أزمة واقع أم أزمة خطاب؟
(١) أزمة واقع أم أزمة خطاب؟
تدخل مصر — ومعها العرب — إلى العقد الثاني من القرن والألفية، كما دخلت ليس فقط إلى هذا القرن، بل وإلى القرن الذي سبقه، وهي على نفس الحال من التوعك والشحوب والوهن، الذي راح يتفاقم — مع استمرار البؤس — إلى حالة من التمزق والتآكل تغذيها موجات متوالية من العنف الناعم والخشن. وإذ يأسف المرء لما آلت إليه الأوضاع من مجابهات دامية بين مكونات التركيب الفسيفسائي للمجتمعات العربية، فإن الأمر ينبغي أن يتجاوز مجرد الأسف على هذا الذي يجري إلى محاولة فهمه والوعي بما ينتجه في بنية الثقافة ونظام العقل السائد في حقلها. فإنه لا يمكن أبدًا رفع الغمة إلا بالوعي لما يؤسس لها في عقل الأمة. ولسوء الحظ، فإن هذا ما لا يتجه إليه الفكر في الأغلب.
ففي حالة مصر التي تقدم نموذجًا دالًّا للحال في العالم العربي بأسره، لا يفعل المثقفون مع كل موجة عنف، إلا أن ينهمكوا في صلوات جنائزية لا تنتهي، يرددون خلالها الأناشيد المعادة والتراتيل المكرورة التي لا تتجاوز أبدًا سطح الحدث إلى ما يخفيه ويضمره. فليس ثمة على الدوام إلا الحديث المعاد عن الأزمة التاريخية والاجتماعية والنفسية التي تأخذ بخناق أجيال بائسة لم تجد سوى العنف مخرجًا من حصارها، وهو كلام صحيح أضيف إليه — هذه المرة — تآمر الخارج، لكنه يقف عند سطح الواقع لا يتجاوزه إلى ما يرقد تحته من خطاب كامن ينتظم كل ما يحدث على السطح. ولعل الأمر يبدو، هكذا، أقرب إلى مجرد التطهر وإبراء الذمة، منه إلى السعي الجاد لإزاحة الغمة. وتتأتى المشكلة هنا، ليس فقط من أن الوعي يعجز — والحال كذلك — عن الإمساك بالخطاب الثاوي في العمق بما هو الجذر المتخفي للأزمة، بل ومن كونه — وهو الأخطر — يظل يلتمس منه حلول أزماته، وبما يعنيه ذلك من استمراره فاعلًا من وراء الأقنعة التي يتخفى خلفها.
وأما أن هذا الخطاب هو أصل الأزمة وجذرها، فمرده إلى أنه خطاب فرض إكراهي لتراكيب وتواليف أيديولوجية جاهزة على واقع لا يراد منه إلا أن ينصاع لها، باعتبار أنها الحلول الوحيدة القادرة على إخراجه من أزمة جموده وتخلفه. وضمن سياق هذا الفرض الإكراهي القسري للحل الجاهز على الواقع، فإنه لا خلاف بين الليبرالي (الذي كأنه أحمد حسن الزيات) الذي راح يستصرخ زمانه، مع نهاية أربعينيات القرن المنصرم، أن ينجب «مصلحًا متسلطًا» يقدر «بالسيف في يده» على تحقيق ما عجزت ليبراليته الناعمة عن تحقيقه، وبين العلماني (الذي كأنه سلامة موسى) الذي أعلن أنه «لا يتصور نهضة عصرية لأمة شرقية، ما لم تقم على المبادئ الأوروبية للحرية والمساواة والدستور والنظرة العلمية للكون»، وبين صاحبهما السلفي (الذي تعددت أصواته وتباينت وجوهه) والداعي إلى أنه «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها». وهكذا الكل حامل للحل الجاهز في يده، وليس على الواقع إلا أن ينصاع ويذعن، وإلا فإن السيف هو البديل.
وليس من شك في أن خطابًا لا يعرف إلا محض هذا الفرض الإكراهي لحلوله الجاهزة على الواقع لا يمكن إلا أن يكون الأصل فيما تكاد تغرق فيه المجتمعات العربية من عنف تتدرج أشكاله بين الناعم (الصامت) والخشن (الصارخ).
(٢) المصريون بين زخارف الحداثة وبراقع القداسة
رغم ما يبدو للمُراقِب من الانقسام الراهن للنخبة المصرية بين شرائح تتبرقع بالقداسة، وأخرى تتلفح بالحداثة؛ فإن نظرةً أعمق على ما يرقد تحت السطح تكشف عن أن الكافة، من المتبرقِعين بالقداسة والمتلفِّحين بالحداثة، يقفون معًا تحت مظلة ذات الخطاب الذي يتنكر للجمهور ويروم إقصاءه، فإن من راحوا يرفعون — ليلة تَنحِّي مبارك — شعار «الله وحده هو الذي أسقط النظام» لا يختلفون عن أقرانهم الأسبق الذين جعلوا محمد علي (باشا) هو باني مصر الحديثة؛ وبما يفهم منه أن الجمهور لم يكن حاضرًا كفاعل لا في الإسقاط ولا في البناء.
وبالطبع فإن ذلك لا يعني أن الجمهور كان غائبًا بالكلية، وإنما يعني فقط أنه لم يكن حاضرًا كفاعل حقيقي؛ أي كذوات تفعل وتقرر لنفسها، بل كفاعل مجازي؛ أي كأدوات يفعل بها غيرها. وهكذا فإنه كان على المصريين الذين دخلوا القرن التاسع عشر، وهم أدوات الباشا التي يبني بها مصر الحديثة، أن يدخلوا القرن الحالي وهم أدوات الله التي أسقط بها نظام مبارك؛ وبما يعني أن شيئًا لم يتغير في وضعهم للآن، وفي المرتين، فإن ذلك كان يحدث، وللمفارقة، عقب ثورة كبرى يقومون بها ضد طاغية أرهقهم باستبداده وفساده، ولقد كانوا يثورون من أجل أن يكونوا ذواتهم، ولكن نخبتهم خذلتهم وشاءت لهم أن يكونوا أدوات بأيدي غيرهم.
ورغم أن ذلك يرتبط، على نحو مباشر، ببلورة النخبة (الحديثة) لخطابها بقصد خدمة المشروع السياسي لدولة محمد علي باشا الذي لم يكن يريد جموع المصريين إلا كأدوات يبني بها حلمه الطَّموح، فإنه يبقى أن لهذا الخطاب، فضلًا عن ذلك، أصوله المتوارثة المتجذرة في بناء ثقافة أقدم يختلط فيها السياسي بالديني أو حتى يتخفى خلفه. ولعل نخبة الباشا لم تكن لتقدر على جعل المصريين محض أدوات لدولته، لولا أنها اتكأت على ذلك الأصل المتوارث القديم الذي يتمثل في قاعدة الفاعل الأوحد التي هيمنت لسوء الحظ على بناء الثقافة التي سادت في الإسلام، واستحالت عبرها إلى معتقد ديني، وإذا كان شيء في وضع المصريين لن يتغير ما لم يتحولوا من أدوات إلى ذوات، فإن ذلك لن يحدث إلا عبر زحزحة الحضور المهيمن لقاعدة الفاعل الأوحد التي لا يؤثر اختلاف الفاعل فيها — الذي هو الله عند فريق، والباشا أو حتى الجنرال عند آخرين — على سطوة تحديدها لبناء الخطاب القائم للآن، والذي هو خطاب البرقعة بالقداسة أو الزخرفة بالحداثة. وهكذا فإن ثمة خطابًا واحدًا ينتظم الممارسة الواقعية لكل شرائح النخبة المصرية، على الرغم مما يقوم بينها من اختلاف المنطلقات والتوجهات الأيديولوجية؛ وهو خطاب ينبني على الإقصاء الكامل للناس الذين لا يُسمح لهم بالحضور إلا كمحض أدوات يفعل بها الواحد، وبالطبع فإن شيئًا لن يتغير في مصر حقًّا، من دون زحزحة هذا الخطاب؛ وبما تعنيه تلك الزحزحة من إدخال الناس إلى الفضاء العام كفاعلين حقيقيين.
ولعل مرويات التاريخ لم تقصد بما حفظته من توجه أحدهم بخطابه للحسن البصري قائلًا: «يا أبا سعيد، هؤلاء الملوك (الأمويون) يسفكون دماء المسلمين ويأكلون أموالهم، ويقولون إنما أعمالنا تجري على قدر الله.» إلا الكشف عن الدور السياسي الفظ لقاعدة الفاعل الأوحد. فلقد بدا لملوك بني أمية أنه ليس من سبيل لإطلاق أيديهم في دماء الناس وأموالهم إلا عبر التخفي وراء ما قالوا إنه قدر الله الذي جعلوا أنفسهم أدوات لتفعيله، وإذ أدرك الشيخ البصري النابه ما ينطوي عليه ذلك من سعي هؤلاء الملوك إلى التحلل بذلك من مسئوليتهم عن أفعالهم الباطشة، فإنه راح يواجههم بردها إليهم كفاعلين حقيقيين لها، ونافيًا عنها أن تكون قدر الله؛ الأمر الذي أزعج عبد الملك بن مروان، فراح يحشد فقهاءه للرد عليه. ولقد بدا أن هؤلاء لم يجدوا ما يردون به على الرجل إلا بالمزايدة على إيمانه بدعوى أنه لا فاعل إلا الله، لكن الرجل لم ينخدع بما يطفو على سطح تلك الدعوى من تزيد إيماني، وراح يقرأ ما يرقد تحت سطحها من السعي إلى تبرئة الملوك من أفعال البطش بردها إلى الله كفاعل لها؛ وذلك بما هو الفاعل الأوحد. ولعله أدرك أن قاعدة الفاعل الأوحد لا تؤدي فحسب إلى كسر قانون العدل على الأرض (حيث لا حساب على بطش أو ظلم)، بل تؤدي إلى تشويه بهاء الله وجلاله.
وإذ لا يقف المضمون السياسي لقاعدة الفاعل الأوحد عند مجرد تحصين الطغاة، بل يتجاوز إلى طرد الناس من ساحة الفاعلية على العموم، وعلى النحو الذي يترسخ معه حضورهم كمحض أدوات للفاعل الأوحد، الذي هو المتسلط (ولو كان متخفيًا وراء الله)، فإن الصعود السياسي الراهن للإسلاميين في العالم العربي يفرض ضرورة فضح هذا المضمون المتخفي لتلك القاعدة؛ وذلك ابتداءً من أنهم الأكثر استحضارًا لمجرد الوجه الديني لها، وساكتون — عن وعي أو لا وعي — عن هذا المضمون التسلطي لها، ويرتبط ذلك بحقيقة أنه من دون الوعي بهذا المضمون المتخفي، فإن تحصين الطغاة وطرد الناس من ساحة التأثير والفعل سيصبح دينًا يتعبد الناس به الله، وهنا يقوم المأزق الذي يجابه صعود الإسلاميين الراهن، وأعني من حيث إنه لن يكون بمقدورهم — مع غياب هذا الوعي — إلا إعادة إنتاج الاستبداد مرة أخرى، ومن دون أن يؤثر في ذلك أنه سيكون متبرقعًا بأستار القداسة، بعد أن كان مزركشًا — مع سابقيهم — بإكسسوارات الحداثة.
(٣) عن مرحلة ما قبل المعرفي في مصر
يكشف مستوى الجدال والمناظرة المحتدمة في الفضاء المصري الراهن، عن حقيقة أن مصر تعيش في إطار ما يمكن اعتباره مرحلة ما قبل المعرفي، وأعني بها تلك المرحلة التي ينحبس فيها الناس داخل صناديق انتماءاتهم وتحيزاتهم الأيديولوجية والدينية والمذهبية. وضمن سياق هذا الانحباس، فإن الناس لا يعجزون، فحسب، عن رؤية ما يقع خارج الصناديق الأيديولوجية والمذهبية التي يحبسون رءوسهم داخلها، بل — والأهم — أنهم لا يقبلون التفكير في جملة المفاهيم والتصورات المضمَرة التي يقوم عليها بناء ما يتحيزون له من أيديولوجيات ومذاهب، باعتبار أنها من قبيل المطلقات التي تعلو على أي تفكير. والملاحظ أن العقل حين ينحبس وراء تلك الأسوار الحصينة، لا يكف عن السعي إلى إكراه الواقع، بدوره، على الانحباس معه وراءها.
