في معنى الحدث المصري ودلالته
(١) في معنى الحدث المصري ودلالته
لعله يمكن القول إن السقوط المدوي لمبارك ونظامه الكابوسي الراكد، يتجاوز مجرد كتابة كلمة النهاية لنظام سياسي افتقر إلى الرشد والكفاءة إلى ما يبدو وكأنه محاولة التأسيس الثاني للدولة العربية الحديثة، بعد أن بلغت — في صورتها المتحدرة من مطالع القرن التاسع عشر — نهايتها البائسة التعيسة التي جسدتها دولة «سلاطين العرب» من مثل «مبارك» وصحبه التعساء. وإذن فإنها مصر مرة أخرى، مصر التي شهدت التأسيس الأول للدولة العربية الحديثة قبل قرنين مع «الباشا» الطامح محمد علي، وعلى نخبتها الراهنة أن تكون على وعي بأنها تملك فرصة التأسيس الثاني لتلك الدولة، وإلا فإنها ستكون قد فقدت فرصة تاريخية لن تتكرر إلا بعد وقت طويل.
وإذا كان التأسيس الأول قد ارتبط بما حدث في مصر في العام ١٨٠٥م، من نجاح الشعب في إنفاذ إرادته التي يمثلها ما نقله «الجبرتي» على لسان الكبار من نخبته يخاطبون «محمد علي»: «لا نريد هذا الباشا (يقصدون الفاسد خورشيد) حاكمًا علينا، ولا بد من عزله من الولاية، ولا نرضى إلا بك، تكون واليًا علينا بشروطنا.» وبالرغم من كل ما يقال حول ما فعله «محمد علي» من تدشين الدولة الحديثة، فإنه يبقى أن الرجل الذي اختاره الناس ليحكمهم بشروطهم، سرعان ما انقلب عليهم، وراح يحكمهم بشروطه التي لم تكن إلا بناء دولة «القوة»، ليتمكن من وراثة إمبراطورية آل عثمان المريضة.
كان الشعب يتطلع إلى «دولة الحق»، فيما أراد الباشا «دولة القوة» التي لم يدرك في شعب مصر إلا مجرد «أدوات»، أو حتى «أشياء» — يحقق بها حلمه الطموح، ولقد كانت «الحداثة الأوروبية»، التي جاء بها غزاة الشمال يقرعون أبواب مصر التي ظلت موصدة لقرون — هي «أداته» الأخرى. على أن يكون مفهومًا أنه لم يكن مطلوبًا من الحداثة إلا ما تنتجه من «سلاح وتقنية»، وليس ما أنتجها من «إرادة حرة ووعي خلاق».
لن يكون غريبًا أن ينسى الباشا سريعًا أن «توليته» كانت من الشعب، بل وأن يجاهر «الطهطاوي» — الذي هو المُنظر البارز لدولته — بأن ولاية الباشا من الله، وليس من الناس.
(وهنا يشار إلى أن أحدهم قد رفع في إحدى التظاهرات — التي جرى حشدها لتأييد مبارك في مواجهة جموع الداعين لخلعه — لافتة مكتوبًا عليها: «من اختاره الله، لن يُسقطه الخونة».)
وليس من شك في أن هذا التغييب للناس، يكشف عن «نخبة» اختارت الانحياز، منذ البدء، للدولة على حساب المجتمع. وبما يترتب على ذلك من تبريرها — إن لم يكن تأسيسها — لما تمارسه تلك الدولة من قمع المجتمع والتسلط عليه للآن. إنه التغييب الذي سيتحول معه هؤلاء الناس من «فاعلين» حقًّا إلى مجرد «عبيد إحسانات» دولة الباشا، وذلك بحسب ما سيقول لاحقًا أحد ورثة تلك الدولة الجاثمة (وأعني به الخديوي توفيق) مخاطبًا أحد الداعين إلى وضع حد لاستعباد الناس وإقصائهم. (هل لأحد أن يجادل في أن دولة مبارك قد ظلت تعامل الأغلبية المسحوقة من جمهورها على أنهم مجرد «عبيد إحساناتها» أيضًا؟)
وإذا كان التاريخ قد اختار للسيد «عمر مكرم» أن يشهد، من موقع المشارك، حدث «الخلع والتولية» الذي أفضى عند مطالع القرن التاسع عشر، إلى التأسيس الأول لما بات يُعرَف بالدولة العربية الحديثة، فإنه قد أراد له، من موقعه كمراقب يطل على الجماهير المحتشدة أسفل تمثاله في ميدان التحرير، أن يشهد خلع مبارك وتولية غيره، منتظرًا، بالطبع، أن يفلح أحفاده في تأسيس «دولة الحق» التي أخفق، ومعه أجدادهم، في تدشينها قبل قرنين، وأن يتمكنوا من ضبط وترتيب «نظام» يكون معه الحاكم «حاكمًا عليهم بشروطهم»، وليس بشروطه كما حدث قبلًا.
وبالطبع فإن التأسيس لدولة «الحق» على حساب دولة «القوة» القامعة، لن يكون ممكنًا إلا عبر تجاوز الخطاب الذي ساد على مدى القرنين المنصرمين، إلى خطاب يؤسس لدولة حديثة حقًّا؛ وأعني التحول من خطاب لم تفلح كل زركشات وزخارف الحداثة على سطحه، في أن تغطي على جوهره الوصائي الأبوي التسلطي الذي يؤسس لما يسود من علاقات الإذعان والخضوع، إلى خطاب ذي أفق عقلاني يؤسس لعلاقات التفاعل والحوار والندية التي هي الأصل فيما يتطلع إليه الكافة، في العالم العربي، من دولة المواطنة المدنية، كبديل للدولة الطائفية العشائرية الأبوية الاستبدادية الراهنة. ولسوء الحظ، فإن الممارسة الغالبة على النخبة المصرية بجميع شرائحها تكشف عن عدم قدرتها، حتى الآن على الأقل، على الإمساك بضرورة هذا التحول وجوهره. فإن متابعة لما يتجادل به الفرقاء على الساحة في مصر تكشف عن استمرار سطوة خطاب دولة القمع في العمق، برغم كل ما يبدو مغايرًا لذلك عند السطح. ولعل ذلك يستلزم تعرفًا على الجوهر العميق لهذا الخطاب من جهة، وبيانًا لكيفية استمراره في الممارسة الراهنة من جهة أخرى.
يتمثل الجوهر العميق للخطاب في غلبة الطابع الأداتي على تعامله مع كلٍّ من الحداثة والمجتمع في آنٍ معًا؛ وبمعنى أنهما كانا مطلوبين كمجرد أداتين لبناء دولة القوة، حيث أراد الخطاب من الحداثة «قوتها» من دون «عقلانيتها»، وأراد من المجتمع «قوة عمله» من غير «أنوار وعيه».
ومن هنا فإنه لم يجاوز حدود السعي إلى تركيب قشرة حداثية هشة (تُستعار جاهزة) فوق بنية تقليدية ضاربة الجذور. وغني عن البيان أن الحرص على إبقاء المجتمع تقليديًّا في الأسفل إنما يرتبط، وعلى نحو جوهري، بتصوره كمجرد أداة لتشغيل عناصر القوة المستفادة من الحداثة.
ولسوء الحظ فإن الجميع لا يزالون يمارسون على نفس النحو الأداتي، بل إن جماعات الإسلام السياسي التي اختارها المجتمع لإدارة شئونه في إحدى مراحل الفترة الماضية، هي وللمفارقة، الأكثر رسوخًا في الاشتغال بهذا المنطق الأداتي، وذلك إبداءً من حقيقة أن خطاب هذه الجماعات هو محض نسخة معاصرة من رؤية دينية تقليدية تنبني على مفهوم الفاعل الأوحد الذي يقف بالبشر عند حد كونهم مجرد أدواته التي يفعل بها.
وحين يضاف إلى ذلك أن المخاصم الأكبر للحداثة «سيد قطب» قد تسامح — في معالم في الطريق — مع الجانب الأداتي (العلمي التقني) منها، فإن بإمكان المرء أن يدرك مدى عمق تجذر «الأداتية» في بنية خطاب تلك الجماعات. ومن هنا ما يلزم التأكيد عليه من أن هذا الخطاب لا يمثل خروجًا من المأزق الراهن، بقدر ما يمثل تكريسًا له.
يستلزم الأمر نقدًا معرفيًّا، وليس أيديولوجيًّا، لخطاب تلك الجماعات على نحو يكشف عن كونه يمثل امتدادًا، من جهة، لخطاب دولة القمع التي يثور عليها الناس، ولرؤية دينية تقليدية لطالما تخفي وراءها الاستبداد من جهة أخرى. ويخشى المرء أنه من دون هذا الاشتغال النقدي على الخطاب، فإن مصر، ومعها العرب، لن يفعلوا إلا أن يحرثوا البحر من جديد.
(٢) تأملات فكرية في المشهد المصري الراهن
رغم أن مصر كانت، قبل مجيء الأوروبيين بحداثتهم إليها، تشهد تطورًا بطيئًا بلغ ذروته في السعي إلى الاستقلال عن السلطنة العثمانية على يد «علي بك الكبير» عند أواسط القرن الثامن عشر تقريبًا، فإن أحدًا لا يجادل في أن سؤال التغيير قد انبثق زاعقًا في مصر مع تعرضها للقصف بالحداثة الأوروبية التي جاء بها جيش «نابليون» مع بزوغ شمس القرن التاسع عشر. ولقد كان هذا المجيء الأوروبي حاسمًا، إلى حد إمكان القول إنه لولاه لما كان لسؤال التغيير أن ينبثق على هذا النحو من الحدة في مصر. وبالطبع فإن ذلك يعني أن انبثاق «سؤال التغيير» على النحو الذي تبلور به مع مطلع القرن التاسع عشر، لم يكن نتيجة تطورات ذاتية تعتمل في قلب الواقع (ولو كان اعتمالها بطيئًا)، بقدر ما إن شروطًا خارجية ضاغطة هي التي فرضته بقوة لا مهرب منها. ولعله يلزم التأكيد على أن حصول التغيير كنتاج لتطورات ذاتية بالأساس لا يعني حصوله في استقلال أو انعزال كامل عن كل مؤثر خارجي، بقدر ما يعني أن «الذاتي» لا يخضع لسطوة الشرط «الخارجي» ويتحدد به، بل يقوم بتوظيف هذا الشرط الخارجي لحسابه، وإلى حد تحويله إلى عنصر في بنائه.
