خطوة … ولغم فضائي!
كان الانطلاق سهلًا للشياطين وهم جالسون في مقاعدهم الأربعة داخل المكوك، كانوا جالسين بطريقةٍ أقربَ إلى الاسترخاء وحتى يتغلَّبوا على قوة الاندفاع الشديد والجاذبية الأرضية … وعندما وصلوا إلى المدار المحدَّد لهم بعد أن تخلَّصوا من صاروخَي الدفع وخزان الوقود توقَّفَت محركاتُ المكوك وقام بتعديل اتجاهه، ليسبحَ في الفضاء حول الكرة الأرضية في مدارٍ بيضاوي كأنه قمرٌ صناعيٌّ أو نيزك.
راقب الشياطين الأربعة سباحةَ المكوك في الفراغ، وكان يبدو مثل فراشة صغيرة جميلة تحملها الريح، وتطير بها دون أن تبذلَ مجهودًا …
وجَّهَت «إلهام» رسالةً شفرية إلى القاعدة الأرضية تُبلغهم فيها بنجاحهم في الوصول إلى مدارهم المحدَّد من قبل.
ومن نافذةٍ أمامية في مقدمة المكوك، راقبَت «إلهام» الفضاءَ والفراغَ حولها، كان ثمة عددٌ من الأقمار الصناعية على مدارات مختلفة تدور حول الكرة الأرضية التي ظهرَت تحتهم، كأنها حجرٌ ضخم مستدير منقوش باللونَين الأخضر والأحمر، ومعلَّقة في الفضاء بلا رابطٍ لتدلَّ على قدرة الله سبحانه وتعالى …
وهتفَت «إلهام» بانبهارٍ: منظرٌ رائع! … لم أَكُن أظنُّ في عمري أنني سأشاهد منظرًا في مثل هذه الروعة!
وقال «أحمد»: معك حقٌّ … إنه يجعل الإنسانَ يحسُّ بالضآلة … ضآلتُه في هذا العالم والكون الفسيح … ويجعله أقربَ ما يكون إلى الله!
وأقبل «عثمان» سابحًا في فراغ الحجرة، وكان يبدو مثلَ طفلٍ يتعلَّم السباحة في حوض حمام منزله، فكان يرتفع لأعلى ليصطدمَ بالسقف، ثم يجاهد محاوِلًا الهبوطَ ولمْسَ الأرضية، وعندما يندفع رغمًا عنه ليصطدمَ بأحدِ الأجهزة يمينًا أو يسارًا؛ ففي ذلك الفراغ تنعدم الجاذبية الأرضية، ويتحرك كلُّ شيء حركةً عشوائية بلا ضابط؛ ولذلك كانت تُصمم كافة الأجهزة والمقاعد وأماكن النوم داخل المكوك بحيث يتمُّ تثبيتُها حتى لا تنسابَ حرةً داخل الفراغ.
أمسك «أحمد» ﺑ «عثمان»، وساعدَه حتى يعتدلَ في وِقْفتِه، وقال ضاحكًا: هذا يرجع إلى نقص التدريب، إن رائد الفضاء الحقيقي يسبح في الفراغ كما تسبح السمكةُ في البحر … قال «عثمان» محتجًّا: ومَن قال إنني رائدُ فضاء، إن مكاني المفضَّل فوق الأرض لا هنا …
قالت «إلهام» ضاحكةً: حسنًا … يمكنك أن تستقلَّ أول أوتوبيس للعودة إن كان المكان هنا لا يُعجبك!
ابتسم ثلاثتُهم، وراقبوا مجموعةً من الأقمار الصناعية على مسافات بعيدة وقد بدَت ثابتةً في الفضاء حولهم بسبب توافُقِ سرعةِ دورانهم معها.
وتساءل «عثمان»: تُرى أيهم هو القمر الصناعي «أكس٩» الذي تقصده؟
أجابه «أحمد»: هذا ما سوف تُجيب عليه أجهزتُنا.
واتجهوا ثلاثتهم إلى حجرة التحكم والاتصالات، وكان «رشيد» جالسًا أمام جهاز الاتصالات، وعندما شاهدهم التفتَ نحوهم قائلًا: هناك مَن يبثُّ رسائلَه إلينا متسائلًا عمَّن نكون.
تساءل «أحمد» باهتمام: وما هي جنسيةُ صاحب الرسالة؟
رشيد: إنها أكثر من رسالة … العالمُ كلُّه فيما يبدو أصابَته الحيرة بسبب انطلاقنا.
