معركة قبل المعركة!
انطلق الشياطين الأربعة نحو الطائرة المقاتلة الرابضة في ممرِّ الإقلاع داخل الكهف السري، وأخذ «أحمد» و«عثمان» مكانَيهما في مقعدَي القيادة، وانشغل «رشيد» و«إلهام» بمراجعةِ بعضِ المعلومات عن المكوك العربي والتي كانت مسجلةً داخل جهاز كمبيوتر كبير.
وانطلقَت طائرةُ الشياطين لتُغادرَ الكهف السري من فتحةٍ في نهايته، واندفعَت كالسهم تشقُّ الفضاء على ارتفاع منخفض متجهة نحو مكان القاعدة السرية الأرضية التي تحوي المكوك العربي، والمقامة في نقطة بالصحراء الأفريقية الواسعة.
وقبل أن تنقضيَ دقائقُ قليلة ضاقَت عينَا «أحمد» وهو ينظر إلى شاشة الرادار أمامه، وقال ﻟ «عثمان»: إن هناك أكثر من طائرة تَتْبعُنا.
وحدَّق «عثمان» في الرادار أمامه فشاهد ثلاث نقاط على شكل رءوس مثلث لثلاث طائرات كانت تبعد مسافةً عن طائرة الشياطين، وقال «عثمان»: لعلها طائرات مدنية.
أحمد: لا أظن … إن خطوطَ الملاحة المدنية لا تمرُّ بهذا الاتجاه … كما أن الطائرات المدنية لا تطير على هذا العلو المنخفض … ولولا دقةُ رادار طائرتنا الفائقة ما أمكنه التقاطها، أظنُّ أن هذه الطائرات تُطاردنا … وهي طائرات حربية مقاتِلة فيما أظن.
علَتْ ملامحُ الاندهاش وجهَ «عثمان»، وهتف: ماذا؟! ولكن لماذا تُطاردنا هذه الطائراتُ في خفية؟! ولماذا لم تَقُم بمهاجمتنا حتى الآن؟!
ابتسم «أحمد» قائلًا: الإجابة ليست صعبةً … إنها تريد أن تعرف مكانَ هبوطنا … وبعدها يمكنها مهاجمتُنا أو تدميرُنا.
اتسعَت عينَا «عثمان»، وهتف: أتعني أن قائدي هذه الطائرات الثلاثة لهم علاقة بمَن أطلق ذلك القمر التجسُّسي «أكس٩»؟!
أحمد: بالضبط … ويبدو أنهم يشكُّون في خطوتنا القادمة ويريدون التأكد مما نفعله أو لعلهم التقطوا حديثًا أو رسالة ما من مقر الشياطين وعرَفوا بوجود المكوك العربي.
عثمان: ولكن هذا مستحيل تمامًا؛ فالكهف محصنٌ إلكترونيًّا وبه أجهزةُ تشويش عالية.
أحمد: لا تنسَ قمرَهم التجسُّسي … لا بد أنه يملك تكنولوجيا متقدمة تستطيع اختراقَ دفاعاتِنا والتقاطَ ما يدور بداخل الكهف، وإن كنتُ أظنُّ أنهم لم يلتقطوا الكثير، وإلا ما كانوا بحاجة إلى مطاردتنا لمعرفة مكان قاعدة إطلاق المكوك … إن لديهم شكوكًا وهم يريدون التأكد.
تساءل «عثمان» بقلق: وماذا سنفعل؟!
ابتسم «أحمد» وهو يردُّ: سوف نُزيل شكوكَهم ونُريحهم من التفكير تمامًا.
عثمان: كيف؟!
أحمد: الآن ستعرف إجابةَ السؤال.
واستدار بالطائرة منحرفًا في اتجاهٍ آخرَ بعيدٍ عن مكان القاعدة الأرضية، وأدرك «عثمان» ما يدور في ذهن «أحمد»، سوف يُضلِّلون الطائراتِ المطاردة الثلاث …
وقال «أحمد» وهو يرتفع بالطائرة لأعلى: سنلعب معهم لعبةَ القط والفأر.
