المعركة الأخيرة!
اندفع المكوك يشقُّ الغلاف الجوي الأرضي بصوتٍ حادٍّ ناتج عن اختراقه للهواء، وواصلَ المكوك اندفاعَه لأسفل مخترقًا طبقاتٍ متتالية من السحاب قبل أن يعتدل «أحمد» به ويُوجِّهه باتجاه الصحراء الكبرى … حيث يهبط في ممرٍّ عريض بالقرب من مكان انطلاقه السابق …
كان القلق يشمل الشياطين الأربعة والمكوك ينطلق بهم بأقصى سرعة وعيونهم تُتابع شاشة الرادار … كانت هناك مسافة لا تقلُّ عن ألفَي كيلومتر أمامهم … وخزان الوقود يتناقص بسرعة. ولو سارَت الأمور بهدوء لاستطاعوا الهبوطَ بالكاد مع آخر نقطة وقود بالمكوك …
وصرخَت «إلهام»: احترس يا «أحمد»!
ومن الأمام اندفعَت ستُّ طائرات — بلا هوية تُحدِّد بلدَها — نحو المكوك محاوِلةً اعتراضَه، وأدار «أحمد» مقود المكوك ليهبط به بسرعة متجنبًا الطائرات الست … لم يكن يرغب في الدخول في معركة غير مضمونة النتائج واهتزَّ المكوك بشدة للحركة العنيفة التي قام بها «أحمد»، ونظر «أحمد» إلى الأجهزة أمامه، وقال بقلق: إن هناك عطبًا بأحد أجنحة المكوك وهو يسبب اهتزازه …
هتف «رشيد» بسخط: لم يكن ينقصنا غير هذا!
ومن الخلف اندفعَت الطائرات الست المهاجمة مرة أخرى وراء المكوك، وانطلق من هذه الطائرات ستة صواريخ موجَّهة نحو المكوك …
وضغط «أحمد» فوق أجهزة التشويش بالمكوك ولكن الصواريخ ظلَّت على اندفاعها خلف المكوك … وجمدت أصابع «أحمد» والتفت ذاهلًا إلى «عثمان» قائلًا: لقد تعطَّلَت أجهزة التشويش فيما يبدو … سوف تصطدم بنا هذه الصواريخ حتمًا …
وانحرف جهة اليمين بأقصى سرعة في محاولة يائسة لتضليل الصواريخ، ولكنها ظلَّت على اندفاعها خلف المكوك وقد قصرَت المسافة بينهما.
ووضعَت «إلهام» يدَها فوق فمِها تمنع نفسَها من الصراخ وهي تشاهد الصواريخ الستة الجهنمية تندفع خلفهم …
وقال «أحمد» في يأس: لا فائدة!
ولكن … وفي نفس اللحظة، وفي أقل من جزء على الثانية اندفعَت ثلاث طائرات بسرعة هائلة من مكان ما وانقضَّت على الصواريخ بطلقات صاروخية ممكنة … وانفجرَت الصواريخ الستة قبل اصطدامها بمكوك الشياطين … كانت نجدةً من السماء!
وحدَّق «عثمان» في الطائرات الثلاث ذاهلًا، وقال غير مصدق: إنهم بقية الشياطين!
وانقضَّت طائراتُ الشياطين الثلاثة على الطائرات الست المهاجمة، وأطلقَت كلٌّ منها صاروخًا نحو إحدى الطائرات، وبوغتَت الأعداء بالهجوم ولم تستطع الهرب من الصواريخ؛ فانفجرَت ثلاثٌ منها بعد إصابتها …
واندفعَت بقيةُ الطائرات المعادية على طائرات الشياطين وتركَت مطاردة المكوك إلى أن تنتهيَ من مواجهة طائرات الشياطين.