إلهام: إن تعليماتِ رقم «صفر» تقضي بأن نتجاهلَ هذه الرسائل … إن أمامنا ساعات قليلة نؤدِّي فيها مهمَّتَنا ثم نعود إلى الأرض.
وفجأةً اقتربَت مجموعةٌ من الأقمار الصناعية … تحرَّكَت مقتربةً من المكوك السابح في الفراغ كأنها تودُّ استكشافَه، وانتشرَت على مسافات متباعدة حول المكوك، وكان منها ما هو على شكلٍ بيضاويٍّ ومنها ما هو كمثريٌّ أو أسطوانيُّ الشكل، كما كان بعضُها ذا أضلاع عريضة كأضلاع الطاحونة وأحاطَت كلُّها بالمكوك كأنها حشراتٌ صغيرة سابحة في الفضاء …
تساءل «رشيد» بدهشة: ما الذي تفعله هذه الأقمار الصناعية؟ لماذا غيَّرَت اتجاهاتِها ومداراتِها واقتربَت منَّا؟
أشار «أحمد» ﻟ «رشيد» أن يصمتَ ولا ينطقَ، وبلغةِ الأصابع أجابه: يبدو أن هذه الأقمار الصناعية تجسُّسية، وتخصُّ القوى العظمى فوق الأرض، وعندما لم نُرسِل لهم ردًّا غيَّروا مساراتِ ومداراتِ أقمارهم الصناعية لتقتربَ منَّا وتكتشفَ حقيقتَنا، ومن المؤكد أنهم يرصدون كلَّ شاردة وواردة حولنا ويلتقطون كلَّ أحاديثنا.
قالت «إلهام» بنفس اللغة: معك حقٌّ يا «أحمد» … من الأفضل عدم الحديث تمامًا … لننطلق بعيدًا بسرعة أكبر حتى نؤديَ مهمتنا …
أومأ «رشيد» برأسه بنعم … وضغط على أزرار تشغيل محركات المكوك، وعلى الفور اندفع المكوك إلى الأمام في مداره البيضاوي بسرعة كبيرة … ومن الخلف حاولَت الأقمار الصناعية ملاحقتَه ولكن سرعتها البطيئة نسبيًّا لم تُسعفها.
قال «أحمد»: أظن أنهم يستعدون فوق الأرض لإطلاق مكوك فضائي لاستكشاف الأمر …
عثمان: هذا بديهي … ومن المؤسف أننا لن نمكثَ لاستقباله في الغد!
إلهام: علينا البدء في مهمتنا على الفور.
وضغطَت فوق بضعة أزرار أسفل شاشة إلكترونية أمامها تسألها عن مكان القمر التجسُّسي «أكس٩» وعلى الفور انطبعَت الإجابة تحدِّد مكان القمر بالضبط.
وضغطَت «إلهام» مرة أخرى فوق الأزرار تطلب تعديلَ اتجاهِ المكوك حتى يقتربَ من القمر الصناعي في نفس مداره …
واشتعلَت محركاتُ المكوك ودفعَته للحركة في مدار أقرب … وزادَت سرعتَه بضعَ ثوانٍ ثم توقَّفَت المحركات، ومن خلال النافذة ظهر لأعينِ الشياطين في الأمام القمر التجسُّسي «أكس٩» يسبح أمامهم في الفراغ حول الأرض.
كان القمر الصناعي صغيرًا، له شكلٌ أسطواني ينحرف إلى الداخل في مقدمته، وقد انقسم هيكلُه الخارجي إلى آلاف وملايين القِطَع المعدنية الصغيرة من خام يقيه من الاحتراق بسبب دورانه السريع، ولامتصاص أشعة الشمس وحرارتها لتحويلها إلى طاقة لتشغيله. وكما كانت هناك زوائد مثل قرن الاستشعار انتشرَت في أماكن عديدة حول جسمه.
التقَت أعينُ الشياطين، ورفع «أحمد» أصبعَه ثم خفضها بطريقة مَن يقول: الآن.
وعلى الفور ضغطَت «إلهام» على زرٍّ أمامها، ومن وسطِ جسمِ المكوك انفتحَت طاقةٌ صغيرة وخرجَت منها كرةٌ معدنية قطرُها يَصِلُ إلى المتر، ذات حوافَّ متكسرة سوداء، واندفعَت الكرة اللغم في المدار البيضاوي خلف القمر الصناعي «أكس٩».