وإذ يبدو، هكذا، أن مرحلة ما قبل المعرفي التي تسود الفضاء المصري الراهن، لا تقدم إلا عقلًا منحبسًا وراء أسوار الأيديولوجيا بأطيافها المختلفة (وأعني علماوية ودينية ومذهبية وغيرها) من جهة، وواقعًا يراد له أن ينحبس، بدوره، وراء تلك الأسوار من جهة أخرى، فإنه لا سبيل لتحرير كلٍّ من العقل والواقع إلا عبر الاشتغال المعرفي على المفاهيم والتصورات التي يقوم عليها بناء الأنظمة الأيديولوجية والمذهبية التي تتقارع على سطح الواقع المصري الراهن. ومن حسن الحظ أن اشتغالًا معرفيًّا على معظم المفاهيم والتصورات والافتراضات المضمرة التي يؤسس عليها البعض أبنية يريد لها أن تحدد معالم المسار السياسي والاجتماعي لمصر، إنما يكشف عن كونها أضعف من أن تكون أساسًا لبناء راسخ، وأعني من حيث تبدو جميعًا أضيق من أن تستوعب حركة الواقع، وأعجز — بالتالي — من أن تقدم حلولًا ناجزة لمشكلاته الجاثمة.
ولعل مثالًا للضلال الذي تمارسه الأيديولوجيا على الوعي يتبدى في المقاربة الراهنة لخطاب التيار السلفي في مصر، وأعني من حيث ما تقدمه تلك المقاربة من صورة للخطاب تتعارض بالكلية مع الصورة التي تقدمها المقاربة المعرفية له. فإذ تقدم الأيديولوجيا صورة لخطاب يتسع لتباين الرؤى وتعدد الآراء، وإلى حد ما يجري الترويج له من أنه قد يكون للداعية السلفي في القاهرة قول في مسألة بعينها يختلف عن قول الداعية السكندري فيها، فإن المقاربة المعرفية تُقدم، في المقابل، صورة لخطاب يقوم نظامه الباطن على التفكير المقيد بأصل مسبق؛ وهو أصل يتم تضييقه على نحو كامل، وبما يعنيه ذلك من انغلاق الخطاب وجموده. وإذن فإنه التناقض بين صورة تُقدمها الأيديولوجيا يتميز فيها الخطاب بالاتساع والرحابة، وبين ما يقدمه التحليل المعرفي من صورة يتسم فيها الخطاب بالضيق والجمود.
وإذ تكون العبرة في تحليل الخطاب، بما يقدمه الاشتغال المعرفي على نظامه العميق، وليس بما تقدمه الأيديولوجيا التي تجري على سطحه بنفعيتها وانتقائيتها، فإنه يمكن القول بأن ما يجري من التركيز على الاختلافات الجزئية بين دعاة الخطاب السلفي هو محض حيلة إجرائية تقصد، عبر التغطية على نظامه المعرفي المغلق، إلى نسبة ما ليس فيه، من المرونة والديناميكية، إليه. وبالطبع فإنه لا شيء وراء نسبة المرونة والديناميكية إلى الخطاب، أي خطاب، إلا القصد إلى مكاثرة المؤمنين والأتباع، وبما يتبع ذلك من تحقيق الهيمنة والانتشار. وإذ لا سبيل إلى تحرير الناس من زيف الصور التي تقدمها الأيديولوجيا للخطابات المتصارعة في الفضاء المصري الراهن، إلا عبر إنتاج معرفة منضبطة بها، فإن الخطاب السلفي يقوم — بحسب مصادره التأسيسية — على خطاطة معرفية بسيطة تنطلق من أنه لا تفكير إلا ابتداءً من أصل يجب الرجوع إليه؛ وهذا الأصل هو النص الذي يشتغل — على قول أحد الآباء المؤسسين للخطاب — بمجرد التلاوة ونص التنزيل، وليس بتفسير وتأويل. ويربط الخطاب رفضه للتأويل بأنه قول بالظن والهوى، لم يأمر به النبي. تلكم إذَن هي خطاطة السلف نص بلا تأويل، وواقع لا بد من أن ينحشر داخله. وإذ يبدو، والحال كذلك، أنه لا مجال لتوسيع النص بالتأويل، ليستوعب حركة الواقع التي تتسع باطراد، بقدر ما هو السعي إلى تضييق الواقع ليقبل الاندراج تحت لفظ التنزيل، فإنه لا يبقى إلا أن تكون الأيديولوجيا، ولا شيء سواها، هي مصدر الادعاء بمرونة مثل هذا الخطاب وديناميكيته.
والحق أن التأويل ليس قولًا بالظن، بحسب ما يروج دعاة السلفية، بقدر ما هو السعي إلى إنتاج معنى الآية القرآنية عبر ربطها بمحددات سياقية (منها سياق تنزيلها، والسياق النصي الذي يشملها، وسياق كلٍّ من الواقع والعقل معًا). وللمفارقة فإن القرآن نفسه يؤكد على ضرورة تلك المحددات السياقية لأي عملية فهم. ويأتي المثال الأبرز على ذلك من قصة موسى والخضر التي يبدو موسى فيها عاجزًا عن استيعاب أفعال الخضر (من خرق السفينة وقتل الغلام وهدم الجدار) إلا عبر ردها إلى سياق أشمل تكتسب فيه تلك الأفعال دلالتها ومعناها التي يصبح موسى قادرًا على استيعابها. وهكذا فإن الادعاء السلفي بأن النبي لم يأمر بالتأويل، يتعارض مع جوهر الدرس القرآني الذي يؤكد ضرورة ربط الحدث الجزئي بسياق أشمل يكتسب فيه دلالة مغايرة؛ والذي لا يعني إلا التأويل.
والحق أن الانحياز السلفي للتعامل مع القرآن بمنطق التنزيل على حساب منطق التأويل لا يعني إلا الانحياز للجزئي على حساب الكلي في القرآن. فإذا كان أهم ما يميز القرآن كتنزيل أنه قد تنزل كآيات متفرقة على مدى أكثر من عشرين عامًا، فإن الإلحاح السلفي على التعامل مع القرآن بنص التنزيل لا يعني إلا التعامل معه كآيات متفرقة، تُنتج فيه الواحدة منها دلالتها في انفصال عن غيرها، وليس ضمن سياق أكبر ترتبط فيه مع غيرها من الآيات؛ وذلك على النحو الذي يتحدد فيه معناها بحسب نوع واتجاه الحركة الكلية لهذا السياق. حقًّا قد يستدعي داعية السلفية آيات أخرى لتأكيد ما يريد من الآية التي يشتغل عليها أن تنطق به، وهكذا فإنه يستدعيها لتقف فقط إلى جوار الآية التي يشتغل عليها، وليس لكي تتفاعل أو تتحاور معها على النحو الذي قد يؤدي إلى إعادة توجيه معناها في غير اتجاه ما تنطق به، وهي معزولة عن سياق تفاعلها مع غيرها.
وإذن فإنه الاستدعاء ضمن منطق التجاور الذي هو منطق تثبيت للدلالة، وليس ضمن منطق التفاعل والتحاور الذي هو منطق تفجير الدلالات المكتنزة الكامنة. ولعل مثالًا لبؤس تلك المقاربة السلفية التي تنتج فيه الآية، أو الآيات، دلالتها منفردة، يتجلى في القراءة السلفية لآيات الرقيق والإماء وملك اليمين، والتي راح أحد مشاهير دعاة السلفية يرى فيها سبيلًا لخروج المسلمين من أزماتهم الاقتصادية الخانقة. فإنه ليس مطلوبًا من المسلمين حسب داعية السلفية الكبير إلا تفعيل آيات الغزو والاسترقاق وسبي الذراري والإماء، والذين سوف تكفي حصيلة بيعهم — أو حتى تحريرهم — لا لحل مشكلاتهم فقط، بل ولنقلهم إلى حال العيش المترف الرغيد. ومع صرف النظر عن أن الرجل لا يفعل إلا أن يستعيد، ليس من الإسلام، بل من أعراب ما قبل الإسلام، ذاكرة اقتصاد الغزو الذي يرى فيه الحل لمشكلات المسلمين الراهنة، فإن ما يبدو من الاستحالة الكاملة لتلك الممارسة التي يقترحها الرجل في إطار التطور الراهن للإنسانية، لمما يؤكد على بؤس المقاربة السلفية التي يبدو وكأنها قد نذرت نفسها لإظهار تناقض القرآن مع ما بلغه مسار التطور الإنساني الراهن.
والحق أن منطق السلفية القاضي بالتعامل مع القرآن بنص تنزيله، لا بد أن يئول — شاءوا أم أبوا — إلى ضرورة النضال من أجل رد العالم إلى الحال التي كان عليها وقت التنزيل. فإذا كان القرآن قد تنزل بأحكام حول الرق مثلًا، وأدى التطور الإنساني إلى تعطيل اشتغالها، فإن داعية السلفية، وبسبب إصراره على قراءة آيات الرق معزولةً عن سياق تتفاعل فيه مع غيرها، وعلى نحو يتم فيه توجيه معناها في اتجاه مغاير لما تنطق به في عزلتها وفرادتها، يلح على تفعيلها في جزئيتها، حتى لو اقتضى الأمر ردًّا للعالم إلى الحال التي كان عليها وقت نزول تلك الأحكام. وهنا فإنه إذا كانت آيات الرق في جزئيتها تحيل إلى دلالة استعبادية ترتبط بالسياق الذي كانت تعيش فيه المجتمعات القديمة، وأنماط الإنتاج السائدة فيها، فإن ربطها بغيرها من آيات يبدو فيها تحرير البشر، على العموم، قصدًا قرآنيًّا كليًّا سوف يؤدي إلى إعادة توجيه دلالة تلك الآيات على نحو ينقذ القرآن من وصمة اللاإنسانية. يبدو، إذن، وكأن كلًّا من القرآن والإنسانية في حاجة للخلاص من القبضة السلفية، وهو ما لن يكون ممكنًا إلا عبر التجاوز بمصر من مرحلة ما قبل المعرفي التي تعيش فيها.
(٤) في أخطاء النخبة وخطاياها
عملًا بمنطق إبراء الذمة، فإن شرائح النخبة المتغلبة في مصر لا تكف عن إعلان براءتها من أي مسئولية عن الارتباك والتردي الحاصل في قلب المشهد الراهن، وذلك لتُلقي بالتبعة كاملةً على كاهل غيرها، ومن دون أن تعترف بنصيب لها (ولو محدودًا) في هذا التأزم. والحق أن تفكيرًا ينطلق من الوعي بأن دور النخبة، على العموم، إنما يتجاوز مجرد الانشغال (الآني) بالجوانب الإجرائية من الممارسة السياسية إلى التركيز على القيم التي تؤسس (في الآجل) لممارسة ديمقراطية تتميز بالثبات والرسوخ، ليكشف عن أن مقدار مسئولية هذه الشرائح النخبوية المتغلبة (بقوة الحناجر وأناقة اللباس) عن التأزم الراهن، إنما يتجاوز كل ما يمكن نسبته إلى الأطراف الأخرى من الفاعلين على الساحة، كالمجلس العسكري مثلًا. لا يعني ذلك، بالطبع، أنه ليس لغير النخبة أي نصيب من المسئولية عن الارتباك الحاصل، بقدر ما يعني وجوب أن تُقر بدورها الحاسم في البلوغ بالأزمة إلى ما وصلت إليه، مما ينذر بأوخم العواقب على مسار التحول الديمقراطي في مصر، وأعني من حيث إن هذا الإقرار يمكن أن يكون مقدمة لتحول في رؤاها وسلوكها على النحو الذي قد يسمح بإعادة ترتيب المشهد في اتجاه أكثر رشدًا وإيجابية.
وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان حجم المسئولية (عن مسألة ما) يتحدد بفداحة ما يترتب على التفريط فيها من أخطار، فإن ما يترتب من الأخطار على إهمال تأسيس الفضاء الذهني والنفسي والسلوكي لممارسة ديمقراطية راسخة (والذي هو عمل النخبة الرئيس)، إنما يتجاوز بكثير كلَّ ما يمكن أن يترتب على فساد الإدارة الإجرائية للمجلس العسكري فترة ما بعد خلع مبارك. ففضلًا عن أن فساد الإدارة الإجرائية يُعَد، هو نفسه، فرعًا لأصل هو تشرذم النخبة وهشاشة وعيها، فإنه فيما يئول فساد هذا الإجراء إلى التعويق الجزئي لمسار التحول الديمقراطي، فإن إهمال تأسيس الفضاء الذهني والنفسي والسلوكي المؤسس للديمقراطية سوف يؤدي إلى تعويق هذا المسار كليًّا. ولسوء الحظ، فإن هذا الإهمال للتأسيسي هو ما يغلب على ممارسة النخبة التي لا تزال تتعامل مع الجمهور كأداة لحسم الصراع بين شرائحها المتناحرة، وذلك عبر الاكتفاء بتهييجه وحشده، ومن دون أن تنشغل بالإعداد الذهني والنفسي والسلوكي لهذا الجمهور على النحو الذي يسمح بترسيخ الأسس لممارسة ديمقراطية حقة. وهكذا فإن الجمهور لم يزل حاضرًا في وعي النخبة كمحض أدوات تتلاعب بها عبر منطق التهييج والإثارة، ولم يسمح له بالارتقاء — عبر تنوير وعيه — إلى مقام الذوات التي لا بد من احترام اختياراتها. ولسوء الحظ، فإنه إذا كان يمكن التمييز في تركيب هذه النخبة بين أجنحة تتبرقع بالقداسة، وأخرى تتلون بالحداثة، فإنه ليس من فارق بينهما أبدًا، بخصوص هذا الموقف من الجمهور.
إنهم، مثلًا، يدعون هذا الجمهور لممارسة حقه في الانتخاب، وما إن تأتي النتائج بما لا يريد البعض ويشتهي، فإنه يصرخ رافضًا ومنددًا. بل إن ثمة من مضى إلى استباق النتائج، معلنًا رفضه للعملية الانتخابية برمتها إذا جاءت نتائجها بمن لا يريد، وداعيًا جمهوره (الذي يتعامل معه بمنطق التابع مفتول العضلات، وليس الشريك العارف لفضيلة التفكير) إلى الاستعداد للاحتشاد في الشوارع والميادين إلى حين إلغاء النتائج التي لا يتقبلها سيادته. ولسوء الحظ فإن هؤلاء، وعلى طريقة نخبتهم، كانوا يؤثرون «العاجل» المتمثل في الحصول على بعض الكسب الذي لا يدوم، على «الآجل» الذي يتمثل في تربية الجمهور على ضرورة احترام الإرادة التي يعبر عنها مبدأ الانتخاب. وحتى على فرض أنهم يرون هذه الإرادة غير حرة، بل وليدة إكراه من نوع ما، فإن عليهم أن يناضلوا من أجل تحريرها، لا أن يعترضوا عليها، لأن ذلك وحده هو ما يسمح بالتأسيس لممارسة ديمقراطية حقة، حيث الشعوب التي لا تملك تقاليد ديمقراطية راسخة تكون في حاجة إلى ضروب من التربية التي تتعلم فيها من نخبها كيف تُمارَس ديمقراطيًّا. وبالطبع فإنها، وككل تربية، مما لا يمكن أن تكتفي فيها النخبة بالثرثرة بحلو الكلام، بل إن عليها أن تضرب فيها المثل لشعوبها بالسلوك والأفعال.
وضمن هذا السياق، فإنه يلزم القول إن الاعتراض على أحكام القضاء لا يمكن أن يكون مما يُضرب به المثل لشعب يراد تربيته ديمقراطيًّا. لكن النخبة السعيدة لا تكف عن اقتراف الخطايا، وبدلًا من أن تدرك أن منظومة ديمقراطية راسخة إنما تحتاج إلى تربية الجمهور على احترام القضاء وعدم الاعتراض على أحكامه من غير الطريق الذي رسمه القانون، وعلى ترسيخ مبدأ استقلاله، والدفاع عن هذا الاستقلال ضد كل ما يتهدده، فإنها لا تتورع، حين يتراءى لها أن في الاعتراض على هذه الأحكام ما يمكن استثماره سياسيًّا، عن تهييج الجمهور وتعبئته وحشده، ودعوته إلى محاصرة المحاكم، والهتاف ضد القضاة، والمناداة بإلغاء الأحكام وإبطالها. وحين يدرك المرء استحالة إبطال الأحكام على النحو الذي يريده الجمهور الهائج (وهو ما تعرفه النخبة طبعًا)، فإنه لا يكون من قصد لذلك كله إلا التأثير على ما يتوقع صدوره من أحكام قد لا ترضى عنها بعض الأطراف. وهنا أيضًا، فإنها تظل على وفائها لطريقتها في إيثار «العاجل» على «الآجل»؛ وهي الطريقة التي تمثل — وليس أي شيء آخر — تهديدًا جديًّا لمسار التحول الديمقراطي في مصر.
وضمن سياق الأخطاء، أو حتى الخطايا، يأتي تجاهل النخبة أو جهلها بحقيقة أن الشعوب تحتاج في مراحل التحول الديمقراطي إلى وجوب إشاعة ممارسة سياسية توافقية، لا تنافسية؛ ليس فقط لما قد يؤدي إليه التنافس، مع غياب تقاليد ديمقراطية راسخة، إلى مفاقمة مخاطر الانقسام والتشظي، بل من أجل ما يؤدي إليه التوافق من تربية الجمهور على فضائل عدم السماح لفصيل سياسي بالانفراد بالمجال السياسي وحده، وقبول الآخر وعدم إقصائه، والعمل بمنطق الشراكة معه؛ وهي الفضائل التي يئول عدم توافرها إلى جعل الحديث عن الديمقراطية من قبيل اللغو الفارغ. والمؤسف أن رفض النخبة للممارسة التوافقية يكشف عن هشاشة في الوعي نادرة النظير. فلقد راحت تحتج بأن تلك الممارسة هي مما لا تعرفه الدول الراسخة في الديمقراطية، فبدا وكأنها تقيس حال المولود الناشئ على حال البالغ الراشد؛ وبما يعنيه ذلك من استمرارها في إنتاج ضروب من التفكير البائس الذي يحمل وصمتَي الشكلانية واللاتاريخية، بكل ما ينطويان عليه من إهمال السياقات وتجاهل الشروط والظروف. وهكذا فإن التنافس الذي انحازت إليه لم يكن من النوع الذي يخاطب العقل على النحو الذي يرتقي بوعي الجمهور، بل كان من النوع الذي يخاطب الغرائز الأولية والتحيزات الدينية على النحو الذي فاقم الأزمة.
ولأن فكرة التوافق تقصد إلى التوزيع المحسوب للسلطة على نحو يحول دون تركيزها في يد فصيل بعينه (وهو التركيز النافي للديمقراطية)، فإن رفضها قد يؤدي بمصر إلى ما يكاد أن يكون إعادة إنتاج لنظام استبداد مبارك. وللمفارقة فإن إعادة إنتاج هذا النظام لا ترتبط بفوز المرشح الذي عمل مع مبارك كآخر رئيس لوزرائه، بقدر ما ترتبط أكثر بفوز مرشح الجماعة التي يقال بمعارضتها لمبارك.
يفسر ذلك أن ما ثار عليه المصريون لم يكن مبارك الشخص، بقدر ما كانت ثورتهم على طريقة في الحكم تنبني على الهيمنة الكاملة لجماعات المصالح المتحلقة حول أسرة مبارك على كامل المجال السياسي، ومن دون السماح لأي فصائل مناوئة بالحضور على الساحة إلا بقدر ما يسمح به هذا الحضور للنظام من الترويج لخرافة ديمقراطيته وانفتاحه. ولعل ذلك هو ما سيئول إليه فوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين التي يمكن القول إن الكارهين لها (ولمصر أيضًا) هم الذين سينتخبون مرشحها، وأما محبو الجماعة (ومصر)، فإنهم سينتخبون المرشح المنافس؛ وأعني من حيث سيحول ذلك دون تركيز السلطة في يد الجماعة (وبما يعنيه هذا التركيز من توافر الشروط الموضوعية المنتجة للاستبداد على نحو آلي، وبصرف النظر عن النوايا الحسنة والوعود الطيبة)، وذلك فضلًا عما سيؤدي إليه من توزيع السلطة بين مختلف القوى بما يفتح الباب للانتقال السلس بمصر نحو الديمقراطية.
(٥) النخبة والتفكير العقيم
ستظل الأزمة المصرية تتفجر عنفًا دمويًّا، على نحو متواتر، ما لم نسعَ إلى الإمساك بجذورها العميقة، والوعي بالأسباب الكامنة المؤدية إليها. وأما ما يكتفي به البعض من ردها إلى ما يدبره الآخرون (في الخارج والداخل) من المؤامرات والمكائد، بقصد تعويق المسيرة وإسقاط المشروع، فإنه يبقى محض عادة مصرية (أو حتى عربية) في الفرار من الأزمات، بدلًا من مواجهتها.
وإذ لن يتمخض الفرار من مواجهة الأزمات إلا عن المزيد من الضحايا والتعقيدات إلى حين انفجارها من جديد، فإنه يلزم التأكيد على أن «التفكير» هو السبيل — لا سواه — إلى الخروج الآمن من الأزمات التي تجابه الشعوب والجماعات. على أنه يلزم التمييز، هنا، بين التفكير في الأزمة، بما هي واقع ثقيل يفرض نفسه، ويلزم الانفلات منه سريعًا، وعلى أي نحو، وهو العمل الذي يمارسه الكثيرون بالطبع، وبين التفكير المتعمق في نوع التفكير المسئول عن إنتاج هذه الأزمة؛ إذ فيما يكتفي «الأول» بالوقوف عند السطح معالجًا للقشور البرانية الملموسة، ومنحصرًا في إطار الحلول الإجرائية، فإن «الثاني» ينفذ إلى الأعماق، متعاملًا مع الجذور الباطنية المتخفية، ومبلورًا للمخارج التأسيسية.
والحق أن نظرة تاريخية على الأزمة المصرية الممتدة على مدى عقود، لتكشف عن رسوخ التركيز — في التعامل معها — على مجرد جوانبها الإجرائية الشكلية، مع الإهمال الظاهر لأصولها التأسيسية. وعلى الرغم من أن هذا التركيز على الجوانب الإجرائية لم يقدم إلا حلولًا فقيرة، عجزت عن إخراج مصر من أزمتها، فإن كون الأطروحة السياسية هي التي هيمنت على معالجة الأزمة المصرية، لم تقلل أبدًا من سطوة التركيز على كل ما هو إجرائي. ولعل الوقت قد حان — بعد الثورة على مبارك بالذات — لتجاوز هذا الركام البائس بكل ما يصاحبه من عجز وعقم؛ إذ المؤكد أن تحقيق ما تطمح إليه الثورة من الدخول بمصر إلى مرحلة جديدة من تاريخها، إنما يستلزم التحول عن المقاربة الاختزالية الإجرائية لأزمتها إلى التعامل معها بمنظور شمولي تأسيسي، وبما يعنيه ذلك من ضرورة أن تكون معالجة الجوانب الإجرائية للأزمة الراهنة مسبوقة — أو مصحوبة — بالنظر في أصولها العميقة الكامنة، والتي لا تكاد — لسوء الحظ — أن تكون موضوع انشغال النخبة المتغلبة. وينطلق هذا التأكيد من حقيقة أن كل إجراء وعمل لا بد أن يكون مسبوقًا بتأسيس ونظر، وإلا فهو البناء على غير أساس.
وبالرغم من أن للأزمة تاريخًا ممتدًّا منذ الاصطدام المصري مع الحداثة، قبل قرنين، فإنه يمكن — ولأسباب عملية خالصة — تركيز النظر على سياق الاحتدام الراهن للأزمة، اللاحق على رحيل مبارك من المشهد، حيث أظهرت الطريقة التي جرت بها إدارة مرحلة ما بعد هذا الرحيل، عن الغياب شبه الكامل لأي نظر وتأسيس، والجري على العادة المصرية في الانشغال بما هو إجرائي، بكل ما تمخض عنه من التخبط والعشوائية.