ولا بد هنا من التأكيد على أن الطريقة التي ينبثق بها فعل التغيير إنما تحدد طبيعته ونظامه ومضمونه. إذ فيما يئول انبثاق فعل التغيير كنتاج لتطورات ذاتية بالأساس، إلى أن يجعل منه حركة شاملة في العقل والمجتمع والدولة جميعًا، فإن انبثاقه كضرورةٍ فرضها الاصطدام مع «الخارج» قد جعل منه حركة تدور حول «الدولة» بالأساس، ولا تتعلق بكلٍّ من «المجتمع والعقل» إلا على نحو هامشي. ولقد كان هذا الانبثاق الأخير هو المحدد الأساسي لمسار التغيير في مصر، وبمعنى أنه قد راح — ومنذ البدء — ينبني حول «الدولة»، وعلى نحو سياسي وإجرائي خالص. وعمليًّا، فإن ذلك كان يعني أن التغيير هو فعل «الدولة» ومطلبها، وأن «المجتمع» هو مجرد «الموضوع» الذي سيجري عليه التغيير، وليس «الفاعل» المبدع له. ولقد كان ذلك ما عبر عنه، صراحة، أول من نطق بخطاب حول التغيير في مصر، وأعني به «المعلم يعقوب» الذي لا بد أن يدهش المرء لوعيه الدقيق بطبيعة التغيير وآلياته في تلك اللحظة المبكرة عند مطلع القرن التاسع عشر. فقد مضى الرجل يحدد للتغيير في مصر مساره قاطعًا بأن «تغييرًا في مصر لن يكون نتاج أنوار العقل، أو اختمار الآراء الفلسفية المتصارعة، ولكن تغييرًا تجريه قوة قاهرة على قوم وادعين جهلاء». وهكذا فإن وعي يعقوب — الغريب على رجل يعيش في مصر في تلك اللحظة المبكرة — بأن هناك التغيير، بما هو فعل «العقل»، لم يمنعه من إدراك حقيقة أن التغيير في مصر لن يكون إلا فعل «القوة» التي ستجسدها «الدولة»، سواء كانت دولة «الجنرال» (الذي هو بونابرت في حينه)، أو دولة «الباشا» لاحقًا.
وإذ تحدد للدولة موضع الفاعل الرئيس للتغيير، فإن ذلك قد جعل منه مجرد ممارسة ذات تمركز حول «الخارج» وحده، على أن يكون مفهومًا أن «الخارج»، هنا، لا يتعلق فحسب بأوروبا كمصدر خارجي تستورد منه الدولة أدوات التغيير، بل وبالمجتمع الذي وقف التغيير الذي تجريه الدولة عند سطحه الخارجي أيضًا؛ إذ يبدو للملاحظ أن الدولة لم يشغلها من «أوروبا» إلا المنتجات الملموسة الصلبة لحداثتها، سواء التقنية أو السياسية (ولم تنشغل بما يؤسس لهذه المنتجات من بنيات عقلية ومعرفية واجتماعية)، كما لم يشغلها من المجتمع، بالمثل، إلا مجرد تغيير قشرته الخارجية السطحية، أي واقعه البراني الملموس (ومن دون أن تنشغل أيضًا بما يؤسس لهذه القشرة من أبنية ذهنية وقيمية كامنة). وبالطبع فإن ذلك مما يؤكد أن مركز التغيير لم يجاوز، منذ ابتداء الانشغال به في مصر، حدود «السطح الخارجي» إلى ما يرقد تحته أبدًا، سواء تعلق الأمر بأوروبا كمصدر للتغيير، أو بالمجتمع المصري ذاته، كموضوع لهذا التغيير، وبما يئول إليه ذلك من أن الأساس الفلسفي النظري الكامن، الذي يؤسس لكلٍّ من «التقدم» الأوروبي من جهة، و«التأخر» المصري من جهة أخرى، لم يكن موضوعًا لتفكير الدولة أو انشغالها. وفي كلمة واحدة، فإنه قد كان الانشغال الذي لم يجاوز فيه فعل التغيير حدود السطح أبدًا.
وليس من شك في أن ذلك يرتبط بأن الدولة لا تنشغل إلا بما هو قابل للتحقق البراني الملموس، ولا يمكنها التعويل — لذلك — إلا على المنتج النهائي الجاهز القابل للمعاينة والقياس. إنها — وإذا جاز التمثيل — تشتغل بمنطق «قطف الثمرة»، وليس أبدًا «تقليب التربة» وغرس الثمرة. وإذن فإنها، وفي كلمة واحدة، لا تنشغل بالتأسيس العقلي الجواني، بقدر ما تنشغل بالملموس المادي البراني. وغني عن البيان أن هذا الدور المركزي للدولة قد حدد الطريقة التي تعامل بها الآباء المؤسسون لما يقال إنه الفكر العربي الحديث (الذي يتحكم في بناء ما يقال إنها التجربة العربية الحديثة)، لا مع حداثة أوروبا فحسب، بل ومع التراث السائد في المجتمع أيضًا.
فقد راحوا يمايزون في الحداثة بين مكونين، أحدهما براني مسموح باستيراده ونقله، ويتمثل في منتجاتها الجاهزة التقنية والسياسية، والآخر هو مكونها الجواني المتمثل في أساسها النظري والفلسفي، والذي جرى التأكيد على لزوم الابتعاد عنه وعدم التعرض لعدواه. وعلى نفس المنوال، فإنهم ميزوا في تراث المجتمع بين ذات المكونين البراني والجواني، ولكن موقفهم بخصوص المقبول والمرذول من هذين المكونين في التراث قد اختلف عما كان عليه الحال في الحداثة. فالبراني في التراث قد صار هو «المرذول» على عكس ما عليه الحال في الحداثة، وأما الجواني فيه (وهو ما يتعلق بالبنية الذهنية المهيمنة) فهو «المقبول» على عكس ما عليه الحال في الحداثة أيضًا.
وتبعًا لذلك، فإن الصيغة التي جرى اعتمادها للتغيير قد انبنت على الجمع بين ما هو مقبول من التراث والحداثة معًا، وأعني بين البراني من الحداثة وبين الجواني من التراث. وهكذا جاءت الحداثة بمنتجاتها الجاهزة الجديدة، وحضر التراث بفكرته التقليدية، والجاهزة أيضًا، وكان مطلوبًا منهما أن يسكن الواحد منهما إلى جوار الآخر في سلام.
ولأن هذين المكونين لم يكونا مجرد مقولتين فارغتين، بل كانت لهما حواملهما الاجتماعية الحية، فإن هذه الحوامل كانت مجبَرة أيضًا على أن يسكن الواحد منها بجوار الآخر، وكانت الدولة هي التي تفرض عليهما هذا التجاور الساكن. ومع تراخي قبضة الدولة، فإن صيغة التجاور الساكن لا بد أن تنفجر، على نحو ما حدث في العراق، وما يحدث في مصر الآن.
ويبقى المستقبل مرهونًا بالقدرة على تجاوز هذا التجاور الساكن إلى ما يسمح بالتفاعل الخلاق بين المكونات الفكرية والاجتماعية، أو أن تستعيد الدولة قبضتها، بعد تعافيها، ويعود الأمر إلى ما كان.
(٣) الجماعة اليهودية
تحولت الدعوة إلى عودة اليهود المصريين إلى مصر، إلى مادة للاحتراب السياسي (بل وحتى الهزلي) بين شرائح النخبة المصرية المتنابذة. وإذا كان الباب قد انفتح — رغم كل شيء — أمام بعض الكتابات الرصينة التي سعت إلى التحاور مع هذه الدعوة، بالجدية الواجبة، فإن هذه الكتابات قد ركزت في معظمها على الجوانب التاريخية المتعلقة بخروج اليهود (الثاني) من مصر، وأهملت السياق الفكري الذي تحقق ضمنه هذا الخروج.
وإذا كانت المسألة اليهودية — التي شغلت الفكر الأوروبي الحديث — هي السياق الفكري للخروج اليهودي الحديث، على العموم، فإن حديثًا في الشأن اليهودي، من دون الوعي بها، يبقى ثرثرة من غير طائل. فقد فرضت جملة عوامل معقدة على اليهود أن يكونوا إحدى مشكلات عصر الحداثة، وأعني من حيث بلغوا هذا العصر، وهم يحملون على ظهورهم تاريخًا طويلًا حدد لهم وضع الجماعة التي وجدت نفسها تقوم — في إطار النظام الإقطاعي الوسيط — بوظائف وأدوار يستنكف غيرها عن القيام بها، ولكنها تبقى وظائف ضرورية، ولا يمكن للمجتمع الإقطاعي الاستغناء عنها. وبالطبع فإن التاريخ الطويل من الاختصاص بممارسة تلك الوظائف كان لا بد أن يؤدي — لا محالة — إلى أن تستبطن هذه الجماعة منظومة القيم والعادات الثقافية التي تقترن بهذه الوظائف؛ وإلى الحد الذي تكاد معه تصبح محددات لطرائقها في التفكير والتعبير والسلوك. فالإنسان — فردًا أو جماعة — لا يتشكل تفكيرًا وسلوكًا في الفراغ، بل ضمن سياق يفرض عليه شكل حضوره. وبالطبع فإن ذلك يعني سقوط الفكرة التي تقول إن ثمة طبيعة خاصة لجماعة ما هي التي تحدد لها شكل حضورها في العالم؛ حيث إن السياق التاريخي الشامل الذي يتطور وجود الجماعة داخله هو المحدد لشكل حضورها. ولأسباب ترتبط بطبيعة الظهور التاريخي المبكر للجماعة اليهودية، فإن الأنشطة التجارية والربوية كانت هي الأنشطة التي برزت فيها تلك الجماعة، ومن دون أن يعني ذلك أن اليهود لم يمارسوا غيرها على مدى التاريخ. وفقط فإن تركيز اليهود على ممارسة تلك الأنشطة بالذات هو الذي يقف وراء ظهور ما يسمى بالمسألة اليهودية، بكل ما أثارته — وما زالت — على صعيد الفكر والسياسة؛ إذ يبدو أن الظهور المبكر لليهود، على مسرح التاريخ، كجماعة من البدو العبرانيين الرُّحل هو الذي يقف اختصاصهم، أكثر من غيرهم، بالأنشطة التجارية والربوية التي تعتمد، وبشكل أساسي، على التنقل والتجوال. والحق أن الجماعات ذات الأصل الرعوي المترحل تبقى الأكثر استعدادًا للانهماك في النشاط التجاري. ولعل الأمر لا يقف، فحسب، عند مجرد سياق التشكل المبكر لليهود كجماعة من البدو العبرانيين الرحل، بل ويرتبط بما لاحظه بعض علماء الاجتماع الديني (المتأثرين بأفكار الألماني ماكس فيبر) من أن الدين اليهودي ذاته قد ساهم في جعل اليهود أقلية تعمل بالتجارة والربا؛ وذلك من حيث لا يركز هذا الدين على العالم الآخر، ولا يركز على الزهد في الدنيا، كما أن الدارس للتلمود يكتشف أنه يتحدث عن التجارة باعتبارها أشرف المهن، وعن الإقراض باعتباره هدية من الله لليهود. وبالطبع فإن ذلك كان لا بد أن يؤدي إلى تثبيت صورة اليهودي المرابي في المجتمعات التي عاش فيها اليهود؛ وهي صورة سلبية مرذولة، تجر على صاحبها الكراهية والاضطهاد.