وراقب الشياطين اللغمَ الفضائي أمامهم، وصحَّحَت «إلهام» مسارَه بحيث يدور مع القمر «أكس٩» لمدة أربع وعشرين ساعة، وهو يقترب منه رويدًا رويدًا، ويزداد الاقترابُ كلما أكمل الاثنان دورةً واحدة حول الكرة الأرضية، وفي تمام الدورة السادسة عشرة وباكتمال الأربع والعشرين ساعة يصطدم اللغم بالقمر التجسُّسي لينسفَه ويُحيلَه إلى شظايا هائمة في الفضاء …
وأدار «أحمد» أجهزةَ ومحركات المكوك مبتعدًا عن مدار القمر التجسُّسي، وبلغة الشياطين قال: لا بد أن «أكس٩» رصدنَا وأرسل إلى الأرض بذلك … وربما يعدلون من مداره حول الأرض.
أجابه «عثمان»: لن يُفيدَهم هذا بشيء … فاللغم مصمَّمٌ بحيث يتبع القمر أينما غيَّر اتجاهه ليصطدم به في النهاية.
أحمد: هذا حسن … إنَّ مخترعَه لم يترك شيئًا للصدفة! والآن لنَقُم ببعض الأبحاث والتجارب التي طلبها منَّا علماءُ المركز الأرضي ومخترعو هذا المكوك … إنهم يريدون الاطمئنان على كلِّ جزء فيه عمليًّا.
قالت «إلهام» باسمةً: من المؤسف أن الشيء الوحيد الذي نستطيع تجربتَه عمليًّا بهذا المكوك هو أسلحته القتالية … وهو الشيء الذي نُجيده بكل أسف.
رشيد: مَن يدري … قد نصادف رُخًّا أو ديناصورًا طائرًا أتى من كوكب قريب وصوَّر له عقلُه أننا أعداء؟!
أحمد: من المؤسف أن شيئًا كهذا لا يحدث في الواقع … أنت تراه في أفلام الخيال العلمي فقط …
وسادَ جوٌّ من المرح بين الشياطين الأربعة بعد إحساسهم بنجاحهم في أداء ما هو مطلوب منهم، وشرعوا يقومون باختبار أجهزة المكوك وفحْصها، وهم يُبدون إعجابَهم بكفاءتها.
وبعد أقل من ساعتين أصاب «عثمان» الملل، فقال لبقية الشياطين: إنني أحسُّ بالضجر داخل هذا المكوك الضيق … أريد مكانًا فسيحًا لاستنشاق الهواء.
أحمد: سنجد مكانًا لا نهاية له في الخارج … ولكن من المؤسف أنك لن تجد هواءً لاستنشاقه!
ابتسم «عثمان» قائلًا: ولو … سأخرج للتريُّض قليلًا.
وارتدى ملابس رواد الفضاء، والتي تحمي أصحابها من فارق الضغط والحرارة، وحمل أنبوبة أكسجين فوق ظهره تكفيه لمدة ساعة وتأهَّب للخروج من المكوك من باب صغير في جانبه …
قال «أحمد» محذِّرًا: لا تذهب بعيدًا يا «عثمان».
أجاب «عثمان»: إنني لن أضلَّ الطريق على أيِّ حال … فالشوارع هنا ليست كثيرة.
إلهام: تأكَّد من متانة الحبل الذي يربطك إلى المكوك.
وكان هناك حبلٌ قويٌّ من ألياف البلاستيك القوية التي يستحيل قطْعُها بأية آلة حادة، وكانت تربط «عثمان» بقلب المكوك، ولكنها تسمح له بالسباحة في الفراغ لمسافة تصل إلى مائة متر. وراقب «أحمد» و«إلهام» و«رشيد» الشيطان الأسمر وهو يخرج من المكوك، ويسبح في الفراغ. وما لبث أن انقلب على وجهه في الفراغ، وعندما حاول أن يعتدلَ انقلب على جنبه والتفَّ الخيطُ حوله … وقهقه الشياطين من المشهد الكوميدي الذي كان يدور في الخارج.
ومرَّ بعضُ الوقت وانشغل الشياطين الثلاثة بأعمالهم واختباراتهم داخل المكوك، على حين كان «عثمان» لا يزال يمارس لهْوَه في الخارج ويقوم بحركات كوميدية ناتجة من عدم وجود جاذبية، وبعد أن مرَّت نصفُ ساعة أحسَّ «عثمان» بشيء من الضجر والملل وتهيَّأ للعودة، ولكن … وقبل أن يتحرك شاهدَ شيئًا على البُعد يقترب نحوه.
وحملق «عثمان» بعينَيه ذاهلًا من داخل خوذته الفضائية وقد أصابه خوفٌ حقيقي … فقد كان موقفًا لم يُجابهْه في حياته من قبلُ أبدًا … وتساءَل ذاهلًا عن كُنْهِ ذلك الشيء البعيد، وأخذ ذلك الشيء يقترب شيئًا فشيئًا وجسمُه يكبر، وتعرَّف «عثمان» على كُنْهِ ذلك الشيء ففغر فمَه ذاهلًا غيرَ مصدِّق!