وإذ يستسهل الكثيرون ربط ذلك كله بالجهة التي أوكل إليها مبارك إدارة أمور البلاد بعد رحيله (وهي المجلس العسكري)، فإنه يلزم التأكيد على أن الأمر لا يرتبط أبدًا بهذه الجهة أو تلك، بقدر ما يرتبط بما يغلب على النخبة المصرية، بجميع شرائحها، من طريقة في التفكير تقوم على تغليب «الإجرائي» على «التأسيسي». ولعل ما يؤكد على أن أمر الأزمة يتعلق بما هو أبعد من تعليقها في رقبة جهة بعينها، هو ما يبدو من أن خروج هذه الجهة من المشهد لم يقلل من حدة الأزمة المستحكمة، على مدى الأعوام الفائتة. ومن هنا ضرورة توجيه النقد إلى طريقة التفكير الغاطسة التي تؤسس لطريقة لا تزال مهيمنة في إدارة الشأن المصري، وليس لمجرد الجهة التي تقوم على هذه الإدارة.
ولعل مقاربة من النوع الشمولي التأسيسي للأزمة الراهنة، في مصر، كانت تقتضي، أولًا، تعيينًا وتشخيصًا دقيقًا لطبيعة الحالة المصرية بعد رحيل مبارك، ليتسنى تعيين الطريقة المثمرة في إدارة المرحلة اللاحقة، على النحو الذي يجنب البلاد مخاطر الانقسام والتشظي، ويهيئها لتحول ديمقراطي ناجح. ولعل تشخيصًا كهذا ينطلق من أن مصر كانت تعيش، على مدى عقود، استبدادًا وركودًا سياسيًّا، وضروبًا من الانقسام والتمايز لا تقف عند حدود التفاوت المادي، بل تتعداه إلى تباينات القيم والسلوك، حيث بدا وكأن قطاعًا واسعًا من المصريين قد راح يفقد ثقته في كل ما له علاقة بالعصر، وارتد — ساخطًا أو يائسًا — لا يرى خلاصًا له خارج إطار الروابط التقليدية (التي كان الدين مركزها الأهم). وضمن هذا السياق، فإن الدين لم يعمل كمجرد خشبة للخلاص فحسب، بل وتحول إلى أداة لامتصاص كل ضروب الكبت التي عانت منها الجماهير في مواجهة دولة الفساد والقمع. وقد ترافق ذلك مع وعي لم تتجذر فيه تقاليد الدولة الحديثة، من حيث هي فضاء تتوزع داخله السلطة بين مؤسسات، تشتغل الواحدة في استقلال عن الأخرى، ولكن في تناغم معها، ومن دون أن تتطابق مع أشخاص القائمين عليها. وفي كلمة واحدة، فإن مصر قد خرجت من قبضة مبارك، وأغلبية شعبها على علاقة قلقة مع «الدولة» من جهة، وعلى ثقة لا حد لها في «الدين» من جهة أخرى.
وبالطبع، فإن مجتمعًا قد خرج يعاني على هذا النحو، كان لا بد أن تدرك نخبته أن «التنافسية» هي آخر ما يصلح له، كآلية لإدارة شأنه السياسي، وذلك من حيث إنها ستؤدي إلى انقسامه وتشظيه على نحو كامل، وهو ما تعانيه مصر في الوقت الراهن، لسوء الحظ، لكن ميل النخبة المتأصل إلى كل ما هو إجرائي قد جعلها تتوهم أنه لا ديمقراطية من دون تنافسية، ومن دون أن تدرك أن الجوهر العميق للديمقراطية، ليس في التنافسية التي تبقى محض إجراء تشتغل به الديمقراطية في حال توافرت البيئة التي تجعل اشتغاله ممكنًا. وللغرابة، فإن بناء هذه البيئة كان يقتضي، في الحالة المصرية، إدارة الشأن السياسي على نحو «توافقي».
فالتوافق هو ما كان سيسمح بتثبيت فضائل المشاركة والمحاورة والعمل مع صاحب الرأي المغاير، وهي الشروط اللازم توافرها لأي ممارسة ديمقراطية حقيقية، وذلك بدلًا مما آلت إليه التنافسية من إذكاء رذائل الإقصاء والمنابذة والمفاصلة التي تكاد تودي بمصر إلى الهاوية. فمتى تتخلص النخبة من تفكيرها الإجرائي العقيم؟!
(٦) اللاتاريخية مرض الإسلاميين والحداثويين
إذا شاء المرء أن يضع عنوانًا لواقع العرب الراهن، فلعله لن يجد مفهومًا يستوعب هذا الواقع إلا الأزمة؛ الذي يكاد يكون عامل التفسير الأوحد لكل ما يجري في هذا الواقع. وتكاد تتمثل تلك الأزمة في اللاتاريخية التي تتجلى في سعي الخطاب إلى محاولة تخطي تلك الأزمة عبر استعارة الأفكار والحلول المقترحة لها، ونقلها من الآخر (سلفًا وغربًا). وذلك بالطبع ما يكاد أن يكون مسئولًا عن الارتباكات التي تشهدها بلدان الربيع العربي عقب ثوراتها المأزومة للآن. فالجوهر العميق لهذه الارتباكات يتمثل في العجز عن الوعي بالشروط المحددة لبناء الواقع، وبما ينتهي بالفاعلين، أو بالصاخبين على سطحه بالأحرى، إلى أن يفرضوا عليه ما لا ينتمي إلى تاريخه الحق.
وهكذا فإن الكافة من النجوم الزاهرة في سماء مصر الراهنة، لا يعرفون إلا أن يمارسوا التفكير بطريقة واحدة؛ لا تختلف عند الأصولي (الإسلاموي) عنها عند الأصولي (الحداثوي)، وتكاد اللاتاريخية أن تكون هي السمة الجوهرية لهذه الطريقة في التفكير؛ وهي تعني ضربًا من التفكير الذي يتعالى على كل تحديدات السياق (الزماني والمكاني) وشروطه. وهذا التعالي عن السياق يكون لحساب أصل مثالي جاهز يوجد مطلقًا، ولا سبيل إلا إلى فرضه (طوعًا أو كرهًا) على الواقع. ومن هنا أن اللاتاريخية هي، في الحقيقة، الجذر الذي يغذي الأصولية بما هي تفكير بأصل ثابت وجاهز، بصرف النظر عن المصدر الذي يأتي منه هذا الأصل (التراث أو الحداثة).
فإن ما يحدد الأصولية ليس المصدر الذي يعطيها مضمونها، بل الطريقة أو آلية التفكير المنتجة لها. وهكذا فإنه لا مجال لما يفعله البعض من إلصاق الأصولية بالإسلاميين وحدهم، إذ هي تطال غيرهم من أهل الحداثة ممن يتعاملون مع أفكار حداثتهم على أنها مطلقات لا سبيل إلا إلى تنزيلها — كالأقدار التي لا دفع لها — على الواقع المصري والعربي الراهن.
وبالطبع فإنه لا سبيل إلى التعامل مع هذه الأصول الجاهزة المطلقة المراد فرضها على الواقع إلا من خلال نقلها واستعارتها كما هي، وليس بالتفكير فيها ومراجعتها بحسب ما يفرضه سياق الواقع. وإذ لا يعني ذلك إلا مجرد السعي إلى تكرار الأصل الجاهز (المنقول من أهل السلف أو من أهل الحداثة)، فإن ذلك ما يؤدي إلى الإهدار الكامل للتاريخ؛ لأن تكرار الأصل يحيل إلى تاريخ قائم على التكرار الدوري لنماذج وأصول عليا، وهو ما لا يمكن أن يكون تاريخًا أبدًا؛ لأن التاريخ هو — في جوهره — انفتاح وتجاوز.
وإذ لا مجال في هذا التاريخ إلا لتكرار الأصل، فإنه لا يكون تاريخ إبداع وإضافة؛ لأن معيار القيمة في هذا التاريخ هي التكرار، وليس الإضافة أو الإبداع، بل إن الإبداع أو الإضافة يهبطان بهذا التاريخ على سلم القيمة؛ لأن الإضافة — تبعًا لهذا التاريخ — تكون انحرافًا عن الأصل الذي لا بد أن يبقى نقيًّا ومثاليًّا. وفضلًا عن ذلك، فإن تقييد التاريخ بأصل معطًى سابق، يُفقده طابعه المنفتح الخلاق، ويجعل من وقائعه مجرد أصداء لا أحداث؛ الأمر الذي يجعله يفقد ليس فقط طبيعته، بل وحتى إنسانيته، حيث البشر لا يكونون — ضمن هذا التاريخ — إلا أشباحًا مفعولًا بها، وليسوا ذواتًا فاعلين فيه، أو صانعين له.
وإذا كان الإسلام هو المثل الأعلى عند الإسلاموي، فإنه يتعامل مع الإسلام على أنه أصل مكتمل ثابت تحقق في لحظة ما، ولا سبيل إلا إلى تكراره كما تحقق في لحظته النموذجية الأولى التي يتصورها، وليس الإسلام كبنية مفتوحة تقبل التطور والاغتناء على مدى التاريخ. ويكون هذا التكرار عبر إعادة إنتاج الأحداث والوقائع بذات التسمية والطريقة التي حدثت بها في الزمان النموذجي. ولقد كان لازمًا ألا يقف الأمر عند مجرد تكرار الأصل النموذج فقط، بل وراح يتجاوز — فيما يخص الإسلام — إلى تكرار الجاهلية التي كانت تسبقه كذلك. فنحن اليوم — حسب الداعية الإسلاموي سيد قطب — نعيش في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وموارد ثقافتهم، وفنونهم وآدابهم، وشرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية هو كذلك من صنع الجاهلية. وبالطبع فإنه لا مخرج من هذه الجاهلية إلا أن نرجع ابتداءً إلى النبع الخالص الذي استمد منه الرجال (المثاليون الأوائل)، النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشُبه شائبة، نرجع إليه ونستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله، وتصوراتنا للحياة، وقيمنا وأخلاقنا، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة.
ولا ينسى الداعية الإسلاموي أن يؤكد وجوب أن نرجع إليه بشعور التلقي للتنفيذ والعمل، وليس بشعور الدراسة والفهم. فإن هذا الأصل مثال كامل لا يحتاج إلى ما يمكن أن يضيفه إليه الفهم، بل لا بد من فرضه — في نقائه الخالص — على بناء الواقع والوعي. وبالطبع فإنه لا مجال لعلاقة بين الواقع الجاهلي وبين هذا الأصل النقي إلا علاقة الصدام؛ ولهذا فإن الإسلاموي يقرر أن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا الواقع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعدل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلًا أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق. وإذن فإنه الصدام الذي يؤكد الإسلاموي، وأننا لسنا مخيرين فيه إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل المثالي الأول الذي أقر به الله منهجه الإلهي، ونصره الله على منهج الجاهلية. وهكذا فإن الجذر الأعمق لعنف الإسلاموي إنما يقوم في التنكر للتاريخ والتفكير بالأصل.
ولا يختلف الأصولي الحداثوي عن نظيره الإسلاموي في التفكير بذات الطريقة؛ وفقط فإن جوهر الاختلاف بينهما يأتي من اختلاف المصدر الذي يستعير منه كل واحد منهما الأصل الذي يفكر به، فإذا كان الرفيق الحداثوي يستعير أصوله من الحداثة، فإنه يستعيرها مطلقة وكاملة كما كان يفعل نظيره الإسلاموي. وهكذا فإن إطلالة سريعة على الممارسة الراهنة للتيارات الحداثوية في مصر لمما يؤكد أنها تفكر بمثال مطلق تحقق — أو لا يزال يتحقق — في أوروبا، ولا سبيل إلا إلى فرضه كما هو على الواقع في مصر، من دون مراعاة اختلاف السياق.