ولقد ترتب على ذلك أنْ أخذ اليهود وضع الجماعة الطفيلية التي تتعلق على جسد المجتمع، ولكنها تبقى غريبة عن روحه، وقد أعطى ذلك لليهودي وضع من يسكن في المجتمع بجسده، ولكنه لا ينتمي إليه بروحه، فبدا أشبه بالإنسان المعلق في الهواء، فلا يندمج في المجتمع، ولا ينفصل عنه، بل يحيا في منطقة المابين، أو في المنزلة بين المنزلتين. وحتى كساكن بجسده في المجتمع، فإنه قد اختار الإقامة في معازل الجيتو، ليؤكد انفصاله وعزلته.
وهكذا فإنه قد ظل يعيش بإحساس أجداده الغابرين، وأعني إحساس العابر (اللامنتمي)، أو غير المقيم. وإذا كان الرب (إله العهد القديم) قد وهب أجداده أرضًا يستقرون عليها، فإنه — ورغم تنائي الزمان والمكان — قد ظل يحمل ولاءً غامضًا لهذه الأرض البعيدة؛ وهو ما فاقم من عزلته عن محيطه. ولقد كان ذلك كله — وبالتضافر مع حقيقة أن مسيحية المجتمعات، التي عاش اليهود بين ظهرانيها، قد جعلتها تحمل عداءً تقليديًّا لهم، بسبب ما تنسبه إليهم من تلوث أيديهم بدم المسيح — هو الأصل في كل التوترات التي أدت إلى ظهور المسألة اليهودية، التي كانت عنوانًا على أن اليهود، في المجتمعات الأوروبية، قد أصبحوا مشكلة لا بد من حل لها. ولقد تبلور التفكير في حلول للمسألة اليهودية في اتجاهين؛ مضى «أولهما» — وهو الحل التنويري — نحو إخراج اليهود من العصور الوسطى، عبر تخليص اليهودية من إرثها الأسطوري المتعلق بالعودة إلى أرض الميعاد، وتحويلها إلى ديانة أخلاقية روحية، ونبذ أي جانب يتعارض مع العقل منها، وفصل الدين اليهودي عما يسمى بالقومية اليهودية، ودعوة اليهود إلى الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، وأن يكون ولاؤهم لبلدانهم، وليس لقوميتهم الدينية المتخيلة.
ولقد استقرت السيادة لهذا الطرح على مدى أكثر من قرن، حتى نهايات القرن التاسع عشر التي شهدت تبلور الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، الذي تستقر له السيادة حتى الآن، رغم وفائه لتقاليد العصور الوسطى؛ حيث ينبني على تحفيز المواريث الأسطورية في اليهودية، وربط الدين اليهودي بالقومية والأرض، ودعوة اليهود للعودة إلى جبل صهيون، وإلى أن يكون ولاؤهم للأرض الموعودة القديمة، وليس للبلدان التي يعيشون فيها. وباختصار، فإنه يقوم على أن تجاوز المأزق اليهودي لن يكون إلا بالعودة إلى الماضي ما قبل الحديث؛ وذلك فيما يقوم الحل التنويري على ضرورة أن يكون اليهود جزءًا من الحداثة الحاضرة. ورغم معاداته لروحها، وذلك من حيث يقوم على استدعاء حلول الماضي، وإدارة الشأن السياسي والاجتماعي لليهود بالدين، فإن الحداثة الأوروبية قد انحازت للحل الصهيوني لما يقدمه من خدمة لسياساتها الاستعمارية في الشرق الأوسط.
لكن الغريب حقًّا، ألا يدرك دعاة الإسلام السياسي أنهم — وببنائهم لخطابهم على استدعاء حلول الماضي، وإدارة الشأن السياسي بالدين — إنما يدعمون استمرار الحل الصهيوني، على نحو لا يملكون معه القدرة على وضع نهاية له … لذا لزم التنويه.
(٤) الميدان والتمثالان
جانب من مظاهرات التحرير هي بالطبع صدفة أن يكون الشاهدان على الثورة العارمة التي تواصلت في ميدان التحرير هما السيدين «عمر مكرم»، الذي يقف بردائه التقليدي عند جنوب ميدان التحرير، فيما يحتل الشهيد «عبد المنعم رياض» ببذلته العسكرية شمال الميدان في مشهد دال. والحق أن وقوع هذا الحدث العارم تحت أقدام هذين الرجلين بالذات يحتاج إلى قراءة، ليس فقط لكونه يختزل المشهد، بل ولكونه يؤشر على ما يمكن أن يكون باب الخروج إلى المستقبل الذي يستحقه هذا البلد الرائع بكل فئاته التي احتشدت في الميدان.
فمن جهة يرمز الرجلان إلى الإرادتين الراسختين بثبات في الميدان، وأعني إرادة الشعب يمثلها السيد «عمر مكرم»، وإرادة الجيش يمثلها الفريق الشهيد «عبد المنعم رياض». فقد كان «عمر مكرم» نموذجًا لما يمكن أن يكون المثقف العضوي الذي يمثل إرادة شعب اختار في لحظة فارقة من تاريخه أن يفرض إرادته، وأن يختار بنفسه حاكمه على الضد من إرادة القوة ممثلةً في الدولة العلية آنذاك. وبالطبع فإن نموذج هذا المثقف العضوي، رغم تقليديته، سرعان ما سيختفي ليحل محله نموذج المثقف الذي يسود الآن، وأعني به المثقف خادم الدولة، والذي يتخبط الآن بين ولائه للدولة وبين ما يحدث في الميدان من استعادة لسلفه المنحاز لمجتمعه. فهؤلاء المحتشدون في الميدان لا يفعلون إلا أن يستعيدوا للشعب حقه في اختيار حاكمه على الضد من إرادة القوة التي يمثلها تحالف الاستبداد والفساد.
ومن جهة أخرى، فإن الفريق «عبد المنعم رياض» لم يكن ممثلًا لإرادة جيش يُصر على الحرب ليستعيد شرفه وكرامته بعد ما تعرَّض له في حرب الأيام الستة، بقدر ما كان أيضًا معبرًا عن إرادة شعب اختار أن يحتمل الكثير واقفًا وراء جيشه في معركة استعادة الكرامة للشعب والجيش معًا. وإذا كان الميدان يشهد استعادة جنينية لنموذج المثقف العضوي الذي اختار أن يكون صوتًا لحاجات مجتمعه، فإن الكل يتمنى أن يشهد الميدان استعادة مماثلة لنموذج الفريق الشهيد «عبد المنعم رياض» الذي توحدت فيه، في لحظة استثنائية، إرادة الجيش والشعب معًا.
(٥) المصريون والحرية
رغم أن الحرية كانت أحد أهم المطالب التي دوَّت بها حناجر الخارجين على مبارك، على مدى الأيام السابقة على رحيله، فإن نظرة على ما جرى على مدار الأشهر العشرين التي أعقبت السقوط المدوي لنظامه، لتكشف عن الاتجاه إلى الإثقال على المجالين العام والخاص، بالمزيد من القيود والكوابح، بدلًا من التخفيف عنهما وتحريرهما، بما يفتح الباب لإخراج مصر من الأزمة التي تتخبط فيها على مدى عقود. ولسوء الحظ، فإنه يجري الترويج لهذا الإثقال على مصر، بأنه نتاج الإرادة (الحرة!) للمصريين، وعلى النحو الذي يجري فيه الإيهام بأن هذا الفعل المهدد للحرية، هو فعل «حرية». وبالطبع فإن ذلك لا بد أن يفتح الباب أمام التساؤل عن مشروعية أن تلغي الحرية نفسها، وعما إذا كان ممكنًا للناس أن يلغوا حريتهم ويهربوا منها، وهل يكونون أحرارًا بالفعل حين يقومون بذلك، أم إنهم يكونون مجبرين على ذلك، حتى وإن بدا أنهم يفعلونه بإرادتهم؟
يكشف ما سبق لعالم التحليل النفسي الأمريكي «إريك فروم» القيام به في كتابه الشهير «الهروب من الحرية» — الذي خصصه لتحليل تجربة الشعب الألماني أثناء الحقبة النازية — عن حقيقة أن الناس يكونون مجبرين على هذا «الهروب من الحرية»، حتى وإن بدا أنه يكون إرادة لهم؛ فقد كشف له تحليل تلك التجربة الأليمة عن أن رضوخ الألمان لسلطة «الفوهرر» المطلقة، لم يكن اختيارًا لهم، بقدر ما كان فعل «اضطرار» دفعت إليه الظروف القاسية التي واجهتها ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب الأولى، وبكل ما ترتب عليها من نتائج كارثية لا تقف عند حدود السياسة والاقتصاد، بل تتجاوزها إلى ما كان يعتمل في النفسية الجريحة للشعب الألماني. وبالطبع فإن كون الأسباب المحددة للفعل لا تقف عند حدود ما يمسك به الوعي، بل تتجاوزه إلى ما يرقد تحته في الأغوار السحيقة للمكبوت اللاواعي للشعوب، ينتهي — وبالضرورة — إلى أن الفعل الصادر عنها لا يمكن أن يكون فعل حرية واختيار، بقدر ما هو — وبيقين — فعل «اضطرار».
