استهلال

لا يتعلق الأمر أبدًا بالقصد إلى الانتقاص والحط من شأن أي تشكيل مجتمعي بحسب ما قد يتراءى للصاخبين من مؤدلجي الإسلام، بقدر ما يتعلق بالسعي إلى إنتاج معرفة منضبطة بالشروط التي تترتب ضمنها العلاقة بين الدين والدولة. فإنه ليس ثَمة من نمط واحد تترتب بحسبه العلاقة بين الدين والدولة، بل إن التجربة البشرية قد عرفت نمطين لترتيب العلاقة بينهما، بدا أن الدين في أحدهما هو المنتج لما يمثل شرطًا لنشأة الدولة، بينما كان يجري في النمط الآخر استيعابه ضمن بنية الدولة القائمة.

ويتأتى الاختلاف بين هذين النمطين من التباين بين تشكيلتين مجتمعيتين فرضت إحداهما حضورًا للدين لاحقًا على قيام الدولة، وذلك فيما فرضت الأخرى حضورًا للدين سابقًا على الدولة وشرطًا لها. وبالطبع فإنه لا يمكن فرض القواعد الخاصة بأحد النمطين على الآخر، وبمعنى أنه لا يمكن فرض نمط العلاقة بين الدين والدولة الخاص بتجمعات الصحراء على مجتمعات الماء، والعكس. والحق أن الأمر يتجاوز مجرد التباين بين نمطين في العلاقة بين الدين والدولة إلى الاختلاف، بالمعنى الحضاري الشامل، بين روحين حضاريتين، صاغت إحداهما طراوة الماء، وذلك فيما حملت الأخرى مرارة قسوة الصحراء.

ولسوء الحظ فإن ثمة في مصر (التي هي أحد مجتمعات الماء العتيدة) من لا يقدر على استيعاب حقيقة هذا التمييز، فيسعى إلى أن يفرض عليها علاقة بين الدين والدولة تخص تجمعات الصحراء. وابتداءً من ذلك، وانطلاقًا من حقيقة التباين — الذي لا يماري فيه أحد — بين الجماعات البشرية فيما يخص العمق التاريخي لتبلورها الحضاري، فإنه يمكن القول إن عرب ما قبل الإسلام لم يكونوا مثل غيرهم من الجماعات ذات التبلور الحضاري الأسبق، التي امتلكت — كالمصريين والفرس والإغريق والهنود وغيرهم — تقاليد سياسية راسخة قبل أن تعرف الدين.

ومن هنا أنهم لم يتوفروا على تراث في النظر (والاشتغال) السياسي يستفيدون منه لغة السياسة ومصطلحها، بل إن ميلاد السياسة (نظرًا واشتغالًا) قد تحقق عندهم في قلب الإسلام مصاحبًا لميلاده. ويرتبط ذلك بحقيقة أنه إذا كان تبلور النظر في السياسة يحتاج إلى ممارستها والاشتغال بها أولًا، فإن مثل هذا الاشتغال يستحيل بالكلية في حال غياب قواعد الاجتماع المدني أو الأهلي، التي يبدو أن شروط الجغرافيا الطبيعية قد حكمت بغيابها عن عوالم عرب ما قبل الإسلام. فالملاحظ أن هذه القواعد ترتبط (وجودًا وعدمًا) بطبيعة الوسط الجغرافي الذي تعيش فيه الجماعة؛ وبمعنى أنه إذا كان الشرط الجغرافي قد فرض على الجماعات التي تعيش في أحواض الأنهار أن تبلور قواعد للتعاون والعيش الأهلي المشترك (للقيام على شئون ضبط النهر)، وبما أتاحه لها ذلك من قيام السلطة المركزية وامتلاك الدولة (كتنظيم سياسي) قبل أن تعرف الدين (وذلك بمثل ما جرى في مصر وبلاد ما بين النهرين مثلًا)، فإن شروط الجغرافيا الصحراوية لم تسمح للجماعات التي تعيش فيها (ومنهم عرب ما قبل الإسلام) ببلورة قواعد للاجتماع المدني على نحو يسمح لها ببناء السلطة والدولة.

ولعل ذلك ما يبين عنه التحليل الضافي الذي قدمه ابن خلدون للوضع الذي كان عليه عرب ما قبل الإسلام، والذي يمضي فيه إلى أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة. والسبب في ذلك — كما يقول — أنهم لِخُلقِ التوحش الذي فيهم، أصعبُ الأمم انقيادًا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم؛ ولذلك كانوا أبعد الأمم عن سياسة الملك.

ويربط ابن خلدون ذلك بأنه إذا كانت سياسة الملك تقتضي أن يكون السائس حاكمًا بالقهر، وإلا لم تستقم سياسته، فإن القائم على رأس كل واحد من تلك التجمعات كان مضطرًّا إلى عدم مغاضبة أهل عصبيته أو قهرهم، لكيلا يختل عليه شأنهم، فيكون في ذلك هلاكه وهلاكهم. بل إن العرب — على قوله — كانوا إذا ملكوا، وهم على تلك الحال، أمة من الأمم ذات العمران القائمة، فإنهم يجعلون غاية ملكهم في الانتفاع بأخذ ما في أيدي أهل تلك الأمة، ويتركون ما سوى ذلك من الأحكام، فتنمو المفاسد، ويقع تخريب العمران.

وتبعًا لذلك، فإنه إذا كان الأفراد في مجتمعات الماء قد وجدوا أنفسهم في مواجهة أنهار هائجة، وبحيث أدركوا استحالة التحكم فيها وضبطها إلا عبر وجوب اجتماعهم وتعاونهم، وانقيادهم لسلطة مركزية تسوسهم وتدير شأنهم، فإن التجمعات المبعثرة من قاطني الصحراء قد استغنوا، لاعتيادهم على الشظف وخشونة العيش، عن غيرهم، وصعب — على قول ابن خلدون — انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتوحش القائم بهم. ولأن هذه التجمعات كان يمكن أن تظل على نفس الحال التي فرضتها عليها الطبيعة، فإن الدين يظهر فيها للانتقال بها إلى حال الاجتماع المدني المجاوز لنمط الاجتماع الطبيعي المتدني الذي تعيش عليه.

وإذا كان الدين بما أذهب من الغلظة والأنفة والتحاسد والتنافس قد ساعد عرب ما قبل الإسلام على بلوغ حال الاجتماع المدني الذي هو الشرط اللازم لبناء الدولة، فإن ما يلفت الانتباه حقًّا هو أن ابن خلدون لم يتطرق أبدًا إلى أن الإسلام قد وضع قواعد للدولة ونظام الحكم فيها. بل إنه — وغيره من المؤرخين السابقين — لا يكفون عن التصريح بأن العرب قد استفادوا القواعد التي أقاموا عليها دولتهم في الإسلام من المجتمعات المفتوحة التي عرفت نظام الدولة قبلهم. وفي كلمة واحدة، فإن ذلك يعني أنه إذا كان الدين قد ساعد العرب على بلوغ حال الاجتماع الذي ما كان لهم أن يبلغوه لو تُركوا وشأنهم، فإنه قد ترك لهم أن يبنوا دولتهم بحسب ما يتيحه لهم زمانهم.

فهل يستوعب أهل هذا الزمان حقيقة أنه لا يمكن أن يكون هناك نمط واحد للعلاقة بين الدين والدولة، وأنه لا بد من استحضار الشرط المصري في بناء هذه العلاقة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