وتبعًا لذلك، فإنه يريد إنتاج ممارسة سياسية على نحو ما يقول الكتالوج الأوروبي من دون أن يكون قادرًا على الوعي بأن لهذه الممارسة شروطًا وحوامل ثقافية ومادية لا بد من مراكمتها في الواقع المصري، قبل الحديث عن إمكانها في مصر. وإذ يقفز الوعي فوق هذه الشروط، فإن الطريق يصبح ممهدًا أمام العنف الذي هو نهاية كل لا تاريخية، بصرف النظر عن مضمونها الإسلاموي أو الحداثوي.
(٧) عن السلطوية والعقل القاصر
يحتاج المصريون — والعرب على العموم — إلى الوعي بأن السعي إلى تفكيك السلطوية الغليظة والملموسة (سياسيًّا واجتماعيًّا) التي تفيض بها عوالم العرب، عبر مجرد التعويل على نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية القائمة، والدعوة إلى إحلال منظومة سياسية بديلة محلها، قد بلغ نهايته، وأنه يلزم تطوير طريقة أخرى ترتكز على وجوب تفكيك المبدأ المعرفي الجواني الذي يؤسس للحضور الطاغي لتلك السلطوية في الأبنية العميقة للوعي، أو حتى في تلك الأبنية التي تضرب بجذورها الغائرة فيما دون الوعي، وهي الأهم. وأعني في كلمة واحدة، أنه لا بد من تجاوز مجرد النقد الراهن — على أهميته — للسلطوية التي تمارس حضورها الفظ على المستويين الاجتماعي والسياسي، إلى تفكيك ما يؤسس لحضورها من التصور المستقر في الخطاب للعقل، على النحو الذي يجعله في حال من القصور والاحتياج.
وإذا كان الوضع الذي ساد في عالم الإسلام لترتيب العلاقة بين العقل والنقل، وأعني بالكيفية التي ظل معها العقل تابعًا لسلطة النقل على نحو شبه كامل، هو ما يؤسس لهذا التصور الغالب عن قصور العقل واحتياجه، فإن أصل هذا الوضع لا يرتد — على عكس ما يتبادر سريعًا للذهن — إلى الإسلام نفسه، بل إنه يجد ما يؤسسه كاملًا في قلب الثقافة السابقة عليه، والتي يبدو — وللمفارقة — أن الإسلام قد قصد إلى زحزحة وإزاحة نظامها الكلي، على الرغم من إدماجه لبعض عناصرها الجزئية في صميم بنائه. فإنه إذا كان التحليل يكشف عن أن من قاموا على صياغة التيار الغالب في ثقافة الإسلام (الذين يتناسلون في سلالة ممتدة من علماء الأصول الكبار من مثل الشافعي وابن حنبل والأشعري والباقلاني والجويني والغزالي وابن تيمية وغيرهم) قد كرسوا تبعية — تتفاوت حدودها — من العقل للنقل، فإنه يبدو — وللغرابة — أن الترتيب الذي كرسه هؤلاء المؤسسون الكبار للعلاقة بين العقل والنقل، يمثل انحرافًا عن ترتيب العلاقة بينهما الذي ينبني عليه فعل الوحي ذاته، وهو الفعل المؤسس للإسلام كدين.
فالحق أن تحليلًا للمنطق الذي ينتظم فعل الوحي في التاريخ يكشف عن أن الإنسان (عقلًا وواقعًا) يدخل في تركيب ظاهرة الوحي، وعلى النحو الذي يكاد معه الوضع الإنساني أن يصبح الشرط الحاكم لمنطق تلك الظاهرة الكامن، وإلى حد استحالة فهمها بمعزل عن هذا الوضع الإنساني الحاكم. فإن تباين أشكال الوحي وتعدد صوره لا يمكن أن يجد تفسيره في الإلهي الذي هو أصله ومصدره، بل في الإنساني الذي هو قصده وجوهره.
ويرتبط ذلك بأن رد هذا التباين إلى المصدر الإلهي يؤدي إلى وجوب افتراضه محلًّا للتغير والتبدل؛ ولهذا فإنه لا يبقى إلا الارتداد به إلى السياق الإنساني، وعلى نحو يبدو معه أن مفارقة وتعالي المصدر الإلهي لفعل الوحي لم تحل دون تحدد هذا الفعل بالسياق الذي ينبثق داخله. فالوحي يتغير ويتبدل، إذن، لا لأن الله يتغير أو تبدو له البداوات بحسب ما اشتبه على البعض ممن قالوا بالبداء، بل هو يتغير لأن واقع وعقل الإنسان (الذي هو مقصود الوحي) يكونان موضوعًا للتغير والتبدل.
وإذ يحيل ذلك إلى أن التحول في ظاهرة الوحي من لحظة إلى أخرى يكون، هو نفسه، تابعًا للتحول في بناء كلٍّ من العقل والواقع، فإن ما سيجري لاحقًا من تصور العقل تابعًا للنقل يقوض هذا المنطق الذي تقوم عليه ظاهرة الوحي، وهو المنطق الذي يئول تقويضه إلى افتراض ذات الله موضوعًا للتغير والتبدل. يتبدى الوحي، إذن، لا بوصفه من قبيل المعرفة المعطاة المفروضة على الوعي كسلطة لا سبيل أمامه إلا لمحض الإذعان والخضوع لها، بقدر ما يمثل نوعًا من الاستجابة الخلاقة المطلوبة لوضع إنساني مأزوم لا يقدر الوعي، الذي هو بنية تطورية في جوهرها، على التعاطي معه في مرحلة دنيا من مراحل تطوره. وهكذا فإن الوحي يتبلور كسند ومعين للوعي، ونقطة ارتكاز يستند إليها في سعيه إلى تجاوز أزمة واقعه، ولا يتبلور أبدًا كضد ونقيض يفرض نفسه كسلطة متعالية لا يملك الوعي إلا محض التبعية لها.
ولسوء الحظ، فإن هذا الترتيب المستقر للعلاقة بين العقل والنقل في الإسلام، والذي بدا أنه يجد ما يؤسسه في الثقافة السابقة عليه، قد لعب دورًا بالغ المركزية في تحديد نظام العلاقة الذي استقر، بدوره، في الخطاب العربي الحديث بين الحداثة التي راح يجري اختزالها في بضع تواليف أيديولوجية جاهزة معطاة، وبما يعنيه ذلك من اكتسابها كل سمات التنزيل (المنقول المفروض من أعلى) وبين كلٍّ من العقل والواقع، وعلى النحو الذي لم يكن فيه لهذين الأخيرين إلا أن يخضعا تمامًا كتابعين لسلطة المعطى الأيديولوجي الجاهز (وبما يدنيهما من مكانة العقل التابع في الخطاب التراثي للنقل المتبوع).
وبالطبع فإن أي سعي إلى وضع مغاير لتلك العلاقة على نحو يؤدي إلى مقاربة منتجة للحداثة، يستلزم تفكيك الترتيب المستقر للعلاقة المؤسسة لها أولًا، وأعني به ترتيب العلاقة بين العقل والنقل الذي استقر في الإسلام، والذي يجد ما يؤسسه بدوره في الأغوار البعيدة للثقافة الأسبق. وهكذا فإن ما يكاد يكشفه النظر، ليس فقط في شتى مناحي الممارسة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العربية الراهنة، بل وكذا في نظام الخطاب النظري — المعرفي الذي يقف وراءها، من الحضور الصريح لما ينتمي إلى ثقافة البداوة السابقة على الإسلام — حيث تبقى الأبوية والذكورية والعشائرية والطائفية هي أهم محددات الحياة الاجتماعية والسياسية، بينما تظل الطبيعة الريعية الخراجية هي السمة المحددة لبنية الاقتصاديات العربية، فيما تظل الامتثالية والاتباعية هي أحد أهم محددات النظام المعرفي العربي؛ ليقطع بحقيقة أن كل ما شهده العالم العربي من مظاهر للتحديث هنا وهناك، لا تجاوز كونها محض أقنعة لا تقدر على إخفاء ما يقوم وراءها من بداوة عاتية تأبى — رغم كل ما يثرثر به البعض — إلا أن تعلن حضورها الزاعق للكافة. وهنا تحديدًا يكمن التحدي الذي يجابه موجة الثورة الراهنة التي تستهدف الدخول بالعرب إلى عصر الحداثة الحقة.
(٨) ما بعد الأيديولوجيا كنزوع إلى الهيمنة على التاريخ
كادت العقود الأخيرة من القرن الفائت أن تكون فضاءً لإعلان «النهاية» وابتداء عصر اﻟ «ما بعد»، وعلى النحو الذي بلغ ذروته مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار جدار برلين، واختفاء الاتحاد السوفيتي وسقوط الكتلة الدائرة في فلكه، عند مطلع تسعينيات القرن. وككل المفاهيم، جرى استخدام مفهوم ما بعد الأيديولوجيا لإنجاز وظائف راحت تمضي، على العموم، في مسارين متباينين، أو حتى متناقضين؛ أحدهما «تحرري» والآخر «تسلطي». والحق أن هذا التباين بين مسارين متناقضين في توظيف مفهوم «نهاية الأيديولوجيا» هو بمثابة مظهر لتوتر أعمق يتجذر في قلب العقلانية الأوروبية الحديثة التي تبلور مفهوم «الأيديولوجيا» أصلًا داخلها، ولطالما عبَّر هذا التوتر عن نفسه تحت ذات الأقنعة التي تتبدى اليوم تقريبًا.
فقد انبثقت العقلانية، في سياق مشروع الحداثة الأوروبية، وهي مسكونة بالتوتر بين قوة «النقد» (التي تؤسس لوجهها التحرري) وبين قوة «الهيمنة» (التي تؤسس لوجهها التسلطي في المقابل)؛ وهو التوتر الذي يضرب بجذوره في حقيقة أن العقلانية، بما هي مشروع ينبني في قلب عملية تاريخية، كانت تنطوي على جوانب متعارضة، أو حتى متناقضة؛ لأنها مشروع تاريخي يحقق اكتماله عبر تجاوزه الدائم لذاته؛ أي لتناقضاته.
وعلى هذا النحو تعني تاريخية العقلانية أن ما تضعه من معارف وفلسفات وأنظمة ومؤسسات، ليس مطلقًا ونهائيًّا أبدًا، بل هو تكوين تاريخي مشروط بجملة سياقات يفقد معقوليته خارجها بما يعنيه ذلك من أنها سرعان ما تكتشف، في مسار تطورها، حدود ما كانت قد وضعته في لحظة ما من جوانب تفقد مع التطور معقوليتها، وتتجاوزها إلى وضع جديد يكون هو الأكثر معقولية، لا مطلقًا، بل بالنسبة للوضع السابق عليه فقط. ويعني ذلك أن ما يتم النظر إليه في لحظة ما على أنه من قبيل اللاعقلي، هو جزء من تركيب العقلانية وتاريخها، ولا يمكن اعتباره نقصًا يقوم خارجها، على نحو يؤكد ما كان أشار إليه هيجل من أن الخطأ هو جزء من تركيب الحقيقة؛ على أن يكون مفهومًا أنه موضوع للتجاوز والتخطي الدائمين.
ولعل أهم ما يئول إليه هذا الانبناء، الذي يكون فيه التاريخ جزءًا من صميم بناء العقلانية وماهيتها، أن تثبيت ما يضعه العقل في لحظة ما على أنه وضع مطلق ونهائي، ينبغي أن يخضع له البشر، هو في جوهره ممارسة لا عقلانية؛ لأنها تستمسك بما لا بد أن يتجاوزه العقل، وتطمح إلى تثبيته كوضع نهائي ليس له أبدًا ما بعد. وإذ يبدو وكأن هذه الممارسة تنحاز لمبدأ الهيمنة على حساب مبدأ «النقد» التي تكاد تتحدد به العقلانية الحديثة؛ فإنها تضع نفسها في قلب الأيديولوجيا بما هي وعي زائف وغير مطابق لمنطق كلٍّ من العقل والواقع.