وكان هذا ما يريده بقيةُ الشياطين من الطائرات، صرف انتباه الطائرات المعادية عن المكوك حتى يتسنَّى له الهبوط بسلام، وعندما تأكد بقية الشياطين في الطائرات الثلاث من تحقُّق هدفهم، اندفعوا نحو طائرات الأعداء وانهال منهم سيلٌ من طلقات الرصاص والصواريخ وانفجرَت طائرة رابعة من طائرات الأعداء … وأطلقت الطائرتان الباقيتان صاروخَين ولكن الشياطين فجَّروهما بصاروخَين مضادَّين «جو … جو» … ثم انقضَّت طائرات الشياطين في لحظة واحدة على الطائرتَين المهاجمتَين، وبثلاثة صواريخ انفجرَت الطائرتان في الهواء وهوتَا إلى الأرض محترقتَين …
رفع الشياطين التسعة لبعضهم علاماتِ النصر داخل الطائرات الثلاث … ثم اندفعوا خلف المكوك لحمايته من أيِّ خطر جديد …
ولكن، لم يكن ما يخشاه «أحمد» هذه المرة من أخطار خارج المكوك … بل كان المكوك ذاته، فعلاوة على نفاد الوقود الذي سيستحيل معه هبوط المكوك في مكانه المحدد سلفًا، فإن العطب الذي أصاب جناحَ المكوك هدَّد بسقوطه وعدم السيطرة عليه، ونتج عن ذلك احتراق بعض أجهزته ودوائره الداخلية فانقطع الاتصال بالأرض …
قال «أحمد» لرفاقه الثلاثة: إننا في مأزق حقيقي …!
وفقد المكوك توازنَه ومال إلى جهة اليسار، ومن بعيد ظهرَت طائرةُ ركاب جامبو ضخمة تُوشك أن تصطدمَ بالمكوك المترنِّح، وصاحَت «إلهام» في فزع: حاذِر يا «أحمد»!
ووثب قلبُ «أحمد» بين قدمَيه خوفًا من اصطدامِه بالجامبو وموتِ الركاب الأبرياء، وبكل ما يستطيع من قوة جذب أجهزةَ تغيير الاتجاه، وانحرف المكوك بشدة كأنه سهمٌ مارق في آخر لحظة قبل أن يصطدمَ بالجامبو العملاقة …
تنفَّس الشياطين الصعداء … وهتفت «إلهام»: حمدًا لله … لقد اقتربنا من الحدود المصرية! ولكن في اللحظة التالية زاد ارتجافُ المكوك وبدأ السقوط لأسفل … وكانت النهاية المؤكدة هي الموت بدون أدنى شك …
وأصاب بقيةَ الشياطين الهلعُ داخل طائراتهم الثلاث، وهم يُراقبون المشهدَ المجنون بدون أن يستطيعوا التدخُّلَ أو فعْلَ أيِّ شيء لإنقاذ بقية رفاقهم …
وصاح «رشيد» في «أحمد»: لنقفز من المكوك قبل اصطدامه بالأرض …
ولكن «أحمد» تشبَّث بالأجهزة التي أمامه ولمعَت عيناه ببريق إصرار هائل وهو يقول: لن أُغادرَ هذا المكوك أبدًا … لقد أقسمنا على العودة به سالمًا، وإما أن أعودَ به أو أموتَ بداخله …
وصاح في «إلهام» و«عثمان» و«رشيد»: إذا أردتم مغادرتَه فلا يزال هناك وقتٌ … ولكن «إلهام» صاحَت به: كيف نغادره ونتركك؟! إما أن نعيشَ سويًّا أو نموت سويًّا.
نظر «أحمد» إلى «إلهام» بامتنانٍ، كان بحاجة إلى تشجيع وها هو قد تلقَّاه، وعلى الفور ارتفعَت معنوياتُه إلى القمة … وكانت الطريقة الوحيدة للسيطرة على الأمر هي أن يضعَ أعصابه في ثلاجة، وكأن الأمر لا يعنيه هو، أو كأنه يشاهد حدثًا خارجًا على شاشة التليفزيون … وليس هو البطل الحقيقي …
واصَلَ المكوك اندفاعَه المجنون نحو الأرض التي اقتربَت بسرعة مذهلة، واعتدل «أحمد» به في آخر لحظة قبل الاصطدام بالأرض وارتفع بالمكوك مرة أخرى … وكان «أحمد» يعرف استحالةَ هبوطه فوق مساحات الرمال الشاسعة التي ظهرَت تحته، فسوف تغوص عجلات المكوك في كثبان الرمال وينفجر المكوك بشدة …
واصَلَ المكوك اندفاعَه وصعودَه بجنون … وفجأةً اهتزَّ بشدة ثم اعتدل في طيرانه فترة قصيرة، وبدأ بعدها الهبوط لأسفل بقوة … وببطء …
والتفت «أحمد» إلى رفاقه، قائلًا: لقد نفد الوقود … إننا تحت رحمة الرياح … سأحاول الهبوطَ كأيِّ طائر كبير … وأرجو أن أتمكَّن من السيطرة على المكوك …
حبس الشياطين الثلاثة أنفاسَهم … واندفع المكوك لأسفل مرة أخرى، وظهرَت الأرض سريعًا وكان هناك شريطٌ أسود طويل يمتدُّ تحتهم، أدرك أحمد أنه طريق صحراوي للسيارات أرسلَته العنايةُ الإلهية إليهم، أو أرسلهم إليه! …
واستقام «أحمد» بالمكوك فوق الطريق، واندفع المكوك بقوة ولمسَت عجلاته الأرض الإسفلتية وارتفعت قليلًا ثم عادَت للهبوط ثانية … واندفع المكوك بسرعة كبيرة فوق الطريق الصحراوي، وجذب «أحمد» الفرامل بقوة، وأخذَت سرعةُ المكوك تتناقص حتى هدأَت وتوقَّفَت تمامًا …
لم يصدِّق الشياطين أنفسهم واحتضنوا بعضهم بشدة وهم في فرح وسرور … لقد كُلِّلَت مهمتُهم بنجاح وهبطوا بالرغم من كل شيء …
ومرَّت طائرات الشياطين الثلاثة فوق رءوسهم في حركات بهلوانية كأنها تُشاركهم فرحتهم، ثم اختفَت بعيدًا في الأفق …
وتساءلَت «إلهام» بدهشة: أين ذهب بقية الشياطين بطائراتهم؟!
