الاستبداد بين الدين والسياسة

(١) الدولة المصرية/العربية الحديثة: واقع أم أمنية؟

لا تقلُّ المشكلات التي تجابه الخطاب الرائج في مصر عن الدولة المدنية أو الحديثة عن تلك التي تجابه خطاب دولة يلعب فيها الدين دورًا حاكمًا؛ فكلا الخطابين ينطوي على ضروب من المواءمات والتلفيقات الأيديولوجية التي تجعل الواحد منهما خطاب إنتاج أزمة، وليس أبدًا خطاب انعتاق منها، وبالطبع فإن الخطابات لن تكون قادرة على الإنتاج المثمر في الواقع ما لم تتحرر من عوائقها الأيديولوجية التي تحول بينها وبين الفحص المعرفي الدقيق للمفاهيم والتصورات التي تفكر بها، وتؤسس عليها حلولها لأزمات هذا الواقع. ولعل مثالًا على ذلك يأتي من مقاربة للخطاب الذي يدير البعض أسطوانته الآن، عن ضرورة التوقف عن استخدام مصطلح الدولة المدنية الذي يُعَد من قبيل اللغو الفارغ الذي لا معنى وراءه، والتأكيد — بدلًا منه — على مفهوم الدولة الحديثة التي تعرفها مصر — ومعها العرب — منذ مطلع القرن التاسع عشر، والتي حدث أن خبا بريقها على مدى نصف القرن الأخير، ويلزم إعادة الاعتبار إليها الآن. والحق أنه يمكن فهم التحفظ على استخدام مصطلح الدولة المدنية؛ حيث إن الاجتماع المدني للبشر بما فرضه من ظهور السلطة السياسية لأول مرة، والذي يمثل تقدمًا أرقى بالقياس إلى أشكال الاجتماع الطبيعي القرابي الأسبق، بما تقوم عليه من سلطة طبيعية (آبوية بطريركية في الأغلب)، هو الأصل في نشأة الدولة ككيان سياسي مدني. وإذ يحيل ذلك إلى أن المدنية هي الأصل في نشأة الدولة بما هي دولة، فإنه لا يمكن تصور أن تكون المدنية وصفًا مضافًا إلى الدولة؛ تمامًا كما لا يمكن أن تكون المائية وصفًا مضافًا للماء. وإذ يمكن التجاوب، على هذا النحو، مع التحفظ على استخدام مصطلح الدولة المدنية لأنه من قبيل تفسير الماء بالماء، فإنه لا يمكن، في المقابل، الاتفاق تمامًا — ومن وجهة نظر مدققة — على أن ما عرفته مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر، مع محمد علي باشا، يعد من قبيل الدولة الحديثة.

وهكذا فإنه إذا كان ثَمة من العرب من يقاربون دولتهم الراهنة باعتبارها دولة حديثة، فإنه يبدو — لسوء الحظ — أن هذه الدولة لم تعرف إلا أن اتخذت لها من الحداثة اسمًا ورسمًا أو قناعًا وشكلًا، وأما الطبيعة والمحتوى، والنظام العميق لهذه الدولة، فإنه قد ظل — في جوهره المتخفي وراء البراقع والزخارف — ينتمي إلى فضاء الدولة التقليدية ما قبل الحديثة. ولعل ذلك يرتبط بحقيقة أن تلك الدولة، التي يقال عنها إنها حديثة، قد انبثقت كجواب على سؤال التغيير الذي فرض نفسه على مصر بقوة مع مطلع القرن التاسع عشر.

فقد بدا — حسب أحد شهود تلك اللحظة؛ وأعني به المعلم الجنرال يعقوب — أن تغييرًا (في مصر) لا يمكن أن يكون نتاج أنوار العقل، أو اختمار الآراء الفلسفية المتعارضة، بل تغييرًا تُجريه قوة قاهرة على قوم وادعين جهلاء. لقد حدد الجنرال النابه طريقين للتغيير؛ أحدهما العقل وثانيهما القوة، ولأن حضور العقل كان خافتًا آنذاك — وربما للآن — فإنه لم يكن من سبيل لإحداث هذا التغيير إلا محض القوة. وضمن هذا السياق، فإن ما يقال إنها الدولة المصرية/العربية الحديثة قد انبثقت بما هي قوة لفرض هذا التغيير على المجتمع؛ الذي ارتأى فيه المعلم يعقوب مجرد قوم من الوادعين الجهلاء، وهنا يظهر التعارض زاعقًا بين دولة الحداثة الشكلانية التي عرفها العرب؛ بما هي قوة لفرض التغيير على مجتمع الوادعين الجهلاء، وبين دولة الحداثة الحقة التي انبثقت — في السياق الأوروبي — كنتاج لعملية تغيير واسعة يحققها المجتمع بنفسه في كافة المجالات.

ولعل مثالًا على هذا التعارض الزاعق يتبدى — كأجلى ما يكون — في صورتين للحاكم/الدولة تحملهما نصوص رائد الحداثة العربية الأكبر الطهطاوي؛ وهي النصوص التي لم تفقد هيمنتها للآن. فإذا كان الرجل قد مضى — في سياق ما قال إنه كشف الغطاء عن تدبير الفرنساوية، مستوفيًا غالب أحكامهم ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر — إلى أن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وأن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضى بها أهل الدواوين، فإن ذلك يتعارض كليًّا مع ما سيقوله — كاشفًا الغطاء عن تقاليد دولته المصرية التي استعاد، في حديثه عنها، مفردات قاموس السياسة الشرعية المغاير كليًّا لذلك الذي تداوله بصدد تدبير الفرنساوية — من أن للملوك في ممالكهم حقوقًا تُسمى بالمزايا، وعليهم واجبات في حق الرعايا. فمن مزايا الملك أنه خليفة الله في أرضه، وأن حسابه على ربه، فليس عليه في فعله مسئولية لأحد من رعاياه، وإنما يذكر للحكم والحكمة من طرف أرباب الشرعيات أو السياسات برفق ولين، لإخطاره بما عسى أن يكون قد غفل عنه، مع حسن الظن به، لقوله الدين النصيحة، فقلنا لمن يا رسول الله، قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين.

ورغم ما ألمح إليه الطهطاوي من أن على الملوك واجبات في حق الرعايا، فإنه لم يذكر منها إلا واجب مراعاة العدل في حقهم؛ وهو الواجب الذي تركز عليه القول في أدبيات السياسة السلطانية، وإلى حد إمكان القول بأنه قد استغرق هذه الأدبيات كليًّا … وهكذا فإنه وحتى حين استحضر الطهطاوي الرأي العمومي، فإنه لم يستحضره ليجعل منه قيدًا على هذا النوع من الحاكم المنفلت، بل وفقط لأن الحاكم قد يشعر، في مواجهته، بالحياء؛ الذي هو — من غير شك — أمر ذاتي يخصه؛ لأنه قد يحدث أن يوجد حاكم لا يشعر بذلك الحياء في مواجهة محكوميه. وإذ يكاد الطهطاوي ينتهي، تبعًا لذلك، إلى أن أصل ومصدر سلطة الباشا، ليست الأمة، بل الله؛ الذي يلح الطهطاوي — في غير موضع من نصه — على أنه هو الذي ولاه حكم مصر، فإن كون ذلك مما يتعارض مع الواقع التاريخي الذي يقطع بأن تولية الباشا كانت من جماهير الشعب ونخبته التي استمسكت به في مواجهة الإرادة السلطانية العثمانية، التي كانت تتخفى وراء المشيئة الإلهية المتعالية، لمما يكشف عن أزمة مثقف يجد نفسه مضطرًّا لأن يكون بوقًا لسلطة القوة على حساب سلطة الحقيقة.

وهكذا يتعارض تدبير السياسة الفرنساوية الحديث، القائم على الحكم المقيد بالقانون والمشروط بالرضا العمومي للجمهور، مع التقاليد التراثية الراسخة للدولة السلطانية؛ التي لا تعرف إلا حكم المتسلط، المنفلت من أي قيد أو حد؛ والذي لا يملك الرعايا، في مواجهته، حق المساءلة، حتى وإن جار وأخطأ، بل إن عليهم واجب النصح له وحسن الظن به أبدًا. ولعل هذا التجاور بين ما ينتمي لعالمين، هو — وللمفارقة — ما يؤكده الذين ينافحون، الآن، عن وجود الدولة الحديثة. فهم — وللغرابة — يُقرون بأن ممارسة السياسة في إطار تلك الدولة (الحديثة!) قد ظلت تتحقق من خلال روابط ومؤسسات القوة التقليدية (كالعائلة والعشيرة والقبيلة والعصبيات وغيرها)؛ وبما يعنيه ذلك من أن المؤسسة السياسية الحديثة، كالبرلمان والحزب وغيرهما، لم تقدر على تقويض، أو حتى اختراق، روابط ومؤسسات القوة التقليدية. بل إن ما جرى لا يتجاوز حدود أن تلك المؤسسة الحديثة قد استحالت إلى هيكل أو رسم فارغ، راحت المؤسسات والروابط التقليدية تملؤه بحضورها الذي بدا وكأنه يتأبى على الغياب.