لم يكن الألمان، إذن، أحرارًا في هربهم من حريتهم، بل كانوا تحت وطأة ضغوط لم تسمح لهم بغير ما فعلوه. إن ذلك يعني — ومن دون أي مواربة — أن فعلًا يلغي «الحرية» لا يمكن أن يكون — هو نفسه — فعل «حرية»، وفقط فإن الضغوط والإكراهات التي تحدده وتتحكم فيه تتوارى عن وعي صانعيه، فيجعلهم هذا التواري يتصورون أن فعلهم حر، وهو ليس كذلك بالفعل. وبالطبع فإن ما يثير الالتباس، بهذا الخصوص، هو أن هذه الإكراهات والضغوط تكون على قدر من الرهافة، لا يسمح لها بأن تكون موضوعًا لوعي مباشر. ويرتبط ذلك بأنها لا تكون عوائق خارجية يسهل على الوعي ملامستها والإمساك بها، بل تكون جزءًا من البنيات الداخلية الأعمق (النفسية والذهنية) للجمهور، وبما يعنيه ذلك من أن توجيهها لهذا الجمهور يكون خارجًا عن سيطرة وعيه على نحو كامل. إن ذلك يعني وجوب السعي إلى الكشف عن هذه الإكراهات المتخفية، ووضعها تحت بصر الجمهور، ليتسنى الانتقال به إلى مقام الفاعل الحر حقًّا. ومن دون ذلك فإن الفعل الصادر عن هذا الجمهور سيظل فعل «لزوم وإجبار»، حتى وإن توافرت له كل الأدوات الخارجية التي تتحقق من خلالها أفعال «الاختيار»، كالانتخابات وغيرها.
وإذ لا يمكن الشك أبدًا في أن مجمل هذه الإكراهات الرهيفة الناعمة تفعل فعلها في المشهد المصري الراهن، فإن فعالية الشرط المعرفي من بينها تبدو الأكثر اشتغالًا في تفسير ما يظهر من الإثقال بالقيود والكوابح على المجالين العام والخاص. وهنا تأتي المفارقة من أنه إذا كان فعل «المعرفة» هو الجوهر العميق لفعل «الحرية»، فإنه يبدو وكأنه يمثل — في الحال المصري — جوهر ما يتهدد الحرية الحقة للمصريين، وهنا يلزم التنويه بأن التأكيد على أن تصور الحرية، ومعها المعرفة، كفعل إنما يرتبط بوجوب إدراك الواحدة منهما كممارسة «مفتوحة»، وليس كجوهر أو معطًى «ثابت»، وهو أمر له دلالته القصوى؛ حيث إن تصور المعرفة، مثلًا، كمعطًى «ثابت»، على النحو الذي يجعل منها معرفة «مطلقة وموهوبة» من مرجعية عليا (لن تتردد عن فرض نفسها كسلطة كهنوت)، لا يمكن أن يؤسس لحرية حقة، بل إنها ستكون، بدورها، «هبة» يستطيع من يهبها أن ينتزعها حين يشاء. وحين يدرك المرء أن ثمة من قد سعوا، بالفعل، إلى تثبيت مفهوم «المرجعية» الحاكمة عند الخلاف (حول الشريعة) في الدستور المصري الجديد، فإن له أن يقدر حجم ما يتهدد مستقبل الحريات في مصر.
وإذ يبين أن الجماعات السلفية كانت هي الأعلى صوتًا في الدعوة إلى تثبيت مفهوم «المرجعية» في بنية دستور ما بعد الثورة المصرية الذي جرى الاستفتاء عليه، فإن ذلك يرتبط بما أكده الآباء المؤسسون للخطاب السلفي من عدم جواز أي معرفة إلا عبر الابتداء بتثبيت «مرجعية» تقوم مقام الأصل الذي يحدد ما يمكن «القبول» به منها، وما لا يمكن أن يكون مقبولًا أبدًا.
يقول صاحب كتاب «الحيدة وانتصار المنهج السلفي»: «لا بد من أصل يُرجع إليه عند الاختلاف، فنؤصل بيننا أصلًا، فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه فيه «قبلناه»، وإلا رميناه، ولم نلتفت إليه.» إن ذلك يعني أن ما يبين من سعي السلفيين إلى الإثقال بالقيود على حرية التفكير من خلال تثبيت مفهوم المرجعية في الدستور، هو محض انعكاس لنظام المعرفة الذي صاغه الآباء المؤسسون.
ولعل ذلك يعني أن تحول المعرفة إلى عائق يتهدد الحرية إنما يرتبط بكيفية انبنائها، وأعني بما إذا كانت تنبني كممارسة مفتوحة (تكون فيها شئون الناس موضوعًا لحوار العقلاء)، أو تنبني كهبة معطاة من سلطة أو مرجعية عليا، تقع خارج دوائر النقاش والسؤال. وغني عن البيان أن انبناءها، كهبة معطاة من سلطة ما، هو أخطر ما يتهدد آفاق التحول الديمقراطي في مصر، وأعني من حيث تكون المعرفة، على هذا النحو، إطارًا لترسيخ العقل التابع (الذي تحيل تبعيته إلى خضوعه)، بدل أن تكون ساحة لانبثاق وتبلور العقل الناقد بما يحيل إليه من قدرة على التفكير المستقل، التي هي بمثابة الشرط المؤسس لكل حرية.
ولأنه ليس من المتوقع أن يتحقق تحول سريع في نظام إنتاج المعرفة الغالب على الجمهور في مصر (لأن هذا النوع من التحول يكون في حاجة إلى زمن متطاول نسبيًّا)، فإن للمرء أن يتوقع أن تدوي حناجر المصريين من أجل الحرية، بعد زمن قد يطول أو يقصر، ومع الأمل بأن يكونوا قد انتقلوا بالمعرفة، حينها، من مقام «المعطى الجاهز» (وهو النمط الذي يمثل الجذر الغائر لكل استبداد)، إلى وضع «التكوين المفتوح» (على النحو الذي يجعل منها، هي نفسها، فعلًا تحرريًّا)؛ وذلك لكي يحرثوا البحر من جديد.
(٦) ديمقراطية من غير ديمقراطيين
لعل أحدًا لا يجادل في أن أصل المأزق المصري الراهن يرتبط بما يتبدى من عوائق تحول دون إنجاز التحول الديمقراطي على نحو سلس هادئ. لكن هذا التصور ينطوي على ما يجعله، هو نفسه، مأزقًا لا بد من التفكير فيه؛ وأعني من حيث يقوم على اختزال العوائق في مظهرها الخارجي القابل للمعاينة (والذي تم تركيزه في القوى المضادة التي يعنيها إعاقة التحول نحو الديمقراطية في مصر). ونسي أن ثمة ما يفوق هذا النوع من العوائق خطرًا وكارثية؛ وأعني بها العوائق الباطنية الكامنة التي تتخفى في أنظمة التفكير ومنظومات القيم السائدة، والتي تكاد لتخفيها أن تستعصي على الإمساك والمعاينة. ولسوء الحظ، فإن خطر وكارثية هذا النمط من العوائق المتخفية يتفاقم في السياق المصري الراهن، ليس فقط بسبب ما يبدو من غلبة حضوره في ممارسات قطاعات واسعة من النخبة التي تقوم على إنجاز هذا التحول نحو الديمقراطية، بل — والأهم — بسبب شكل حضوره المراوغ الذي يجعل منه جزءًا من بنية ذهنية وقيمية يستبطنها الأفراد داخلهم، فلا يستطيعون الانفصال عنها إلا عبر وعي نقدي ليس ميسورًا للكثيرين منهم. وبالطبع فإنه لا معنى للطلب من مثل هؤلاء الأفراد — الذين يستبطنون في أعماقهم تلك البنيات الذهنية والقيمية المعيقة للديمقراطية — أن ينتجوا الديمقراطية، إلا أنه الطلب للديمقراطية من غير الديمقراطيين.
ولأنه يغلب على تشخيص النخبة للعائق (أمام الديمقراطية) أنه براني يقع في الخارج، فإن ما تصفه من العلاج اللازم لتجاوزه، لا يتعدى، بدوره، حدود الحل الخارجي البراني (متمثلًا في ضرورة استيفاء الإجراءات الديمقراطية الشكلية). وفي ذلك، فإنها لا تجاوز — رغم نواياها التي لا غبار على نبالتها — حدود ما قام به أسلافها، على مدى القرنين الماضيين من الحرص على استيفاء الجانب الإجرائي الشكلي في الديمقراطية، وذلك من دون الإمساك بجوهرها العميق أبدًا، فإن استيفاء المباني الإجرائية الشكلية للديمقراطية، لا يعني أن المعاني التي تسكن تلك المباني قد حضرت معها، بل إنه قد يكون المقصود من الإلحاح على قيام مجرد المباني، هو التغطية على الغياب الفعلي للمعاني التي قامت تلك المباني، في الأصل، من أجل تفعيلها وتحقيقها.
ولعلي أبدأ بالاعتذار لاستخدامي ضمير المتكلم؛ لأني سأحيل إلى وقائع كنت طرفًا فيها، ومن ممارسة من يُفترض أنها النخبة الأرقى؛ وأعني نخبة الجامعة التي أتشرف بالانتماء إليها. فقد راحت تحضر الديمقراطية، ولكن كمحض إجراء براني راح يئول — وللمفارقة — إلى تحصين أكثر القيم ابتعادًا عن الديمقراطية ومخاصمة لروحها. ولعل ذلك مما يزيد المأزق الديمقراطي تفاقمًا؛ وأعني من حيث ما يتبدى من أن وعي الشرائح التي يجري التعويل عليها في إنتاج الوعي النقدي اللازم لتجاوز هذا المأزق، يكاد أن يكون هو نفسه ساحة لاشتغال عوائق الديمقراطية الكامنة المتخفية.