وهكذا فإن مفهوم الأيديولوجيا سينبثق للإشارة إلى ما تضعه العقلانية في مسار تطورها، كلحظة لها ما بعد، ولكنه يلح على تثبيت نفسه كوضع نهائي ليس له ما بعد. ولعل المثال الأبرز على ذلك يتأتى من أن ما عُرف بالعقلانية الوضعية، التي انطوت على التسليم بما هو قائم باعتباره واقعة نهائية لا سبيل إلى مناطحتها وإزاحتها، لم تكن في حقيقتها أكثر من قناع أيديولوجي تحارب به التيارات المحافظة في الفكر الأوروبي معركتها؛ أي معركة الرأسمالية المتوحشة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وذلك في مواجهة قوى النفي والنقد والثورة التي حافظت على وفائها لجوهر العقلانية التحرري.
فلقد أدركت الرأسمالية أن الأساس الفلسفي الذي أنجزت بفضله انتصارها على الإقطاع، والقائم على تصور العقل كقوة تحرير ورفض، والواقع كصيرورة، والتاريخ كتجاوز، لا بد أن يئول إلى تقويض مسعاها إلى تثبيت نفسها كوضع نهائي لا يقبل التخطي والتجاوز، فراحت تتوسل بالوضعية لتهبها أساسًا فلسفيًّا تفلت به من المصير الذي تراه متربصًا بها. ومن هنا فإن الوضعية يسَّرت، على قول هربرت ماركيوز، استسلام الفكر لكل ما هو موجود، وما لديه القدرة على الاستمرار في التجربة؛ حتى لقد ذكر مؤسس الوضعية صراحةً أن لفظ «الوضعي» يتضمن تعليم الناس أن يتخذوا موقفًا إيجابيًّا (لا نقديًّا) من الوضع السائد. فالفلسفة الوضعية تستهدف تأكيد النظام القائم ضد أولئك الذين أكدوا الحاجة إلى نفيه، وذلك عبر «تعليم الناس أن نظامهم الاجتماعي يندرج تحت قوانين أزلية لا يجوز لأحد أن يخالفها، وإلا كان مستحقًّا للعقاب».
وتبعًا لذلك فإن ماركيوز لم يتورع عن القطع بأنها مجرد «دفاع أيديولوجي عن مجتمع الطبقة الوسطى (المهيمن)، كما أنها تحمل بذور تبرير فلسفي للنزعة التسلطية»، وإلى حد أنه يندر — على قوله — «أن نجد في الماضي فلسفة (كالوضعية) تطالب بمثل هذا الإلحاح، وبمثل هذه الصراحة، بأن تُستخدم في حفظ السلطة القائمة وحماية المصالح الموجودة من كل هجوم ثوري»، حتى إن المذهب الوضعي تحول إلى ما يشبه اللاهوت الجامد، فصار وكأنه المذهب الكاثوليكي بدون المسيحية (وهنا يشار إلى أنه قد جرى بالفعل التبشير بها كديانة جديدة). وإذ تفقد الوضعية، هكذا، جوهر ما يميز أي عقلانية حقة، فإنها قد أصبحت مجرد أيديولوجيا، لا تملك من العقلانية إلا مجرد زخارفها الصورية.
والغريب حقًّا أن يستعاد المشهد نفسه، وبذات تفاصيله الدقيقة، مع نهاية القرن العشرين، حين راح يجري الترويج لليبرالية الغرب التي انتصرت على شيوعية الشرق، بأنها النظام الذي ينبغي أن يخضع له البشر جميعًا، كوضع نهائي ليس له ما بعد، وكتجسيد لقانون أزلي يحكم عالم البشر بمثل ما يحكم عالم الكائنات الحية جميعًا. فهذا النظام بما يقوم عليه من قانون السوق والمنافسة، هو تفعيل في عالم البشر لقوانين التنازع على البقاء والبقاء للأصلح التي تحكم — حسب داروين — عالم الكائنات الحية. فالسوق هو ساحة التنازع على البقاء بين كل الفاعلين الذين لن يُكتب البقاء إلا للأصلح منهم. وإذن فإنها قوانين الداروينية وقد انتقلت من العالم «الطبيعي» إلى العالم «الاجتماعي».
وغني عن البيان أن هذا التصور للاجتماعي محكومًا بالقانون «الطبيعي» لا يعني إلا أنه محكوم بقوانين أزلية لا سبيل إلى زحزحتها أو مناطحتها؛ وبما يعنيه ذلك من أن تلك الليبرالية تقدم نفسها، لا بما هي بعد «أيديولوجيا» بعينها، بل بما هي ما بعد «الأيديولوجيا» في المطلق. وإذا كان ما يقدم نفسه على أنه ما بعد «أيديولوجيا» بعينها، لا ينزع عن نفسه صفة أن يكون هو نفسه أيديولوجيا من نوع آخر، فإن ما يقدم نفسه على أنه ما بعد «الأيديولوجيا» بإطلاق، ينزع عن نفسه مطلقًا صفة أن يكون، هو نفسه، أيديولوجيا لها ما بعد. فهو الدائم بلا انقطاع، والأخير بلا انقضاء، والمتعالي على أي تغير أو فوات. وإذ يبدو هكذا أن ذلك النظام كان يمنح نفسه سمات الدين، ويستولي على صفات إلهه، فإن ذلك كان يعني أن البشر ينتقلون — مع أنبياء هذا النظام الجدد — إلى مرحلة الدين الخاتم. فالهروب، إذن، من الأيديولوجيا إلى الدين هو ما ينتهي إليه أنبياء الليبرالية، وعلى النحو الذي تنجرف معه الإنسانية إلى ما يبدو وكأنه التحارب بالدين؛ الذي كانت تدَّعي أنها قد تجاوزته، حيث لم يجد الآخرون إلا أن يستدعوا أديانهم القديمة من مراقدها، ليجابهوا هذا النظام/الدين الجديد.
وبالطبع فإنه لا سبيل إلى الخروج من هذا المأزق إلا عبر التأكيد على أن هذا الذي يدفعه الطموح إلى تثبيت نفسه كحضور نهائي خالد، إلى السطو على قسمات الدين وأوصاف إلهه، ليس إلا محض أيديولوجيا لها — بالتأكيد — ما بعد، وأن على البشر أن يتشبثوا بأن للأيديولوجيا دائمًا ما بعد، وإلا …
(٩) علي شريعتي يدعو للعودة إلى الذات
مع انتصاف القرن المنصرم، كانت موجات التحرر الوطني تتسارع لتطول، تقريبًا، معظم مستعمرات ما جرى التعارف، آنذاك، على أنه العالم الثالث. حينها كان التفاؤل كاسحًا؛ حيث ساد الإيمان باقتراب التقدم وحتميته، وتزايد الحديث عن الاستثمار والتراكم، وخطط التصنيع، وبرامج النمو، وإحلال الواردات، وتشجيع التصدير. كان كل شيء محددًا، وحتى الاحتمال محسوب، وفقط يحتاج الأمر إلى بعض الوقت للحاق بالغرب، وحينها سيجني الجميع ثمرات النمو وخيرات التقدم. وعندئذٍ فإنه سيكون بمقدور المستعبدين من سكان المستعمرات أن يناطحوا سادتهم السابقين في الغرب. لقد بدا، إذن، أن من استقر الأوروبيون على اعتبارهم من «السكان الأصليين» سوف يتاح لهم، أخيرًا، أن يرتقوا إلى مقام «البشر»؛ وهو المقام الذي احتكره الغرب لنفسه — على قول سارتر — لينحط بالآخرين من غير الأوروبيين إلى مرتبة «الأدوات»، وليس «الذوات». ولم يكن من سبيل إلى ذلك — حسب مفكري ما بعد الاستقلال — إلا التأسي بالغرب؛ سيرًا على درب خطواته، وتفكيرًا بنفس مفاهيمه ومقولاته، وبما ينطوي عليه ذلك من تصور أن التباين بين الغرب وبين مجتمعاتهم هو من نوع التباين على نفس المسار بين مرحلة أرقى وأخرى أدنى، وعلى النحو الذي يعني أن اللحاق بالغرب مسألة منتهية. وعلى فرض أن مجتمعاتهم تحتاج فقط إلى أن تقطع نفس المراحل التي قطعها الغرب، فإن ثمة من راح يُطمئن مواطنيه إلى إمكان حرق بعض تلك المراحل. لم يكن هناك، إذن، أي خلاف على أن الوعد آتٍ؛ وفقط كان الخلاف حول توقيت مجيئه.
لكن روح التفاؤل سرعان ما انطفأت، بعد أن بدا أن التقدم قد أخلف وعده، وأن خرافة اللحاق بالغرب لم تتمخض إلا عن ازدياد الفجوة الفالقة بينه وبين المجتمعات التي أراد لها مفكروها أن يقتفوا خطوه ويسعوا في إثره. وبصرف النظر عن أن اقتفاء أثر الغرب إنما يعني أن الواحد يسعى — والحال كذلك — إلى أن يعيد إنتاجه فيكون مثله، وبما يترتب على ذلك من أنه يتخلى، عندئذٍ، عن أن يكون نفسه؛ فإنه كان لا بد من إدراك أنه لن يكون بمقدور أي أحد أن يكون مثل الغرب أو أن يعيد إنتاجه مرة أخرى (لأن تجربة الغرب الفريدة في امتلاك رأس المال المادي والرمزي الذي بنى به قوته ليست قابلة للتكرار أبدًا). وحين يدرك المرء أن السعي لإعادة إنتاج الغرب «ماديًّا» في مجتمعات العالم الثالث قد ارتبط بالسعي إلى التشبه به «ثقافيًّا» أيضًا، فإن ذلك يعني أن أزمة تلك المجتمعات لم تقف عند ما تعيشه من الفشل والعوز «المادي»، بل وتجاوزت إلى ما تعانيه من التشوه الثقافي والفقر الروحي.
وضمن هذا السياق فإن ثمة من اندفع يحث مجتمعه على أن يكون نفسه، وأن يعود إلى ذاته ويتحرر من وهم التماثل مع غيره. وهنا تحديدًا تبلورت الدعوة إلى «العودة إلى الذات» التي جعل منها المفكر الإيراني البارز الدكتور «علي شريعتي» عنوانًا لواحد من أهم كتبه. ومنذ البدء يسعى الدكتور شريعتي إلى طرح المفهوم ضمن إطار شامل يتجاوز حدود ثقافة بعينها؛ وأعني بوصفه تعبيرًا عن مسئولية المفكر عن جيله وعصره، وبصرف النظر عن نوع الثقافة التي ينتمي إليها المفكر. وهنا فإنه لا فرق بين «عمر أوزجان وإيما سيزار وفرانز فانون ويوجين يونسكو»؛ وأعني من حيث يتفقون جميعًا على «أن من حق كل مجتمع أن يكون المفكر فيه مرتكزًا على تاريخه وثقافته»، ولا يفكر خارجها. يتعلق الأمر بالعودة إلى ثقافة الذات، لا بمعناها الفردي، بل بمعناها الحضاري الحي؛ على أن يكون مفهومًا أنها ليست ذاتًا مغلقة على نفسها تصطنع مركزية مضادة لتلك المركزية الأوروبية التي عانى منها الجميع على اختلاف ثقافاتهم. إنها — في المقابل — عودة إلى ذات منفتحة تلح على أن المعنى الحقيقي للإنسانية يكمن في تعدد الذوات الحضارية، وليس في قولبة الذوات وإجبارها على أن تكون نسخًا لذات مركزية واحدة. وإذا كانت هذه الذات، في حال شريعتي، هي الذات الإسلامية الشيعية — ابتداءً من انتسابه إلى ثقافة تلك الذات — فإن الإسلام عنده «ينبغي أن يُطرح بعيدًا عن صورته المكررة وتقاليده اللاواعية العفوية، وهي أكبر عوامل الانحطاط، بل ينبغي أن يُطرح في صورة إسلام باعث للوعي تقدمي ومعترض، وكأيديولوجية باعثة للوعي وقائمة بالتنوير». وبمثل ما يكاد الإسلام أن يكون، هكذا، أساسًا لنوع من الوعي بالعالم، فإن شريعتي راح يقدم تصورًا للتشيع تحول معه من معتقد سكوني مغلق رسَّخه الصفويون لحراسة سلطتهم إلى ما اعتبره «التشيع الحسيني» الذي يعكس روحًا نضالية ضد الظلم.