ولعل تفسيرًا لذلك يأتي من الوعي بحقيقة أن المؤسسات السياسية الحديثة كانت محض أدوات لتفعيل الأساس الفلسفي لدولة الحداثة الحقة؛ والذي يتمثل في انبثاق الأفراد بما هم إرادات واعية حرة؛ وأعني أنها كانت وسائل إنسان الاستنارة في تحقيق كينونته السياسية، وعلى النحو الذي لا يمكن معه تصور حضورها من دون منجزات إنسان الاستنارة المعرفية العقلية والسياسية والاقتصادية. وبالطبع فإنه كان لا بد، حين جرى استدعاء تلك المؤسسات الحديثة، مع عدم توفر المنجز الفلسفي العقلي والاستناري — وحتى المادي — المؤسس لها، أن تستحيل إلى مجرد أوعية جديدة، ولكن فارغة، وعلى نحوٍ راح معه يجري تحميلها بالمضمون الراكد القديم. وهكذا فإنها صارت أدوات تُفعَّل من خلالها إرادة المستبد، بدل أن تكون سلاح الأفراد في مواجهة تلك الإرادة المنفلتة … ولسوء الحظ، فإن ذلك لا يؤدي بدعاة الدولة الحديثة إلى الإقرار بما سبق أن انتهى إليه أحد كبار مفكري النهضة — وأعني به سلامة موسى — من أن تلك الدولة الديمقراطية الحديثة هي أقرب إلى الأمنية المرجوة منها إلى الواقعة المتحققة، مع ما لهذا الإقرار من قيمة كبيرة، فالإقرار بأن تلك الدولة هي أمنية لا واقعة سوف يفتح الباب أمام ضرب من التحليل الذي يجعل غايته الكشف عن العوائق الدفينة التي جعلتها مجرد أمنية لا تقبل التحقق، رغم السعي الدءوب لذلك؛ وبما يعنيه ذلك من الحفر العميق وراء تلك العوائق التي تضرب بجذورها في البنايات الثقافية الراسخة.

(٢) رمز الاستعلاء والمفاصلة لا يزال باقيًا

ثَمة خطاب يتعالى مدُّه لتديين السياسة في مصر. ورغم أن البعض من دعاة هذا الخطاب قد يقصد، فعلًا، إلى جعل قوله ساحة لصوت «الاعتدال والمسامحة»، فإن منطق الخطاب يأبى إلا أن يجعل منه ساحة لصوت «الاستعلاء والمفاصلة». ولعل تحليلًا لإحدى رسائل مرشد جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ليكشف، بجلاء، عن التباين بين المقصد (المعلن) والمآل (اللازم)، وعلى النحو الذي يلاشي المسافة بين «المسامحة» و«المفاصلة» تحت مظلة الخطاب. فبينما الرجل حرص على أن يستند في رسالته على تراث الرائد المؤسس، ورمز الاعتدال والمسامحة، الأستاذ «حسن البنا»، فإن صوت رمز الاستعلاء والمفاصلة «سيد قطب» قد راح يحضر في الخلفية مزاحمًا لصوت «البنا» بقوة.

فإذ تنبني الرسالة المعنونة «وضوح الهدف والإصرار عليه: طريق النهضة» على أنه ينبغي أن يكون للإنسان (فردًا وجمعًا) ما يسعى إليه من غايات وأهداف، مقتديًا في ذلك بما كان عليه النبي الكريم وصحبه الأبرار، وأن الغاية القصوى لجماعته هي «أستاذية العالم»، فإن ما يستدعيه الرجل من الأستاذ البنا، بخصوص هذه الأستاذية، لا يقدر على زحزحة الحضور الراسخ للأستاذ قطب الذي يمكن القول إنه صاحب التنظير الأوفى داخل الجماعة لخطاب «الأستاذية على العالم»، محددًا لمضمونها ومعناها وما يترتب عليها من أحكام بخصوص المسلمين وغيرهم، وعلى النحو الذي تكاد معه أن تكون مركزًا لخطابه كله. وهكذا، فإنه وابتداءً من أن المنطق الكامن لأي خطاب قد يجد تعبيره الأجلى والأنقى عند أحد المشتغلين في حقله، بأكثر مما يجده عند آخر، فإنه يبدو أن الإطار الذي كان قطب يفكر داخله، إنما يتجاوب، على نحو أصرح، مع المنطق الكامن لخطاب «الأستاذية»، ولكن من دون أن يعني ذلك استحالته من داخل الإطار المحدد لفكر «البنا». ولعل ذلك يرتبط بأن الشروط الذاتية والموضوعية التي توفرت عليها اللحظة التي أنجز فيها «قطب» عمله، قد انطوت على ما سمح لهذا الخطاب بالحصول على هذا التعبير الأجلى والأنقى.

ولسوء الحظ، فإنه يبقى أن ما ينبني عليه هذا الخطاب لا يسمح له — مهما اختلفت أشكال التعبير عنه — إلا بأن يكون ساحة إقصاء وتنابذ، وليس حوارًا وتواصلًا. ويرتبط ذلك بحقيقة أن مفهوم «أستاذية العالم» يحيل إلى عالم هيراركي تتراتب فيه العلاقات من الأعلى فرضًا على الأدنى، وبما يعنيه ذلك من قيام العلاقات الواقعية بين الأطراف التي ينقسم إليها هذا العالم على مفاهيم التفوق والهيمنة والسيادة. وإذا كانت الصورة المستقرة لهذا العالم قد انبثقت مع ابتداء عصر الهيمنة الأوروبية، فإنها تبقى من قبيل الصورة المرذولة التي يسعى الكثيرون لزحزحتها ليستبدلوا بها عالمًا لا يعرف الهيمنة والتمايز، ويقوم على الشراكة والندية. وهكذا فإن الصورة التي يفكر بها المرشد في العالم لا تسمح إلا بإنتاج نفس الانقسام الذي يتربع فيه طرف على قمة سلم التراتبية (في الأعلى)، وذلك فيما يجري التنزل بالآخرين على ذات السلم (في الأدنى). فالرجل لا يفعل إلا أن يستبدل «أستاذًا» بآخر، وبكيفية يمكن أن يقال معها إنه الانتقال «من عبء الرجل الأبيض» إلى «عبء الرجل المسلم»، وفي تجاهل تام لحقيقة أن العالم يناضل من أجل الانفلات من ربقة هذا المنطق الذي لم يتمخض إلا عن قرون من الإفقار والنهب والقتل. وهكذا فإن داعية الإسلام لا يفعل بما يطرحه إلا تكريس أزمة العالم، بدلًا من اجتراح أفق لتجاوزها.

ولعل الجواب المطروح من داخل الخطاب على السؤال المتعلق بجوهر ما سيحقق به المسلمون أستاذيتهم على العالم، لما يؤكد هذا التكريس للأزمة. وهنا يلزم التنويه بأن جوابًا على هذا السؤال لا يرد في رسالة المرشد، ولكنه يأتي من صاحب التنظير الأوفى لخطاب «الأستاذية على العالم»، وأعني الأستاذ «قطب»، الذي أثار المسألة، صراحة، في مقدمة كتابه «معالم في الطريق».

فقد مضى يقرر في حسم: «إن هذه الأمة لا تملك الآن — وليس مطلوبًا منها — أن تقدم للبشرية تقدمًا خارقًا في الإبداع المادي، يحني لها الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية. فالعبقرية الأوروبية قد سبقتها في هذا المضمار سبقًا واسعًا. وليس من المنتظر — خلال عدة قرون على الأقل — التفوق المادي عليها! فلا بد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية، غير الإبداع المادي، ولن يكون هذا المؤهل سوى العقيدة والمنهج.»

وحين يدرك المرء أنه ليس ثَمة من مجال للإبداع فيما يخص هذا المؤهل البديل، حيث إنه «لا بد فيه — على قول قطب — من التلقي عن الله»، فإن ذلك يعني أن أستاذية المسلمين للعالم لا ترتبط بشيء أنتجوه (من الإبداع المادي أو الروحي)، بقدر ما تتعلق بالسعي لإخضاع العالم (طوعًا أو قسرًا) لما يتصورون أنه المنهج الذي تلقوه عن الله. وإذن فإن الأستاذية لا ترتبط بما ينتجه الناس على الأرض، بل بالمعطى لهم من السماء، وبما يعنيه ذلك من أنها ستكون عملًا من أعمال المشيئة التي لا اختيار للناس معها، بل يلزم فرضها عليهم.

ولعل الدليل على الطابع الإخضاعي لتلك الأستاذية يتأتى من تعيين الأستاذ «قطب» لنقيضها على أنه «الجاهلية»، حيث إنه لا سبيل لمن يتمرغون في درك الجاهلية، إلا الخضوع لسادتهم الأعلين، من الذين يترقون في معارج الأستاذية. وإذا كانت الجاهلية تتعين، عند قطب، بما هي «إسناد الحاكمية للبشر»، فإن الأستاذية لا بد — وبمنطق المخالفة — أن تتعين بما هي «إسناد الحاكمية لله»، وبما يعنيه ذلك من أن «قطب» يعيِّن طرفَي الصراع على نحو لا مجال فيه إلا لمحض الخضوع والتسليم. وغني عن البيان أنه لا مجال، ضمن سياق هذه القسمة المانوية للعالم، التي تتقابل فيها الأرض مع السماء، إلا لصراع لا بلوغ لنهايته إلا مع انتصار «النور» على «الظلمة».

وحين يدرك المرء أن خطاب الأستاذية سوف ينتهي به، مباشرة، إلى فكرة «الحاكمية الإلهية»، بكل ما تؤدي إليه من ضروب الإقصاء والعنف (اللفظي والمعنوي)، سواء بين المسلمين وغيرهم، أو بينهم وبين أنفسهم، فإن له أن يقطع بأن للخطاب منطقًا، هيهات أن تزحزحه نوايا الأفراد.

(٣) ركائز الحكم الرشيد

تدرك السياسة، وخصوصًا حين تكون قامعة مستبدة، أن العقل المنفتح غير المقيد هو أخطر ما يتهددها، وذلك من حيث يؤشر على أن نقيضها من الحكم الرشيد هو المؤدي — وليس سواه — إلى تحقيق صالح المجموع، ومن هنا ما تسعى إليه، على الدوام، من إزاحته وإبعاده. وإذ تدرك استحالة إنجاز هذا الإنجاز بما تمتلك من وسائل الترويع والبطش، فإنها تتوسل بالدين والشرع لتضعهما في مواجهة معه. وللغرابة، فإن ذلك لا ينتهي إلى إسكات صوت العقل فحسب، بل إلى تهديد منظومتَي الدين والشرع على نحو كامل. ولسوء الحظ، فإن تراث الإسلام (السني والشيعي) يفيض بما يؤكد التاريخ الطويل لهذه الممارسة التي تسعى فيها السياسة لإزاحة العقل باستخدام سلاح الشرع. ولعل من قبيل المفارقة أن «ثورات العرب» الأخيرة تكاد تنعش هذه الممارسة التي كان الظن أن تهافتها لم يعد موضع شك بعد أن فضح الإمام «محمد عبده» عوارها وفسادها قبل أكثر من قرن.

