكا وروسيا … فهما وحدهما لهما ما يزيد عن خمسة آلاف قمر صناعي تدور حول الأرض … وأغلبُها لا يُعلن عن مهمته وإن كان يشترط على مَن أطلقه أن يُبلغَ الطرفَ الآخر بموعد إطلاق القمر ومساره حول الأرض ورقمه أيضًا … فالأقمار الصناعية لها أرقامٌ كالسيارات وفي العادة لها سبعة أرقام تدل على نوع القمر وتاريخ إطلاقه، وغيرها من المعلومات التي تُوضح هويته.
وصمت رقم «صفر» لحظةً كانت كافيةً ليُراجع الشياطين معلوماتِهم في ذلك المجال؛ فقد كان ما ذكره رقم «صفر» لهم معروفًا تمامًا وليس فيه جديد … وعاد رقم «صفر» يقول: وهناك — كما تعلمون — أقمارٌ صناعية أُطلقَت بغرض دراسة الطقس، أو للأغراض المساحية أو الكشف عن أعماق البحار أو لبثِّ الإرسال التليفزيوني واللاسلكي والتي بفضلها تحوَّل العالم إلى قرية صغيرة، فما يحدث في أقصى شرق الأرض تبثُّه الأقمار الصناعية إلى أقصى غربها في نفس اللحظة … وكان هذا أحدَ الإنجازات العظيمة للأقمار الصناعية … ولكن هناك نوعٌ آخر من الأقمار الصناعية لا يُفصح عن مهمته، وهي في الغالب أقمار صناعية تُطلَق إلى الفضاء بغرض التجسس … فأمريكا وروسيا بالذات لديهما عشرات بل ومئات الأقمار الصناعية التي تعمل في هذا المجال. وتمتاز أقمار التجسس الصناعية بقدرة تكنولوجية هائلة؛ فهي قادرة على تصوير أدق التفاصيل فوق الأرض، فهي لا تلتقط صور الدبابات والطائرات فقط، بل يمكنها تصوير مسدس صغير طولُه لا يتعدَّى عشرين سنتيمترًا من ارتفاع يصل إلى ألف كيلومتر … وبهذا لا يمكن إخفاء تحرُّكات القوات والأسلحة عنها، وليس هذا فقط بل إن هذه الأقمار الصناعية مزودة بأجهزةِ كشفٍ تعمل بالأشعة تحت الحمراء، فيمكنها تصوير ما يبعد في باطن الأرض، فتستطيع هذه الأقمارُ الصناعية كشْفَ حظائر الطائرات مهما بولغ في إخفائها، وكشْفَ أماكن إخفاء القنابل والصواريخ النووية العابرة للقارات حتى لو أُخفيَت تحت سطح الأرض في مخابئ سرية على مسافة عشرات الأمتار في باطن الأرض … لقد تحوَّلَت الأرض بفضل هذه الأقمار الصناعية إلى خريطة مكشوفة لا يمكن إخفاءُ أيِّ شيء عنها … وما تحصل عليه هذه الأقمار الصناعية من معلومات يتم إرساله إلى الأرض بالبثِّ الإذاعي واللاسلكي أو بقَذْف كبسولة تحتوي على شرائط ووثائق المعلومات من القمر الصناعي إلى الأرض في مكان محدد يكون عادةً في قلب المحيط، وتنطلق طائرات وسفن أصحاب القمر الصناعي لالتقاط هذه الكبسولة بما تحويها من معلومات ثمينة … أما مصير هذه الأقمار الصناعية فهو في الغالب التهشُّم والتحوُّل إلى ذرَّات في الفضاء بعد انقضاء مهمتها، أو إطلاقها إلى الفضاء البعيد لتسبحَ فيه إلى ما لا نهاية بعد أن تؤديَ مهمتها وتُصبح عديمةَ النفع … وكما تعلمون فمن المحرم على الأقمار الصناعية حملُ أية أسلحة نووية، وإن كان بعضها يعمل بالطاقة النووية، ولعلكم تذكرون قصةَ القمر الصناعي الروسي الذي سقط فوق الأرض الكندية، وتعاونَت بلاد عديدة في التقاط بقاياه من فوق سفوح الجبال والأراضي الكندية، بسبب تلوُّث هذه البقايا بالأشعة النووية …
وسكت رقم «صفر» لحظةً، ثم أضاف: لقد أُعلن عن إطلاق قمر صناعي عربي بغرضِ البثِّ الإذاعي والتليفزيوني … ولكنَّ تطورًا حدث في الفترة الأخيرة جعلنا نُعيد النظر في مسألة عزوفنا عن الانضمام إلى نادي التجسس العالمي بالأقمار الصناعية.
تساءل «أحمد»: هل تقصد يا سيدي، أن هناك قمرًا أو أقمارًا صناعية أُطلقت إلى الفضاء بغرض التجسس على العالم العربي؟!
ردَّ رقم «صفر» في صوت عميق: هذا هو ما حدث تمامًا … لقد تمَّ رصدُ قمرٍ صناعي أُطلق أخيرًا بدون الإعلان عنه أو عن هويته، واستطعنا بوسائلنا الخاصة أن نعرف أنه أُطلق بغرض محدد … التجسُّس على الوطن العربي … وعلى مقرِّ الشياطين بصفة خاصة!
تقابلَت نظراتُ الشياطين الأربعة في نظراتٍ يلمع فيها التحدي!