وإذ هو السعي، هكذا، إلى الانعتاق من قبضة الغرب من جهة، ومن الإسلام المغلق والتشيع السلطوي؛ فإنه يمكن قراءة «العودة إلى الذات» بما هي نوع من السعي إلى التحرر من سطوة الأيديولوجيا (حداثية وتراثية)، وذلك بوصفه السبيل الأوحد إلى تمكين الذات من إنتاج معرفة بالعالم تسمح لها بالتأثير الفاعل فيه؛ الأمر الذي ينطوي على دلالة كبيرة بالنسبة لثورات الربيع العربي.
(١٠) طه حسين: مصر بين رمزيتَي البحر والصحراء
ثمة صورة شائعة للماضي حين يصبح مستقبلًا تتبدى جلية في سعي البعض إلى جعل المستقبل على صورة الماضي الذي يحتفظ له بصورة زاهية، على النحو الذي يجعل منه مركزًا لكل حركته في الزمان. وضمن هذا السياق، فإن المستقبل يكون في قبضة الماضي، وتحت سطوة توجيهه على نحو كامل. وإذا جاز التمثيل لهذه الصورة، فإنه يمكن الإشارة إلى المسعى السلفي الراهن لصوغ مستقبل مصر على صورة ما يرى فيه المخيال السلفي ماضيًا زاهرًا ينبغي أن يكون المستقبل ساحة لإعادة إنتاجه. وحين يدرك المرء أن الصحراء هي مركز هذا المتخيل السلفي، فإن ذلك يعني أنه السعي لصوغ المستقبل المصري بحسب رمزية الصحراء.
ولكن ثَمة صورة أخرى للماضي حين يصبح مستقبلًا تتبدى، في المقابل، في السعي إلى إعادة توجيه الماضي وصوغه على نحو يلائم تركيب صورة بعينها للمستقبل. هنا يكون الماضي هو الواقع في قبضة المستقبل على نحو كامل. يصبح الماضي — ضمن هذا السياق — موضوعًا لضروب من الاجتزاء والانتقاء بما يسمح بإعادة إنتاجه على صورة المستقبل ومقاسه. فإن آليات الاجتزاء والانتقاء تسمح بضروب من الحذف والنبذ من جهة، والتثبيت والحفظ من جهة أخرى، وبحيث يجري مركزة لحظة ما، وتهميش ما عداها، رغم أن ما يجري تهميشه قد يكون هو الأكثر حضورًا واستمرارية في الثقافة من هذا الذي يجري تثبيته كمركز كلي الحضور.
ولعله يمكن التمثيل لتلك الصورة بما فعله طه حسين حين راح يصوغ الماضي المصري على النحو الذي يلائم تصوره لمستقبلها كجزء من حوض البحر الأبيض. ولعله يمكن القول إن رمزية البحر هي التي تستوعب مستقبل مصر كما تصوره طه حسين، وذلك في مقابل رمزية الصحراء التي تصطخب زاعقة على سطح حاضرها الراهن.
فإنه إذا جاز أن مستقبل الأمس هو حاضر اليوم وماضي الغد، فإنه يجوز القول إن حاضر مصر الراهن لا بد أن يكون كله — أو على الأقل بعضه — تحقيقًا لما ارتآه طه حسين مستقبلًا لها بالأمس، وسوف يكون — بالطبع — ماضيًا من منظور الأجيال التي يتمنى لها الجميع أن ترى مصر أخرى؛ وأعني غير مصر الكائنة اليوم، وغير تلك التي كانت — أيضًا — بالأمس. ومع وجوب الإقرار بأن المستقبل يبقى لحظة متحركة مفتوحة، وغير قابلة للاستنفاد أبدًا؛ وبمعنى أنه يبقى ساحة مفتوحة — من الناحية النظرية — لإمكان تحقق كل ما يراه النظر ممكنًا، فإنه يبقى السؤال عما إذا كان حاضر مصر الراهن يمثل تحققًا لما رأى فيه طه حسين مستقبلًا لها قبل حوالي ثلاثة أرباع القرن، أم إنه يمثل تحققًا لما يكاد أن يكون مغايرًا له بالكلية؟
يقتضي الجواب على السؤال ضربًا من المقارنة بين ما رآه طه حسين بالأمس، حاضرًا لمصر شاخصًا في تلك اللحظة التي كتب فيها مستقبل الثقافة في مصر قبل ثلاثة أرباع القرن، وما سيكون مستقبلًا لها بعد ذلك، وبين ما هي عليه الآن، فعلًا، في واقعها الراهن. يكتب طه حسين عن مصر، التي كانت تحتفي بترتيب علاقتها مع الإنجليز إثر توقيع معاهدة ١٩٣٦م، إن حياتها المادية أوروبية خالصة في الطبقات الراقية، وهي في الطبقات الأخرى تختلف قربًا وبعدًا من الحياة الأوروبية باختلاف قدرة الأفراد والجماعات، وحظوظهم من الثروة وسعة ذات اليد.
ومعنى هذا أن المثل الأعلى للمصري في حياته المادية إنما هو المثل الأعلى للأوروبي في حياته المادية … وحياته المعنوية على اختلاف مظاهرها وألوانها أوروبية خالصة. فنظام الحكم فيها أوروبي خالص (والغريب أنه جعل الحكم المطلق أو الاستبداد فيها أوروبيًّا أيضًا، وليس من أصول شرقية. فالذين أرادوا أن يستبدوا بأمور مصر في العصر الحديث كانوا — على قوله — يذهبون مذهب لويس الرابع عشر وأشباهه أكثر مما كانوا يذهبون مذهب السلطان عبد الحميد وأمثاله). ومن هنا ما يستنتجه من أنه لا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها «الخديوي» إسماعيل، وجعل بها مصر جزءًا من أوروبا، قد كانت فنًّا من فنون المدح، أو لونًا من ألوان المفاخرة؛ وإنما كانت مصر دائمًا جزءًا من أوروبا، في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية، على اختلاف فروعها وألوانها. وبالطبع، فإنه كان لا بد أن يترتب على ذلك أن يكون مستقبل مصر أوروبيًّا بدوره. هكذا كان حاضر مصر ومستقبلها بحسب ما رآه طه حسين في ثلاثينيات القرن الماضي، فكيف انتهى الأمر بعد مضي ثلاثة أرباع القرن؟
لعل نظرة على ما آلت إليه العقود السبعة الماضية، منذ أن قال طه كلمته، تكشف عن أن مصر قد غادرت البحر الذي جعل طه يقول بأوروبية حاضرها ومستقبلها — وكذلك ماضيها — لوقوعها فيه، إلى الصحراء التي راحت تشدها إليها الفيالق المحتجة الغاضبة من أحفاد طه، بعد أن أخلفت دولة الحداثة العربية المتأوربة وعودها معهم؛ وأعني من حيث لم يجدوا ما يردون به موجات البحر المنفلتة الصادمة إلا سدودًا تبنيها رمال الصحراء. لكنهم — ولسوء الحظ — كانوا يجرون مصر إلى ما بعد صحراء شبه الجزيرة الوهابية؛ وأعني إلى صحراوات آسيا الوسطى الطالبانية المقفرة، والتي كانت — على مدى التاريخ — خزانًا لقبائل محاربة لم تفارق حال البداوة، واحترفت مجرد الغزو وتدمير الحضارة. وبالرغم من أن هذه الموجة من الانجرار نحو الصحراء قد راحت تخفي نفسها وراء يافطة الإسلام — الذي كان عليه أن يصبح، وربما مع وفاة طه حسين عند مطالع سبعينيات القرن المنصرم — ستارًا لعملية إفقار وتصحر طالَ مصر (فكرًا وتدينًا وعاطفة وسلوكًا وملبسًا)، فإنه يلزم التأكيد على أن الإسلام الذي كان يجري استدعاؤه، كان إسلامًا فقيرًا ومتصحرًا بدوره. إن ذلك يعني أن إسلام النهر الذي عرفته مصر — والذي يجد التعبير الأرقى عنه في عمل الأستاذ الإمام محمد عبده — كان يفقد روحه وينجر إلى قفار الصحراء أيضًا. كان الناس — في كلمة واحدة — قد فقدوا الثقة في كل ما يرميهم به البحر، فراحوا ينشدون الخلاص في الصحراء التي كانت تخايلهم بيقين الوفرة المالية التي أتاحها تدفق النفط والتدين الشكلاني البسيط. ولقد كان من الطبيعي أن يربط الوعي بين الوفرة التي فاضت على الصحراء، وبين ما تعرفه من نمط التدين البسيط؛ مما زاد من الحضور الطاغي للصحراء كمثل أعلى، باعتبار أن الوفرة علامة على الصحة المطلقة لهذا النمط من التدين، تمامًا بمثل ما إنَّ تَبنِّي هذا النمط ذاته هو السبب في تلك الوفرة. من هنا كان لا بد أن تنبثق الصحراء كبديل مثالي للبحر الذي لم تتبين فيه فيالق المصريين المحتجة إلا كل ما يتهددها بالغرق والضياع، وأن تبدأ مصر سيرورة انجرارها إلى تلك الصحراء؛ تفكيرًا وتدينًا وعاطفة وسلوكًا وملبسًا.
وهنا يلزم التنويه بأن هذا التوتر بين البحر والصحراء إنما يسكن مصر منذ مبدأ نهضتها؛ وأعني مع رائدها الكبير رفاعة الطهطاوي، الذي تكشف مسيرته، التي ابتدأها من تلخيص باريس، وأنهاها بنهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز، عن الحضور الضاغط لهذا التوتر منذ البدء.
وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى السؤال:
لماذا أخلف المستقبل الذي تصوره طه وعده، وانتهت مصر — في حاضرها الراهن — إلى ما يبدو مغايرًا له بالكلية؟
لعله يبدو لازمًا وجوب التأكيد، أولًا، على أن قابلية تحقق ما يجري تصوره كمستقبل تبقى مشروطة بأن يكون ممكنًا حقيقيًّا، وليس زائفًا. وهو يكون حقيقيًّا حين يكون كامنًا في الواقع، وليس مفروضًا عليه من خارجه. وهكذا يكون المستقبل حقيقيًّا إذا كان كامنًا في الحاضر كأحد ممكناته، التي لا تكون منبتَّة الصلة بالماضي أبدًا. إن ذلك يعني أن المستقبل لا ينبغي أن يكون مفروضًا على الحاضر، أو حتى على الماضي، بل يلزم أن يكون نابعًا منهما، وفي علاقة جوهرية معهما. ولسوء الحظ فإن طه حسين قد أشاد تصوره لمستقبل مصر، قبل ثلاثة أرباع القرن، على بناء لماضيها — وحتى حاضرها — غابت عنه اللحظة الأكثر مركزية في تركيب عقل مصر وثقافتها؛ وأعني بها اللحظة الإسلامية.
فالرجل يصرح بجلاء لا أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد (حيث البحر يربطها بأوروبا القديمة؛ يونان ولاتين)، وحاضرها القريب (الذي أعاد فيه البحر اتصالها بأوروبا الحديثة). وأما ما بينهما من اللحظة الإسلامية التي تركت بصمتها الغائرة على عقل مصر وثقافتها، فإنها كانت لحظة منسية غائبة. وبالطبع فإن نسيانها وإنكارها لا يعني أبدًا إلغاءها أو حتى تحييدها. ومن هنا ما يشهده الكافة من انفجارها، على النحو الذي يستدعي جعلها موضوعًا لدرس يئول إلى استيعابها، بما يسمح بالبناء فوقها.
(١١) هل حان وقت مساءلة خطاب النهضة؟
ليس ثمة ما هو أسوأ من الوضع الذي وجد العرب أنفسهم يدخلون به إلى القرن الحادي والعشرين. فرغم ما بدا من أنهم قد جاءوا يطئون عتباته حاملين، لا مجرد نفس الحزمة من الأسئلة التي سبق لهم أن دخلوا بها — وبنفس قاموس مفرداتها تقريبًا — إلى القرن «العشرين» الذي سبقه، بل ومعها نفس الإجابات التي اعتادوا على تداولها والثرثرة بها، فإنهم كانوا يودون لو أُتيح لهم أن يُتركوا وشأنهم، على هامش المشهد العالمي، نائين بأنفسهم إلى حوافه المنزوية القصية، ليلوكوا أسئلتهم المؤبدة الخالدة، ومعها — بالطبع — نصوص أجوبتها المكرورة المعادة، في سكون ووداعة، ومن دون أن يفاجئهم أحد بما لم يتوقعوه فيتحسبوا له.