بالطبع فإن السياسة لا تكفُّ عن الإيهام بأن هذا الإقصاء للعقل لا يكون مقصودًا به تحصين ذاتها، بقدر ما هو أحد مطالب ومقتضيات الشرع. وهكذا فإنها تراوغ بالمبالغة في الإخفاء التام لنفسها من المشهد، وبحيث تحقق هذا الإقصاء للعقل فوق ساحات بعيدة عن ساحته، لكنه وبالرغم من حقيقة أن الساحات التي يجري فوقها تأسيس الخطاب الإقصائي للعقل في تراث الإسلام لا تتصل — بالفعل — اتصالًا مباشرًا بالسياسة، بل تتصل بالعلوم الشرعية والدينية، فإن ما يظهر من أن هذا الإقصاء للعقل يؤدي إلى اختلال نظامَي الدين والشرع ذاتهما، إنما يقطع بأن المقصود به هو تحصين «السياسة»، وليس «الدين والشرع» بحسب ما يجري الإيهام. وهكذا فإن الأمر لا يتجاوز حدود أن السياسة تتخفى وتترك للآخرين أن يحسموا معاركها فوق ساحات الاشتغال بالمقدس لكي تغطي على بؤس قصدها المدنس.

من هنا فإنه إذا كان خطاب الإقصاء للعقل، باسم الشرع، قد راح يؤسس نفسه داخل علم أصول الفقه، فإنه يبقى إمكان بيان عوار هذا الخطاب من داخل هذا العلم نفسه، فقد مضى حجة الإسلام «الغزالي» — في كتابه «المستصفى في علم الأصول» — إلى أن الدور الرئيسي للعقل هو إثبات الشرع، ثم يقوم بعد ذلك بعزل نفسه والاكتفاء بالتلقي عنه؛ لأن الشرع بعد إثباته هو ما يحدد للإنسان الحسن والقبح في الأفعال، وبكيفية لا يكون معها في احتياج إلى غيره، كالعقل مثلًا. وإذ يؤسس الغزالي حجته في عزل العقل على أنه يضع قيمًا متباينة ومتغيرة للأفعال، فإن ذلك يعني أنه يتصور أن دلالة الحسن والقبح التي يسبغها الشرع على الأفعال تكون نهائية ومطلقة، وبمعنى أن ما قضى الشرع بحسنه مثلًا، يظل حسنًا على الدوام، ومن دون أي تعلق بالوقت والبيئة والحال.

ومن حسن الحظ، أنه يستحيل، من داخل علم الأصول نفسه، قبول ما يقرره الغزالي من دوام دلالة الأحكام الشرعية وثباتها، وأعني من حيث يدخل «الوقت» في جوهر تركيبها، ومن هنا ما احتج به الرازي في مواجهة منكري «النسخ» — الذي لا يكون إلا في الأحكام دون سواها من الأخبار وغيرها — من أنه «إن قيل: لو كان الثاني (الحكم الناسخ) أصلح من الأول (الحكم المنسوخ)، لكان الأول ناقص الصلاح، فكيف أمر الله به؟ قلنا: الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول، والثاني بالعكس.» وإذ يربط الرازي صلاح الحكم الشرعي بوقته، فإنه يقرر استحالة أن تكون دلالته نهائية ومطلقة، بل إنه يدور ويتحول مع الوقت. والملاحظ أن الرازي لم يربط هذا الدوران للحكم وتحوله مع الوقت بما يترتب على ذلك من مصلحة للعباد، بل بما يئول إليه من رفع شبهة أن يحكم الله بما هو ناقص، وبما يعنيه ذلك من أن رفع الشبهة عن «الله» يرتبط بتقرير ما فيه صلاح «الناس». فضلًا عن ذلك، فإنه يبدو أن نسبة الثبات والدوام إلى الأحكام يتعارض مع ما استقرت عليه التجربة الفقهية، حتى مع الجيل الأول من المسلمين، حيث بدا أن ثمة أحكامًا ثابتة بالشرع، وبما يترتب على ذلك من وجوب تقرير «حسنها»، ومع ذلك فإنه قد جرى تعطيل العمل بها بعد بعض الوقت، وعلى النحو الذي يحيل إلى أنها قد توقفت عن أن تكون «حسنة». وكمثال على ذلك، فإن الشرع قد قرر نصيبًا للمؤلفة قلوبهم في الصدقات، وقد أورد القرطبي عن أبي جعفر النحاس قوله إن «هذا الحكم فيهم ثابت»؛ ولذلك فإن «الأمر (الحكم) ماضٍ أبدًا؛ لأن الآية مُحكَمة، لا نعلم لها ناسخًا من كتاب ولا سنة.» وبالرغم من هذا الثبات المقرر للحكم، فإن القاضي ابن العربي قد مضى إلى أن «الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أُعطوا سهمهم، كما كان رسول الله يعطيهم.» وبما يعنيه ذلك من أن الحكم ليس ثابتًا على نحو مطلق، بل إنه موقوف على شرط بعينه، وعلى النحو الذي يجعله قابلًا للتحول. ومن حسن الحظ، أن هذا التحول قد حدث بالفعل، حين أوقف عمر بن الخطاب دفع هذا السهم (المقرر بالقرآن) إلى اثنين ممن تقطع المصادر بأنهما من «المؤلفة قلوبهم» هما عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وخاطبهما قائلًا: «إن رسول الله كان يتألفكما والإسلام يومئذٍ ذليل، وإن الله قد أعز الإسلام، فاذهبا واجهدا جهدكما.» وهكذا فإن تغير حال الإسلام من «الذل» إلى «العزة» قد يقضي برفع ما هو ثابت بشرع مُحكَم، وعلى النحو الذي يقدح في أن يكون الشرع مقررًا لقيمة ثابتة، كقيم السواد والبياض التي لا تختلف في حق زيد أو عمرو، على قول الغزالي، بقدر ما يبدو أن القيمة التي يقررها تختلف، بدورها، تبعًا لاختلاف الوقت والحال. ولعل المرء حين يدرك أن «العقل» هو ما يقف وراء ما يحدث من التحول في دلالة الحكم الشرعي ذاته، يصل إلى استحالة قبول ما يقرره الغزالي من وجوب أن يقوم العقل بإثبات الشرع ثم يعزل نفسه ويكتفي بمجرد التلقي، وأعني من حيث يبقى الشرع بعد «الإثبات» في احتياج دائم إلى اشتغال العقل عليه، فإن كون دلالة الحكم الشرعي ليست نهائية ومطلقة، بل مفتوحة ومتحركة، يؤكد هذا الاحتياج للعقل الذي يقوم بالدور الحاسم في هذا التحريك للدلالة.

وإذ يكون الشرع في احتياج إلى العقل لكي يظل قادرًا على التجاوب مع مقتضيات الحال والوقت التي لا تقبل الثبات، فإن ذلك يعني أن في عزل العقل وإبعاده ما سيؤدي إلى تقويض نظام الشرع بالكلية، وإذ لا يمكن أن يقصد الشرع إلى تقويض نفسه، عبر عزل العقل، فإنه لا يبقى إلا أن «السياسة» هي ما يقف وراء هذا العزل، لكنه يبقى وجوب التأكيد على أنها إذ تعزل العقل، فإنها تقوم بتقويض الشرع. فهل يتريث المندفعون إلى هدم كل شيء؟

(٤) عن الاستبداد والدين

في كتابه الرائد المبكر عن «طبائع الاستبداد» اختص الكواكبي العلاقة بين الاستبداد والدين بتحليلٍ خلص فيه إلى تبرئة الإسلام، في أصوله الأولى، من وصمة الاستبداد التي شاع إلصاقها به في التقليد الاستشراقي، بل إنه سرعان ما انتقل إلى التأكيد على أن ما عرفه الإسلام في تاريخه من الاستبداد إنما هو «مما اقتبسه وأخذه المسلمون عن غيرهم، وليس هو من دينهم». ويحدد الرجل هذا «الغير» — الذين أخذ عنهم المسلمون ما عرفوه من الاستبداد — بأنهم «الأوروبيون في عصورهم الوسطى»، والذين هم أسلاف صاحب خطاب الاستشراق الذي ينكأ جرح المسلم بخطابه المعادي. ولقد كان ذلك هو نفس ما فعله الأستاذ الإمام محمد عبده، حين راح يرد عن الإسلام تهمة مخاصمة العلم التي ألصقها به هانوتو، ولينتهي بعد ذلك إلى الثأر من هانوتو عبر إلصاق تهمة مخاصمة العلم إلى النصرانية التي ينتمي إليها خصمه الفرنسي.

والحق أن الأمر عند الرجلين (الكواكبي وعبده) لا يتعدى حدود كونه رغبة وعي جريح في تضميد جرحه عبر الثأر من المستشرق، ولو من خلال التعريض بأسلافه الأقدمين. فقد بدا للوعي المسلم أنه لا سبيل إلى مجابهة الحاضر الذي يختصه بالتأخر، بينما يخص الأوروبي بالتقدم والازدهار، إلا باستدعاء الماضي الذي كان الازدهار فيه للمسلمين، بينما كان التأخر من نصيب الأوروبيين. وضمن هذا الاستدعاء فإنه يجعل حاضره المتأخر هو مجرد صورة من ماضي الأوروبي، بينما يجعل الحاضر الزاهي للأوروبي هو صورة من ماضيه كمسلم. وهو إذ يرد تأخره إلى أوروبا، بينما يرد ازدهار «الأوروبي» إلى الإسلام، فإنه يستريح ويبرأ من جرحه المهين.