قال «أحمد» ضاحكًا: إن هذا الطريق الصحراوي ليس مخصصًا لهبوط الطائرات على أي حال … ربما يشاهدنا شرطي مرور الآن فيحرر لنا مخالفة!
انفجر الشياطين ضاحكين، وعلى البُعد ظهرَت قافلة ضخمة من السيارات، وتبادل الشياطين الأربعة النظرات القلقة.
وقالت «إلهام» بتوتر شديد: سوف يُفتضَح الأمر لو شاهد أيُّ غرباء المكوك …
ابتسم «عثمان» ابتسامةً واسعة، وهو يقول: لا أظن … إن رقم «صفر» لا يترك شيئًا للصدفة أبدًا، أظن أن هذه القافلة المقبلة تخصُّنا …
وكان «عثمان» محقًّا؛ فقد توقَّفَت القافلة وهبط منها عددٌ كبير من العمال انتشروا كالنمل حول المكوك، وسرعان ما كانوا يُغطُّونه بجدران من الخشب … وعندما انتهوا من عملهم كان المكوك قد غُطِّيَ بما يُشبه جدران سيارة نقل ضخمة أُخفيَت كلُّ جزء منه، وراقب الشياطين العمل باسمينَ بدون أن يعترضوا العمال الصامتين …
واقترب رئيس العمال من الشياطين وقال لهم: إن هناك رسالة لكم.
اندفع الشياطين الأربعة إلى سيارة رئيس العمال، ورفع «أحمد» جهاز اللاسلكي القوي بداخلها.
وكانت الرسالة من رقم «صفر» تقول: «قمتم بعمل خارق! تهنئتي لكم … لا تقلقوا بشأن المكوك فسيصل مَن ينقلكم إلى المقر السري بسرعة … انتهى.»
انتهَت الرسالة وتبادل الشياطين ابتسامةً عريضة، وما لبثَت القافلة الكبيرة أن سارَت تخترق الطريق الصحراوي حيث سيتم نقلُ المكوك في نقطة ما بداخلها إلى القاعدة الأرضية بطريقة ما … فقد كان رقم «صفر» رجلًا واسعَ الحيلة …
وظهرَت في الأفق طائرةٌ عمودية وقفَت أمامهم، فأسرعوا يركبونها، وارتفعَت بهم الطائرة متجهة إلى مقر الشياطين.
وتساءل «عثمان»: ولكن لماذا طلب رقم «صفر» سرعةَ نقلِنا إلى المقر السري؟
أحمد: أعتقد أن المسألة لها بقية … إذا كنا قد نسفنا القمر الصناعي، فلا شك أن أعداءنا يمكنهم إرسال المزيد منه … وأعتقد أن مهمتَنا القادمة ستكون هي نسْفَ القاعدة الأرضية التي أطلقَت «أكس٩» حتى لا تُرسل غيره …
لمعَت عينَا «رشيد» وقال: سأكون أولَ مَن يشترك في هذه المهمة بشرط ألَّا تقلَّ إثارةً عن المهمة التي انتهينا منها حالًا …
وكان هذا أمرًا مؤكدًا … واندفعَت الطائرة العمودية إلى كهف الشياطين لتلقِّي أوامر المهمة القادمة …