ففي إطار سعيه إلى إعادة تشكيل لجانه النوعية، أرسل المجلس الأعلى للثقافة إلى الأقسام العلمية المختصة بنشاط لجانه في الجامعات المصرية، طالبًا ترشيحاتها لمن تراه أهلًا من بين أعضائها لشغل عضوية تلك اللجان. في القسم الذي أنتمي إليه استوفينا الشكل تمامًا، فقد منح السيد رئيس مجلس القسم لكل واحد منا ورقة فارغة ليُدون فيها اختياراته على نحو سري. لكنه وقبل البدء في تدوين الاختيارات، راح أحد الزملاء ينبه الكافة إلى ضرورة أن يتذكروا «أساتذتنا الكبار» في اختياراتهم. ولعل الزميل، ومن دون أن يدري، كان يستدعي من المخزون المبدأ الأبوي لكي يشتغل في تلك اللحظة الحاسمة، وأبدًا لم يخذله الزملاء، ولا المبدأ. فلو أن أحدًا تأمل في النتائج التي أسفر عنها هذا الإجراء الديمقراطي (اللطيف)، لما وجد إلا أنه قد آل إلى ترسيخ قيم الأبوية والسلطوية والحرص على المصالح الأنانية، والتي تتناقض جميعًا — وعلى نحو لا يقبل المنازعة — مع روح الديمقراطية الحقة. وهكذا فإن أحدًا لم يتساءل عن المهام المنوط بتلك اللجان أداؤها؛ وذلك على النحو الذي يتيح له أن يحدد اختياراته على أسس موضوعية عقلية؛ بحيث تكون للأصلح والأقدر على التصدي لتلك المهام، بل اتجه سريعًا إلى تفعيل القواعد والمبادئ الحاكمة لممارسته وطريقة اشتغاله؛ والتي هي لا عقلانية في جوهرها لسوء الحظ.
فإذ لا يتأسس اختيار شخص ما لأداء مهمة بعينها على الوعي (أولًا) بطبيعة المهمة التي يتعين عليه القيام بها، ثم بقدرته (ثانيًا) على القيام بأعباء تلك المهمة، فإنه لا يكون اختيارًا قائمًا على العقل. وإذ لا يكون قائمًا على العقل، فإنه لا يكون — رغم استيفائه لمتطلبات الشكل — اختيارًا حرًّا. إنه اختيار يقوم على أحكام وتحديدات مسبقة تسود الثقافة، ويستبطنها الفرد داخله إلى الحد الذي تصبح معه جزءًا من صميم كينونته؛ وعلى النحو الذي يتعذر معه أن تكون موضوعًا لفحص واختبار نقدي؛ لأنه لا يقدر على تحقيق الانفصال عنها ليفحصها موضوعيًّا. ومن هنا ما يمكن الحكم به عليها من اللاعقلانية. إن المفارقة تتأتى هنا من أن قسمًا علميًّا يُفترض فيه أن يقوم على حراسة العقل (وهو الأعلى لذلك في الرتبة بين أقسام العلوم الإنسانية) يمارس تبعًا لمبادئ اللاعقل من الأبوية والسلطوية والمصالح الأنانية.
وحين يضيف المرء إلى ذلك ما يلاحظه، مما يتكشف عنه المشهد المصري الراهن، من سعي بعض القوى السياسية الناشطة على سطحه إلى تشغيل الإجراء الديمقراطي بكافة مظاهره البرانية (من الترشح والانتخاب وخلافه) إلى تكريس وترسيخ ما ستكون أكثر أنواع السلطة إطلاقًا وشمولًا، وذلك من حيث يستحيل إخضاعها للمساءلة والمحاسبة بسبب تخفيها وراء حصانة الدين وقداسته، فإن ذلك يعني أن الإجراء الديمقراطي الذي يستوفي ترتيبات الشكل سوف يكون — وللمفارقة — محض أداة لإنتاج أكثر الديكتاتوريات تسلطًا وكليانية. فإنه ليس من شك في أن قوة تقول إنها تبغي السلطة لتطبيق شرع الله وقانونه، سوف تجعل من أي محاسبة أو مساءلة لها — حين يصل بها الإجراء الديمقراطي إلى سدة السلطة — بمثابة مساءلة ومحاسبة لشرع الله الذي تحكم باسمه، والذي يتعالى على المساءلة والحساب. وغني عن البيان أن إلغاءً للمساءلة والحساب هو إلغاء للديمقراطية في الجوهر؛ وعلى النحو الذي تتجلى معه مفارقة الإجراء الديمقراطي (المستوفي لترتيبات الشكل)، وهو يعمل ضد حقيقة الديمقراطية على نحو كامل.
وانطلاقًا مما سبق، فإنه لا ينبغي الظن بأن استيفاء ترتيبات الشكل (فيما يخص التحول الديمقراطي) سوف يؤدي آليًّا إلى تحقيق الجوهر والروح؛ حيث إن هذا الأخير يبقى مشروطًا بعمل معرفي يقوم عليه الراسخون في العلم الإنساني، وتكون ساحته «الجامعة» التي لا بد أن معنى استقلالها يتجاوز — في وعي أصحابه — مجرد الدعوة الراهنة لانتخاب قياداتها، إلى ضرورة تأهيلها لأداء دورها الرئيس في البحث وإنتاج المعرفة، وبناء شروط التأسيس. يحتاج الأمر، إذن، إلى اجتهاد معرفي، يبدو أن ما يشغل النخبة عنه هو ما يبذله نجومها من الجهد الليلي في الثرثرة، أمام الكاميرات، بكل ما يحفظون من قاموس المكرور والمعاد.
لا بد، في المقابل، من عملٍ جدي يتجاوز ثرثرات الليل إلى تعرية البنية العميقة التي تقف وراء تلك الممارسة التي تهدد التحول الديمقراطي المصري؛ وهو عمل ستكون ساحته الثقافة التي تتحصن فيها تلك البنية الكامنة العميقة، والتي تتحقق في شكل قواعد تفكير، ومنظومات قيم، وموجهات سلوك تظل جميعها بمنأًى عن هيمنة الوعي عليها. ومن هنا أن تفكير الناس وقيمهم وسلوكهم تصبح ساحات لإعادة إنتاج هذه البنية أبدًا، لا بد بالتالي من سيطرة الوعي على الأشكال التي تتحقق فيها البنية العتيقة (تفكيرًا وقيمًا وسلوكًا)، وإلا فإن المأزق سيظل قائمًا أبدًا؛ وأعني مأزق ديمقراطية يراد منها أن تشتغل في إطار بنية ذات طابع ذهني وقيمي وسلوكي مناقض لجوهرها، فلا تفلح إلا في استيفاء الشكل من دون الجوهر والروح.
وفي الختام فإنه يلزم التأكيد على أن الأمر لا ينطوي على الدعوة إلى أن يتوقف الناس عن ممارسة الديمقراطية (أعني بترتيباتها الشكلية الإجرائية)، بقدر ما هو التأكيد على ضرورة أن تكون هذه الممارسة مصحوبة بالسعي الواعي إلى الانعتاق من العوائق الكامنة المتخفية في أعماق الثقافة السائدة، والتي تحول دون إنتاجها على نحو يتخطى المظهر إلى الروح والجوهر. وبالطبع فإن نجاح مثل هذا السعي يبقى مشروطًا بما ينبغي أن تقوم به النخبة من عمل جدي يتمثل في الحفر النقدي داخل الثقافة، ليتسنى تعرية وفضح الجذور الغائرة لعوائق الديمقراطية الكامنة؛ وبما ينفتح معه الباب أمام حضورها الفاعل الأصيل.
(٧) الخطر على الديمقراطية
لعل أخطر ما يجابه أي تجربة في التحول الديمقراطي هو التعامل مع الأفكار — بصرف النظر عن نوعها ومصدرها — كمطلق ينبغي تكراره، وأعني من حيث ما تنطوي عليه الإطلاقية، عمومًا، من الإهدار الكامل للفكرة الإنسانية، وإذا كانت الفكرة الدينية هي الأكثر إغراءً بالتعامل معها كمطلق، فإن تحليلًا لظاهرة الدين والوحي، على العموم، ينتهي إلى وجوب الوعي بدخول العنصر البشري، على نحو حاسم، في التركيب المنطقي واللغوي والتاريخي لتلك الظاهرة؛ وعلى النحو الذي يستحيل معه استيعابها خارج تحديدات الشرط الإنساني أبدًا. فإذ يبدو لزوم أن يكون الشرط الإنساني هو الأساس المنطقي للانتقال من لحظة إلى أخرى في تركيب ظاهرة الوحي (حتى لا يصار إلى رد هذا الانتقال إلى تغيرات تطرأ على الذات الإلهية كمصدر للوحي)، فإن تنزيل الوحي داخل لغة ما (واللغة ليست محض وسيط اتصال محايد، بل نظام تفكير كامن خلف الألفاظ والعلاقات التي تقوم بينها)، إنما ينطوي على تحدد الوحي بهذا النظام الكامن … ومن جهة أخرى، فإن كون الوحي يكون حوارًا مع واقع المخاطبين به، إنما يكشف عن تحدده بما يمثل تاريخهم الحي.
وبالطبع فإن ذلك يعني أن الوحي لا يفرض نفسه كبنية مغلقة ومطلقة تعلو على البشر (تفكيرًا وتاريخًا)، بل كتركيب يقوم على الحوار المفتوح مع تاريخهم ونظام تفكيرهم. وهكذا، فإن الوحي الذي يتخفى الكثيرون وراءه من أجل تثبيت رؤاهم الخاصة كمطلقات لا تقبل التجاوز، يبين — هو نفسه — عن روحٍ تُخاصمُ «الأطلقة» وتأباها. وللمفارقة، فإن ذلك يعني — بوضوح وصراحة — أن الوحي ليس هو الأصل المنتج للأطلقة (كآلية تفكير تسود فضاء التفكير العربي من دون تمييز بين تراثي وحداثي)، بقدر ما هو أحد أكبر ضحاياها.
لا بد، إذن، من التمييز بين «المطلق الإلهي» الذي انفتح بوحيه على البشر (تفكيرًا وتاريخًا)، وبين «الأطلقة» كآلية يسعى بها البعض إلى وضع ما يدخل البشر في تركيبه، خارج مجال التفكير والتاريخ. وللغرابة، فإن ذلك ما أدركه الجيل الأول من متلقي الوحي المحمدي (الصحابة)، الذين تكشف تجربتهم عن روحٍ تُخاصمُ «الأطلقة»، وعن إدراك للوحي كساحة للحوار المفتوح الذي لا يتقيد إلا بدواعي المصلحة، كما تبدت لهم حينها. وهكذا فإنهم لم يضعوا الوحي كأصل أولي مطلق، لا مجال إلا لإكراه الواقع على النزول تحت تحديداته والانصياع لتعليماته، بل تحاوروا معه بما كشف عن وعيهم بوجوب إنصات الوحي ذاته لصوت الواقع.