وراح يعلو بالطائرة ويعلو حتى صار فوق السحب القليلة، واختفَت الطائرات الثلاث من على شاشة الرادار دقائق ثم عادَت تظهر في المؤخرة وقد لحقَت بطائرة الشياطين عن بُعد …
وأقبلَت «إلهام» متسائلة: ماذا يحدث يا «أحمد»؟! لماذا غيَّرَت الطائرةُ مسارَها وعلَت إلى هذا الارتفاع؟!
ابتسم «عثمان» كاشفًا عن أسنانه البيضاء وهو يقول: ثمة ثلاثة جرذان نودُّ أن نأخذَها إلى منزل القط.
وأشار إلى شاشة الرادار ففهمَت «إلهام» ما يقصده «عثمان» على الفور، وانحرف «أحمد» بالطائرة بزاوية حادة على شكل نصف دائرة، واختفَت الطائرات الثلاث لحظات قصيرة، ثم عادَت تظهر فوق شاشة الرادار مرةً أخرى بعد أن تتبَّعَت طائرة الشياطين.
مرة أخرى انحرفَت طائرة الشياطين إلى الجهة المضادة، وعادَت الطائرات الثلاث تَتْبعها في إصرار، وقال «أحمد» وقد اكتسى وجهُهُ ببريق النضال: يبدو أنهم مصرُّون على دخول عرين الأسد … حسنًا إننا لن نُخيِّب أملَهم … تشبَّثي بأيِّ شيء يا «إلهام» وأنت يا «رشيد». واندفع بالطائرة بأقصى سرعة في دورة حادة، وأسرعَت «إلهام» و«رشيد» يتشبَّثان بأيِّ شيءٍ حولهما خشيةَ سقوطهما على الأرضية؛ فقد قام «أحمد» بحركة بهلوانية بارعة؛ فأخذ يدور بالطائرة حول نفسها كأنها ريشة تتقاذفها عاصفةٌ هوجاء، في نفس الوقت الذي كانت تندفع فيه للأمام بأقصى سرعتها.
وهتف «أحمد»: سوف نقدِّم لهم مفاجأةً لن ينسوها عندما يذهبون إلى الجحيم.
وفُوجئَت الطائرات الثلاث بطائرة الشياطين وهي في ذلك الوضع الغريب المترنِّح، وهي تكاد تصطدم بهم، وعلى الفور تفرَّقَت الطائرات الثلاث في اتجاهات مشتتة بعد أن أخذَتْهم المفاجأة، وعلى الفور اعتدل «أحمد» بطائرة الشياطين واندفع نحو أقرب الطائرات الهاربة وانقضَّ عليها مصوِّبًا صواريخَه وأطلق إحداها، وانطلق الصاروخ كالسهم نحو الطائرة، وفُوجئ قائد الطائرة بالهجوم المباغِت الذي لم يتوقَّعه، وحاول تفادي الصاروخ، ولكنَّ الوقت كان متأخرًا واصطدم الصاروخ بالطائرة، فدوَّى صوتُ انفجار رهيب وتناثرَت أجزاؤها في الفضاء وهوَت مشتعلة.
رفع «أحمد» يدَه بعلامة النصر، وقال: لقد الْتَهم القطُّ أحدَ الفئران الثلاثة … بقيَ اثنان.
رشيد: وأظن أنهما سيتحولان إلى نمور شرسة حالًا … إنهما طائرتان من طراز حديث جدًّا وصواريخها تُوجَّه بالعقول الإلكترونية وهي لا تترك فريستَها قبل أن تنسفَها.
وبالفعل فقد استدارَت الطائرتان الباقيتان بعد أن أدركتَا خدعةَ طائرة الشياطين … وانقضتَا في وقت واحد من الأمام محاولتَين حصْرَ طائرة الشياطين فيما بينهما، وأطلقَت كلٌّ منها صاروخًا نحو طائرة الشياطين.
وعلى الفور خفض «أحمد» بدَّالَ السرعة إلى أقصى درجة، واندفعَت طائرةُ الشياطين ساقطةً لأسفل بسرعة جنونية هاربةً من الصاروخَين اللذَين اندفعَا خلفها في إصرار رهيب، وقبل أن تصطدم طائرةُ الشياطين بالأرض عدلَت من درجة سقوطها لترتفع مرة أخرى، وهو الأمر الذي لم يستطع الصاروخان القيامَ به برغم العقول الإلكترونية التي كانت تُوَجِّههما، فاصطدمَا بالأرض وانفجرَا بصوت رهيب.