وبهذه التبرئة للإسلام فإن الكواكبي يضع نفسه ضمن أفراد الطابور الطويل من مفكري لحظته، الذين يأتي على رأسهم الأستاذ الإمام محمد عبده، والذين تبنوا — في مواجهتهم لخطاب الاستشراق المتحدي — خطابًا اعتذاريًّا ينبني على التمييز بين إسلام/مثال يبقى بريئًا من أي نقص من جهة، وبين مسلمين يمثلون النقيض المتدهور المنحط لهذا المثال الكامل النقي من جهة أخرى. إنها الأطروحة التي تجد تعبيرها الأمثل فيما مضى إليه الأستاذ الإمام — بعد تعرفه على أوروبا — من أنه قد وجد فيها إسلامًا من غير مسلمين، وذلك في مقابل ما تزخر به ديار الإسلام من مسلمين بغير إسلام. وبالطبع فإنها ذات الأطروحة التي تلح على قراءة الأزمة في ابتعاد الناس عن الإسلام، والتي يركز عليها دعاة هذه الأيام التلفزيونيون خطابهم.

وبالرغم من هذا الاتفاق بين إصلاحيي القرن التاسع عشر وبين دعاة هذه الأيام التلفزيونيين، في قراءة أزمة التأخر العربي بعامل الابتعاد عن الإسلام، فإنه يبقى أن قراءة كلٍّ منهما لتلك الظاهرة تختلف عن قراءة الآخر لها على نحو كامل. وللمفارقة فإن القراءة الإصلاحية، القادمة من القرن التاسع عشر، لهذه الظاهرة، كانت أكثر وعيًا واستنارة من القراءة الراهنة التي يقدمها دعاة هذه الأيام لها. إذ فيما يلح دعاة هذه الأيام على تفسير ابتعاد الناس عن الإسلام بالميل المتأصل في نفوسهم إلى الهوى، وعلى النحو الذي يترتب عليه ضرورة زجرهم وقمعهم، فإن «رجل الإصلاح» قد ألح، في المقابل، على مسئولية الاستبداد الكبرى في إبعاد الناس عن جوهر الإسلام. ومن هنا أن رجل الإصلاح لم يكن أكثر فهمًا فقط، بل وكان أكثر جرأة وشجاعة من شيوخ هذه الأيام البؤساء، الذين لا يفعل الواحد منهم — للأسف — إلا أن يكون معينًا للمستبد في السيطرة على المحكومين.

فقد مضى «رجل الإصلاح» يفضح الطريقة التي يسطو من خلالها المستبد على الدين ويحيله إلى مطية لطغيانه واستبداده، سواء كان ذلك من خلال اتخاذه لنفسه «صفة قدسية يتشارك بها مع الله، أو تعطيه مقامًا ذا علاقة مع الله، أو يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله». وبالطبع فإن هذا الامتطاء للدين، من جانب المستبد، هو ما يجعل منه مجرد زخارف ورسوم شكلية خارجية، وبحيث يتحول إلى ما يشبه الدواء المهدئ الذي تتعاطاه جماهير يائسة محبطة، لتتعزى به عما تعانيه من الاستبداد والقهر، ويفقد دوره الجوهري في تنوير الإنسان وتحريره بالأساس؛ وبما يعنيه ذلك من التأكيد على دور المستبد في تفريغ الدين من مضمونه وتحويله إلى مجرد شكل فارغ.

وبالطبع فإن ذلك يرتبط بحقيقة أنه إذا كانت الصورية والشكلانية تعني أن العلاقة بين الإنسان وغيره، هي علاقة ارتباط خارجي محض، ولا مجال فيها لأي أبعاد باطنية؛ وبما يعنيه ذلك من أن «خارجية» الروابط هي أساس الشكلانية وأصلها؛ فإن تلك «الخارجية» — كخصيصة جوهرية للارتباط بين الظواهر والأشياء — إنما تجد ما يؤسسها في بنية الاستبداد ونظامه؛ إذ يعني الاستبداد أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تقوم، في جوهرها، على خضوع المحكوم وإذعانه لسلطة تفرض نفسها بالقهر والاعتساف، وبما يستتبع ذلك من أنها تقوم على محض الإكراه والقسر الخارجي، وليس الرضا والقبول الباطني. وهكذا فإن أهم ما يترتب على الاستبداد أنه ينطوي على ترسيخ نمط من العلاقة يقوم على الإكراه والزجر الخارجي، وليس القبول الرضائي الباطني. وبالطبع فإن هذا الضرب من الارتباط الخارجي يستحيل إلى خصيصة لازمة لكل أشكال العلاقات التي تقوم، بين البشر، في ظل حكم الاستبداد؛ سواء علاقتهم مع الله أو بينهم وبين أقرانهم. فالدين يستحيل إلى محض طقس شكلي ينبني على علاقة خارجية محضة بين العابد والمعبود، وتتحول الأخلاق، بدورها، إلى مجرد إلزامات وقيود خارجية، لا يلبث المرء أن يتهرب من تبعاتها الثقيلة حين تواتيه الفرصة.

وتصبح السياسة مجرد وثائق فارغة، وجملة ممارسات إجرائية شكلية تقوم عليها مؤسسات ومجالس صورية، وحتى العلم يتحول إلى محض تقنيات وعمليات سطحية يمارسها البعض على نحو يدنو بها من الممارسة السحرية؛ وبما يفسر استمرار سيادة عقل التقليد والخرافة.

وإذ الاستبداد يئول، هكذا، إلى تبديد المحتوى الروحي والأخلاقي للدين، فإنه لن يكون غريبًا أن يجد هذا الاستبداد في الدين الصوري الشكلي ما يدعمه ويطيل أمد بقائه؛ وأعني من حيث يكون مصدر عزاء، لا استنارة، للمحكومين. وبالطبع فإن ذلك يعني أن التدين الشكلي هو قرين الاستبداد في تفسير التأخر العربي؛ وبما يؤكد على بؤس خطاب دعاة هذه الأيام الذي يرد التأخر إلى ابتعاد الناس عن الدين؛ وأعني من حيث لا يجاوز الدين، عندهم، حدود الأشكال والرسوم.

ويبقى لزوم التأكيد على الأخطر، وهو أن الاستبداد يأبى إلا أن يترك بصمته على البنية الباطنية للدين؛ وأعني من حيث يفتح الباب أمام اتجاهات بعينها لاحتلاله من الداخل، وتقديم رؤاها على أنها، وحدها، هي التعبير المطابق له، وبحيث تجعل من الاختلاف معها، اختلافًا مع الدين ذاته، وبما يجعل منه — في النهاية — واجهة للاستبداد وغطاءً له. ولسوء الحظ، فإن ذلك هو بعض ما يصطخب به المشهد المصري الراهن.

(٥) عن ثورة المعذَّبين

تكاد الثورة أن تكون نوعًا من القيامة؛ ولهذا فإنه ليس غريبًا أنه لم يبقَ في ذاكرة السيدة «سوزان أوسينجا» — التي أتيح لها معاينة جثمان «جيفارا» بعد أن حمله قاتلوه إلى المستشفى الذي كانت تعمل به آنذاك — أن الكثيرين من فقراء الفلاحين والهنود في بوليفيا (التي أعدم الرجل في أحراشها) لا يزالون إلى اليوم يقيمون القداس على روحه، وهم على قناعة من أنه يحقق المعجزات.

وبالطبع فإنه ليس لذلك من دلالة إلا أن يكون «معذَّبو الأرض» في جبال ووديان أمريكا اللاتينية قد راحوا، في تلك اللحظة المشحونة بالألم والمعاناة، يتبينون في وجوه ثوارهم ملامح الأنبياء والقديسين، ويقرءون في تضحيات وعذابات هؤلاء الثوار الأسطوريين — الذين جادوا بأرواحهم من أجل تخليصهم من البؤس والشقاء — معاني الفداء والخلاص والقيامة وغيرها من مفردات اللاهوت الكنسي التي طالما سمعوا بها في دروس قداس الأحد، ولكن من دون أن يعاينوها في قلب تجربة متجددة حية، يستشعرونها ويحسون بها متقدة ونابضة. ولعله يمكن القول بأنهم قد استعادوا — مع هؤلاء الثوار — تجربة مسيح الناصرة المصلوب على الجبل، وكذا تجربة ذلك الطابور الطويل من الشهداء الذين عاشوا «الدين» كتجربة ومعاينة، وليس كمجرد معتقد بارد يحفظونه ولا يملون من ترديده من دون إحساس أو معاناة. وإذن فإنه قد جرى استقبال «الثورة»، من جانب هؤلاء المعذبين، على أرض «اللاهوت» وبدعم مباشر منه، وليس في قطيعة معه، وذلك على عكس ما جرى في تجربة أوروبا التي تكاد عبارة أحد كبار صناع الثورة في فرنسا «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس» أن تشير إلى أن العلاقة التي عرفتها بين اللاهوت والثورة، تختلف كليًّا عن تلك التي سوف تعرفها أمريكا اللاتينية — بعد ما يدنو من القرنين — بينهما، حيث الثورة في أوروبا هي ثورة على اللاهوت وضده، فيما هي في أمريكا اللاتينية ثورة في اللاهوت وبفضله. ومن هنا أن اللاهوت — وحتى الدين — لم يكن ليتحول في أحراش أمريكا المثقلة بالفقر والظلم إلى أفيون للشعوب، بقدر ما راح يستحيل إلى «صرخة» للمضطهدين الذين راحوا يطالبون، من خلاله، بخلاصهم على الأرض أولًا، وقبل خلاصهم السماوي البعيد. ولعله يمكن القول ترتيبًا على ذلك بأن تلك التجربة الفريدة لأمريكا اللاتينية كانت هي التي أعادت الاعتبار لعبارة «ماركس» الشهيرة عن الدين، والتي طالما تعرضت للابتسار والتشويه المتعمد من كهان مؤسسات إنتاج التسلط والقمع.