يقول إمام أهل السنة الكبير أبو المعالي الجويني: «إن سُبِر (أي جرى فحص) أحوال الصحابة رضي الله عنهم، وهم القدوة والأسوة في النظر، لم يُرَ لواحد منهم في مجالس الاستشوار (أي المشاورة) تمهيد أصل أو استثارة معنًى، ثم بناء الواقعة عليه (كما فعل اللاحقون عليهم)، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن. فإن أصحاب رسول الله ﷺ ما كانوا يجرون على مراسم الجدليين في تعيين أصل والاعتناء بالاستنباط منه، إنما كانوا يرسلون الأحكام، ويعلقونها في مجالس الاستشوار (المشاورة) بالمصالح الكلية.»
ينكشف هذا النص النادر والثمين عن طريقة منفتحة في مقاربة الوحي تقوم على «الخوض في وجوه الرأي، وإرسال الأحكام وتعليقها على المصالح الكلية، من دون تمهيد أصل يُبنى عليه كنموذج مطلق»، وذلك في مقابل ما مارسته الأجيال اللاحقة على هذا الجيل الأول من متلقي الوحي (وممن يقال إنهم السلف بالذات)، من «تمهيد الأصول، وعدم الالتفات إلى الرأي». وضمن سياق هذا التمهيد للأصول فإنهم قد مارسوا ضروبًا من «الأطلقة»، ليس للوحي فحسب، بل وحتى لتجربة الصحابة المنفتحة ذاتها، والتي استحالت — تبعًا لذلك — من تجربة لها تاريخ إلى أصل مطلق يقف خارج أي تاريخ. ولقد تحققت هذه الإحالة لتلك التجربة من «تاريخ» إلى «أصل مطلق» عبر عزلها عن السياق الذي تبلورت داخله؛ وبما آل إلى تبديد روحها بالكلية، حيث استحالت إلى محض ركام من الشواهد والأصول النصية المبعثرة، والتي كان لا بد أن تفقد مع هذا التجريد والتبعثر مغزاها ودلالتها الأعمق.
وإذ تتحول التجربة إلى «أصل» فإنها تثقل على كل التاريخ اللاحق، وذلك من حيث تغدو موضوعًا للامتثال والتكرار، بدل أن تكون ساحة للتمثل والحوار. وإذن، فإن «الأطلقة» — وليس سواها — هي ما يحيل تجارب البشر من «تاريخ حي» إلى «نص أو أصل جامد» يقف خارجه؛ على النحو الذي يكون معه أشبه بالشاهد المصمت المعلق على قبر صاحبه، والذي لا يعرف الخَلف اللاحق إلا التعبد في ظلاله. وتلك هي جوهر الممارسة السلفية؛ على أن يكون معلومًا أن هذه الممارسة لا تقف عند حدود من يقال إنهم سلفيو هذا الزمان، بل تتجاوزهم إلى من يقال إنهم حداثيوه أيضًا. وسواء مورست هذه «الأطلقة»، تحت يافطة الدين أو العلمانية، فإنها تمثل خطرًا داهمًا على الدولة.
ولقد كانت السياسة هي أحد مجالات التحول بتجربة الصحابة من «تاريخ» إلى «نص» أو أصل يقف خارجه، فإذ لم يتوافر للجيل الأول من المسلمين، ما يمكن أن يكون «نصًّا» أو أصلًا يفكرون به في السياسة؛ نتيجة لعدم توافر عرب ما قبل الإسلام على تراث مؤثر في ممارسة السياسة والتفكير فيها من جهة، وبسبب سكوت الوحي عن تعيين طرائق محددة لممارستها والتفكير فيها، من جهة أخرى، فإنه لم يكن أمام هذا الجيل إلا أن تكون له «تجربته» الخاصة في السياسة. ولقد كانت «تجربة» تتسم بالانفتاح والحرية، من حيث تعليق الأحكام على المصالح، واعتبار شروط ومحددات الواقع، وعدم التقيد بأصل أو نص يحكمون به الواقعات والنوازل السياسية. ومن هنا، مثلًا، أن هذه التجربة لم تعرف وصفًا منضبطًا منذ البدء للقائم بأمر السلطة (فهو «الخليفة» أو «أمير المؤمنين»)، كما لم تعرف طريقة واحدة في تعيين هذا القائم بالسلطة (حيث اختلفت طريقة تعيين الخلفاء من الأول إلى الرابع)، كما لم تعرف ضوابط محددة لممارسة السلطة وحدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم (وبما ترتب على ذلك من المشكلات التي انفجرت في وجه الخليفتين الثالث والرابع، وأودت بهما إلى مصائرهما الدامية). ولكن الغريب حقًّا أن هذه التجربة الحية المتوترة سوف تتحول — مع الاشتغال عليها بمنطق الأطلقة، وذلك عبر تفتيتها إلى مفردات مبعثرة ومعزولة عن السياقات الحاكمة لها — إلى نموذج جرى التعالي به إلى مقام «الأصل» المطلق الذي يلزم إعادته وتكراره. وغني عن البيان أن ذلك قد آل إلى إفقار التجربة، بعد أن أفقدها عناصر الانفتاح والحيوية، وأحالها إلى محض شاهد مصمت يراد من كل واقع لاحق أن يكون مجرد ظل له.
ولسوء الحظ، فإن محض نظرة عابرة على ما تطرحه فيالق الإسلام السياسي التي تتصدر المشهد في عالم ما بعد الثورات العربية، إنما تكشف عن الهيمنة الكاسحة لهذه «الأطلقة» على قراءتها للإسلام (نصًّا وتاريخًا)، وهو ما يمثل الخطر المحدق على ممكنات الديمقراطية.
(٨) انتخاب رئيس أم صناعة قيصر؟!
على الرغم من أن مصر لم تدفن بعدُ قيصرها السابق الذي لا يزال يتمدد على محفته ينتظر موتًا يأبى إلا أن يعانده، فلا يأتيه ليريحه، ويريح غيره، فإن الشرائح الغالبة من نخبتها (التي هي — ولسوء الحظ — أصل نكبتها) قد انخرطت في عملية إنتاج قيصرها البديل، وعلى النحو الذي لا بد أن يستعيد معه المرء ما قاله الشاعر المصري الكبير أمل دنقل: «لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر يموت … قيصر جديد.»
ولأن «القيصرية» لم تكن تعني، منذ ابتداء تبلورها مع الرومان، إلا إطلاق السلطة للحاكم، وإلى الحد الذي يُدنيه من مقام «الإله»، فإن الرومان كانوا يضعون في عربة القيصر من يذكره أنه ليس إلهًا. وإذا كان أحد لا يجادل في أن «مبارك» قد جعل نفسه — أو جعله غيره — قيصرًا يقف خارج حدود السؤال والمحاسبة، وإلى حد إمكان القول بأن الثورة عليه تنطوي في حقيقتها على السعي إلى إسقاط تلك «القيصرية»، فإن الأمر الغريب حقًّا هو ما يجري، الآن، من الانخراط الدءوب في إعادة إنتاجها، وليس تفكيكها. ولعل الغرابة تبلغ مداها، حين يدرك المرء أن هؤلاء المنخرطين في السعي الدءوب لإعادة إنتاج تلك «القيصرية» التي تدني الحكام من مقام الرب-الإله، هم من يقولون عن أنفسهم إنهم أهل التوحيد الخالص لله.
فإن نظرة على الممارسة الراهنة للقطاع الغالب من الطبقة السياسية المصرية لا تكشف عن غير السعي إلى إعادة إنتاج «الرئيس-القيصر». وتبعًا لذلك، فإنه يبدو وكأن الأمر لم يتجاوز حدود الثورة على «قيصر» بعينه (هو مبارك)، إلى الثورة على ثقافة إنتاج القياصرة التي لا يمكن مع تجذرها في الوعي — وحتى اللاوعي — الجمعي (بمضامينه النفسية والمعرفية والاجتماعية)، إلا أن يظل القياصرة يتناسلون أبدًا. وللمفارقة، فإنه إذا كان الارتقاء بمبارك إلى مقام «القيصر» قد تحقق بعد سنوات من اعتلائه السلطة، فإن ما يلحظه الكافة من ابتداء جماعات الإسلام السياسي — من الإخوان والسلفيين — مسار السعي إلى السلطة بالتسامي بمن يريدون له وراثة مبارك إلى مقام القيصر، قبل أن يتم تنصيبه رئيسًا، إنما يكشف عن سهولة إنتاج «القيصرية» عبر التلاعب بالرأسمال الرمزي (الديني بالأساس) للجمهور. ولكن ذلك لا يعني أن «الدين» هو الأصل المنتج لتلك «القيصرية»، بل إنها تجد ما يؤسس لها — بالكلية — في القلب الصلب للثقافة التي تحققت لها السيادة في عالم العرب، والتي راحت تمارس توجيهًا على الدين نفسه.
ليس الدين، إذن، هو ما يؤسس للتعالي بالحكام إلى مقام القياصرة، بل هي الثقافة التي جعلت من مبارك قيصرًا، رغم أنه لم يعتمد على الرأسمال الديني في بناء سلطته كقيصر، بمثل ما أنها هي التي يقف كلٌّ من الإخوان والسلفيين تحت مظلتها في بناء السلطة الرمزية لقادتهم، وإن كانوا يتميزون فقط بتحفيز الفاعلية الكامنة لتلك الثقافة عبر استدعاء الرأسمال الديني الطافي على سطح الوعي الآن.
فقد اعتمد الإخوان المسلمون والسلفيون في بناء السلطة القيصرية، لمن تقدموا بهم لوراثة مبارك، على التعالي بهم إلى مقامات مخصوصة يجاوزون فيها حدود البشر العاديين. فحين لا يجد المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ما يزكي به مرشح جماعته، إلا أنه رجل خصَّه الله بمكرمة قبول الدعاء التي لا يخص بها إلا المصطفين من عباده، فإنه كان يخايل بأن الرجل هو أحد أصفياء الله، وبما يعنيه ذلك من امتياز بمقام مخصوص لا يدانيه فيه غيره. وغني عن البيان أن هذا المقام المخصوص هو ما سوف يجعل من الميسور على أنصار الرجل مماثلته مع أحد «رجال الله» الذين يتمتعون بثقل هائل في الرأسمال الديني للجمهور، وأعني به النبي الكريم «يوسف» الذي قيل إن مرشح الجماعة نسخته العصرية.