كان مكوكًا فضائيًّا كبيرًا لا يحمل أية هوية … ومن طريقةِ اقترابِه أدرك «عثمان» أنه يوشك على الهجوم والانقضاض على مكوكهم … وعلى الفور اندفع «عثمان» بحركات متعثرة نحو باب المكوك يبغي دخولَه، وقد أدرك أن انشغالَ الشياطين بالداخل حال دون تنبُّهِهم لاقتراب المكوك المعادي فأسرع لتنبيههم …
اندفع «عثمان» نحو باب المكوك الذي خرج منه، ولكن الباب كان مغلقًا … وحاول «عثمان» فتْحَه، بلا فائدة؛ فقد كان من الواضح أن عطبًا ما قد أصابه وأنه لن يُفتَح إلا من الداخل، وجنَّ جنون «عثمان» وأخذ يدقُّ على باب المكوك بلا فائدة … والمكوك المعادي يقترب ويقترب، ولم يكن أمام «عثمان» سوى تصرُّفٍ وحيد لتحذير زملائه، خاصة وقد نسيَ حمْلَ جهازِ اللاسلكي للاتصال بهم.
وأسرع «عثمان» يسبح في الفراغ بكلِّ قوتِه صاعدًا لأعلى، ولمس جناحَي المكوك وصَعِد فوقه وبخطواتٍ متعثرة سار فوق مقدمته ثم نحو نافذته الزجاجية الأمامية، وأطل من خلف الزجاج فشاهد «أحمد» و«رشيد» و«إلهام» مشغولين أمام الأجهزة الإلكترونية … وأخذ «عثمان» يدقُّ فوق النوافذ بكل قوته، ولكن … لم تكن هناك أية فائدة من ذلك؛ فقد كانت طرقاتُه ضعيفة فوق الزجاج القوي الصلب.
وأخيرًا انتبهَت «إلهام» إلى «عثمان» وحملقَت فيه مندهشة، وحاول «عثمان» أن يشرح بيدَيه في حركات متسرعة ما يدور بالخارج، ولم تفهم «إلهام» شيئًا فهتفَت في «أحمد»: انظر يا «أحمد» … إن «عثمان» يبدو عليه الاضطراب ويريد أن يقول شيئًا.
انتبه «أحمد» وحملق في «عثمان» مندهشًا، وفَهِم أخيرًا ما يقوله «عثمان» بإشاراته، فهتف غير مصدق: إنه يقول إن هناك أعداء … وأن باب المكوك مغلق.
والتفت «أحمد» إلى الجانب الآخر فشاهد المكوك المعادي وقد صار على مسافة قريبة جدًّا، فغمغم ذاهلًا: يا إلهي … هذا آخر شيء كنت أتوقعه!
وصاح في «رشيد» افتح الباب ﻟ «عثمان» بسرعة يا «رشيد»؛ إن هجومًا وشيكًا سيحدث.
اندفع «رشيد» نحو باب المكوك وفتحَه، ومن الخارج تحرَّك «عثمان» نحو باب المكوك، ولكنَّ شعاعًا من الليزر انطلق من المكوك المعادي نحوه، وألقى «عثمان» بنفسه فوق المكوك فأصاب الليزر جناح المكوك وحطَّم جزءًا منه، ونهض «عثمان» متعثرًا … لم يَعُد يفصله عن الباب المفتوح غير أمتار قليلة، ولكنَّ شعاعًا آخر انطلق من المكوك المعادي نحوه، ورفع «عثمان» جسمه لأعلى بسرعة متفاديًا شعاعَ الليزر الذي أصاب الحبلَ البلاستيكيَّ القويَّ فقطعه …
وحملق «عثمان» في الحبل المقطوع بعينَين ذاهلتَين وأدرك أن الطلقة التالية من المكوك المعادي سوف تُصيبه وهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه … وقبل أن يستطيع عمل شيء اشتعلت محركات مكوك الشياطين وانطلق مبتعدًا، وعلى الفور اندفع المكوك المعادي خلفه بسرعة كبيرة.
ووجد «عثمان» نفسه يتقلَّب في الفراغ كأنه نقطة ماء في محيط لا قرار له … ولأول مرة في حياته يشعر بمعنى الضياع الحقيقي … في ذلك التيه اللامتناهي من الفراغ وأنبوبة الأكسجين فوق ظهره لن تكفيَه أكثرَ من عشر دقائق فقط!