إن ذلك يعني أن فيالق «المستعبَدين والمعذَّبين» الذين أبصروا في وجوه ثوارهم المغدورين ملامح الأنبياء والقديسين (الذين طالما أجهش هؤلاء المعذَّبون كثيرًا بالبكاء لما يُروى، في عظات ودروس الآحاد، عن موتهم الحزين) كانوا هم أصحاب البشارة بظهور لاهوت التحرير والثورة. ومن هنا أن هذا النوع من اللاهوت النضالي لم يكن أبدًا من إلهام «المنظِّرين والأكاديميين» بقدر ما انبثق من آلام «الأشقياء والمضطهَدين»؛ إذ الحق أن ثمة «حالة ثورية» أنضجتها ظروف البؤس والشقاء في تلك القارة التي كان عليها أن تعيش في ظلمة الاستعباد المزدوج لسيدين، السيد الكاوبوي في الشمال، ثم وكلاؤه من الطغاة المحليين الذين تزدحم بهم قصور الحكم، التي ترفرف عليها رايات الاستقلال الزائف. وقد حدث أن تجاوبت تلك الحالة مع أشواق «المعذَّبين» إلى عالم أكثر عدالة وإنسانية، فاستقبلوها بما يليق من مفردات مخزون قدسي كامن، يرتفعون بأبطاله إلى مقام القديسين. ولعلهم كانوا في تلك اللحظة التي لا مثيل لامتيازها وتفردها يتنزَّلون بالقدساني (المفارق) إلى رحاب التاريخاني (المحايث) الذي كان قد تعالى عليه على مدى القرون، ليصبح أقنومًا خاليًا من أي إحساس وجودي نابض. فالمسيح المفارق والمتعالي (من «إنسان معذَّب» إلى «إله سلطة») كان يستعاد من السماء التي رُفع إليها ليقوم حيًّا في تضحيات هؤلاء الثوار التاريخيين.

ولعل الدلالة القصوى لتلك الرجعة (التي تبدو بمثابة قيامة جديدة للمسيح) تكمن فيما تحيل إليه من أن تحرير البشر من البؤس والشقاء هو بمثابة استعادة للمسيح من براثن الموت الذي حكم به عليه دعاة اللاهوت البارد، والذي هو — وبامتياز — لاهوت قمع وتسلط. وهكذا فإنه يمكن القول بأنه لم يكن البشر فقط هم الذين يتحررون، بل كان اللاهوت نفسه يتحرر من قبضة التفسيرات الجامدة والإيمان البارد البليد (الذي يتهكم عليه الأب «أوسكار روميرو» — أحد الأساقفة السلفادوريين — بأنه يكتفي بحضور قداس الآحاد، ويرضى بالظلم طوال الأسبوع)؛ وذلك لكي يستعيد اتصاله بالينابيع الحية لتجربة المعاناة المسيحية الأولى. فلقد بدا لهؤلاء اللاهوتيين المناضلين «أن الإدراك الحقيقي ليسوع كإنسان تاريخي متواجد في المكان والزمان هو الذي يقودنا — على ما يقول ألويزيوس بييريس، أحد أقطاب لاهوت التحرير — إلى البحث عن معنى العبادة الحقيقية. وهذا الإدراك هو الذي يقدمه لنا لاهوت التحرير؛ إذ يركز على المسيح الذي صار واحدًا منا، مسيح واقعي قلبه يدمي، مسيح جائع وعطشان وعارٍ ومريض ولا مأوى له، وسجين بسلاسل القوانين الاجتماعية الجائرة؛ مسيح لا يجد مكانًا يولد فيه، ولا يجد مكانًا يُدفَن فيه؛ مسيح يشكل خطرًا على هيرودس فتعقَّبه ليقتله؛ مسيح مفترًى عليه أمام المحكمة؛ مسيح معذَّب من قِبل الشرطة؛ مسيح وقع ضحية التعصب والنفاق السياسي للكهنة».

والحق أن هذه الاستعادة للمسيح كإنسان معذَّب لتشير إلى لاهوت يبني نفسه خارج فضاء الإشكالية الكبرى التي حددت بناء اللاهوت المسيحي على مدى تاريخه الطويل، وتحكمت فيما جرى من انشقاق الكنائس والطوائف، وأعني بها الإشكالية المتصلة بطبيعة السيد المسيح. وإذ يشير ذلك إلى أن لاهوت التحرير يستعيد مسيحًا آخر غير ذلك «المسيح» الذي تتعبده المؤسسة وكهنتها المفوَّهون البلغاء، فإن ذلك يعني أن الأمر يتجاوز إلى «تحرير» المسيح نفسه من قبضة الذين لا يتوقفون عن صلبه، والذين — وللمفارقة — يفعلون ذلك على خلفية الثرثرة بتعاليمه ووصاياه. ولا بد هنا من تذكر ما كتبه «ديستوفسكي» عن المفتش العام، الذي عاقب المسيح بالصلب من جديد حين راح هذا المسيح يفضح — مع ظهوره الرمزي المتخيل في إسبانيا على عهد ديوان التفتيش والمحارق — انحراف الكنيسة عن كل ما جاء يبشر به من سلام ومحبة. وإذ يشير المجاز العبقري لديستوفسكي إلى ما يمكن اعتباره مسيحية مغتربة عن نفسها في إسبانيا المثقَلة بعذابات المحكومين بالإحراق والموت بتهم الهرطقة والتجديف (وإلى حد إهدارها دم المسيح نفسه)، فإن هذه المسيحية سوف تتحرر من هذا الاغتراب، وتعود إلى ذاتها كدعوة للخلاص، على يد لاهوتيي التحرير فيما كان — وللمفارقة — جزءًا من ممالكها البعيدة عبر الأطلنطي. وإذن فقد بدا أن تحرير «الإنساني» هو في جوهره بمثابة تحرير ﻟ «السماوي»، وبما يترتب على ذلك من أن وعيًا ممسوكًا في قبضة الوهم والخرافة هو قرين وحي تتحكم ممالك الاستبداد وطواغيت الأرض في آليات إنتاجه للمعنى والدلالة، وهو ما يلزمنا الوعي به (مسلمين ومسيحيين).

(٦) ما يجهله الناس عن إسلام الجارودي

لم ينشغل العرب من المفكر الفرنسي الكبير روجيه جارودي — الذي غيبه الموت منذ فترة ليست بالبعيدة عن عمر يناهز القرن تقريبًا — إلا بإسلامه ومعاداته لإسرائيل، وبما يعنيه ذلك من أنهم لم يشغلوا أنفسهم إلا بما يمكن أن يكون موضوعًا للاستثمار السياسي والأيديولوجي من الرجل. وهم وإن ظلوا، بذلك، أوفياء لما درجوا عليه من طريقة في المقاربة لا تعرف إلا الاختزال السياسي والأيديولوجي لموضوعها (سواء كان فكرة أو مفكرًا)، فإن ذلك قد أعجزهم عن الإمساك بأهم ما تميز به الرجل (فكرًا وسيرة)، والذي لم يكن شيئًا إلا سعيه الدءوب للانعتاق من إسار الأيديولوجيا بكل ما تحمل من اليقين الجازم والكاذب، في آنٍ معًا.

فمنذ اللحظة التي ارتفعت فيها الغشاوة عن عينيه، على مدى خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، حتى انفلت من قفص الماركسية المنغلق الجامد، والرجل يأبى إلا أن يناضل، بلا هوادة، ضد كل الأيديولوجيات التي تستعبد الإنسان وتضحي به على مذابح مطلقاتها الجامدة المتوهمة. ومن هنا، مثلًا، أن الإسلام الذي اعتنقه الرجل، قبل ثلاثة عقود من وفاته، لم يكن من نوع الإسلام المؤدلج الذي تطرحه الفصائل المتأسلمة كأيديولوجيا للحكم السياسي، وذلك بمثل ما كان فضحه للصهيونية وتعريته لها، يرتبط بما تنطوي عليه من تحويل اليهودية (كديانة) إلى أيديولوجيا سياسية، وبما لا بد أن يترتب على ذلك من إدانة وفضح ما يسعى إليه البعض من تحويل الإسلام (أو أي دين آخر) إلى أيديولوجيا يخوض معاركه السياسية تحت رايات قداستها.

فقد عاش الرجل عصرًا عاصفًا، وحين حط بسفائنه على مرافئ الإسلام، بعد عقود من التطواف بين أمواج الأفكار والأيديولوجيات التي تزاحمت على سطح عصره، فإنه لم يحط عليها مدفوعًا — من جهة — بضروب من اليأس والإحباط التي أورثته إياها أنهار دماء الملايين من بني البشر التي أُريقت في حروب الأيديولوجيات المتقاتلة، وبرغبته — من جهة أخرى — في الإمساك بخشبة للخلاص (ولو حتى زائفًا)، بل جاءها مسكونًا بوعي صقلتْه تجربته الغنية في التعاطي المنفتح مع تجارب العصر وأفكاره الكبرى. ولأن السعي وراء «الإنسان» — كمشروع يقوم، في جوهره، على الانفتاح والحرية — كان هو البوصلة الهادية للرجل في كل تطوافه، فإن إسلامه كان لا بد أن يتسع لمثل هذا الإنسان، ومن هنا أنه جاء صوفيًّا وتأويليًّا لا ضفاف له ولا حدود، وأعني إسلامًا يقوم — حسب قوله — «على الانفتاح، وعلى قبول (للآخر) لا يقتصر على سائر فروع الإيمان الإبراهيمي (اليهودية والمسيحية)، بل يمتد إلى إمكان حوار خصيب مع حكمة آسيا والهند واليابان». وهكذا فإنه يتأسى إسلام الشيخ الأكبر (محيي الدين بن عربي) الذي تنسدُّ فيه الهوات بين كافة الأديان والعقائد، وتلتئم فيه الفجوة بين الله والإنسان، وبما يعنيه ذلك من مغايرته الكاملة لإسلام الكتل الصاخبة في العالم العربي الآن. فإن هذه الكتل المسيَّسة لا تعرف إلا محض إسلام حرفي شكلاني يتكشف، لا عن روح الانفتاح والاستيعاب، بل عن ضروب من الفهم المنغلق الجامد، ويرفض قبول المختلف، ويمارس الاستبعاد والإقصاء لمن يخالفونه الرؤية، حتى ولو كانوا يشاركونه الانتماء إلى نفس الدين. وإذن فإنه لا بد من التمييز بين إسلام (استيعابي) يتسع لكل ما يجعل الإنسان محوره من الأفكار والعقائد، وبين إسلام (استبعادي) لا مكان فيه إلا لمطلقات جامدة لا مجال في حضرتها لأي اختلاف أو مغايرة. ولعله يمكن القول إن الحديث عن إسلام جارودي، مع إسقاط هذا التمييز، إنما يقصد، لا المعرفة الحقة بالرجل وإسلامه، بقدر ما يقصد إنتاج خطاب دعائي يدعم الرؤى السياسية والأيديولوجية لتيار يلح على أن يتماهى مع الإسلام نافيًا لغيره، وهو ما يتعارض بالكلية مع حقيقة أن الرجل قد نذر الجزء الأكبر من حياته الطويلة لفضح وتعرية هذه الرؤى والأيديولوجيات المستبدة الغاشمة.