ورغم أن أنصار المرشح السلفي لم يكونوا أقل من الإخوان في التعويل على الرأسمال الديني في بناء السلطة القيصرية لمرشحهم، فإنهم حين أصروا على اعتبار الرجل بمثابة «الأب»، كانوا يمتدون بما يؤسس لسلطة قياصرة العرب إلى عالم الثقافة الأقدم، وأعني بها ثقافة «الأبوية». ولعل ما راح يهتف به هؤلاء الأنصار من مفردات «البيعة» و«الدم» و«التعبئة والحشد» ليعد بعضًا مما يحتشد به قاموس تلك الثقافة الراسخة العتيقة. واتساقًا مع تقاليد دعاة السلفية في التعالي بنماذجهم إلى مقامات مخصوصة يكتسبون فيها سمات فوق البشرية، فإنهم قد ارتفعوا بمرشحهم لوراثة مبارك إلى مقام يدينه من الله نفسه. ولعل ذلك ما يمكن فهمه مما ذهب إليه أحد أنصار الرجل الذي كان كل ما يدهشه أن يستنتج البعض من الأخبار التي تواترت عن حمل السيدة والدة مرشحه الرئاسي للجنسية الأمريكية، أن يكون الرجل قد مارس الكذب حين تقدم للترشح للمنصب الرفيع، وبما يعنيه ذلك من وجوب توقيعه على أوراق تفيد بعدم حمل أيٍّ من والديه لجنسية أخرى غير المصرية. وهكذا فإن المشكلة بالنسبة للرجل لم تكن في أن نموذجه الأعلى قد مارس الكذب، بل هي — بالأحرى — في مجرد تفكير البعض في إمكانية أن يقع الكذب منه أصلًا.
فالكذب، وغيره من الدنايا، هو مما يستحيل أن يقع، أبدًا، من نموذجه الأعلى الذي هو ليس كغيره من البشر الذين يكذبون، ولسوء الحظ، فإن وضع الرجل لنموذجه الأعلى، هكذا، تحت فئة من المستحيل أن يقع منه شيء من الدنايا التي تقع من سائر الخلق، إنما يدنيه من الله الذي يبقى هو الموجود الحق الذي يقف بتفرد ذاته تحت فئة من يستحيل أن يقع منه ما يقع من الخلق. وهكذا يتجاوز دعاة السلفية وصل مرشحهم، ونموذجهم الأعلى، بمجرد واحد من رجال الله وأصفيائه الذين يسكنون الذاكرة الدينية للجمهور، إلى وصله بالله نفسه؛ وأعني من حيث يجعلونه شريكًا له في القيام تحت فئة من يستحيل أن يضاف إليهما ما يقع من سائر المخلوقين.
وإذ يفعل دعاة السلفية ذلك، فإنهم — وللمفارقة — يجعلون من نموذجهم الأعلى نسخة من إمام الشيعة المعصوم، الذين لا يكف دعاة السلفية عن تأكيد خروجهم عن الإسلام. ولعل ذلك يؤكد أن التعالي بالحكام إلى مقامات مخصوصة فوق بشرية لا يختلف الفرقاء في الإسلام بخصوصها، وبما يعنيه ذلك من التأكيد على حضورها المتجذر في الثقافة.
حين يدرك المرء أن هذا التعالي بالحكام إلى مقامات مخصوصة يتفردون فيها، ويتميزون عن غيرهم، وأن ما يترتب على ذلك من وصلهم بالله باعتبارهم من رجاله المصطفين، هو جزء من تقاليد «الآداب السلطانية» التي تسربت إلى الإسلام من المواريث العتيقة للشرق القديم، فإن له أن يتساءل عما إذا كان الفاعلون الذين تحققت لهم الغلبة السياسية يدركون حقًّا معنى ما شهدته مصر من ثورة تبغي الدخول بها إلى عصر الحداثة السياسية أم إن الأمر لا يتجاوز معهم مجرد السعي إلى إثارة الرأسمال الديني لتحصين تراث «الآداب السلطانية» المنسرب من عالم الشرق القديم بتقاليده الراسخة في الاستعباد والطغيان؟ وبالطبع فإن ذلك يحيل إلى وجوب تفكيك ذلك الموروث المنتج للقيصرية، وعدم الاكتفاء بمجرد التخلص من قيصر بعينه.
(٩) خطابات الرؤساء
ليست خطابات الكبراء من الساسة والرؤساء كخطابات غيرهم من الأغمار والدهماء؛ حيث تقرر الأولى مصائر، وتبدل مسارات، وذلك فيما قد لا يجاوز أثر الأخرى حدود مجرد الفضفضة بالكلمات. ومن هنا وجوب أن تحظى خطابات الرؤساء بما تستحق من الاهتمام الذي يلزم معه أن تكون موضوعًا لقراءة تتجاوز سطح الكلمات إلى ما يرقد تحتها من الرؤى والتصورات التي تتخفى، ولا تكون موضوعًا للقول المباشر أو الصريح، بل إنها — وهو الأخطر — قد لا تكون موضوعًا لوعي بالخطاب؛ وعلى النحو الذي يلزم معه ضرورة جعلها موضوعًا لنظره، لتسهيل انعتاقه من قبضة تحديداتها الخفية التي قد تتناقض مع ما يعلن أنه ينتوي تحقيقه. فاللغة ليست فضاءً محايدًا وشفافًا يكون الناس فيه أحرارًا، بحيث يسلكون في رحابه على النحو الذي يشاءون، بل إنها وسيط يفيض بالانحيازات والتحديدات المعتمة التي تفرض نفسها على مستخدميها، بصرف النظر عن مقاصدهم ونواياهم. ويرتبط ذلك بحقيقة أن الكلمة (وهي الوحدة الأبسط في اللغة) ترتبط بتاريخ طويل من الاستخدام السابق، في إطار سياقات اجتماعية وسياسية لم ينقطع حضورها بعد؛ وبما يئول إلى تثبيت عوالم من المعاني والدلالات التي تظل تهيم، كالأشباح، حولها، وتأبى أن تفارقها. وهكذا تنطوي الكلمة (أي كلمة)، في الاستعمال، على التوتر بين ما يكون المستخدم لها قاصدًا إليه على نحو مباشر من جهة، وبين ما يحيطها به التاريخ من الإيحاءات والظلال، من جهة أخرى.
وغني عن البيان أن ما يقصد إليه المستخدم للكلمة لا يتطابق دائمًا مع ما يفيضه التاريخ عليها من الظلال، بل إنهما قد يتعارضان ويتناقضان؛ وإلى حد أن تاريخ الكلمة قد يوجهها إلى إنتاج ما يمكن أن يكون مغايرًا لما يقصد إليه مستخدمها بالكلية. فالبشر يولدون في اللغة، ويأتون إليها كحضور قائم له تاريخ سابق على وجودهم، ولهذا فإنهم لا يكونون أحرارًا تمامًا في مواجهتها، بل إنها تفرض عليهم تحديدات تاريخها السابق. وبالطبع فإن ما يفاقم من خضوعهم لتلك التحديدات المرتبطة بتاريخ سابق، هو أنهم يكونون واقعين في قبضة هذا التاريخ السابق لا يزالون؛ وبمعنى أن خضوعهم الفعلي (ولكن المراوغ) للعوالم القديمة هو ما يؤدي إلى استمرار إنتاج الكلمات التي يستخدمونها للإيحاءات والظلال التي اكتسبتها في الماضي.
إن ذلك يعني أن كلمات اللغة لن تتحرر من تلك الظلال والإيحاءات المعتمة، المنسربة من عوالم الماضي البعيد، ما لم يحرر الناس أنفسهم من قبضة تلك العوالم أولًا. وأعني مثلًا، أنه إذا كان ارتباط كلمة ما بنظام اجتماعي وسياسي محدد (كالنظام الأبوي مثلًا)، قد أحاطها بظلال من الإيحاءات التي لا تفارقها، فإن استخدام الكلمة سيظل يستدعي الإيحاءات والظلال، طالما أن الجماعة المستخدمة للكلمة لا تزال تعيد إنتاج هذا النظام السياسي والاجتماعي القديم، ولو كان ذلك الإنتاج يتحقق عبر التخفي وراء زخارف الحداثة؛ وهي الممارسة التي استقر عليها العرب على مدى القرنين الفائتين، وحتى الآن. فإذ لم يفعلوا، ولا يزالون، إلا السعي إلى تغطية نظامهم السياسي والاجتماعي الأبوي القديم بزخارف الحداثة وإكسسواراتها الزاهية الملونة، فإن الظلال والإيحاءات التي أفاضها هذا النظام على مفردات لغتهم ستظل تفرض نفسها عليهم، بصرف النظر عن النوايا الطيبة التي تقف وراء استخدامهم لها.
وهكذا، فإنه لا ينبغي أن يتصور الناس الكلمات على أنها مجرد قوالب فارغة يملئونها بمقاصدهم الحسنة ونواياهم الطيبة، وعليهم أن يدركوا أنها ترتبط بتاريخ سابق يتجاوز نواياهم ومقاصدهم، وأنها لا تتحرر أو تتطهر من هذا التاريخ تمامًا، بل إنها تظل مسكونة بأطيافه وأشباحه التي لا تتوقف عن الإطلال برأسها، لتأكيد استمرارها (المتخفي أو الصريح) في الوجود، طالما أن هذا التاريخ السابق لا يزال حاضرًا على نحو من الأنحاء. إن ذلك يعني أن استخدام مفردات تنتمي إلى المجال السياسي والاجتماعي ما قبل الحديث، في إطار سعي الجماعة المصرية — في أعقاب ثورتها — لدخول عصر الحداثة السياسية الحقة، لن يقترب بالمصريين من هذه الحداثة المأمولة، بقدر ما سيبعدهم عنها؛ وأعني من حيث سيئول إلى تثبيت منظومة القيم السياسية والاجتماعية ما قبل الحديثة، الملازمة لتلك المفردات، وإن تحت أقنعة جديدة. وتأتي المفارقة هنا من أنه إذا كانت مصر قد أشعلت ثورتها من أجل الدخول إلى عصر بناء دولة الحداثة الحقيقية (التي تقوم على مفهوم «الحق» كبديل لمفهوم «القوة»)، فإنه يبدو وكأنها تسعى لدخول هذا العصر بمفردات خطاب ما قبل حديث. ولقد كان ذلك هو أهم ما يلفت النظر في الخطاب الذي ألقاه الرئيس المصري المنتخب، والذي تم عزله، عقب إعلان فوزه بالمنصب الرفيع؛ والذي راح فيه — ولأكثر من مرة — يخاطب جمهوره باعتبارهم «أهله وعشيرته».