لكن شيئًا، لسوء الحظ، قد راح يعرقل ما شرعوا فيه من الدخول إلى القرن الحالي في صمت وانزواء، وحال بينهم وبين لعبة الاختباء داخل قوقعة تكرار نفس السؤال وذات الجواب (الذي لم يتغير مضمونه، وإن تغيرت الأردية التي يتسربل بها بالطبع)؛ وهي الأسئلة والأجوبة التي لم يملُّوها بسبب ما تخايل لهم به من فعل شيء يدرءون به شبهة عطالتهم التاريخية. ولقد كان ذلك الشيء الصاخب الذي بدد هدوء عالمهم الراكد، ووضعهم في قلب العاصفة الهوجاء، هو ما شهدته الأراضي الأمريكية، مع مطالع القرن والألفية، من تفجيرات مروعة جرت نسبتها إلى عرب، قيل — عن حق — إنهم النتاج المباشر لفائض القمع والاستبداد الذي ترزح تحت وطأته مجتمعاتهم الراكدة التعيسة. وعندئذٍ فقط، فإن سؤال الاستبداد — الذي كان يمكن أن يظل، كغيره من أسئلة نهضتهم، معلَّقًا ومُرجَأً إلى أجل غير منظور — قد احتل تمامًا صدارة المشهد العربي، وصار العملة الأهم في أسواق التداول. والحق أنه كان يستحيل — تمامًا — أن يظل السؤال معلقًا، بعد أن أصبح العالم العربي واقعًا بسببه، تحت ضغوط ما بدا وكأنه القصف العاصف بالديمقراطية؛ والذي قيل إنه (أي هذا القصف) قد بات أمرًا ملحًّا وضروريًّا، بعد أن بدا أن ثمة موجة — بل أمواجًا — ديمقراطية كاسحة، قد طافت بمعظم بلدان العالم (في الشرق والجنوب) وتركت أثرًا لها هناك، وذلك قبل أن تصل إلى شواطئ العرب الجامدة الصلدة فتتكسر عليها، من دون أن يتخلف عنها شيء إلا محض الزبد والهشيم الذي تذروه الرياح.
ولسوء الحظ فإن إمكانات أطروحة «القصف بالديمقراطية» — التي تبنَّتها القوى التي أضارها الاستبداد العربي — كانت هزيلة وبائسة حقًّا؛ وأعني من حيث لا تجاوز تلك الأطروحة حدود القراءة السياسوية للأزمة العربية الراهنة، وهي ذات القراءة التي أنتجتها — ولم تزل تتداولها — النخبة العربية القابضة، بالإكراه والعسف، على مصائر عالمها، وتكاد لذلك أن تكون، هي نفسها، جوهر تلك الأزمة. وإذ يبدو، هكذا، أن هذا القصف بالديمقراطية قد أصبح جزءًا من الأزمة، وليس جزءًا من حلها، فإن ذلك ما يؤكده أنه قد استحال، بالفعل، إلى أداة لابتزاز أنظمة الاستبداد العربي القائمة، والتي لم تترك الفرصة تفلت من بين أياديها، فراحت تتحصن في مواجهة هذا القصف عبر تعبئة وتحشيد جمهورها التعيس ضد ما تعتبره اعتداءً على خصوصيته الدينية والثقافية من جهة، وتدخلًا في الشأن الوطني من جهة أخرى. وهكذا، وعبر ما أتاحه القصف بالديمقراطية للحكام الذين اقترن استبدادهم بعمالتهم من تمثيل دور حماة الاستقلال والمدافعين عن الخصوصية، فإن هذا القصف قد استحال — وللمفارقة — إلى أداة لتدعيم مواقع الاستبداد وتحصينها، بدلًا من تعريتها وتفكيكها.
والحاصل أن العالم العربي، وعند مطالع هذا القرن تمامًا، قد وجد نفسه منكشفًا وعاريًا، من غير شيء يستر به عوار استبداده وتخلفه، وذلك بعد أن فضحته فيالق «العنف المقدس» التي كانت، وعلى مدى الربع الأخير من القرن العشرين، قد خرجت تتقاطر من مدن الصفيح وأحزمة البؤس والجحيم الأرضي، التي تحيط — كسوار يضيق باطراد — بعواصم العرب المتلألئة بالأكاذيب والأوهام الملونة، إلى حيث ينازلون الطاغوت، فيربحون معركتهم ضده، ويغنمون ملكوت «الدولة» الأرضي، أو ينالون الشهادة فيرثون نعيم الخلود في «الفردوس» السماوي، وذلك بالطبع مع ملاحظة أن مفهوم الطاغوت كان قد تطور بحيث لم يعد استخدامه قاصرًا، في تقاليد تلك الجماعات الجهادية، على سلالة الحكام المعاندين لحكم الإسلام من الذين «تربَّوا — حسب داعية الجهاد وإمامه الأكبر محمد عبد السلام فرج — على موائد الاستعمار، سواء الصليبية أو الشيوعية، فهم لا يحملون من الإسلام إلا الأسماء، وإن صلوا وصاموا وادعوا أنهم مسلمون»، بل اتسع ليشمل كل سادتهم الإمبرياليين في الغرب الصليبي والشرق الشيوعي (قبل سقوطه) على السواء، والذين كان لا بد أن يستتبع ذلك الحكم بوجوب مقاتلتهم، بعد أن كانوا عند عبد السلام ورفاقه من الجهاديين الأوائل غير مشمولين بهذا الحكم الدامي العنيف. وهكذا فإنه بات يظهر واضحًا أن الإسلام التبشيري الدعوي قد بدأ — منذ ستينيات القرن المنصرم — يخلي مواقعه لفيالق الإسلام الجهادي، التي بدأت تبلور، تحت التأثير الطاغي لأفكار سيد قطب بالذات، قناعة بأن الجهاد هو — بحسب من سيكون داعيته الأكبر (ووريثه المباشر) محمد عبد السلام فرج، الذي قام بالتنظير لاغتيال الرئيس المصري أنور السادات — بمثابة «الفريضة الغائبة» التي يلزم تفعيلها من أجل أن يستعيد الإسلام هيمنته في المجتمع. وهكذا راح الإسلام الجهادي يتفجر — في تقلصات متواترة — عنفًا دمويًّا في مواجهة دولة الاستبداد والفساد في العالم العربي. وانطلاقًا من السعي إلى تحصين إسرائيل وأمراء النفط وشيوخه من خطر هذا الإسلام الهائج العنيف، فإن الغزو السوفيتي لأفغانستان قد وفَّر فرصة نموذجية لكثيرين من أصحاب المصلحة، ليس فقط لمنازلة واستنزاف الدب الروسي ودحره في الجبال الأفغانية الوعرة، بل وللتخلص — إضافة لذلك — من المنخرطين في فيالق هذا الإسلام الهائج عبر توجيههم إلى الميدان الأفغاني لتفعيل جهادهم على ساحته البعيدة عن ملامسة إسرائيل ومنابع النفط. وحين اندحر الدب الروسي، فإن هؤلاء قد راحوا — بعد أن رأوا لجهادهم نتائج ملموسة على الساحة الدولية — يبحثون لأنفسهم عن ساحات أخرى يعملون فوقها، فاصطدموا برعاتهم وموجهيهم السابقين فوق ساحة تمتد من مانهاتن إلى سومطرة، ومن الكاب إلى الشيشان. وعندئذٍ فقط، أدرك هؤلاء الرعاة مسئولية الاستبداد العربي وقرينه الفساد، عن إنتاج هذا العنف المقدس الهائج، فراحوا يعلقون الأجراس في رقبة طغاة العرب. والحق أن اللحظة الأفغانية قد أحدثت تحولًا عميقًا في مسيرة العمل الجهادي الراديكالي الذي انتقل من التركيز على قلب الأنظمة في الداخل إلى التركيز على الجهاد ضد رعاة تلك الأنظمة من السادة الإمبرياليين في الخارج؛ وأعني أنه الانتقال من أجندة «الجهاديين المحليين» إلى أجندة «الجهاد المعولم» مع تنظيم القاعدة تحت قيادة «بن لادن».
والمهم أنه حين اندفع هؤلاء الذين كان الاصطلاح قد جرى على وصفهم بالخوارج الجدد — لما يطفح به خطابهم من عنف ودموية، يذكران بأسلافهم القدامى — يبحثون لأنفسهم عن ساحات جهاد خارج أوطانهم بعد أن أحبطتهم نتائج ما اعتبروه جهادهم داخلها، فإنهم قد وضعوا أنفسهم — ومعهم العالمان العربي والإسلامي — في مواجهة عارمة مع قوًى مهيمنة عاتية، كانت مستعدة لأن تقبل بعالمهم مستبدًّا ومتخلفًا طالما ظلت تداعيات استبداده وتخلفه محصورة ضمن حدود فضائه الرتيب الآسن، وأما أن تتفاعل هذه التداعيات خارج حدوده «عنفًا دمويًّا» يضرب في كل اتجاه، ويجعل من العالم بأسره ميدان قتال مفتوحًا، فإن الأمر كان لا بد أن يستدعي ضروبًا من التدخل الذي اندفعت معه تلك القوى تفرض سياسات وأنظمة وتملي خططًا ورؤًى، لتملأ بها ما بدا من فراغ وخواء «تاريخي» غير مسبوق، وتتجاوز بها ما تراه من «القصور العقلي» الذي جعل من هذا العالم محض ساحة — من منظور دعاة هذا التدخل على الأقل — لإنتاج الإرهاب والفوضى. إذ الحق — وتلك حكمة الكواكبى التي اختتم بها نصه الكبير عن طبائع الاستبداد، والتي يبدو أن تجاهلها كان تامًّا — أنه «إذا لم تحسن أمةٌ سياسة نفسها أذلَّها الله لأمة أخرى تحكمها، كما تفعل الشرائع بإقامة القيِّم على القاصر أو السفيه».
ولقد بدا — لسوء الحظ — وكأن العراق (ذلك التكوين الحضاري الضارب في القِدم) هو القاصر الذي لم يحسن سياسة نفسه، فاقتضى الأمر أن يقوم عليه غيره من خلال ما بدا أنها أحدث حروب «القصف بالديمقراطية والحداثة»، التي كانت — وللمفارقة — بمثابة استعادة لأطروحة المعلم الجنرال (المصري) يعقوب، الذي كتب — مع بداية القرن التاسع عشر — أن تغييرًا (في مصر) لن يكون نتاج أنوار العقل، وإنما تغيير تُجريه قوة قاهرة على قوم وادعين جهلاء.
وهكذا فإنه بدا وكأن شيئًا لم يحدث على مدى قرنين في العالم العربي؛ حيث هي «القوة» — ولا شيء سواها — هي أداة فرض التغيير على الأقوام الوادعين الجهلاء. فإذ لم يبصر المعلم يعقوب أنوارًا للعقل في فضاء مصر القرن التاسع عشر، ولم يجد — لذلك — شيئًا يعول عليه من أجل التغيير إلا محض «القوة» التي وجدها في معية الجنرال الأوروبي الأشهر نابليون؛ فإن ورثته عند مطالع القرن الحادي والعشرين لم يجدوا، بدورهم، للعقل أثرًا في واقعهم، فراحوا — تبعًا لذلك — يعولون على «القوة» التي كانت في معية الجنرال الأمريكي هذه المرة. وبالطبع فإن أحدًا لم يسأل: ولماذا ظلت «أنوار العقل» غائبة على مدى القرنين، بحيث لم تحضر — ولا تزال — إلا «القوة»، ولا شيء سواها؟ وهل تقع مسئولية هذا الغياب على عاتق «المستبدين» وحدهم، أم إنها مسئولية «خطاب» يكرس الاستبداد، حتى وإن أسقط بعض رموزه؛ وأعني من حيث يبقى خطابًا للفرض من «الأعلى» على القوم الذين يحرص دومًا على ألا يبرحوا مقام «الوادعين — أو حتى الهائجين، ولكن دائمًا — الجهلاء؟»