ولو أن المؤدلجين العرب يستوعبون حقيقة أن المنطق الذي تقوم عليه الأيديولوجيات يكون واحدًا، حتى وهي تتعارض وتتصادم، لكانوا قد أدركوا أن إدانة الرجل للصهيونية هي، في الآن نفسه، إدانة لنوع الإسلام، أو بالأحرى «الإسلاموية» التي يرفعون لواءها. ويرتبط ذلك بحقيقة وحدة الأساس النظري الذي تقوم عليه كلٌّ من الصهيونية والإسلاموية رغم عدائهما الدامي، وبمعنى أنه إذا كانت «الصهيونية» هي نتاج تحويل اليهودية (كديانة) إلى أيديولوجيا سياسية، فإن تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا سياسية قد أنتج ما باتت الأدبيات تشير إليه على أنه الإسلاموية (التي قال عنها جارودي إنها داء الإسلام). ولكن الأيديولوجيا، وبكل ما يسكنها من الميول والتحيزات المضمَرة، تأبى إلا أن تجعل الرجل الناقد للتركيبين الأيديولوجيين البائسين معًا، داعيًا لأحدهما، ومعاديًا للآخر.

يلزم التأكيد، إذن، أن الرجل لم يكتشف الإسلام بما هو هذا التركيب الأيديولوجي (المدعو بالإسلاموية)، بل اكتشفه كتركيب حضاري بالمعنى الأشمل. فالرجل لم يقصد أبدًا الفرار من أيديولوجيا بعينها ليضع نفسه في قبضة أيديولوجيا أخرى، بل كان يبغي «الاستعاضة — كما قال في كتابه «حوار الحضارات» — عن هيمنة الغرب الثقافية المفروضة خلال أربعة قرون من الاستعمار بتجربة سيمفونية هي تجربة الثقافة العالمية الشاملة»، والتي بدا له أن الإسلام يصلح مركزًا لها، وبما يعنيه ذلك من أن الرجل يدرك في الإسلام ما لا يقدر القطاع الأغلب من المسلمين على إدراكه.

فقد بدا لجارودي أن الغرب هو تكوين حضاري ينبني على علاقة ما للإنسان بالطبيعة وبالمجتمع وبالله، وهي علاقة تقوم، في جوهرها، على الهيمنة والإخضاع، وعلى النحو الذي تمخضت معه عن ظواهر تاريخية وأيديولوجية استعبادية كالاستعمار والرأسمالية. ولعله بدا لجارودي أن سعيًا إلى التحرر من تلك الظواهر الاستعبادية، لن يكون ممكنًا من داخل التركيب الحضاري الغربي الذي أنتجها. ومن هنا تخليه عن الاعتقاد في أن مستقبل الخلاص الإنساني مرهون بانتصار الماركسية الإنسانية التي راح يفكر فيها بعد مراجعته القاسية للنسخة الليننية الاستالينية المشوهة منها، وألحَّ، في المقابل، على أن «التفكير في مستقبل حقيقي للإنسانية يقتضي العثور مجددًا على جميع أبعاد الإنسان التي نَمَت في الحضارات، وفي الثقافات اللاغربية»، والإسلام في القلب منها.

وهكذا فإن الرجل يفكر في الإسلام بما هو قطب الرحى في سيرورة خلاص الإنسانية، وليس بما هو أيديولوجيا لا تكتفي بإهدار الإنسان، بل تئول — وللمفارقة — إلى إفقار ذات الإسلام.

(٧) آلية التفكير الحاكمية لكتابة الدستور

لا بد من التنويه — منذ البدء — بأن الوثيقة الأولية التي طرحتها الجمعية الموكول إليها كتابة دستور ما بعد الثورة في مصر، للنقاش العام، إنما تكشف — وعلى نحو نموذجي — عن طبيعة الآلية التي يشتغل بها العقل المهيمن في عالم العرب منذ آماد بعيدة، وهي آلية الجمع التجاوري، بكل ما تقوم عليه من الإلحاق القسري والتلفيق بين عناصر لا تأتلف ويصادم واحدها الآخر، وعلى نحو لا تقدر معه على الإنتاج المثمر أبدًا. وللإنصاف فإن هذه الوثيقة لا تختلف عن غيرها مما أنتجته النخبة المصرية على مدى تاريخها الطويل، وأعني منذ ابتداء تشكلها في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وفقط فإنها كانت تتقن تشكيل وزخرفة ما تنتج فيما سبق، وبحيث كانت تنجح في إخفاء عوار تفكيرها وراء بلاغة الصياغة وبهاء التعبير، وأما الآن فإنها قد بلغت حدًّا من الانهيار والتدهور راحت معه تضيف إلى فقر الفكر وهشاشته بؤس الأسلوب وركاكته. والحق أنه إذا كان ما تشهده مصر من الارتباك والتخبط، على مدى الشهور التي أعقبت رحيل مبارك، يكشف عن تردي نخبتها على صعيد الممارسة والعمل، فإن هذه الوثيقة تشهد على بلوغها الحد الأقصى من التراجع والتردي، على صعيد النظر، أيضًا.

فعند ابتداء لحظة التشكل قبل انتصاف القرن التاسع عشر، كان الأب المؤسس (الذي هو الطهطاوي) يدشن تلك الآلية، في صورتها التي لا يزال ورثته يحتذونها، على مدى القرنين تقريبًا، للآن. وللغرابة فإنه إذا كان حقل تدشينها مع الرائد المؤسس هو «التأسيس السياسي» لدولة الباشا، فإنها تعود للاشتغال، على نحو لافت، عند ورثته الحاليين في إطار انهماكهم في كتابة «الدستور» الذي هو الوثيقة الأرفع في مجال «التأسيس السياسي» لدولة ما بعد الثورة. لا يعني ذلك — بالطبع — أن آلية الجمع التجاوري لا تعمل في غير هذا المجال، بقدر ما يعني أن حقل «التأسيس السياسي» هو أبرز حقول اشتغالها.

وهكذا فإنه إذا كان الطهطاوي قد مضى في سياق «كشف الغطاء عن تدبير الفرنساوية، مستوفيًا غالب أحكامهم ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر»، إلى «أن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وأن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد، بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضى بها أهل الدواوين»، «فإنه يضع إلى جوار ذلك قوله كاشفًا الغطاء عن تدبير دولته المصرية»:

«إن للملوك في ممالكهم حقوقًا تُسمى بالمزايا، وعليهم واجبات في حق الرعايا. فمن مزايا الملك أنه خليفة الله في أرضه، وأن حسابه على ربه، فليس عليه في فعله مسئولية لأحد من رعاياه، وإنما يُذكَّر للحكم والحكمة من طرف أرباب الشرعيات أو السياسات برفق ولين، لإخطاره بما عسى أن يكون قد غفل عنه، مع حسن الظن به.» وإذ لا يفعل الرجل هكذا إلا أن يجاور بين الاعتبار بالتقليد «الليبرالي الحديث»، وبين التأكيد على التقليد «السلطاني الموروث»، فإنه كان يؤسس لما سيمضي إليه الورثة الحاليون من النص — في المادة «٦» من الوثيقة الأولية للدستور — على أن النظام الديمقراطي (المنتمي إلى التقليد الليبرالي الحديث) يقوم على مبدأ الشورى (المنتمي إلى التقليد السلطاني الموروث، والذي يقصر الطهطاوي دلالته على تذكير أرباب الشرعيات أو السياسات للحاكم بما عسى أن يكون قد غفل عنه برفق ولين).

ولسوء الحظ، فإن التجاور بين الأطراف، على هذا النحو، لا يسمح للواحد منها أن ينفتح على الآخر، مؤثرًا فيه ومتأثرًا به، بل يبقى منغلقًا على نفسه، وساعيًا إلى إقصاء غيره، وبما يعنيه ذلك من أن التناحر والخصومة تكون هي مآل العلاقة بين أي أطراف متجاورة. ولأن هذه الأطراف لا تكون متعادلة في عمق الحضور والقوة، بل إن منها ما يكون أقرب إلى القشرة الطافية على السطح (التي تشتمل على كل ما ينتسب إلى التقليد الحديث)، ومنها ما يمارس في العمق هيمنة لا تقبل التحدي (ويشتمل على كل ما ينتمي إلى التقليد الموروث)، فإنه لا بد من تصور أن ما سيجري إبعاده عن مجال الاشتغال الحقيقي هو الطرف «الحديث»، الذي لن يكون مسموحًا له بالحضور إلا كقناع يتجمل به التراث، متى شاء. وهكذا فإنه إذا كان التقليد السلطاني الراسخ قد انتهى، مع الطهطاوي، إلى إزاحة «القول الليبرالي» الناشئ، وأحاله إلى مجرد برقع يستتر وراءه، فإن الأمر لن يختلف مع ورثته الذين يكتبون الدستور الآن.