وهنا يلزم الإقرار بأن الرجل قد أراد أن يردم الفجوة التي تفصله عن جمهوره، ولكنه يبقى أن مفردتَي «الأهل والعشيرة» اللتين يستخدمهما — وخصوصًا مع حدوث هذا الاستخدام في مناسبة سياسية بارزة — لا بد أن تستدعيا معهما ما يلازمهما من منظومة القيم الاجتماعية والسياسية المرتبطة بالنظام الأبوي. ولعلهما لا تستدعيان فحسب ثوابت النظام الأبوي التقليدي الذي غلب على التجربة التاريخية للمجتمعات العربية، بل وتستدعيان إلى الذهن ملامح الصورة التي رسمها مبارك لنفسه في آخر المعارك الخاسرة التي خاضها مع المحتشدين ضده؛ وأعني صورته كبطريرك عجوز يسعى إلى إنقاذ نفسه من السقوط عبر استثمار الموروث الأبوي الغائر في نفوس المصريين. وحين يضيف المرء إلى ذلك ما شهده نظامه، على مدى السنوات الأخيرة من حكمه، من الغياب الكامل للدولة القانونية، على النحو الذي كان لا بد أن يؤدي إلى بروز الترابطات الأولية العائلية والعشائرية والعرقية والدينية المذهبية وغيرها لتعويض هذا الغياب الفادح، فإن له أن يقطع بالطابع الأبوي ما قبل الحديث لذلك النظام البائس. وغني عن البيان أن النجاح في ترسيخ ممارسة ديمقراطية حقيقية في مصر يتناسب طرديًّا مع القدرة على تفكيك تلك الترابطات الأولية ذات الطبيعة القرابية؛ وإلا فإن الديمقراطية ستظل مجرد إجراء شكلاني فارغ. فإذ الانتخابات هي أحد أهم آليات الممارسة الديمقراطية، فإن تحريك تلك الترابطات الأولية (العائلية والعشائرية والطائفية والمذهبية) في اتجاه التصويت الجمعي لحساب المرشح الذي يختاره الأب أو البطرك الأكبر، يبقى عملًا لا يستوفي من الديمقراطية إلا مجرد شكلها الإجرائي. ولعله يمكن القول إن الآلية التي تتفق أكثر مع طبيعة ممارسة تلك الترابطات الأولية هي آلية «البيعة» ما قبل الحديثة، وليست آلية «الانتخاب» الحديثة.
ولكل ذلك، فإن خطاب «الأهل والعشيرة» لا يناسب، بما ينبني عليه من علاقات ذات طابع قرابي وأبوي، ما يطمح إليه المصريون من بناء دولة «المواطنة» التي تحكمها علاقات ذات طبيعة قانونية تعاقدية. فلقد ثار المصريون من أجل ترسيخ معنى «الوطن» كوحدة قانونية، وليس من أجل استبقاء «العشيرة» كوحدة قرابية، ومن أجل تثبيت مفهوم «المواطن» الذي يتساوى الكل، في حضرته، أمام القانون أفقيًّا، على حساب مفهوم «الأهل» الذي يتباين الناس ضمنه بين الأعلى والأدنى رأسيًّا.
(١٠) عن الآباء الذين يتوارثون الوطن
في سياق مناقشة ما تحدث به رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية من أنه يمكن تداول السلطة في مصر الآن من خلال الوصية أو البيعة باعتبارهما — على حد قوله — وسيلتين مشروعتين لاختيار الحاكم في الإسلام، فإنه بدا أن «الوصية» كمفهوم سياسي لم تكن لها أي مشروعية إلا ضمن فضاء الفكر الشيعي بالذات، ولأسباب تجد تفسيرها في التاريخ، وليس أبدًا في الدين الذي يتمسح فيه الرجل ليضفي على المفهوم قداسة تستحيل معها مناقشته ونقده، ناهيك بالطبع عن نقضه ورفضه. والحق أنه لا مجال لتفسير ما يريد الرجل ترسيخه من المشروعية الدينية للوصية، إلا ما ينطوي عليه عقله من الخلط بين السياسي والفقهي؛ وأعني من حيث يُيسِّر له هذا الخلط أن ينقل إلى المجال السياسي ما لا فاعلية له خارج المجال الفقهي؛ وأعني بالذات فقه المواريث. وبالطبع فإنه لا مشروعية أبدًا لمثل هذا الانتقال بالمفهوم من المجال الفقهي إلى المجال السياسي، ليس فقط لما يقوم بين المجالين من التباين والاختلاف، بل ولما سوف يترتب على هذا الانتقال — وهو الأهم — من تشويه المجال السياسي وطمس جوهره بالكلية.
فإذ تشتغل الوصية في الفقه بما هي أداة لتداول «الملكية الخاصة»، فإن الانتقال بها إلى حقل السياسة لا يعني إلا التعامل مع السلطة بما هي أيضًا من قبيل الملكية الخاصة، أو الإرث الذي يحق للقابض عليه أن يتصرف فيه بحسب إرادته المنفردة. وهكذا تتحول السلطة، عبر تحويلها إلى موضوع للوصية، من موضوع للمشاركة والإرادة العمومية، إلى موضوع للإرادة المنفردة. وبالطبع فإن تصورها هكذا، أعني كشأن خاص لا شأن للجمهور به، لا يعكس فحسب مجرد السعي إلى طرد الناس من ساحتها والاستئثار بها دونهم، بقدر ما يعكس أيضًا — وهو الأخطر — نوعًا من التدني والتنزل بالناس إلى حيث لا يجاوزون كونهم محض «إرث» كالمال والعقار. وبالطبع فإنه إذا كان اشتغال الوصية في المجال السياسي يؤدي إلى التنزل بالناس — الذين كرمهم الله بأن خصهم بالعقل والإرادة — إلى أن يكونوا من قبيل الإرث المملوك، شأنهم شأن الحيوان أو الجماد، فإنه لا مجال للحديث أبدًا عن مشروعيته الدينية أو غيرها.
وإذ لا يمكن أن يكون الدين، على هذا النحو، هو أصل ما يقول به الشيخ من مشروعية الوصية، فإنه لا يبقى إلا أن يكون أساس مشروعيتها هو ما عرفه الشيخ نفسه من أن الوصية كانت أداته في بلوغ سلطته (حتى ولو كانت سلطة روحية) داخل طريقته؛ إذ المشهور بيقين أنه لا سبيل إلى مداولة السلطة داخل الطرق الصوفية إلا من خلال الوصية؛ التي تكون أساسًا لما سيعقبها من «بيعة» المريدين لشيخهم؛ وهو ما يكشف عن أن البيعة لم تكن تحيل إلى أي نوع من اختيار السلطة، بقدر ما كانت تنطوي على الإقرار بسلطة لا سبيل إلى منازعتها. وهكذا فإن الشيخ لا يفكر في السلطة السياسية إلا بما يعرفه، داخل طريقته، من أن الوصية، وليس سواها، هي الأداة الوحيدة لمداولة السلطة ونقلها. وعلى أي الأحوال فإنه يلزم التنويه بأن ما ينطبق على السلطة الصوفية التي تكاد تكون احتكارًا عائليًّا يستند إلى ادعاء وراثة العلم والمكانة؛ وبما يعنيه ذلك من إمكان أن تكون موضوعًا للوراثة، لا ينطبق على السلطة بمعناها السياسي التي لا يمكن أن تكون إلا موضوعًا لتفعيل معايير الرشد والإنجاز والكفاءة؛ وهي المعايير التي لا بد أن تغيب كليًّا في حال جعلها موضوعًا للوراثة.
وإذ يئول ما سبق إلى أن أساس مشروعية الوصية، كأداة لتداول السلطة، لا يمكن أن يكون الإسلام كما يؤكد الشيخ، بل هو فقط ما يحدث من نقل السلطة بالوصية داخل طريقته الصوفية، فإن إصرار الشيخ على القول بمشروعيتها في الإسلام لا يعني إلا أنه يوحد بين الإسلام وبين ما يحدث في طريقته، وإلى حد أنه قد لا يرى حضورًا للإسلام خارج حدود هذه الطريقة. وإذ يكشف ذلك عن أن الشيخ يفكر بمنطق «أنا الإسلام»، فإن هذا المنطق — الذي هو، في الجوهر، منطق استبداد وهيمنة — سوف ينعكس فيما يبدو وكأنه يتصوره من أن الحاكم هو الدولة. فالشيخ هو الإسلام، والحاكم هو الدولة، ولا سبيل إلى منازعة الواحد منهما سلطته التي له أن يتصرف فيها كيف يشاء.
وفي النهاية فإنه ليس لأحد أن يتحدث عن دولة حديثة وقف أحد دعاتها (الذي هو أحمد عرابي) يهتف — قبل أكثر من قرن — في وجه الخديوي (الذي كان يظن أنه قد ورث عن أبيه سلطة وشعبًا): «لقد خلقَنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا.» ليس فقط لأن ثمة من لم يزل يرى أننا لم نجاوز وضعية الإرث أو العقار، بل — والأهم — لأن السادة الذين يسمون أنفسهم أصحاب الفكر الجديد لا يفعلون إلا أن يقاتلوا من أجل تثبيت وترسيخ ذات الرؤية الاستبدادية العتيقة، وذلك من خلال تزيينها بما يتيسر من إكسسوارات الحداثة من قبيل الدستور والترشيح والانتخاب وغيرها من الزخارف التي يظل القديم يمارس من تحتها حضورًا لا سبيل إلى مغالبته.