وعادَت طائرةُ الشياطين ترتفع لأعلى، وقال «أحمد» باسمًا: حسنًا … إن العقول الإلكترونية ليسَت مؤكدة النجاح دائمًا … خاصة إذا واجهَت عقولًا شيطانية … من طرازنا.
واندفع في جرأةٍ بالغة نحو الطائرتَين كأنه يُوشك أن ينقضَّ عليهما، وهتفَت «إلهام» متلهفةً: ماذا تفعل يا «أحمد»؟!
وتوقَّع «أحمد» ما فعله قائدَا الطائرتَين في نفس اللحظة؛ فقد أطلق كلٌّ منهما صاروخًا على طائرة الشياطين، وكانت الطائرات الثلاث قريبة من بعضها إلى درجة تُنذر بالخطر الشديد، واندفع «أحمد» بطائرته في أثر الطائرتَين المهاجمتَين والصاروخان خلفه، وفي اللحظة التي أوشك فيها على الاصطدام بإحدى الطائرتَين ارتفع فجأةً لأعلى، على حين اندفع الصاروخان المطاردان ليصطدمَا بالطائرة ويُفجِّراها.
أغمضَت «إلهام» عينَيها غيرَ مصدقة، وتمتم «عثمان» ذاهلًا: يا إلهي! لولا أنني شاهدتُ ما حدث لما صدَّقتُه أبدًا … إن الأمر يبدو كما لو كان حربًا سينمائية من طراز حرب الكواكب!
قال «أحمد» ضاحكًا: لا تنسَ أن مهمَّتَنا القادمة مهمَّةٌ فضائية … هذا من قبيل الفأل الحسن! وتلفَّتَ حوله متسائلًا: أين ذهبَت الطائرة الثالثة؟
ابتلع «عثمان» لعابَه، وهو يقول: أظن أنه آثرَ الفرار بحياته … لو كنتُ مكانه لما تردَّدتُ لحظةً. وبالفعل اختفَت الطائرة الثالثة من فوق شاشة الرادار ولم يَعُد لها أيُّ أثر، وخفض «أحمد» من سرعته وقلَّل من ارتفاعه، وعاد يسلك الطريق الموصل إلى القاعدة الأرضية … ولم يكن هناك أيُّ أثرٍ للطائرة الثالثة.
ولمع جهازُ الاستقبال في طائرة الشياطين، وأسرع «عثمان» يستقبل رسالةَ رقم «صفر»، وكانت تقول: معركةٌ رائعة! من المؤسف أنه لم يتمَّ تصويرُها وإلا كانت كليات الطيران في كلِّ أنحاء العالم درسَتها لطلبتِها باعتبارها نموذجًا للهجمات والمناورات المذهلة، خاصة وأن الطائرة الثالثة فرَّت باتجاه وسط أفريقيا بينما كان ينتظرها هناك صاروخٌ موجَّه سيتكفَّل بها قبل عبورها القارة.
أحمد: ولكن … أظنُّ أن مهمَّتَنا قد انكشفَت بشكل ما.
رقم «صفر»: ربما … ولكن هذا لن يُؤجِّل المهمة بأيِّ حال من الأحوال.
وصمتَ لحظةً قصيرة كأنه يتلقَّى رسالة ما، ثم قال: «لقد أُسقطَت الطائرة الثالثة … النتيجة جيدة الآن … فلتُكْملوا المهمة … وفَّقكم الله!»
انتهَت الرسالة، وتبادل الشياطين نظرةً باسمة، لقد كانت معركةً صغيرة قصيرة، ولكنها فتحَت شهيَّتَهم إلى المعركة الكبرى والمهمة الصعبة … كانت معركةً قبل المعركة الحقيقية.
ومن أسفل إلى الأمام بدَت القاعدة الأرضية لإطلاق المكوك الفضائي … وفي قلبها كان المكوك العربي ينتظر في مكان ما.