وبالطبع فإن قدرة الموروث على فرض هذه الهيمنة الكاملة تتأتى من ربطه بالدين، وذلك على الرغم من أن ما يجري استدعاؤه من التراث للاشتغال السياسي الراهن، ويجري تنسيبه للدين، هو — في معظمه — قواعد للضبط السياسي والاجتماعي التي تضرب بجذورها في التاريخ، وليس في الدين. وحين يضاف إلى ذلك، أيضًا، أن «الديني» نفسه يكون موضوعًا لقراءات تأويلية تخضع بطبيعتها لجملة المحددات الاجتماعية والسياسية التي تفرضها لحظة إنتاجها، وبما يعنيه ذلك من أن «التاريخ» يدخل في تركيبها، لا محالة، فإن ذلك يعني أن كل ما يجري استدعاؤه من التراث، ليتحدد به المجال السياسي الراهن، هي جملة تراكيب أنتجها البشر، ويلعب التاريخ دورًا جوهريًّا في بنائها. وبالطبع فإنه لا يجري السكوت، فحسب، عن المحددات التاريخية لهذه التراكيب التي أنتجها البشر، بل ويجري تنسيبها إلى الدين، لتكتسب قداسته، وتستقر في الوعي — وحتى اللاوعي — كدين واجب الاتباع، وذلك هو الأصل في كل تلاعبات جماعات الإسلام السياسي.

ومن جهة أخرى، فإن كون ما يجري وضعه في الدستور، من القواعد والمبادئ الحديثة ليس لها مثيل التاريخ المتجذر الطويل للموروث الكامن، فإن حضورها يكون هشًّا وقابلًا للإطاحة به، عندما يثور بينهما أدنى اختلاف. ولسوء الحظ، فإن ذلك يعني أن ما تنشأ الدساتير من أجل تحصينه والإعلاء من شأنه (من قبيل المساواة بين المواطنين وحظر التمييز بينهم بسبب الدين أو المذهب أو الجنس، وتثبيت مبدأ تداول السلطة والرقابة عليها، وإمكان محاسبة القائمين عليها، وغيرها من المبادئ التي بلغتها الإنسانية عبر مسار تطورها الطويل) سوف تكون موضوعًا للتهديد، على نحو كامل، بسبب ما يقوم إلى جوارها مما يفتح الباب واسعًا أمام القفز على كل ما تلزم به. وهكذا فإن أحدًا لا يجادل في أنه سيتم النص، في الدستور، على كل المبادئ العليا المنصوص عليها في الدساتير الحديثة، ولكن المجادلة تتعلق بأن ما سيقوم إلى جوارها، من تركيبات تراثية، سوف يجعل منها مجرد إكسسوارات للتجمل والزينة، لا غير.

(٨) رشيد رضا وما يكتبه تأسيسيُّو الدستور

إذا كان المشهد المصري الراهن يطفح بالعديد من مظاهر التردي والبؤس، فإن ما يجوز اعتباره الأكثر بؤسًا من بينها يتمثل في ظاهرة «الفقر المعرفي» الذي ترزح تحت وطأته النخبة المتغلبة في مصر. وليس من شك في أن هذا الفقر هو ما يؤسس لما تعيشه مصر من «التردي والنكوص»؛ الذي تقطع به حقيقة أن ما كان يكتبه المصريون ويفكرون فيه قبل مائة عام، هو الأرقى، بما لا يقاس، من كثير مما يكتبونه ويفكرون فيه الآن. ولعل مثالًا على هذا النكوص المزري يمكن أن تقدمه قراءة مقارنة بين ما كتبه الأستاذ «رشيد رضا» حول مسألة «الحكم المقيد (أو الديمقراطي) والشورى»، وبين ما كتبه تأسيسيُّو الدستور، حول المسألة نفسها، بعد ما يربو على المائة عام تقريبًا. إذ فيما كان السيد «رضا» حريصًا — فيما يخص تلك المسألة — على بيان «الحقيقة»، ولو كانت صادمة لأوهام الجمهور، فإن متغلبي تأسيسية الدستور قد انحازوا إلى أوهامهم، وليس أوهام الجمهور فحسب، على حساب الحقيقة.

فإذ انشغل السيد «رضا» بنقد الاستبداد، وإلى حد التأكيد على «أن القوم الذين يرضون أن يستبد بهم حاكم يفعل فيهم ما يشاء ويحكم بما يريد ينبغي أن يُعَدوا من الدواب الراعية، والأنعام السائمة»، فإنه قد مضى يقرر — في صراحة وحسم — أن «أعظم فائدة استفادها أهل الشرق من الأوروبيين هي معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة واصطباغ نفوسهم بها، حتى اندفعوا إلى استبدال الحكم المقيد (أو الديمقراطي) بالحكم المطلق الموكول إلى إرادة الأفراد؛ فمنهم من نال أمله على وجه الكمال كأهل اليابان، ومنهم من بدأ بذلك كإيران، ومنهم من يجاهد في سبيل ذلك بالقلم واللسان كمصر وتركيا». ورغم تصريحه بأن «الشرق قد استفاد هذه الفائدة وعرف قيمتها «من الأوروبيين»، فإن ذلك لم يمنعه من تقديرها، وإلى حد اعتباره لها إسهامًا في الارتقاء (بأهل الشرق) من حضن البهيمية، إلى أفق الإنسانية»، وبما يعنيه ذلك من أن موقفه السياسي والأيديولوجي من الأوروبيين لم يشوش على وعيه بحقيقة أنهم هم أصحاب الفضل في تثبيت نظام الحكم المقيد.

وإذ يبدو الرجل صريحًا في رد الفضل في تثبيت نظام الحكم المقيد إلى الأوروبيين، فإنه قد راح يحتج على من يردونه إلى غير هذا الأصل قائلًا: «فلا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم (المقيد/الديمقراطي) أصل من أصول ديننا، وإننا قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف على حال الغربيين. فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس (الأوروبيين) لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام، ولكان أسبق الناس في الدعوة إلى إقامة هذا الركن علماء الدين في الآستانة وفي مصر ومراكش، وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومات الأفراد الاستبدادية ويُعَد من أكبر أعوانها، ولما كان أكثر طلاب حكم الشورى المقيد هم الذين عرفوا أوروبا والأوروبيين. ألم ترَ إلى بلاد مراكش الجاهلة بحال الأوروبيين كيف تتخبط في ظلمات استبدادها ولا تسمع من أحدٍ كلمة شورى، مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة لسورة الشورى ولغيرها من السور التي شرع فيها «الله» الأمر بالمشاورة، وفوَّض حكم السياسة إلى جماعة أُولي الأمر والرأي؟!» وهكذا لا يتورع الرجل — وهو من لا يمكن إنكار تأثيره المباشر على حسن البنا نفسه — عن القطع باستحالة أن تكون «الشورى» أصلًا للحكم الديمقراطي المقيد.

وإذا كان أكثر ما يلفت النظر في كل ما مضى إليه الرجل هو وعيه الحاسم بما يئول إليه الاستبداد من التنزل بالبشر إلى حال «البهيمية»، وإطلاعه على ما يجري في العالم من السعي الدءوب لمحاصرة هذا الاستبداد والقضاء عليه، وذلك فضلًا عن إقراره باستفادة الشرق لنظام «الحكم المقيد» من الأوروبيين، وليس من الإسلام كما يجري الإيهام، فإنه يمكن القول بأن الرجل يلتزم خطًّا في التفكير، يكاد معه المرء أن يتصور أنه لو قرأ ما يسعى مؤدلجو الإسلام الحاليون إلى تضمينه في دستور ما بعد الثورة في مصر، لوجَّه إليهم الاتهام بالتدليس والتضليل، على حساب الحقيقة. ولسوف تكون حجته في هذا الاتهام أنهم يقلبون الحقائق عن قصد أو عن جهل، وفي الحالين فإنهم يكونون غير مؤتمنين على مصائر بلد في حجم مصر. ولعل المرء يدرك مصداقية ما يوجهه السيد «رضا» إلى هؤلاء من الاتهام بالتدليس، حين يضع ما أوردوه في مسودة الدستور من أن «النظام الديمقراطي يقوم على مبدأ الشورى»؛ وبما تعنيه هذه الصياغة من أن «الشورى» هي أساس «النظام الديمقراطي» وأصله (وذلك باعتبار أن ما يقوم عليه الشيء يكون هو أساسه وأصله)، في مقابل احتجاجات السيد «رشيد رضا» المفحمة — وغير القابلة للرد — على استحالة أن تكون الشورى هي أصل نظام الحكم المقيد (الديمقراطي) وأساسه؛ وهي الاحتجاجات التي تستمد قوتها من ارتكانها إلى منطق الواقع القائم الذي يتعذر دحضه، وليس إلى مجرد السرد الوعظي المتخيل.

فعلى مدى التاريخ، لم يتوقف المسلمون — على قول «رضا» — عن تلاوة «سورة الشورى وغيرها من الآيات التي شرع فيها «الله» الأمر بالمشاورة»، وظلوا — مع ذلك — يتخبطون في ظلمات استبدادهم؛ وبما يعنيه ذلك من أنها (أي الشورى) لم تكن ناقضة للاستبداد أو هادمة له. وفقط فإن «معرفتهم بأوروبا والأوروبيين، ووقوفهم على حال الغربيين» هي التي جعلتهم يتعرفون ويطلبون نظام الحكم المقيد، بوصفه السبيل للخلاص من الاستبداد الجاثم. إن ذلك يعني أن الرجل لا يحمل وهم قراءة الديمقراطية (كفرع) بالشورى (كأصل)، بمثل ما يفعل تأسيسيو الدستور الحاليون، بل يلح على ضرورة قراءة الشورى بنظام الحكم (الديمقراطي) المقيد.

ولعله يلزم التأكيد على أن التباين بين هذين الضربين من الفهم، ليس من قبيل ما يمكن التهوين من شأنه، بل إنه يؤشر على مدى جدية التعامل مع معضلة الاستبداد. ففي حين أن الفهم المستقر للشورى — في أدبيات الفقه السياسي — لا يتجاوز بها حدود تولية الحاكم ومناصحته فقط، فإن هذا الفهم لا يقدم ما يمكن به تجاوز معضلة الاستبداد، بل لعله يئول إلى تكريسه. فإن وقوف مبدأ الشورى عند مجرد التولية والمناصحة يجعله أساسًا لعلاقة مع الحاكم تغيب عنها، وعلى نحو كامل، آليات مراقبته ومساءلته ومحاسبته، وبما يعنيه ذلك من ترسيخ استبداده. وإذ يحيل ذلك إلى محدودية مفهوم الشورى، وعدم فاعليته في مواجهة الاستبداد، وذلك في مقابل رحابة المبدأ الديمقراطي، وفاعليته (وأعني من حيث اتساعه لآليات الرقابة والمساءلة والمحاسبة … إلخ)، فإنه يعني أن قراءة «رضا» للشورى (كفرع) بالديمقراطية (كأصل) تبقى هي الأرقى والأكثر معرفية من تلك القراءة الطافحة بالأيديولوجيا التي قدمها تأسيسيو الدستور في وقتنا هذا.

(٩) متى تكون إرادة الشعب حرة حقًّا؟

«لم أكن أعرف أن «سبحان الله» يمكن أن يُعصى بها الله إلا في هذا المجلس.» تنسب المصادر إلى عبد القاهر الجرجاني هذا القول الذي يستهدف التأكيد به — وهو البلاغي الكبير — على أن أنبل الشعارات قد يكون السبيل إلى أحط الغايات، وإلى الحد الذي يمكن أن يكون معه تسبيح الله هو الباب إلى معصيته.

ولعله يمكن القول — قياسًا على قول الجرجاني — أن المرء لم يكن يعرف أن إرادة الشعب يمكن أن يتسلط بها البعض على الشعب، إلا في سياق المشهد المصري الراهن، الذي يتبدى فيه جليًّا سعي البعض إلى توظيف المفهوم في تحقيق مكاسب سياسية تخصه، ولو كان ذلك على حساب الإرادة الحقة وخصمًا منها من جهة، وبصرف النظر عما يُضمره هذا التوظيف من تشويه الروح الحقة لمفهوم الإرادة من جهة أخرى. وهكذا فحين يقوم فريق من المصريين بإشهار مفهوم إرادة الشعب — كالسيف — في وجه كل من يطرحون تصورًا يختلف مع ما يجري تحشيد الجمهور وراءه، فإنهم لا يفعلون بذلك إلا أن يستخدموا هذا المفهوم على طريقة «سبحان الله» التي يراد بها عصيان الله. وحين يدرك المرء أن الفريق الذي تمترس وراء إرادة الشعب هو الأكثر قدرة على حشد الجمهور عبر التأثير في ميوله الدينية الكامنة، فإن ذلك يعني أن الإرادة، هنا، ليست حرة أبدًا، بل إنها خاضعة لتوجيه ما لا يقدر الجمهور على مجرد التفكير فيه (ناهيك عن أن يرى رأيًا فيه). ولعل ذلك يندرج في إطار ذات الممارسة الشائهة التي تجعل فريقًا من المصريين يقيم التراتب التنظيمي لبناء جماعته على مبدأ السمع والطاعة (بما يقوم عليه من ثقافة التلقي والإذعان)، هو الأكثر تخفيًا وراء يافطة الديمقراطية (بما تقوم عليه من القدرة على التفكير المستقل المنفتح على النقد والحوار)، رغم ما يبدو من أن الديمقراطية لا تكون، والحال كذلك، إلا محض شعار فارغ يراد التغطية به على نزعة سلطوية كامنة.

والحق أن ما يمارسه الكثيرون من التلاعب بمفهوم إرادة الشعب إنما يرتبط بغموض فكرة الإرادة الذي يجعل الناس يتصورون أن كل ما يصدر عنها يكون دائمًا فعل حرية واختيار، وذلك فيما تقطع التجربة بأن ما يصدر عنها لا يمكن، في أحيان كثيرة، إلا أن يكون فعل إكراه واضطرار. ويرتبط ذلك بأن الفعل الحر فعلًا إنما يصدر عن إرادة يحددها الوعي، وليس عن إرادة تنفلت من تحديداته. ولكن الإرادة تكون، بحسب طبيعتها، أوسع مجالًا من الوعي؛ لأنها تنفتح على ما يتجاوز حدوده (من العواطف والانفعالات الأولية والرغائب الغريزية، بل وحتى المكبوتات اللاواعية). ولهذا فإن كل ما يصدر عنها لا يمكن أن يكون أبدًا فعل حرية. وهكذا فحين يقع الناس في قبضة انفعالاتهم وعواطفهم، وحتى أوهامهم، فإنهم لا يمكن أن يكونوا أحرارًا حقًّا، بل إن الفعل الصادر عنهم يكون فعل إكراه واضطرار؛ ومن دون أن يؤثر في ذلك أنه قد يكون مستوفيًا لكل مظاهر الفعل الحر.

وفقط فإن كون مصدر الاضطرار في هذا النوع من الفعل لا يكون القهر المادي الخارجي لسلطة متعسفة هو ما يجعله يبدو وكأنه فعل حرية. وغني عن البيان أن الطغاة جميعًا يلعبون على هذا المخزون الانفعالي العاطفي (وحتى الغرائزي) الراكد، فيقومون بتوجيه شعوبهم، عبر استثارة هذا المخزون، إلى ما يقولون إنها اختيارات تلك الشعوب، في حين أنها تكون محض اختياراتهم الخاصة.

وإذا كانت الانتخابات هي الآلية التي أتاحها النظام الحديث، لتكشف عبرها الشعوب عن إرادتها الحقة، فإنها تكون أداة الطغاة في إنفاذ مراوغة تخفيهم أيضًا. ويرتبط ذلك بأن آلية الانتخاب هي — وبلغة أهل القانون — آلية إظهار للإرادة، وليست أبدًا آلية إنشاء لها. ومن هنا لزوم التنويه بأن الشرط اللازم لتحقق الإرادة الحرة هو الوعي؛ بما هو قدرة على التفكير المستقل غير القابل للتوجيه، والذي يستحيل مع غيابه أن تكون للشعوب إرادة حرة، حتى ولو جرى سوقها لصندوق الانتخابات كل بضع سنوات. إن ذلك يعني أن استيفاء الشرط السياسي (متمثلًا في الإجراء الانتخابي)، من دون حضور الشرط الثقافي (متمثلًا في القدرة على التفكير المستقل)، لا يمكن أن يكون دليلًا على أن إرادة الناس هي فعلٌ حر. ومن حسن الحظ أن الحقبة الحديثة قد شهدت نماذج عدة لشعوبٍ جرى سوقها، عبر التلاعب بعواطفها وأوهامها، إلى ما لا يمكن أن يكون اختيارًا حرًّا أبدًا؛ وذلك لأن الاستبداد لا يمكن أن يكون إرادة لأحد، ناهيك عن أن تكون هذه الإرادة حرة.

ولقد كانت مصر — مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي — مسرحًا لتلاعب نخبتها بما قالت إنه إرادة شعبها؛ وهو التلاعب الذي تحقق — لسوء الحظ — عبر التخفي وراء الدين. فقد شاءت النخبة، آنذاك، أن تطلق مدد الولاية لحاكمها من غير حد زماني تنتهي إليه. وإذ لا يمكن لأحد أن يجادل في أن إطلاق الولاية للحاكم من دون تحديد لمدة ولايته هو السبيل إلى تكريس استبداده وفساده، فإنه ليس من شك في أن إرادة هذا الإطلاق (التي ستكون إرادة للاستبداد حينئذٍ)، لا يمكن أن تكون فعل اختيار، بقدر ما هي فعل إكراه واضطرار ألجأت النخبة إليه المصريين حين ربطت هذا الإطلاق للولاية من دون تحديد زماني بجعل مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع. ما حدث، إذن، هو أن النخبة الحاكمة هي التي أرادت الاستبداد (عبر إطلاق الولاية للحاكم، الذي كان الرئيس السادات، والذي لم يستفد من هذا الإطلاق وتركه لخلفه يستفيد منه حتى جرى خلعه أخيرًا)، ولكنها راحت تتخفى وراء الشعب، حين جعلت من هذا الاستبداد إرادة له. لكنها لم تنجح — ولسوء الحظ — في جعل الاستبداد إرادة للشعب إلا عبر التلاعب بالدين، وعلى النحو الذي وجد الناس معه أنفسهم مضطرين لقبول ما تريده النخبة من الاستبداد، وإلا فإنهم سيخرجون على ما يعتبرونه صحيح دينهم. وهكذا فإن سعي النخبة إلى تثبيت هيمنتها يجعلها لا تتورع عن اصطناع إرادة للشعب، ولو كان هذا الاصطناع يتحقق عبر الإساءة إلى الدين، من خلال استخدامه في التغطية به على ما تبتغي من كسب سياسي. ولسوء الحظ، فإن شرائح واسعة من النخبة المصرية لا تزال، للآن، تستخدم الدين في اصطناع إرادة للشعب تغطي بها على أهدافها السياسية الخاصة.

وأخيرًا فإن الإنصاف يقتضي الإقرار بأن التلاعب بإرادة الشعوب لا يتحقق من خلال الدين وحده؛ وأعني من حيث تكشف التجربة عن أن إثارة مشاعر الخوف والهلع عند الشعوب، واستنفار النوازع الغريزية المكبوتة في لاوعيها الجمعي، هي كلها مما يمكن معه تعبئتها في اتجاه بعينه يراد لها أن تمضي فيه. ولعل شيئًا من ذلك قد حدث مع المصريين الذين يحتاجون إلى عمل كبير لكي تصبح إرادتهم حرة حقًّا؛ على أن يكون مفهومًا أنه عمل ثقافي ممتد، وليس عملًا سياسيًّا تصنعه الخطابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